تنبيه الحذاق إلى بطلان ما شاع من حديث النور
المنسوب لمصنف عبد الرزاق
تأليف محمد أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن الحقيقة التي يجب المصير إليها، هي أن المسلم في جميع أحواله، لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من كلام الناس أو شهوات الخلق، ولا يركن في معتقداته إلى بعض المرويات التي لا أصل لها ولا زمام، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل، ألا وهو كتاب الله عز وجل، وما صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك حسبه وكافيه..
وقد انبرى العلماء والمحققون في نقد المرويات وتمييزها، لأجل الكشف عن الروايات المزيفة وإبطالها، والتي بنى عليها المبتدعة أخطاءهم في التصورات والمعتقدات بعد أن اخترعوها ونسبوها ظلماً إلى العلم والدين، بل وصدروا هذه الأحاديث والآثار في كتبهم، وتتابعوا عليها دون نقد أو تمحيص، بل وسعوا إلى اجترار المواقف ونصب هذه الأحاديث امتحاناً لأهل الحق، وجعلوها من أسباب الموالاة والمعاداة بغير وجه حق.
ولا شك أن مثل هذا البيان له دور كبير في دحض سلطان الباطل وهيلمانه على العقل والوجدان، فالباطل والضلال مهما امتدت أياديه، وكثرت جنوده وأتباعه إلى اضمحلال وذهاب.
وهذه الرسالة الحديثية للعلامة الشنقيطي، جاءت لبيان بطلان حديث النور المنسوب إلى مصنف عبد الرزاق، الدال على أن أول المخلوقات هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل شيءٍ خُلق من ذلك النور، وأنه لولاه لم يخلق الله تعالى شيئاً من المخلوقات، وفي بعض رواياته تقسيم هذا النور إلى عشرة أقسام، وتعيين خلق كل نوع من الكائنات من قسم معين من الأقسام العشرة.
هذا، مع العلم بأنه لا تلازم بين التفضيل والأولية، وأن الغاية الأولى من الخلق هو تحقيق العبودية لله جل جلاله، ويكفي في بطلان هذا الحديث، قوله تعالى: {قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ}، وتكرر مثل هذا في القرآن في مواضع كثيرة جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من بني آدم؛ وآدم من تراب لا من نور فما هو هذا النور الذي ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أهو روحه الشريفة أم جسمه؛ أم شيء آخر فالجسم كما تقدم من تراب؛ والروح جسم لطيف لا يعلم حقيقته إلا الله، وعليه مادة خلقه من طين، وهو مسبقٌ بالرسل من قبله.
وأما ما جاء في تسمية النبيِّ صلى الله عليه وسلم نوراً، في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة: ١٥)، وكذلك تسيته سراجاً مُنيراً، لا يقتضي أن تكون مادة خلقه خارجةً عن مادة النوع البشري، لأن ذلك خلاف الواقع؛ وخلاف نص القرآن، وإنما سماه الله سراجاً منيراً؛ على سبيل المجاز لبيان ما أتاه الله من العلم والهدى المشبهان بالنور، ومن غير المقبول أن يجعل هؤلاء المتهافتون من حديثٍ موضوع أصلاً في العقائد الدينية.
وقد نقل المؤلف ما يؤيد بطلان هذا الحديث من الدلائل النقلية والبراهين العقلية، وأن هذا الحديث الذي ذكره الزرقاني في "المواهب اللدنية"، ونسبه إلى الصنعاني في "مصنفه"، ولم نجد هذا الحديث في النسخة التي وصلت إلينا من الهند مطبوعة!
ونحن نعتقد براءة الإمام الصنعاني من هذا الحديث المدسوس على "مصنفه"، فإنه أجلُّ من أن يُدخل في مصنفه حديثاً مثل هذا ظاهر الوضع، قال العلامة عبد الله بن الصديق الغماري : «وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره»، وقال الحافظ السيوطي في الحاوي في الفتاوى ١/ ٣٢٥: «ليس له إسناد يعتمد عليه» اهـ.
