أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر تأليف أبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري المتوفى سنة ١٤١٣هـ ويليه رسالة حول هذا الحديث لأبي عمر أسامة عطايا

مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر 

تأليف أبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري المتوفى سنة ١٤١٣هـ

ويليه رسالة حول هذا الحديث

لأبي عمر أسامة عطايا

اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


أولاً: ترجمة الإمام عبد الله بن الصديق الغماري

اسمه وكنيته:

هو الشيخ السيد أبو الفضل عبد الله ابن العلامة أبي عبد الله شمس الدین محمد ابن الولي الكبير سيدي محمد الصديق ابن سيدي أحمد بن محمد بن قاسم بن محمد بن محمد بن عبد المؤمن الغماري الطنجي بن محمد بن عبد المؤمن بن علي ابن الحسن بن محمد بن عبد االله بن أحمد بن عبد الله بن عیسی بن سعید بن مسعود بن الفضيل ابن علي بن عمر بن العربي علال بن موسى ابن أحمد بن داود ابن مولانا إدريس ابن مولانا إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن سيدنا الحسن ابن الإمام علي رضي الله عنه

مولده:

ولد رحمه الله تعالى في آخر يوم من جمادى الآخرة سنة ١٣٢٨هـ - ١٩١٠م بثغر طنجة.

نشأته ورحلاته:

نشأ في رعاية والده رحمه االله فحفظ القرءان الكريم برواية ورش، ثم حفص، ثم شرع في حفظ بعض المتون، فحفظ معظم منظومة الخراز المسماة "مورد الظمآن"، وجملة كبيرة من الألفیة، والأربعين النوویة، والآجرومية، وقطعة من بلوغ المرام، ومن مختصر الشیخ خلیل.

ثم قرأ شرح الأزهري على الآجرومية على أخيه أبي الفيض (أحمد)، وحلَّ قبل ذلك عباراتها حلاً موجزاً على خاله السید أحمد بن عبد الحفیظ بن عجیبة.

ثم سافر إلى فاس بأمر والده لطلب العلم في جامعة القرويين فقرأ شرح الألفية للمكودي على الشيخ الشريف الحبيب المهاجي، وشرح المكودي أيضاً مع حاشية ابن الحاج على الشيخ محمد بن الحاج بن المحشي، وحضر شرح ابن عقيل، وحاشية السجاعي على الشيخ محمد الحاج ابن عم المذكور ءانفًا.

وحضر في أول شرح الخرشي على مختصر خليل على الشيخ الحبيب المهاجي، وكتاب الجنايات وما إليها على الشیخ أحمد القادري، وباب البيوع وما يتبعه على الشیخ محمد الصنهاجي، و أبواباً أُخر على الشیخ محمد بن الحاج السابق ذكره والعلامة أحمد بن الجيلاني، وقطعة من المختصر شرح الزرقاني على العلامة عبد االله الفضيلي، ومن باب الإجارة إلى آخر المختصر شرح الشيخ الدردير على عبدالرحمن بن القرشي.

وحضر فرائض المختصر شرح الخرشي، وحاشية أحمد بن الخیاط على الفقيه أبي الشتاء الصنهاجي. 

وحضر شرح البخاري للقسطلاني على الشيخ محمد بن الحاج بجامع مولاي إدريس، وحضر على الشيخ الحسين العراقي بجامع عبد الرحمن المليلي، وحضر على العلامة عبد الحي الكتّاني حاشية الشنواني على ابن أبي جمرة في جامع القرويين.

وحضر جمع الجوامع شرح المحلي من أوله إلى كتاب السنّة على الشيخ الحسين العراقي، والمقدمات منه على العلامة عبد االله الفضيلي، وقطعة كبيرة منه على الشيخ العباس بناني، كما حضر عليه المقولات العشر، والتوحيد لابن عاشر، وحضر رسالة الوضع على الشيخ عبد االله الفضيلي، وشرح القويسني على السلم على الشيخ الحبيب المهاجي.

وفي أثناء إقامته في فاس اجتمع بالسيد محمد بن جعفر الكتاني، وأجازه السيد مهدي العزوزي الذي يروي عن السيد مرتضى الزبيدي المتوفى سنة ١٢٠٥هـ بواسطتين.

ثم رجع إلى طنجة بعد أن كرع وتضلّع وصار مقدماً على جميع أقرانه فدرس بالزاویة الصدیقیة الآجرومية ورسالة القيرواني، وكان يحضر دروس والده في صحیح البخاري، والأشباه والنظائر النحوية للسيوطي، ومغني اللبيب مع مراجعة شرح الدماميني وحواشي الأمير والدسوقي وعبد الهادي نجا الأبياري وغير ذلك.

وفي أثناء ذلك كتب أول مصنفاته وهو شرح موسع على الآجرومية سمّاه شقیقه الحافظ أبو الفيض "تشييد المباني لتوضيح ما حوته المقدمة الآجرومية من الحقائق والمعاني".

وفي أواخر شهر شعبان سنة ١٣٤٩هـ _١٩٣٠م سافر إلى مصر والتحق بالأزهر المعمور فحضر شرح الملوي على السلم وحاشية الصبان على الشیخ عبد القادر الزنتاني الطرابلسي، وحضر جمع الجوامع بشرح المحلي من باب القياس إلى آخره على العلامة محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي، و الرسالة السمرقندية في آداب البحث والمناظرة علیه.

وحضر شرح الأسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي على الشيخ حامد جاد، وتهذيب السعد بشرح الخبيصي في المنطق على الشيخ محمود إمام عبد الرحمن المنصوري الحنفي، وسمع منه الحديث المسلسل بالأولية.

ثم اتجه للفقه الشافعي تنفيذاً لأوامر والده فحضر في المنهج للشيخ زكريا على الشیخ محمد عزت، وقرأ شرح الخطيب على أبي شجاع على الشیخ عبد المجيد الشرقاوي، وحضر دروس الشيخ محمد بخيت المطيعي في التفسير والهداية في الفقه الحنفي، وفي حاشيته على شرح الأسنوي على منهاج الأصول وأجازه إجازة عامة.

وحضر على الشيخ محمد السمالوطي في سنن الترمذي وأجازه إجازة عامة كما أجازه جماعة آخرون.

وفي سنة ١٣٥٠هـ _ ١٩٣١م، تقدم لامتحان العالمیة (عالمیة الغرباء)، والامتحان في اثني عشر فناً؛ فنجح، وحصل على عالمیة الغرباء ثم حصل على عالمية الأزهر.

تدریسه:

درس جمع الجوامع بشرح المحلي، وشرح الملوي على السلم، وسلم الوصول إلى علم الأصول لابن أبي حجاب، والجوهر المكنون في البلاغة للأخضري، وشرح المكودي على الألفية، وتفسير النسفي، والأحكام للآمدي، والخبيصي على تهذيب السعد في المنطق، وتفسير البيضاوي.

شيوخه:

أ- من المغرب:

١-والده السيد محمد بن الصديق رحمه االله تعالى.

٢-أخوه الحافظ العلامة أبو الفيض أحمد.

٣-العلامة الشیخ محمد بن الحاج السلمي.

٤-العلامة الشیخ القاضي العباس بن أبي بكر بناني.

٥-العلامة المحقق السيد أحمد بن الجيلاني الأمغاري

٦-الشیخ فتح االله البناني الرباطي.

٧-العلامة الشیخ الراضي السناني الشهير بالحمش.

٨-العلامة أبو الشتاء بن الحسن الصنهاجي.

٩-العلامة الشیخ محمد الصنهاجي أخو السابق.

١٠-العلامة السید أحمد بن الطيب القادري.

١١-العلامة عبد االله الفضيلي.

١٢-العلامة السید عبد الرحمن بن القرشي العلوي.

١٣-الشريف الحبيب المهاجي.

١٤-المحدث عبد الحي الكتاني.

١٥-العلامة القاضي الحسين العراقي.

١٦-العلامة السيد محمد المكي بن محمد البطاوري.

١٧-السید المهدي بن العربي بن الهاشمي الزرهوني.

١٨-الملك إدريس بن محمد المهدي ابن العلامة محمد بن علي السنوسي الشريف الحسني.

١٩-القاضي المسند الكبير عبد الحفیظ بن محمد بن عبد الكبير الفاسي الفهري.

٢٠-العلامة الأثري الصوفي أبو القاسم بن مسعود الدباغ.

٢١-العلامة المحدث السید محمد بن إدريس القادري الحسني الفاسي.

ب- تونس:

شیخ جامع الزیتونة الشیخ طاهر بن عاشور التونسي المالكي.

ج- مصر:

١-الشیخ محمد بخیت المطیعی الحنفي.

٢-مسند العصر الشيخ أحمد بن محمد بن عبد العزیز بن رافع الحسيني الطهطاوي.

٣-الشیخ محمد إمام بن برهان الدين إبراهيم الشهير بالسقا الشافعي.

٤-الشیخ محمد بن إبراهيم الحميدي السمالوطي المالكي.

٥-الشیخ محمد بن محمد بن خلیفة الأزهري الشافعي.

٦-الشیخ أحمد بن محمد بن محمد الدلبشاني الموصلي القاهري.

٧-السید بهاء الدين أبو النصر بن أبي المحاسن القاوقجي الطرابلسي.

٨-الشیخ محمد الخضر بن حسين التونسي.

٩-أبو الوفاء خلیل بن بدر بن مصطفى الخالدي الحنفي.

١٠-العلامة الشیخ محمد دويدار الكفراوي التلاوي الشافعي.

١١-الشيخ طه بن یوسف الشعبیني الشافعي.

١٢-الشیخ عبد الحميد بن إبراهیم بن محمد اللبان.

١٣-عبد الواسع بن يحيى الصنعاني اليمني.

١٤-الأستاذ عويض بن نصر الخزاعي المكي.

١٥-الشيخ محسن بن ناصر باحربه اليمني الحضرمي الشافعي.

١٦-الشیخ عبد الغني طموم الحنفي.

١٧-الشیخ محمد بن إبراهیم الببلاوي المالكي.

١٨-الشیخ محمد بن عبد اللطيف خضير الدمياطي الشافعي.

١٩-محمد بن محمد زبارة الصنعاني الحسني.

٢٠-الشیخ محمود بن عبد الرحمن المنصوري الحنفي الأزهري.

٢١-الشیخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري.

٢٢-الشیخ محمد بن حسنين بن محمد مخلوف العدوي المالكي.

٢٣-الشیخ عبد المجيد الشرقاوي.

٢٤-الشیخ محمد عزت.

د- الحجاز:

١-الشيخ المحدث عمر حمدان المحرسي.

٢-الشيخ المحدث عبد القادر بن توفيق الشلبي الطرابلسي.

٣-الشيخ المعمر محمد المرزوقي بن عبد الرحمن أبو الحسين المكي الحنفي.

٤-الشیخ صالح بن الفضل التونسي ثم المدني الحنفي.

٥-العلامة عبد الباقي بن ملا علي بن ملا محمد معين اللكنوي المدني الحنفي.

هـ- الشام:

١-الشیخ محمد سعید بن أحمد الفرا الدمشقي الحنفي.

٢-العلامة الورع بدر الدين بن يوسف الحسني -شيخ دار الحديث بدمشق.

٣-الأستاذ الشیخ عبد الجليل بن سليم الذرا الدمشقي.

٤-الشیخ محمد راغب بن محمود الطباخ الحلبي الحنفي.

٥-الشیخ یوسف بن اسماعیل بن یوسف النبهاني الشافعي البيروتي.

٦-الشیخ عطاء بن إبراهیم بن ياسين الكسم الدمشقي الحنفي.

و-شيوخه من النساء:

أم البنين آمنة بنت عبد الجليل بن سليم الذرا الدمشقية.

مؤلّفاته:

ألف العديد من المصنفات نذكر منها:

١-الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي -ط.

٢-تخریج أحاديث لمع أبي إسحاق الشيرازي في الأصول -ط.

٣-عقيدة أهل الإسلام في نزول عیسى علیه السلام في آخر الزمان - ط.

٤-الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين - ط.

٥-إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بسيد الأنبياء -ط.

٦-الأربعون حدیثاً الغمارية في شكر النعم - ط.

٧-الأربعون حديثاً الصدیقیة في مسائل اجتماعیة -ط.

٨-الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء - ط.

٩-سمير الصالحين في ٣ أجزاء - ط.

١٠-حسن البيان في ليلة النصف من شعبان - ط.

١١-فضائل القرءان - ط.

١٢-تشييد المباني لما حوته الآجرومية من المعاني- خ.

١٣-فضائل رمضان وزكاة الفطر - ط.

١٤-مصباح الزجاجة في صلاة الحاجة - ط.

١٥-قصص الأنبياء - طبع منه قصة آدم وإدريس وداود وسليمان.

١٦-قرة العين بأدلة إرسال النبي إلى الثقلين - ط.

١٧-جواهر البيان في تناسب سور القرآن - ط.

١٨-غایة الآمال في شرح وتصحيح حديث عرض الأعمال- ط.

١٩-الحجج البينات في إثبات الكرامات - ط.

٢٠-واضح البرهان على تحريم الخمر في القرآن - ط.

٢١-دلالة القرآن المبين على أن النبي أفضل العالمين - ط.

٢٢-النفحة الإلهية في الصلاة على خير البرية - ط.

٢٣-شرح الإرشاد في فقه المالكية - ط.

٢٤-إعلام النبيل بجواز التقبيل - ط.

٢٥-الفتح المبين بشرح الكنز الثمين - ط.

٢٦-القول المسموع في بيان الهجر المشروع - ط.

٢٧-الصبح السافر في تحریر صلاة المسافر - ط.

٢٨-الرأي القويم في وجوب إتمام المسافر خلف المقيم- ط.

٢٩- خواطر دینیة - في ثلاث مجلدات - طُبع الأول فقط.

٣٠-تفسير القرآن الكريم - لم یتم.

٣١-إتقان الصنعة في بيان معنى البدعة - ط.

٣٢- توضيح البيان لوصول ثواب القرآن - ط.

٣٣-التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله والیوم الآخر - ط.

٣٤-تنوير البصيرة ببيان علامات الساعة الكبيرة -ط.

٣٥-الغرائب والوحدان في الحدیث الشریف - ط.

٣٦-التنصل والانفصال من فضیحة الإشكال - ط.

٣٧-كيف تشكر النعمة - ط.

٣٨-كيف تكون محدثاً (قلت: هذا عنوان خادمه أحمد درويش يضم كتابى "حصول التفريج بأصول التخريج أو كيف تصير محدثا" تألیف الحافظ السید أحمد بن محمد بن الصديق الحسني الإدريسي الغماري (توفى ١٣٨٠ه) مع توجيه العناية لتعريف علم الحديث رواية ودراية للحافظ السید عبد االله بن محمد بن الصديق الحسني الإدريسي الغماري (توفى ١٤١٣ه) - ط.

٣٩-الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام - ط.

٤٠-ذوق الحلاوة بامتناع نسخ التلاوة - ط.

٤١-حسن التفهم والدرك لمسألة الترك - ط.

٤٢-الأدلة الراجحة على فرضية قراءة الفاتحة -ط.

٤٣-أجوبة هامة في الطب - ط.

٤٤-إزالة الالتباس عما أخطأ فيه كثير من الناس- ط.

٤٥-إتحاف النبلاء بفضل الشهادة وأنواع الشهداء- ط.

٤٦-المهدي المنتظر - ط.

٤٧-الإحسان في تعقب الإتقان في علوم القرآن -ط.

٤٨-تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنّة - ط.

٤٩-كمال الإيمان في التداوي بالقرآن - ط.

٥٠-استمداد العون في بیان كفر فرعون - ط.

٥١- تنبيه الأواه إلى فوائد الصلاة.

٥٢-أولياء وكرامات.

٥٣-توجیه العنایة بتعریف الحدیث روایة ودرایة- ط.

٥٤-غنیة الماجد بحجية خبر الواحد -ط.

٥٥-سبیل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق، ترجمة ذاتية - طُبع.

٥٦-مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر وهو الكتاب الذي بين أیدینا.

٥٧-القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع؟!! -ط.

٥٨-جزء فيه الرد على الألباني وبيان بعض تدلیسه وخیانته!!، وطُبع باسم "إرغام

المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي في الرد على الألباني الوبي" (غفر الله له).

٥٩-إرشاد الجاهل الغوي إلى وجوب اعتقاد أن آدم نبي - ط.

وله تحقیقات على عدة كتب أخرى منها: 

المقاصد الحسنة للسخاوي، وتنزيه الشريعة لابن عراق، والبحر الزخّار في مذاهب علماء الأمصار، والإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الشیخ، وقام بإخراج عشرات الأجزاء الحديثية والكتب من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات.

وفاته: 

توفي رحمه االله سنة ١٤١٣هـ - ١٩٩٣م بطنجة ودفن فيها قرب والده.

نصُّ رسالة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين. وبعد: فهذا جزء سمّيته: "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر"، أردت به تنزيه النبيّ صلى الله عليه وسلم عمّا نُسب إليه مما لم يصح عنه، ويعدُّ من قبيل الغلو المذموم، ومع ذلك صار عند العامة وكثير من الخاصة معدودًا من الفضائل النبويّة التي يكون إنكارها طعنًا في الجناب النبويّ عندهم، ولا يدركون ما في رأيهم وقولهم من الإثم العظيم الثابت في قول النبيّ صلّ الله عليه وسلّم: "من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار"، والذي يصفه بما لم يثبت عنه كاذب عليه واقع في المحذور إلاّ أن يتوب، ولا يكون مدحه عليه الصلاة والسلام شافعًا له في الكذب عليه. 