وعلى كُلٍّ فهذا الحديث يُعدُّ من جملة الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الزرقاني الذي أثبت هذا الخبر، لم يقل بما قال به بعض الحلولية من المتصوفة من أن النور المحمدي جزءٌ من ذات الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والصحيح في في باب أولية المخلوقات: أن الماء هو أول ما خلقه الله تعالى، ثم العرش، ثم القلم، ثم ما شاء الله من الخلق.
وفي هذا المقال، تحدثنا فيه عن مجموعة من النقاط، وهي:
١-ترجمة الإمام عبد الرزاق الصنعاني
٢-نصُّ الحديث.
٣-بيان بطلان هذا الحديث.
٤-بطلان عقيدة المتصوفة في أولية النور المحمدي
أولاً: ترجمة الإمام عبد الرزاق الصنعاني:
اسمه ونسبه:
هو العالم الكبير، والمحدِّث الشهير، والحافظ، والمؤرخ، عبد الرَّزَّاق بن همَّام بن نافع المغيثي الأوزاعي الحِمْيَري الصنعاني، أحد الحُفاظ الأثبات، صاحب التصانيف، وأحد الأئمة الثقات.
كنيته: أبو بكر ، ولقبه : المغيثي الأوزاعي الحِمْيَري الصنعاني.
والمغيثي=من ذي مغيث، ثم من ذوي الثوجم، وذكر الجُندي -أحد المؤرخين -أنّ المُغيثيين = سكنوا بلد يُقال لها (دروان) من مخلاف ذمار، وينسبون إلى =مقرى بن الحارث بن زيد بن الغوث.
والثُّوجم =بطن من المَعَافِر ينسبون إلى الثوجم بن وائل بن الغوث، من فروعهم المُغيثيون؛ في مُقرى. والأوزاع= بطون اجتمعت من مقرى وعنس وحمير وألهان وخولان والوحام بن وائل، فهم باليمن بناحية ذمار.
والحِمْيَري= نِسبَة إلى قبيلة حِمْيَر المعروفة، فأصله يعود إلى الحِمْيَريين المغيثيين الأوزاعيين الذين سكنوا في منطقة ذمار في مقرى (ومُقْرَى – الاسم القديم لمغرب عنس). والصنعاني= نسبة إلى صنعاء لولادته ونشأته فيها
ولا يزال أحفاد الإمام عبد الرَّزَّاق يسكنون إلى وقتنا الحاضر بمنطقة ذمار في مديرية مغرب عنس ، ويعرفون بـآل عبد الرَّزَّاق.
مولده:
ولد الإمام عبد الرَّزَّاق في صنعاء سنة (١٢٦ هـ) وقد نشأ شيخاً منذ نعومة أظفاره، واشتهر فيها ولذلك نسب إليها، وكان والده حريصاً على إرساله إلى حلقات العلم. وعده الذهبيُّ من الطبقة السابعة، وعده آخرون من الطبقة التاسعة، والراجح هو ما قاله الإمام الذهبي.
أسرته:
١-والده (همّام بن نافع)، روى عن عكرمة، ووهب بن منبه، وميناء بن أبي ميناء، وخاله قيس بن يزيد، وروى عنه ابنه عبد الرزاق، وقال: حجَّ أبي همّام أكثر من ستين حجة، وقال ابن معين: ثقة، وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ، ويُعد (همَّام) من لطبقة السادسة.
٢-أخوه (عبد الوهاب بن همّام)، وثقه يحيى بن معين، واتهمه آخرون بالتشيع، وذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة في الثقات، روى عن سفيان الثوري، وعبد الصمد بن معقل، ومحمد بن مسلم الطائفي، وغيرهم، وروى عنه: إسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد، وأبو زياد القطان.
٣-عمُّه (وهب بن نافع)، ولد سنة ١١٤ هـ، ويروي عن عكرمة، وروى عنه عبد الرزاق بن همام.