وإن كانت الفضائل يتسامح فيها فإن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون بالثابت المعروف حذرًا من الكذب المتوعَّد عليه بالنار، نسأل الله العافية. 

وقد وردت أحاديث في هذا الموضوع باطلة، وجاءت آراء شاذة عن التحقيق عاطلة، أُبينها في هذا الجزء بحول الله.

١-ذكر الحديث الموضوع:

روى عبد الرزاق -فيما قيل- عن جابر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي أخبرني عن أول شىء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ 

قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي.

فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء؛ فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة.

ثم قسّم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السموات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنّة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمّد رسول الله…." الحديث، وله بقية طويلة وقد ذكره بتمامه ابن العربي الحاتمي في كتاب "تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان"، والديار بكري في كتاب "الخميس في تاريخ أنفس نفيس"

وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره. وقال الحافظ السيوطي في الحاوي:"ليس له إسناد يعتمد عليه" ا. هـ.، وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة.

وبعض الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر وهذا كذب يأثم عليه.

وبالجملة فالحديث منكر موضوع لا أصل له في شىء من كتب السُّنّة. 

٢-ومثله في النكارة ما روي عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نورًا بين يدي ربي قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام" وهو كذب أيضًا.

٣-ومن الكذب السخيف ما يقال: إن إحدى أمهات المؤمنين أرادت أن تلف إزارًا على جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم فسقط الإزار أي لأنه نور، وهذا لا أصل له. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستعمل الإزار ولم يسقط عنه. 

وكونه صلى الله عليه وسلم نورًا أمر معنوي، مثل تسمية القرءان نورًا ونحو ذلك، لأنه نوّر العقول والقلوب.

٤- ومن الكذب المكشوف قولهم: لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك، وكذلك ما روي عن علي عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: هبط عليّ جبريل فقال: إن الله يقرؤك السلام ويقول: "إني حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك" وهو حديث موضوع.

٥-وروي في بعض كتب المولد النبوي عن أبي هريرة قال: سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل كم عمّرتَ من السنين؟ فقال: يا رسول الله لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنتين وسبعين ألف مرة، فقال النبيّ: وعزة ربي أنا ذلك الكوكب. وهذا كذب قبيح، قبّح الله من وضعه وافتراه.

٦-وذكر بعض غلاة المتصوّفة أن جبريل عليه السلام كان يتلقّى الوحي من وراء حجاب وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم يوحي إليه؛ فقال جبريل: منك وإليك. 

قلتُ: لعن الله من افترى هذا الهراء المخالف للقرءان فإن الله تعالى يقول لنبيّه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) [سورة الشورى آية: 52] ويقول: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ, عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ,) [سورة الشعراء آية: 193، 194].

أخرج أحمد والحاكم والبيهقي في الدلائل عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيّين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك: "دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمهات الأنبياء".

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أحمد بأسانيد، والبزار والطبراني بنحوه" ... "أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبّان"اهـ. 

قلتُ: رواه الحاكم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن سويد بن سعيد، عن العرباض بن سارية، وقال: "صحيح الإسناد" وتعقّبه الذهبي بأن أبا بكر ضعيف، وغلط الدكتور قلعجي محقّق كتاب "دلائل النبوة" فذكر أن الذهبي وافقه على تصحيحه.

وروى أحمد من طريق بُدَيْل، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: "قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟، قال: "وءادم بين الروح والجسد". وهكذا رواه البغوي وابن السكن في الصحابة. قال الحافظ: وهذا سند قوي. قلتُ: وذكره البخاري في التاريخ معلقًا. 

وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوّة؟ قال: بين خلق آدم ونفخ الروح فيه". 

وروى أحمد من طريق عبد الله بن شقيق، عن رجل قال: "قلت: يا رسول الله متى جعلت نبيًّا؟ قال: وءادم بين الروح والجسد". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. قلت: هو أحد طرق حديث ميسرة الفجر.

وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عفّان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابي، قالا: حدّثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله ابن شقيق، عن عبد الله بن أبي الجدعاء قال: "قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: إذ ءادم بين الروح والجسد"اهـ. رجاله رجال الصحيح. 

وروى البزار والطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "قيل: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: وءادم بين الروح والجسد". 

قال البيهقي: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته" يريد انه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم" اهـ.

وقال أبو الحسين بن بشران: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العَوفي، ثنا إبراهيم بن طَهمان، عن بُدَيل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: "لما خلق الله الأرض، واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمّد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنّة التي أسكنها آدم وحوّاء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبر أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه" اهـ، إسناد جيد قوي. 

وهو يفيد أن معنى كونه نبيًّا: إظهار ذلك في العالم العلوي قبل نفخ الروح في ءادم عليه السلام.

وقد بيَّن الحديث أيضًا سرَّ إعلان نبوته في ذلك العهد وانه يرجع إلى أمرين اختص بهما: (أحدهما): انه سيد ولد ءادم. (والآخر): أنه خاتم الأنبياء، وأيَّد ذلك بما ذكره من بشارة إبراهيم وعيسى به عليهم الصلاة والسلام. 

والأنبياء جميعًا نبوتهم ثابتة في تقدير الله وقضائه، لكن لم يَرد في خبر أن الله تعالى أظهر نبوة أحد منهم بالتعيين قبل خلق ءادم، فلم يكن ذلك إلاّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهذا سر قوله: "كنت نبيًّا وءادم بين الروح والجسد"، أي أن حملة العرش والملائكة عرفوا اسمه ونبوته قبل خلق ءادم عليه السلام، وهم لم يعرفوا ءادم إلاّ بعد خلقه.

٧-تنبيه: حديث: "كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين" لا أصل له، وكذلك حديث: "كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين" لا أصل له أيضًا. 

وما يوجد في كتب المولد النبويّ من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه، فتحرم قراءة تلك الكتب، ولا يقبل الاعتذار عنها بأنّها في الفضائل لأن الفضائل يتساهل فيها برواية الضعيف، أمّا الحديث المكذوب فلا يقبل في الفضائل إجماعًا، بل تحرم روايته -إلا مع بيان أنه موضوع.

والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" يرى بضم الياء: معناه يظن.

ويقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" وفضل النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في القرءان الكريم، والأحاديث الصحيحة، وهو في غنى عما يقال فيه من الكذب والغلو، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".

وتم تحرير هذه العجالة يوم الأحد ٢٥ من ذي القعدة سنة ١٤٠٨ هـ. والحمد لله أولاً وءاخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم

الرسالة الثانية

رسالة في إبطال حديث النور المحمدي لدى المتصوفة

لأبي عمر أسامة عطايا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فهذه رسالة مختصرة كتبتها لبيان بطلان ما هو متداول بين الصوفية من حديث أولية النور المحمدي أبدؤها بذكر نص الحديث ثم تخريجه ثم الحكم عليه.

ورأيت من تمام الفائدة ذكر بعض الشواهد الباطلة التي قد يتوهم بعض من لا علم عنده أنها تشهد لهذا الحديث الباطل المكذوب.

فصل: نص الحديث المكذوب عن جابر-رضي الله عنه-قال: سألت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عن أول شئ خلقه الله تعالى؟ فقال: (هو نور نبيك يا جابر؛ خلقه الله ثم خلق فيه كل خير وخلق بعده كل شئ، وحين خلقه أقامه قدامه من مقام القرب اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم.

وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أجزاء: فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء، والقمر والكواكب من جزء.

وأقام الجزء الرابع في مقام الرجاء اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أجزاء: فخلق العقل من جزء، والعلم والحكمة من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء.

وأقام الجزء الرابع في مقام الحياء اثني عشر ألف سنة، ثم نظر الله -عز وجل- إليه، فترشح النور عرقاً، فقطر منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة من النور، فخلق الله من كل قطرة روح نبي أو روح رسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء، فخلق الله من أنفاسهم الأولياء والشهداء والسعداء والمطيعين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسي من نوري، والكروبيون من نوري، والروحانيون والملائكة من نوري، والجنة وما فيها من النعيم من نوري، وملائكة السموات السبع من نوري، والشمس والقمر والكواكب من نوري، والعقل والتوفيق من نوري، وأرواح الرسل والأنبياء من نوري، والشهداء والسعداء والصالحون من نتاج نوري.

ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب فأقام الله نوري، وهو الجزء الرابع في كل حجاب ألف سنة، وهي مقامات العبودية والسكينة والصبر والصدق واليقين، فغمس الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة، فلما أخرج الله النور من الحجب ركبه الله في الأرض، فكان يضيء منها ما بين المشرق والمغرب كالسراج في الليل المظلم.

ثم خلق الله آدم من الأرض فركب فيه النور في جبينه، ثم انتقل منه إلى شيث، وكان ينتقل من طاهر إلى طيب، ومن طيب إلى طاهر إلى أن أوصله الله صلب عبد الله بن عبد المطلب، ومنه إلى رحم أمي آمنة بنت وهب، ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة للعالمين، وقائد الغر المحجلين.(هكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر).  