٤-ابن أخته (أحمد بن داود) روى عن خاله عبد الرزاق وغيره، قال ابن معين: لم يكن يثقة، وقال أحمد: كان من أكذب الناس، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، وحديثه قليل، وأعاده الذهبيُّ فيمن -اسم أبيه عبد الله -ونقل عن ابن حبان: أنه كان يُدخل على عبد الرزاق الحديث، فكل ما وقع من حديث عبد الرزاق من مناكير فبليته منه،
ثناء العلماء عليه:
وقد أثنى العلماء على الإمام عبد الرزاق، وذكروا لذلك أقوالاً كثيرة قيلت فيه، وفي مصنفاته مما يدل على سعة علمه، وسلامة نهجه وعقيدته:
وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل : «ما رأيتُ أحسنَ حديثاً من عبد الرَّزَّاق»
وقال أحمد بن حنبل: إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرَّزَّاق.
وقال هشام بن يوسف: كان عبد الرَّزَّاق أعلَمُنا وأحفَظُنا.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: كَتَبَ عبد الرَّزَّاق ثُلثي العلم.
وقال الذهبي: عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الإمام أبو بكر الحِمْيَري الصنعاني، أحد الأعلام الثقات، كتب شيئاً كثيراً وصنف الجامع الكبير، وهو خزانة علم، ورحل الناس إليه.
وقال الذهبي أيضاً: عبد الرَّزَّاق راوية الإسلام، وهو صدوق في نفسه، وحديثه محتجٌ به في الصحاح.
وقال الإمام البخاري: ما حَدَّث عنْه عبد الرَّزَّاق من كتابه فهو أصح.
وقال ياقوت الحموي: وينسب إلى صنعاء كثير من الفضلاء وأجلّهم قدراً في العلم عبد الرَّزَّاق بن همَّام الصنعاني.
وقال الإمام الشوكاني: عبد الرَّزَّاق لا يحتاج إلى متابع.
طلب للعلم ورحلاته العلمية:
المطلب الأول : طلبه للعلم .
بدأ الإمام عبد الرزاق طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، رحل في تجارة إلى الشام ولقي كبار العلماء ومنهم الأوزاعي وابن جريج ومغمرأ، وكان يقول: جالست معمرا سبع سنين. وكان شيخنا عبد الرزاق محدثا، حافظا، فقيها، وقد تأثر بشيخه معمر من الناحية الفقهية وهذا واضح وجلي من ترجيحاته في المصنف.
قال الإمام أحمد بن حنبل: "كان عبد الرزاق يحفظ حديث معمر، وحديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين كان يعني معمراً يتعاهد كتبه وينظر يعني باليمن وكان يحدثهم حفظا بالبصرة ".
وقال الإمام أحمد أيضا: "ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه شيء إلا المجلس الأول، وذلك أنا دخلنا بالليل فوجدناه في موضع جالسا فأملى علينا سبعين حديثا، ثم التفت إلى القوم فقال: لولا هذا ما حدثتكم يعني الإمام أحمد".
قال القاضي هشام بن يوسف: "كان لعبد الرزاق حين قدم ابن جريج ثماني عشرة سنة".
وارتحل إلى الحجاز، والشام، والعراق، وسافر في تجارة.
سعة حفظه:
قال إبراهيم بن عباد الدبري: "كان عبد الرزاق يحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حديث".
وقال عبد الرزاق: " سمعت من شيخي معمر عشرة آلاف حديث" .
حرص الإمام على تطبيق السنة:
حرص الإمام عبد الرزاق على تطبيق السنة النبوية المشرفة، ويتبين ذلك من خلال ما روي أن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه كانا عند عبد الرزاق قال: فجاءنا يوم الفطر فخرجنا مع عبد الرزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير فلما رجعنا من المصلى دعانا عبد الرزاق إلى الغداء جعلنا نتغدى معه، فقال عبد الرزاق لأحمد وإسحاق: رأيت اليوم منكما عجبا لم تكبرا قال أحمد وإسحاق: يا أبا بكر نحن كنا ننظر إليك هل تكبر فنكبر فلما رأيناك لم تكبر أمسكنا قال: وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر.
أبرز شيوخه:
ورحل إلى مكة والشام والعراق، قال أبو القاسم قدم الشام تاجراً وسمع بها الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز أو أبو عبد العزيز التنوخي، فقيه أهل دمشق ومفتيهم بعد الأوزاعي، وسعيد بن بشير، ومحمد بن راشد المكحولي وإسماعيل ابن عباس، وثور بن يزيد الكلاعي وحدَّث عنهم.
وأخذ عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي، وعبد الله وعبيد الله ابني عمرو بن مالك بن أنس، وداوود بن قيس الفراء، وأبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وعبد الله بن زياد بن سمعان، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وأبي معشر نجيح السندي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومعتمر بن سليمان التيمي، وأبي بكر بن عباس، وهشيم بن بشير الواسطي، وعبد العزيز ابن أبي زياد وغير هؤلاء.
وروى عن الإمام أبو حنيفة، وأكثر من روايته ، وقال : ما رأيت أحدا قط أحكم من أبي حنيفة لقد رأيته فى المسجد الحرام والناس حوله، إذ سأله رجل عن مسألة فأفتاه بها، فقال له رجل: قال فيها الحسن كذا وكذا، فقال أبو حنيفة: أخطأ الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود، فصاحوا به، قال عبد الرزاق: فنظرت في المسألة، فإذا قول عبد الله بن مسعود فيها كما قال أبو حنيفة، وتابعه أصحاب عبد الله بن مسعود.
أشهر تلاميذه ومن رحل إليه وروى عنه.
لقد رحل إلى عبد الرَّزَّاق خلق كثير لا يُحصون ، فقد رحل إليه أئمة العلم في زمانه ورووا عنه ، وأشهرهم الإمام أحمد بن حنبل أقام عند عبد الرَّزَّاق في صنعاء ومعه يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل.
كما أن عبد الرَّزَّاق روى عن سفيان بن عيينة وهو من شيوخه، وسفيان الثوري الملقب بأمير المؤمنين في الحديث روى عن عبد الرَّزَّاق وهو من شيوخه، ومعتمر بن سليمان وهو من شيوخه، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذهلي، وعلي بن المديني، وأحمد بن منصور الرمادي، والشاذ كوني، وجماعة وافرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم الدبري.
كما أن الإمام الشافعي رحمه الله كان قد قصد عبد الرَّزَّاق في صنعاء ولكن لم تذكر كتب التاريخ مقابلته لعبد الرَّزَّاق، فالمشهور عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه مكث فترة في صنعاء، ولا يُحتمل أن يقضي فيها فترة من الزمن ولا يقابل عبد الرَّزَّاق، إلا أنه ربما قدم صنعاء في حين أن عبد الرَّزَّاق لم يكن موجوداً فيها، أو لأنه بعد وصوله إلى صنعاء بمدة قصيرة أُخذَ أسيراً.
وروى عنه الإمام البخاري والإمام مسلم بواسطة، وروى عنه أصحاب الأمهات الست، وغيرهم. فحديثه مخرج في الصحاح كلها، وفي الأسانيد بأسرها، وكثير اغترف من معينه وتحلى بالإسناد إليه.
توثيقه قبل الاختلاط:
قال الإمام أحمد: "أتينا عبد الرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره فهو ضعيف السماع".
وسئل الإمام أحمد عن حديث رواه عنه أحمد بن شبويه، قال :"هؤلاء سمعوا بعدما عمي، كان يلقن فلقنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه، كان يلقنها بعدما عمي".
وقال النسائي: "فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة".
وممن سمع منه قبل الاختلاط: أحمد وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني ويحيى بن معين ووكيع بن الجراح .
وممن حدث عنه بعد اختلاطه
١ - أحمد بن محمد بن شبويه .
٢ - محمد بن حماد الطهراني.
٣ - إبراهيم بن بشار الرمادي، ومنهم الجماعة الذين سمع منهم الطبراني في رحلته إلى صنعاء .
أصحاب عبد الرزاق، المكثرين في الرواية عنه، هم:
١ - إسحاق بن إبراهيم الدبري . ٢ - إبراهيم بن محمد بن برة الصنعاني.