وهذا اللفظ من النفحات المكية واللمحات الحقية لمحمد عثمان الميرغني (ص/28 - 29).

فصل: تخريج الحديث المكذوب:

لم أقف على من خرجه مسنداً، وعزاه لــ (مصنف عبد الرزاق)

١-السيوطيُّ في الخصائص الكبرى والقسطلاني (المواهب اللدنية (١/ ٤٦)) وابن عربي الصوفي (الفتوحات المكية (١/ ١١٩) -دار صادر)). 

٢-وأحمد رضا البريلوي في رسالته "صلاة الصفا في نور المصطفى" (ص/ ٣٣ - مجموعة الرسائل)، كما في كتاب" البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير (ص/ ١٠٢ - ١٠٣)، وزعم هذا المتنبيء الأفاك أن الأمة تلقت هذا الحديث بالقبول وهو زعم باطل إلا إن عنى بالأمة: أمتَه الضالة التي آمنت بنبوته، ومن كان على شاكلتهم من الصوفية) .

٣- ومحمد عثمان عبده البرهاني في كتابه تبرئة الذمة (ص/٩). وقال: حديث صحيح!!!!! وعزاه هذا الأفاك الضال إلى كتاب "جنة الخلد" لعبد الرزاق، ولا يعرف كتاب لعبد الرزاق بهذا الاسم. والله أعلم.

٤-وجماعة آخرون من المتصوفة، وذكره الديار بكري في "الخميس في سيرة أنفس نفيس" (كما في المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير -المقدمة. ص/٧).

ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث حتى كتب الموضوعات بلهَ مصنف عبد الرزاق فالعزو إليه إما وَهَم، وإما خلط بحديث آخر يأتي ذكره –إن شاء الله تعالى- في موضوع مستقل، وإما محض كذب وافتراء. والله أعلم.

وهو حديث مشهور بين الصوفية ذكره غير واحد منهم. وله ألفاظ عديدة سيأتي ذكر بعضها.

فصلٌ في تتمة تخريج الحديث المكذوب: 

من ألفاظه المشهورة: ما ماذكره القسطلاني في المواهب اللدنية (١/ ٧٣- ٧٤) (وعنه اللكنوي في الآثار المرفوعة، ص/٤٢) ومحمد البرهاني في كتابه تبرئة الذمة (ص/٩) واللفظ له: (يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع إلى أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم نظر إليه فترشح النور عرقاً!! فتقطرت منه مائة ألف قطرة…)، ثم ذكر نحوه.

وذكره علي بن محمد الإسماعيلي الباطني في كتابه"تاج العقائد" (ص/٥٤) ولكن بلفظ آخر وهو: ((إن الله تعالى خلقني وعلي نوراً بين يدي العرش نسبح الله ونقدسه قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما خلق آدم أسكننا في صلبه، ثم نقلنا من صلب طيب إلى باطن طاهر لا تحتك فينا عاهة؛ حتى أسكننا صلب إبراهيم، ثم نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية لا يمسنا عار الجاهلية، حتى أسكننا صلب عبد المطلب، ثم افترق النور من عبد المطلب ثلاثاً ثلثان في عبد الله وثلث في أبي طالب فخرجت من ظهر عبد الله وخرج علي من ظهر أبي طالب ثم اجتمع النور مني ومن علي في فاطمة فخرج منها الحسن والحسين فهما نوران من نور رب العالمين) وذكر نحوه عن ابن عباس. وسيأتي -إن شاء الله-.

فصل: الحكم على الحديث (المكذوب)!! 

الحديث موضوع لا أصل له في شيء من كتب الحديث وإنما هو مشتهر على ألسنة الصوفية ونحوهم.

١- ورَدَ على السيوطي سؤال صيغته: هل الوارد في الحديث أن الله تعالى خلق نور محمد -صلى الله عليه وسلم- فجزأه أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول العرش وخلق من الجزء الثاني القلم وخلق من الثالث اللوح ثم قسم الرابع وجزأه أربعة أجزاء، وخلق من الجزء الأول العقل وخلق من الجزء الثاني المعرفة وخلق من الجزء الثالث نور الشمس والقمر وبور الأبصار ونور النهار وجعل الجزء الرابع تحت ساق العرش مدخوراً) يقتضي أن نور الشمس غير نور النهار أم لا؟ فكان مما أجاب: والحديث المذكور في السؤال ليس له إسناد يعتمد عليه. ا.هـ (الحاوي للفتاوى: ١/ ٢٢٣- ٣٢٥)

٢-قال عبد الله بن الصديق الغماري-معلقاً على كلام السيوطي- (وهو تساهل قبيح، بل الحديث ظاهر الوضع، واضح النكارة، وفيه نفس صوفي…إلى أن قال: والعجب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق مع أنه لا يوجد في مصنفه ولا تفسيره ولا جامعه وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدق هذا العزو المخطيء فركب له إسناداً من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له، فجابر –رضي الله عنه- بريء من رواية هذا الحديث وعبد الرزاق لم يسمع به) ( ملحق قصيدة البردة لعبد الله الغماري: ص/٧٥).

٣-وقال أحمد بن الصديق الغماري: مستدركاً على السيوطي-أيضاً-: (وهو حديث موضوع لو ذكره بتمامه لما شك الواقف عليه في وضعه، وبقيته تقع في ورقتين من القطع الكبير؛ مشتملة على ألفاظ ركيكة، ومعاني منكرة) (المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير -المقدمة: ص/٧).

٤-وحكم بوضعه الشيخ محمد أحمد عبد القادر الشنقيطي-رحمه الله- في رسالة خاصة سماها: "تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق". وأقره عليه وقرظ رسالته الشيخ عبد العزيز ابن باز-رحمه الله-.

٥-وقال اللكنوي: (قد ثبت من رواية عبد الرزاق أولية النور المحمدي خلقاً، وسَبْقته على المخلوقات سبقاً وقد اشتهر بين القصاص حديث: ((أول ما خلق الله نوري)) وهو حديث لم يثبت بهذا المبنى وإن ورد غيره موافقاً له في المعنى) (الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة- ص/٤٣)

فقوله: (ثبت) باطل ومردود بما سبق بيانه. وقوله: (ورد غيره موافقاً له في المعنى) باطل -أيضاً- ليس له مستند من الكتاب، ولا من السنة؛ بل هو مردود من وجوه:

(الوجه الأول): أنه لم يرد فيما ادعاه نص من كتاب، ولا سنة؛ فهو قول على الله بلا علم.

(الوجه الثاني): ما ورد من حديث أبي رزين-رضي الله عنه-أنه قال: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: (كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء) (رواه أحمد في مسنده: ٤/ ١١، والترمذي في سننه (٥/ ٢٨٨، رقم ٣١٠٩، وابن ماجه ١/ ٦٤، رقم ١٨٢، وابن حبان في صحيحه (١٤/ ٨- ٩ رقم ٦١٤١) وغيرهم وهو حديث حسن.

فالحديث صريح في أن العرش أو الماء أول المخلوقات، ولو كان النور المحمدي- بزعمهم- مخلوقاً لما أغفله النبي –صلى الله عليه وسلم.

(الوجه الثالث): أن المحققين من أهل العلم لم يقل أحد منهم-فيما وقفت عليه- بأن النور المحمدي-بزعمهم- أول مخلوق وإنما هو من دين الصوفية ومن قلدهم الذي فارقوا به جماعة المسلمين والله أعلم.

(الوجه الرابع): أنه على رواية (أول ما خلق الله نور نبيك من نوره) باطل لمعارضته لبشرية النبي-صلى الله عليه وسلم- إذ من المقطوع به أن نبينا محمداً-صلى الله عليه وسلم-من بني آدم وآدم خلق من طين لا من نور.

وفي الحديث غير ما سبق ذكره من المخالفات وانظرها في رسالة الأخ الصادق محمد إبراهيم الموسومة بـ"خصائص المصطفى بين الغلو والجفا" (ص/٨٣ - ٨٩).

ثم إن ثبت الحديث –ودون ذلك خرط القتاد- فمعناه: أنه –صلى الله عليه وسلم-أول ما خلق الله من النبيين كما في حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم- ((كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث)) (رواه ابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير (ص/ ١٠٥٢)، وابن عدي في الكامل (٣/ ٤٩، ٣٧٢، ٣٧٣) وأبو نعيم في الدلائل (ص/٦) وتمام في الفوائد (٤/ ٢٠٧، رقم ١٣٣٩) وغيرهم وضعفه الألباني-رحمه الله- في “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة” (٢/ ١١٥، رقم ٦٦١)، وسنده ضعيف، والصحيح أنه عن قتادة مرسلاً (رواه ابن سعد في الطبقات (١/ ١٤٩) وأبو نعيم في الدلائل كما في البداية والنهاية (٢/ ٢٩٨)). والله أعلم.