٣ - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن سويد .
٤ - الحسن بن عبد الأعلى الصنعاني .
توثيقه فيما يرويه من كتبه:
قال الإمام أحمد :"من سمع من الكتب فهو أصح".
وقال ابن معين: "ما كتبت عن عبد الرزاق حديثا واحدا إلا من كتابه".
وقال البخاري: "ما حدث من كتابه فهو أصح".
عقيدته (هل كان عبد الرزاق متشيعاً؟)
والذي أرجحه والله أعلم أن عبد الرزاق لم يكن متشيعاً، حيث قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي هل كان عبد الرزاق يتشيع ويفرط في التشيع ؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا ولكنه كان رجلاً يعجبه أخبار الناس.
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت سلمة بن شبيب يقول سمعت عبد الرزاق، يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر، رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان من لم يحبهم فما هو مؤمن وقال : أوثق أعمالي حبي إياهم.
وقال أبو الأزهر سمعت عبد الرزاق يقول: أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه ولو لم يفضلهما ما فضلتهما، كفى بي ازدراء أن أحب علياً، ثم أخالف قوله.
وكان زيد بن المبارك لزم عبد الرزاق فأكثر عنه، ثم خرق كتبه، ولزم محمد بن ثور، فقيل له في ذلك، فقال: كنا عند عبد الرزاق فحدثنا بحديث ابن الحدثان، فلما قرأ قول عمر لعلي والعباس - رضي الله عنهما فجئت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، وجاء هذا يطلب ميراث امرأته من أبيها، قال عبد الرزاق: انظر إلى هذا الأنوك يقول: من ابن أخيك، من أبيها ! لا يقول: رسول الله ، قال زيد بن المبارك: فقمت فلم أعد إليه، ولا أروى عنه.
قال الذهبي: "في هذه الحكاية إرسال، والله أعلم بصحتها، ولا اعتراض على الفاروق فيها فإنه تكلم بلسان قسمة التركات " .
قال أبو بكر بن زنجويه: "سمعت عبد الرزاق يقول: الرافضي كافر" .
وهذا يدل على أنه ليس برافضي، أو مغالٍ في التشيع.
مؤلفاته:
١- المصـنَّف: وهو أشهرها، وقد حققه أكثر من واحد، وقد ذكر الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار في دراسته حول مصنف عبد الرَّزَّاق: أنه أعظم كتبه وأشهرها، وهو أظهر تلك الكتب في الدلالة على فكر صاحبه وجهده ومنهجيته ، ثم إن المصنف في ذاته علَمٌ بارز على طريق تطور التدوين والتصنيف في الحديث النبوي الشريف.
٢- الجامع الكبير: وذكر الدكتور فؤاد سزكين أن الجامع ليس إلا امتداداً لأحاديث أخذها عبد الرَّزَّاق من مَعْمَر وأضاف إليها بعض الروايات، وقال محقق التفسير أن عبد الرَّزَّاق قد سبق في هذا اللون من التصنيف شيخه مَعْمَر، وأن جامع عبد الرَّزَّاق واحد من المؤلفات التي أخذت دورها في حركة التأليف في ذلك العصر، وأخذ عبد الرَّزَّاق مكانه بين مقاعد أوائل المصنفين.
٣- التفسير: تفسير القُرءَان الكريم، رواية محمد بن عبد السلام الخشني، عن سلمة بن شبيب النيسابوري عن عبد الرَّزَّاق، وهو في ثلاثة أجزاء حققه أكثر من واحد ، قال الدكتور محمود محمد: إن تفسير عبد الرَّزَّاق يعتبر خير شاهد على المنهج الذي كان متبعاً في تفسير القرآن في عصره، وأنه يمثل حلقة من حلقات التطور التي مر بها التفسير غير أن المرحلة التي يمثلها تفسير عبد الرَّزَّاق هي مرحلة النضج.
وقد وقف العلماء من تفسير عبد الرَّزَّاق موقفاً كريماً فأنزلوه منزلته وعرفوا له قدره، فالإمام ابن أبي حاتم في تفسيره يُذكر أنه لم يضمّن كتابه من الموضوع شيئاً ولذلك وجدناه ينقل عن تفسير عبد الرَّزَّاق، وكذلك الإمام ابن تيمية وهو حجة في المعقول والمنقول وذو قدم راسخ فيهما مما جعله يشدد النكير على الوضَّاعين ورواة الموضوع، غير أنه يقف أمام عبد الرَّزَّاق وتفسيره فلا يملك إلا كلمة الثناء فيقول بعد ذكر بعض المعاني: باتفاق أهل النقل أئمة التفسير الذين ينقلون بالأسانيد المعروفة كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرَّزَّاق، وعبد بن حميد، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من العلماء الأكابر الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفسيراتهم متضمنة للمنقولات التي يُعتمد عليها في التفسير، وفي مقام الثناء على كتب التفسير نجده يذكر تفسير عبد الرَّزَّاق على رأس كتب التفسير بالمأثور.
٤-الأمالي في آثار الصَّحابة.
لقد عرف العلماء كتاب الأمالي لعبد الرَّزَّاق، فروى ابن حجر منها الجزء الثاني والرابع كما ذكر ذلك في فهرسة مروياته ٢/ ٢٧٩، وهذا يدل على أن كتاب الأمالي كان متعدد الأجزاء ولم يبق منها إلا الثاني والرابع، حتى عصر ابن حجر فاطلع عليهما، ومع مرور الزمن فُقِد الرابع أيضاً، ولم يوجد من أجزائها إلا الثاني، وتوجد له ثلاث نسخ مخطوطة نسختين منها في دار الكتب المصرية، ونسخة في مكتبة الظاهرية بدمشق، وقد كُتب على الورقة الأولى من المخطوطة (الجزء الثاني من أمالي أبي بكر عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الحِمْيَري الذماري الصنعاني، وقد طُبع الجزء الثاني.
وقد روى الأمالي عن عبد الرَّزَّاق مجموعة من العلماء، منهم: يوسف بن شاهين ـ سبط ابن حجر، وأحمد بن منصور الرمادي، واسماعيل بن محمد الصفار، والحسين البُسري، وأبو الفتح الدبَّاس وغيرهم.
٥- كتاب الصَّلاة: توجد منه نسخة مخطوطة غير كاملة في مكتبة الظاهرية بدمشق (مجمع ٩٤) وتقع هذه النسخة في إحدى عشرة ورقة، يرجع تاريخ نسخها إلى القرن السابع الهجري، وقد تم نقل أصل المخطوطة من مكتبة الظاهرية إلى مكتبة الأسد كما أخبرني أمين مكتبة الظاهرية.
٦-كتاب المغازي: وقد اعتبر العلماء عبد الرَّزَّاق من أوائل من جمع في ذلك، وقد أشار إليه الإمام السخاوي بقوله: أن المغازي انتدب لها جماعة، وعَدَّ فيهم عبد الرَّزَّاق، وذكره ابن النديم في الفهرست.
٧- كتاب التأريخ: وقد جاء ذكره في طبقات فقهاء اليمن للجعدي والجندي في السلوك وقالا: وله تصنيف مليح ترويه الحنابلة في بغداد مسنداً إلى الأمام أحمد بن حنبل.
٨- السنن في الفقه: وهو أحد الكتب المفقودة.
٩-تزكية الأرواح عن مواقع الأفلاح: ذكره صاحب معجم المؤلفين.
١٠- كتاب اختلاف النَّاس في الفقه: ذكره محمد بن الحارث بن أسد الخشني.
١١-المسند: ذكره ابن كثير في البداية والنهاية فقال: عبد الرَّزَّاق بن همَّام الصنعاني صاحب المصنف والمسند، وذكره أيضاً محمد بن جعفر الكتاني.