الخميس، 1 سبتمبر 2022

تنبيه الحذاق إلى بطلان ما شاع من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق تأليف محمد أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تنبيه الحذاق إلى بطلان ما شاع من حديث النور 

المنسوب لمصنف عبد الرزاق

تأليف محمد أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ إن الحقيقة التي يجب المصير إليها، هي أن المسلم في جميع أحواله، لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من كلام الناس أو شهوات الخلق، ولا يركن في معتقداته إلى بعض المرويات التي لا أصل لها ولا زمام، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل، ألا وهو كتاب الله عز وجل، وما صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك حسبه وكافيه..

وقد انبرى العلماء والمحققون في نقد المرويات وتمييزها، لأجل الكشف عن الروايات المزيفة وإبطالها، والتي بنى عليها المبتدعة أخطاءهم في التصورات والمعتقدات بعد أن اخترعوها ونسبوها ظلماً إلى العلم والدين، بل وصدروا هذه الأحاديث والآثار في كتبهم، وتتابعوا عليها دون نقد أو تمحيص، بل وسعوا إلى اجترار المواقف ونصب هذه الأحاديث امتحاناً لأهل الحق، وجعلوها من أسباب الموالاة والمعاداة بغير وجه حق.

 ولا شك أن مثل هذا البيان له دور كبير في دحض سلطان الباطل وهيلمانه على العقل والوجدان، فالباطل والضلال مهما امتدت أياديه، وكثرت جنوده وأتباعه إلى اضمحلال وذهاب.

وهذه الرسالة الحديثية للعلامة الشنقيطي، جاءت لبيان بطلان حديث النور المنسوب إلى مصنف عبد الرزاق، الدال على أن أول المخلوقات هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل شيءٍ خُلق من ذلك النور، وأنه لولاه لم يخلق الله تعالى شيئاً من المخلوقات، وفي بعض رواياته تقسيم هذا النور إلى عشرة أقسام، وتعيين خلق كل نوع من الكائنات من قسم معين من الأقسام العشرة.

هذا، مع العلم بأنه لا تلازم بين التفضيل والأولية، وأن الغاية الأولى من الخلق هو تحقيق العبودية لله جل جلاله، ويكفي في بطلان هذا الحديث، قوله تعالى: {قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ}، وتكرر مثل هذا في القرآن في مواضع كثيرة جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من بني آدم؛ وآدم من تراب لا من نور فما هو هذا النور الذي ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أهو روحه الشريفة أم جسمه؛ أم شيء آخر فالجسم كما تقدم من تراب؛ والروح جسم لطيف لا يعلم حقيقته إلا الله، وعليه مادة خلقه من طين، وهو مسبقٌ بالرسل من قبله.

وأما ما جاء في تسمية النبيِّ صلى الله عليه وسلم نوراً، في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة: ١٥)، وكذلك تسيته سراجاً مُنيراً، لا يقتضي أن تكون مادة خلقه خارجةً عن مادة النوع البشري، لأن ذلك خلاف الواقع؛ وخلاف نص القرآن، وإنما سماه الله سراجاً منيراً؛ على سبيل المجاز لبيان ما أتاه الله من العلم والهدى المشبهان بالنور، ومن غير المقبول أن يجعل هؤلاء المتهافتون من حديثٍ موضوع أصلاً في العقائد الدينية.

 وقد نقل المؤلف ما يؤيد بطلان هذا الحديث من الدلائل النقلية والبراهين العقلية، وأن هذا الحديث الذي ذكره الزرقاني في "المواهب اللدنية"، ونسبه إلى الصنعاني في "مصنفه"، ولم نجد هذا الحديث في النسخة التي وصلت إلينا من الهند مطبوعة!

ونحن نعتقد براءة الإمام الصنعاني من هذا الحديث المدسوس على "مصنفه"، فإنه أجلُّ من أن يُدخل في مصنفه حديثاً مثل هذا ظاهر الوضع، قال العلامة عبد الله بن الصديق الغماري : «وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره»، وقال الحافظ السيوطي في الحاوي في الفتاوى ١/ ٣٢٥: «ليس له إسناد يعتمد عليه» اهـ.

وعلى كُلٍّ فهذا الحديث يُعدُّ من جملة الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الزرقاني الذي أثبت هذا الخبر، لم يقل بما قال به بعض الحلولية من المتصوفة من أن النور المحمدي جزءٌ من ذات الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والصحيح في في باب أولية المخلوقات: أن الماء هو أول ما خلقه الله تعالى، ثم العرش، ثم القلم، ثم ما شاء الله من الخلق.

وفي هذا المقال، تحدثنا فيه عن مجموعة من النقاط، وهي:

١-ترجمة الإمام عبد الرزاق الصنعاني

٢-نصُّ الحديث.

٣-بيان بطلان هذا الحديث.

٤-بطلان عقيدة المتصوفة في أولية النور المحمدي

أولاً: ترجمة الإمام عبد الرزاق الصنعاني:

اسمه ونسبه:

هو العالم الكبير، والمحدِّث الشهير، والحافظ، والمؤرخ، عبد الرَّزَّاق بن همَّام بن نافع المغيثي الأوزاعي الحِمْيَري الصنعاني، أحد الحُفاظ الأثبات، صاحب التصانيف، وأحد الأئمة الثقات.

كنيته: أبو بكر ، ولقبه : المغيثي الأوزاعي الحِمْيَري الصنعاني.

والمغيثي=من ذي مغيث، ثم من ذوي الثوجم، وذكر الجُندي -أحد المؤرخين -أنّ المُغيثيين = سكنوا بلد يُقال لها (دروان) من مخلاف ذمار، وينسبون إلى =مقرى بن الحارث بن زيد بن الغوث.

والثُّوجم =بطن من المَعَافِر ينسبون إلى الثوجم بن وائل بن الغوث، من فروعهم المُغيثيون؛ في مُقرى. والأوزاع= بطون اجتمعت من مقرى وعنس وحمير وألهان وخولان والوحام بن وائل، فهم باليمن بناحية ذمار.   

والحِمْيَري= نِسبَة إلى قبيلة حِمْيَر المعروفة، فأصله يعود إلى الحِمْيَريين المغيثيين الأوزاعيين الذين سكنوا في منطقة ذمار في مقرى (ومُقْرَى – الاسم القديم لمغرب عنس). والصنعاني= نسبة إلى صنعاء لولادته ونشأته فيها

ولا يزال أحفاد الإمام عبد الرَّزَّاق يسكنون إلى وقتنا الحاضر بمنطقة ذمار في مديرية مغرب عنس ، ويعرفون بـآل عبد الرَّزَّاق.

مولده: 

ولد الإمام عبد الرَّزَّاق في صنعاء سنة (١٢٦ هـ) وقد نشأ شيخاً منذ نعومة أظفاره، واشتهر فيها ولذلك نسب إليها، وكان والده حريصاً على إرساله إلى حلقات العلم. وعده الذهبيُّ من الطبقة السابعة، وعده آخرون من الطبقة التاسعة، والراجح هو ما قاله الإمام الذهبي.

أسرته:

١-والده (همّام بن نافع)، روى عن عكرمة، ووهب بن منبه، وميناء بن أبي ميناء، وخاله قيس بن يزيد، وروى عنه ابنه عبد الرزاق، وقال: حجَّ أبي همّام أكثر من ستين حجة، وقال ابن معين: ثقة، وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ، ويُعد (همَّام) من لطبقة السادسة.

٢-أخوه (عبد الوهاب بن همّام)، وثقه يحيى بن معين، واتهمه آخرون بالتشيع، وذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة في الثقات، روى عن سفيان الثوري، وعبد الصمد بن معقل، ومحمد بن مسلم الطائفي، وغيرهم، وروى عنه: إسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد، وأبو زياد القطان.

٣-عمُّه (وهب بن نافع)، ولد سنة ١١٤ هـ، ويروي عن عكرمة، وروى عنه عبد الرزاق بن همام.

٤-ابن أخته (أحمد بن داود) روى عن خاله عبد الرزاق وغيره، قال ابن معين: لم يكن يثقة، وقال أحمد: كان من أكذب الناس، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، وحديثه قليل، وأعاده الذهبيُّ فيمن -اسم أبيه عبد الله -ونقل عن ابن حبان: أنه كان يُدخل على عبد الرزاق الحديث، فكل ما وقع من حديث عبد الرزاق من مناكير فبليته منه، 

ثناء العلماء عليه:

وقد أثنى العلماء على الإمام عبد الرزاق، وذكروا لذلك أقوالاً كثيرة قيلت فيه، وفي مصنفاته مما يدل على سعة علمه، وسلامة نهجه وعقيدته:

وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل : «ما رأيتُ أحسنَ حديثاً من عبد الرَّزَّاق»

وقال أحمد بن حنبل: إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرَّزَّاق.

وقال هشام بن يوسف: كان عبد الرَّزَّاق أعلَمُنا وأحفَظُنا.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: كَتَبَ عبد الرَّزَّاق ثُلثي العلم.