١٢- فضائل القرآن الكريم: ذكره الذهبي والمروزي، والرافعي في ذكره لحامد بن أبي الفتح بن أبي بكر الحافظ أبو عبد الله المديني أنه: سُمِعَ منه فضائل القرآن لعبد الرَّزَّاق بن همام الصنعاني: بروايته عن أبي نهشل العنبري، عن هارون بن محمد بن أبي أحمد، عن سليمان بن أحمد الطبري، عن إسحاق الدبري، عن عبد الرَّزَّاق.
١٣-ولعل عبد الرَّزَّاق كان قد صَنَّفَ كتاباً سماهُ : ثقلاءُ اليمن.
وهذه أشهر ما ذُكر في كُتب التأريخ وغيرها عن مؤلفات الإمام عبد الرَّزَّاق الصنعاني رحمه الله تعالى ، وبعضها كان يُذكر كمرجع في كتب التأريخ والسنن، إلا إنها لا زالت مفقودة ، والأمل في الله تعالى أن تظهر وينتفع بها المسلمون.
وفـــاتـه رحمه الله.
بعد عمر مديد قضاه الإمام عبد الرَّزَّاق الصنعاني في طلب العلم وبذله لغيره، وفي خدمة القُرءَان الكريم، والسنة المطهَّرة، والتأريخ وغيره، انتقل إلى جوار ربه في النصف من شوّال سنة (٢١١ هـ) ، وقد ناهز الـ(٨٥ عاماً)، تغشاه الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته، ونفعنا بعلمه.
وقبره معروف، وهو بضاحية صنعاء جنوب جبل نُقُمْ، على أكمة (حمرا عَلِب) تبعد عن مدينة صنعاء القديمة حوالي (٥ كم) إلى جهة الجنوب، وضريحه رحمه الله، في مؤخرة مسجد صغير على الجانب الشرقي من أكمة حمرا عَلِب، يسمى مسجد عبد الرَّزَّاق، ولهذا المسجد صرح يصلي فيه أهل القرى المجاورة صلاة العيد، وهو غرب قرية دار الحيد.
ثانياً: نصُّ الخديث:
قال العجلوني في "كشف الخفا" (١/ ٣٠٢): رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله، بلفظ: قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء. قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء, فخلق من الجزء الأول القلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش.
ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين ومن الثالث الجنة والنار.
ثم قسم الرابع أربعة أجزاء, فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ... الحديث. كذا في المواهب.
وعزاه الصنعاني إلى "المواهب اللدنية" كما في "التيسير" (٣/ ٦٧٣).
ثالثاً: بيان بطلان هذا الحديث:
وهذا الخبر من الأباطيل المكذوبة التي وضعها الصوفية إثباتًا لعقائدهم الفاسدة، وقد شاع عند كثير من غلاة الصوفية وأتباعهم بسبب انتشار هذا الحديث المكذوب أن أول المخلوقات هو نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل شيء خُلق من ذلك النور، بل يغلو بعضهم في ذلك، ويقول: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مخلوقٌ من نور الله سبحانه -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأين هذا من أمره سبحانه وتعالى لنبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يُخبرنا: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨).
وقولهم هذا باطلٌ مخالف لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله، وإجماع الأمة سلفاً وخلفاً، وبيان ذلك:
١- مخالفته لنصوص كتاب الله تعالى من حيث دلالتها على أصل ما خلق منه البشر الإنساني والجان الناري؛ فقوله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (الرحمن: ١٤-١٥). فكيف يكون آدم والطين الذي خلق منه مخلوقين أصالةً من نور محمد صلى الله عليه وسلم.
٢-أنه مخالفٌ لما قرره تعالى من أصل المخلوقات، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} فهذه آيات خبريات لا يتجه إليها النسخ دلت على معارضة ما دل عليه الخبر المذكور والحديث إذا كان هكذا يكون موضوعاً بلا شك عند العلماء.
يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله في كتابه "المنار المنيف" (٨/ ٨٦٥)، ما نصه: "ومن العلامات التي يعرف بها الحديث الموضوع مخالفته لصريح القرآن" انتهى.
٣-ومن القوادح في الخبر المذكور أيضاً، مخالفته لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر، فقال: كان الله -عز وجل -ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض).