وقال الذهبي: عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الإمام أبو بكر الحِمْيَري الصنعاني، أحد الأعلام الثقات، كتب شيئاً كثيراً وصنف الجامع الكبير، وهو خزانة علم، ورحل الناس إليه.

وقال الذهبي أيضاً: عبد الرَّزَّاق راوية الإسلام، وهو صدوق في نفسه، وحديثه محتجٌ به في الصحاح.

وقال الإمام البخاري: ما حَدَّث عنْه عبد الرَّزَّاق من كتابه فهو أصح.

وقال ياقوت الحموي: وينسب إلى صنعاء كثير من الفضلاء وأجلّهم قدراً في العلم عبد الرَّزَّاق بن همَّام الصنعاني.

وقال الإمام الشوكاني: عبد الرَّزَّاق لا يحتاج إلى متابع.

طلب للعلم ورحلاته العلمية:

المطلب الأول : طلبه للعلم .  

بدأ الإمام عبد الرزاق طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، رحل في تجارة إلى الشام ولقي كبار العلماء ومنهم الأوزاعي وابن جريج ومغمرأ، وكان يقول: جالست معمرا سبع سنين. وكان شيخنا عبد الرزاق محدثا، حافظا، فقيها، وقد تأثر بشيخه معمر من الناحية الفقهية وهذا واضح وجلي من ترجيحاته في المصنف.  

قال الإمام أحمد بن حنبل: "كان عبد الرزاق يحفظ حديث معمر، وحديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين كان يعني معمراً يتعاهد كتبه وينظر يعني باليمن وكان يحدثهم حفظا بالبصرة ".  

وقال الإمام أحمد أيضا: "ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه شيء إلا المجلس الأول، وذلك أنا دخلنا بالليل فوجدناه في موضع جالسا فأملى علينا سبعين حديثا، ثم التفت إلى القوم فقال: لولا هذا ما حدثتكم يعني الإمام أحمد".  

قال القاضي هشام بن يوسف: "كان لعبد الرزاق حين قدم ابن جريج ثماني عشرة سنة".  

وارتحل إلى الحجاز، والشام، والعراق، وسافر في تجارة.  

سعة حفظه: 

قال إبراهيم بن عباد الدبري: "كان عبد الرزاق يحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حديث".

وقال عبد الرزاق: " سمعت من شيخي معمر عشرة آلاف حديث" . 

حرص الإمام على تطبيق السنة:  

حرص الإمام عبد الرزاق على تطبيق السنة النبوية المشرفة، ويتبين ذلك من خلال ما روي أن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه كانا عند عبد الرزاق قال: فجاءنا يوم الفطر فخرجنا مع عبد الرزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير فلما رجعنا من المصلى دعانا عبد الرزاق إلى الغداء جعلنا نتغدى معه، فقال عبد الرزاق لأحمد وإسحاق: رأيت اليوم منكما عجبا لم تكبرا قال أحمد وإسحاق: يا أبا بكر نحن كنا ننظر إليك هل تكبر فنكبر فلما رأيناك لم تكبر أمسكنا قال: وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر.

أبرز شيوخه:

ورحل إلى مكة والشام والعراق، قال أبو القاسم قدم الشام تاجراً وسمع بها الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز أو أبو عبد العزيز التنوخي، فقيه أهل دمشق ومفتيهم بعد الأوزاعي، وسعيد بن بشير، ومحمد بن راشد المكحولي وإسماعيل ابن عباس، وثور بن يزيد الكلاعي وحدَّث عنهم.

وأخذ عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي، وعبد الله وعبيد الله ابني عمرو بن مالك بن أنس، وداوود بن قيس الفراء، وأبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وعبد الله بن زياد بن سمعان، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وأبي معشر نجيح السندي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومعتمر بن سليمان التيمي، وأبي بكر بن عباس، وهشيم بن بشير الواسطي، وعبد العزيز ابن أبي زياد وغير هؤلاء.

وروى عن الإمام أبو حنيفة، وأكثر من روايته ، وقال : ما رأيت أحدا قط أحكم من أبي حنيفة لقد رأيته فى المسجد الحرام والناس حوله، إذ سأله رجل عن مسألة فأفتاه بها، فقال له رجل: قال فيها الحسن كذا وكذا، فقال أبو حنيفة: أخطأ الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود، فصاحوا به، قال عبد الرزاق: فنظرت في المسألة، فإذا قول عبد الله بن مسعود فيها كما قال أبو حنيفة، وتابعه أصحاب عبد الله بن مسعود.

 أشهر تلاميذه ومن رحل إليه وروى عنه.

لقد رحل إلى عبد الرَّزَّاق خلق كثير لا يُحصون ، فقد رحل إليه أئمة العلم في زمانه ورووا عنه ، وأشهرهم الإمام أحمد بن حنبل أقام عند عبد الرَّزَّاق في صنعاء ومعه يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل.

كما أن عبد الرَّزَّاق روى عن سفيان بن عيينة وهو من شيوخه، وسفيان الثوري الملقب بأمير المؤمنين في الحديث روى عن عبد الرَّزَّاق وهو من شيوخه، ومعتمر بن سليمان وهو من شيوخه، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذهلي، وعلي بن المديني، وأحمد بن منصور الرمادي، والشاذ كوني، وجماعة وافرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم الدبري.

كما أن الإمام الشافعي رحمه الله كان قد قصد عبد الرَّزَّاق في صنعاء ولكن لم تذكر كتب التاريخ مقابلته لعبد الرَّزَّاق، فالمشهور عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه مكث فترة في صنعاء، ولا يُحتمل أن يقضي فيها فترة من الزمن ولا يقابل عبد الرَّزَّاق، إلا أنه ربما قدم صنعاء في حين أن عبد الرَّزَّاق لم يكن موجوداً فيها، أو لأنه بعد وصوله إلى صنعاء بمدة قصيرة أُخذَ أسيراً.

وروى عنه الإمام البخاري والإمام مسلم بواسطة، وروى عنه أصحاب الأمهات الست، وغيرهم. فحديثه مخرج في الصحاح كلها، وفي الأسانيد بأسرها، وكثير اغترف من معينه وتحلى بالإسناد إليه.

توثيقه قبل الاختلاط:  

قال الإمام أحمد: "أتينا عبد الرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره فهو ضعيف السماع".  

وسئل الإمام أحمد عن حديث رواه عنه أحمد بن شبويه، قال :"هؤلاء سمعوا بعدما عمي، كان يلقن فلقنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه، كان يلقنها بعدما عمي".

وقال النسائي: "فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة".  

وممن سمع منه قبل الاختلاط: أحمد وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني ويحيى بن معين ووكيع بن الجراح .  

وممن حدث عنه بعد اختلاطه  

١ - أحمد بن محمد بن شبويه .  

٢ - محمد بن حماد الطهراني.  

٣ - إبراهيم بن بشار الرمادي، ومنهم الجماعة الذين سمع منهم الطبراني في رحلته إلى صنعاء . 

أصحاب عبد الرزاق، المكثرين في الرواية عنه، هم:  

١ - إسحاق بن إبراهيم الدبري .  ٢ - إبراهيم بن محمد بن برة الصنعاني.

٣ - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن سويد . 

٤ - الحسن بن عبد الأعلى الصنعاني .  

توثيقه فيما يرويه من كتبه:  

قال الإمام أحمد :"من سمع من الكتب فهو أصح".  

وقال ابن معين: "ما كتبت عن عبد الرزاق حديثا واحدا إلا من كتابه".  

وقال البخاري: "ما حدث من كتابه فهو أصح". 

عقيدته (هل كان عبد الرزاق متشيعاً؟)

والذي أرجحه والله أعلم أن عبد الرزاق لم يكن متشيعاً، حيث قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي هل كان عبد الرزاق يتشيع ويفرط في التشيع ؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا ولكنه كان رجلاً يعجبه أخبار الناس.

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت سلمة بن شبيب يقول سمعت عبد الرزاق، يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر، رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان من لم يحبهم فما هو مؤمن وقال : أوثق أعمالي حبي إياهم.  

وقال أبو الأزهر سمعت عبد الرزاق يقول: أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه ولو لم يفضلهما ما فضلتهما، كفى بي ازدراء أن أحب علياً، ثم أخالف قوله.

وكان زيد بن المبارك لزم عبد الرزاق فأكثر عنه، ثم خرق كتبه، ولزم محمد بن ثور، فقيل له في ذلك، فقال: كنا عند عبد الرزاق فحدثنا بحديث ابن الحدثان، فلما قرأ قول عمر لعلي والعباس - رضي الله عنهما فجئت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، وجاء هذا يطلب ميراث امرأته من أبيها، قال عبد الرزاق: انظر إلى هذا الأنوك يقول: من ابن أخيك، من أبيها ! لا يقول: رسول الله ، قال زيد بن المبارك: فقمت فلم أعد إليه، ولا أروى عنه.

قال الذهبي: "في هذه الحكاية إرسال، والله أعلم بصحتها، ولا اعتراض على الفاروق فيها فإنه تكلم بلسان قسمة التركات " .  

قال أبو بكر بن زنجويه: "سمعت عبد الرزاق يقول: الرافضي كافر" . 

وهذا يدل على أنه ليس برافضي، أو مغالٍ في التشيع.

مؤلفاته:

١- المصـنَّف: وهو أشهرها، وقد حققه أكثر من واحد، وقد ذكر الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار في دراسته حول مصنف عبد الرَّزَّاق: أنه أعظم كتبه وأشهرها، وهو أظهر تلك الكتب في الدلالة على فكر صاحبه وجهده ومنهجيته ، ثم إن المصنف في ذاته علَمٌ بارز على طريق تطور التدوين والتصنيف في الحديث النبوي الشريف.

 ٢- الجامع الكبير: وذكر الدكتور فؤاد سزكين أن الجامع ليس إلا امتداداً لأحاديث أخذها عبد الرَّزَّاق من مَعْمَر وأضاف إليها بعض الروايات، وقال محقق التفسير أن عبد الرَّزَّاق قد سبق في هذا اللون من التصنيف شيخه مَعْمَر، وأن جامع عبد الرَّزَّاق واحد من المؤلفات التي أخذت دورها في حركة التأليف في ذلك العصر، وأخذ عبد الرَّزَّاق مكانه بين مقاعد أوائل المصنفين.

٣- التفسير: تفسير القُرءَان الكريم، رواية محمد بن عبد السلام الخشني، عن سلمة بن شبيب النيسابوري عن عبد الرَّزَّاق، وهو في ثلاثة أجزاء حققه أكثر من واحد ، قال الدكتور محمود محمد: إن تفسير عبد الرَّزَّاق يعتبر خير شاهد على المنهج الذي كان متبعاً في تفسير القرآن في عصره، وأنه يمثل حلقة من حلقات التطور التي مر بها التفسير غير أن المرحلة التي يمثلها تفسير عبد الرَّزَّاق هي مرحلة النضج.

وقد وقف العلماء من تفسير عبد الرَّزَّاق موقفاً كريماً فأنزلوه منزلته وعرفوا له قدره، فالإمام ابن أبي حاتم في تفسيره يُذكر أنه لم يضمّن كتابه من الموضوع شيئاً ولذلك وجدناه ينقل عن تفسير عبد الرَّزَّاق، وكذلك الإمام ابن تيمية وهو حجة في المعقول والمنقول وذو قدم راسخ فيهما مما جعله يشدد النكير على الوضَّاعين ورواة الموضوع، غير أنه يقف أمام عبد الرَّزَّاق وتفسيره فلا يملك إلا كلمة الثناء فيقول بعد ذكر بعض المعاني: باتفاق أهل النقل أئمة التفسير الذين ينقلون بالأسانيد المعروفة كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرَّزَّاق، وعبد بن حميد، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من العلماء الأكابر الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفسيراتهم متضمنة للمنقولات التي يُعتمد عليها في التفسير، وفي مقام الثناء على كتب التفسير نجده يذكر تفسير عبد الرَّزَّاق على رأس كتب التفسير بالمأثور.

٤-الأمالي في آثار الصَّحابة.

لقد عرف العلماء كتاب الأمالي لعبد الرَّزَّاق، فروى ابن حجر منها الجزء الثاني والرابع كما ذكر ذلك في فهرسة مروياته  ٢/ ٢٧٩،  وهذا يدل على أن كتاب الأمالي كان متعدد الأجزاء ولم يبق منها إلا الثاني والرابع، حتى عصر ابن حجر فاطلع عليهما، ومع مرور الزمن فُقِد الرابع أيضاً، ولم يوجد من أجزائها إلا الثاني، وتوجد له ثلاث نسخ مخطوطة نسختين منها في دار الكتب المصرية، ونسخة في مكتبة الظاهرية بدمشق، وقد كُتب على الورقة الأولى من المخطوطة (الجزء الثاني من أمالي أبي بكر عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الحِمْيَري الذماري الصنعاني، وقد طُبع الجزء الثاني.

وقد روى الأمالي عن عبد الرَّزَّاق مجموعة من العلماء، منهم: يوسف بن شاهين ـ سبط ابن حجر، وأحمد بن منصور الرمادي، واسماعيل بن محمد الصفار، والحسين البُسري، وأبو الفتح الدبَّاس وغيرهم.

 ٥- كتاب الصَّلاة: توجد منه نسخة مخطوطة غير كاملة في مكتبة الظاهرية بدمشق (مجمع ٩٤) وتقع هذه النسخة في إحدى عشرة ورقة، يرجع تاريخ نسخها إلى القرن السابع الهجري، وقد تم نقل أصل المخطوطة من مكتبة الظاهرية إلى مكتبة الأسد كما أخبرني أمين مكتبة الظاهرية.

٦-كتاب المغازي: وقد اعتبر العلماء عبد الرَّزَّاق من أوائل من جمع في ذلك، وقد أشار إليه الإمام السخاوي بقوله: أن المغازي انتدب لها جماعة، وعَدَّ فيهم عبد الرَّزَّاق، وذكره ابن النديم في الفهرست.

٧- كتاب التأريخ: وقد جاء ذكره في طبقات فقهاء اليمن للجعدي والجندي في السلوك وقالا: وله تصنيف مليح ترويه الحنابلة في بغداد مسنداً إلى الأمام أحمد بن حنبل.

٨- السنن في الفقه: وهو أحد الكتب المفقودة. 

٩-تزكية الأرواح عن مواقع الأفلاح: ذكره صاحب معجم المؤلفين.

١٠- كتاب اختلاف النَّاس في الفقه: ذكره محمد بن الحارث بن أسد الخشني.

١١-المسند: ذكره ابن كثير في البداية والنهاية فقال: عبد الرَّزَّاق بن همَّام  الصنعاني صاحب المصنف والمسند، وذكره أيضاً محمد بن جعفر الكتاني.

١٢- فضائل القرآن الكريم: ذكره الذهبي والمروزي، والرافعي في ذكره لحامد بن أبي الفتح بن أبي بكر الحافظ أبو عبد الله المديني أنه: سُمِعَ منه فضائل القرآن لعبد الرَّزَّاق بن همام الصنعاني: بروايته عن أبي نهشل العنبري، عن هارون بن محمد بن أبي أحمد، عن سليمان بن أحمد الطبري، عن إسحاق الدبري، عن عبد الرَّزَّاق.

١٣-ولعل عبد الرَّزَّاق كان قد صَنَّفَ كتاباً سماهُ : ثقلاءُ اليمن.

وهذه أشهر ما ذُكر في كُتب التأريخ وغيرها عن مؤلفات الإمام عبد الرَّزَّاق الصنعاني رحمه الله تعالى ، وبعضها كان يُذكر كمرجع في كتب التأريخ والسنن، إلا إنها لا زالت مفقودة ، والأمل في الله تعالى أن تظهر وينتفع بها المسلمون.

وفـــاتـه رحمه الله.

بعد عمر مديد قضاه الإمام عبد الرَّزَّاق الصنعاني في طلب العلم وبذله لغيره، وفي خدمة القُرءَان الكريم، والسنة المطهَّرة، والتأريخ وغيره، انتقل إلى جوار ربه في النصف من شوّال سنة (٢١١ هـ) ، وقد ناهز الـ(٨٥ عاماً)، تغشاه الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته، ونفعنا بعلمه.

وقبره معروف، وهو بضاحية صنعاء جنوب جبل نُقُمْ، على أكمة (حمرا عَلِب) تبعد عن مدينة صنعاء القديمة حوالي (٥ كم) إلى جهة الجنوب، وضريحه رحمه الله، في مؤخرة مسجد صغير على الجانب الشرقي من أكمة حمرا عَلِب، يسمى مسجد عبد الرَّزَّاق، ولهذا المسجد صرح يصلي فيه أهل القرى المجاورة صلاة العيد، وهو غرب قرية دار الحيد.

ثانياً: نصُّ الخديث:

قال العجلوني في "كشف الخفا" (١/ ٣٠٢): رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله، بلفظ: قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء. قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء, فخلق من الجزء الأول القلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش. 

ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين ومن الثالث الجنة والنار.

ثم قسم الرابع أربعة أجزاء, فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ... الحديث. كذا في المواهب.

وعزاه الصنعاني إلى "المواهب اللدنية" كما في "التيسير" (٣/ ٦٧٣).

ثالثاً: بيان بطلان هذا الحديث:

وهذا الخبر من الأباطيل المكذوبة التي وضعها الصوفية إثباتًا لعقائدهم الفاسدة، وقد شاع عند كثير من غلاة الصوفية وأتباعهم بسبب انتشار هذا الحديث المكذوب أن أول المخلوقات هو نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل شيء خُلق من ذلك النور، بل يغلو بعضهم في ذلك، ويقول: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مخلوقٌ من نور الله سبحانه -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

وأين هذا من أمره سبحانه وتعالى لنبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يُخبرنا: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨).

وقولهم هذا باطلٌ مخالف لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله، وإجماع الأمة سلفاً وخلفاً، وبيان ذلك:

١- مخالفته لنصوص كتاب الله تعالى من حيث دلالتها على أصل ما خلق منه البشر الإنساني والجان الناري؛ فقوله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (الرحمن: ١٤-١٥). فكيف يكون آدم والطين الذي خلق منه مخلوقين أصالةً من نور محمد صلى الله عليه وسلم.

٢-أنه مخالفٌ لما قرره تعالى من أصل المخلوقات، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} فهذه آيات خبريات لا يتجه إليها النسخ دلت على معارضة ما دل عليه الخبر المذكور والحديث إذا كان هكذا يكون موضوعاً بلا شك عند العلماء.

يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله في كتابه "المنار المنيف" (٨/ ٨٦٥)، ما نصه: "ومن العلامات التي يعرف بها الحديث الموضوع مخالفته لصريح القرآن" انتهى.

٣-ومن القوادح في الخبر المذكور أيضاً، مخالفته لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر، فقال: كان الله -عز وجل -ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض).

٤-ومن القوادح أيضاً: ما رواه مسلم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خُلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم)، ويعني الرسول صلى الله عليه وسلم (بما وُصف لنا) ما وصفه الله تبارك وتعالى لنا من أنه خلق آدم -عليه السلام -من تراب، ولما كان هذا الحديث من أصح ما روى عنه عليه الصلاة والسلام كما ترون.

٥-ومن القوادح أيضاً -أنه صلى الله عليه وسلم، لما ذكر أوّل من نوَّه بشأنه، ونبَه على عظيم فضله، نبيان كريمان، وهما إبراهيم عليه السلام، وعيسى عليه السلام، ففي الحديث الحسن، الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه، وأبو رضي الله عنهما، أن كلاً منهما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان أول أمرك يا رسول الله؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي: أنه خرج منها نور أضاءت له القصور الشام).

قال الإمام ابن كثير: والمراد: أن أول من نوَّه بذكر وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، فلم يزل ذكره في الناس مشهوراً، حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى ابن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيباً فقال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: ٦)، قال، قوله: (رأت أمي نوراً)، قيل رأته مناماً حين حملت به، وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم"، فدعوى المعتمدين على حديث مصنف عبد الرزاق عن جابر رضي الله عنه.

٦-ومن القوادح أيضاً إحالة العقل الصريح لها، فإذا قلنا بعرضية هذا النور على أنه صفة له، لأن العرض لا يقوم بنفسه. أو قلنا بجُرميته وكونه مادةً محسوسة، لأنه من سببه، فتوقف وجود الأرض التي هي أصل آدم عليه السلام على وجود ما هو من سبب نبينا عليه الصلاة والسلام يُسمى دوراً عند ذوي نتائج العقول وأرباب المعقول =وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، وليس بمنفك أحد الجهتين) فيسقط الاعتراض، فالله تعالى يسلم لنا ولكم العقول ويعيذنا وإياكم من التمسك بخرافات النقول إذ قد كان في سعة ما رواه أصحاب رسول الله عنه منذ بعثه الله بشيراً ونذيراً، ودونته عنهم الأئمة في أصولها الصحاح من دلائل نبوته وقواطع معجزاته ما يغني عن التعلق بهذه السفسطيات التي يعلم بطلانها ذوو البدايات.

رابعاً: بطلان عقيدة المتصوفة في أولية النور المحمدي:

١-يقول الإمام اللكنوي في كتابه "الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" (ص ٤٢ -٤٦): ومن الأحاديث الموضوعة: ما يذكرونه في ذكر المولد النبوي أن (نور محمد خلق من نور الله)، بمعنى أن ذاته المقدسة صارت مادة لذاته المنورة!

و(أنه تعالى أخذ قبضة من نوره فخلق من نوره)، وهذا سفسطة من القول، فإنه يستحيل أن تكون ذات ربنا تبارك وتعالى مادة  يخلق منها غيره، و(أخذ قبضة من نوره) ليس معناه أنه قطع منه جزء فجعله نور نبيه؛ فإنه مستلزم للتجزي وغير ذلك مما يتبعه -تعالى الله عنه.

والذي أوقعهم في هذه الورطة الظلماء هو ظاهر رواية عبد الرزاق في مصنفه عن جابر.. الحديث المذكور بتمامه في المواهب اللدنية وغيره. 

وقد أخطأوا في فهم المراد النبوي -على فرض صحته! -ولم يعلموا أن الإضافة في قوله (من نوره) كالإضافة في قوله تعالى في قصة خلق آدم: {ونفخت فيه من روحي}، وكقوله تعالى في قصة سيدنا عيسى: {وروح منه}، وكقولهم: بيت الله الكعبة والمساجد، وقولهم روح الله لعيسى وغير ذلك -فكيف والحديث باطلٌ موضوع!!-. 

قال الزرقاني في "شرح المواهب عند شرح" قوله (من نوره) إضافة تشريف، وإشعار بأنه خلق عجيب، وأن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية على حد قوله تعالى: {ونفخ فيه من روحه}، وهي بيانية أي من نور هو ذاته لا بمعنى إنها مادة خلق نوره بل بمعنى تعلق الإرادة به بلا واسطة شيء في وجوده. انتهى.

وقال أيضاً -يعني الزرقاني -قبل ذلك بأوراق عديدة: أما ما ذكر من (أن الله قبض من نور وجهه قبضة، ونظر إليها، فعرقت وذلقت فخلق الله من كل نقطة نبياً، وإن القبضة كانت هي النبيّ!! وإنه كان كوكباً دُرياً، وإن العالم كله خُلق منه!! وإنه كان موجوداً قبل أن يُخلق أبواه!! وإنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه جبريل!!) وأمثال هذه الأمور؛ فقال الحافظ أبو العباس أحمد بن تيمية في "فتاويه" ونقله الحافظ ابن كثير في "تاريخه" وأقره كل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بحديثه انتهى.

تنبيه: وقد اشتهر بين القصاص حديث (أول ما خلق الله نوري) وهو حديث لم يثبت بهذا اللفظ! وإن ورد غيره موافقا له في المعنى. 

ومن العجيب أن يتأول السيوطي هذا الحديث مع أحاديث أخرى موضوعة في أولية القلم والروح والعقل!!، وذكره ذلك في تعليق جامع الترمذي المسمي "بقوت المغتذي"!!.

ونظير (أول ما خلق الله نوري) ..ما اشتهر علي لسان القصاص والعوام والخواص من حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك).

قال علي القاري في "تذكرة الموضوعات" حديث لولاك لما خلقت الأفلاك. قال العسقلاني موضوع كذا في "الخلاصة"...وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (٢/ ١٤٠)، ثم قال: هذا موضوع، وفيه أبو السكين، وإبراهيم بن اليسع، ويحيى البصري: متروكون.

ويُقاربه في المعنى حديث، رُوي عن ابن عباس: (أوحى اللهُ إلى عيسى آمِنْ بمحمدٍ، فلولاه ما خلقتُ آدمَ ولا الجنَّةَ ولا النّارَ) أخرجه الحاكم، وحكم عليه الذهبيُّ بالوضع، فقال: هذا موضوع على ابن عباس.

وكذا ما اشتهر على ألسنة القصاص من حديث: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين). وفى رواية: (وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين)، فإنه صرح السخاوي في "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة"، والسيوطي في "الدرر المشتهرة في الأخبار المشتهرة"، وغيرهما بأنه موضوع بهذا اللفظ..

ومنها، ما يذكره الوعاظ عند ذكر الحُسن المحمدي أنه في ليلة من الليالي سقطت من يد عائشة إبرته، ففقدت فالتمستها، ولم تجد فضحك النبي وخرجت لمعة أسنانه فأضاءت الحجرة ورأت عائشة بذلك الضوء إبرته.

وهذا، وإن كان مذكورا في "معارج النبوة" وغيره من كتب السير الجامعة للرطب واليابس، فلا يستند بكل ما فيها إلا النائم والناعس، ولكنه لم يثبت رواية ودراية. انتهى كلام اللكنوي.

٢-نقل المؤلف الشنقيطي في "خاتمة رسالته" بعض أسماء من حكم على هذا الحديث بالوضع، فقد سئل الحافظ السيوطي عن حديث مصنف عبد الرزاق كما في الحاوي في الفتاوي أي من الجزء الأول صفحة ٥٠٠ منه - فأجاب: بأنه لا سند له يثبت ألبتة.

وقال العلامة ابن عجيبة المغربي في شرح حكم أحمد بن عبدالكريم بن عطاء الله السكندري في ذكرى منازع الصوفية: منها أنه ضعيف عند العلماء وأن عليه اعتماد المتصوف.

 وقال أحمد الصديق الغماري في مقدمة كتابه المغير على مافي الجامع الصغير: : إنه موضوع لا يشك طالب علم في وضعه واختلاقه.

وسئل عنه الألباني فأجاب : بأنه باطل .