٤-ومن القوادح أيضاً: ما رواه مسلم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خُلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم)، ويعني الرسول صلى الله عليه وسلم (بما وُصف لنا) ما وصفه الله تبارك وتعالى لنا من أنه خلق آدم -عليه السلام -من تراب، ولما كان هذا الحديث من أصح ما روى عنه عليه الصلاة والسلام كما ترون.
٥-ومن القوادح أيضاً -أنه صلى الله عليه وسلم، لما ذكر أوّل من نوَّه بشأنه، ونبَه على عظيم فضله، نبيان كريمان، وهما إبراهيم عليه السلام، وعيسى عليه السلام، ففي الحديث الحسن، الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه، وأبو رضي الله عنهما، أن كلاً منهما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان أول أمرك يا رسول الله؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي: أنه خرج منها نور أضاءت له القصور الشام).
قال الإمام ابن كثير: والمراد: أن أول من نوَّه بذكر وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، فلم يزل ذكره في الناس مشهوراً، حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى ابن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيباً فقال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: ٦)، قال، قوله: (رأت أمي نوراً)، قيل رأته مناماً حين حملت به، وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم"، فدعوى المعتمدين على حديث مصنف عبد الرزاق عن جابر رضي الله عنه.
٦-ومن القوادح أيضاً إحالة العقل الصريح لها، فإذا قلنا بعرضية هذا النور على أنه صفة له، لأن العرض لا يقوم بنفسه. أو قلنا بجُرميته وكونه مادةً محسوسة، لأنه من سببه، فتوقف وجود الأرض التي هي أصل آدم عليه السلام على وجود ما هو من سبب نبينا عليه الصلاة والسلام يُسمى دوراً عند ذوي نتائج العقول وأرباب المعقول =وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، وليس بمنفك أحد الجهتين) فيسقط الاعتراض، فالله تعالى يسلم لنا ولكم العقول ويعيذنا وإياكم من التمسك بخرافات النقول إذ قد كان في سعة ما رواه أصحاب رسول الله عنه منذ بعثه الله بشيراً ونذيراً، ودونته عنهم الأئمة في أصولها الصحاح من دلائل نبوته وقواطع معجزاته ما يغني عن التعلق بهذه السفسطيات التي يعلم بطلانها ذوو البدايات.
رابعاً: بطلان عقيدة المتصوفة في أولية النور المحمدي:
١-يقول الإمام اللكنوي في كتابه "الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" (ص ٤٢ -٤٦): ومن الأحاديث الموضوعة: ما يذكرونه في ذكر المولد النبوي أن (نور محمد خلق من نور الله)، بمعنى أن ذاته المقدسة صارت مادة لذاته المنورة!
و(أنه تعالى أخذ قبضة من نوره فخلق من نوره)، وهذا سفسطة من القول، فإنه يستحيل أن تكون ذات ربنا تبارك وتعالى مادة يخلق منها غيره، و(أخذ قبضة من نوره) ليس معناه أنه قطع منه جزء فجعله نور نبيه؛ فإنه مستلزم للتجزي وغير ذلك مما يتبعه -تعالى الله عنه.
والذي أوقعهم في هذه الورطة الظلماء هو ظاهر رواية عبد الرزاق في مصنفه عن جابر.. الحديث المذكور بتمامه في المواهب اللدنية وغيره.
وقد أخطأوا في فهم المراد النبوي -على فرض صحته! -ولم يعلموا أن الإضافة في قوله (من نوره) كالإضافة في قوله تعالى في قصة خلق آدم: {ونفخت فيه من روحي}، وكقوله تعالى في قصة سيدنا عيسى: {وروح منه}، وكقولهم: بيت الله الكعبة والمساجد، وقولهم روح الله لعيسى وغير ذلك -فكيف والحديث باطلٌ موضوع!!-.
قال الزرقاني في "شرح المواهب عند شرح" قوله (من نوره) إضافة تشريف، وإشعار بأنه خلق عجيب، وأن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية على حد قوله تعالى: {ونفخ فيه من روحه}، وهي بيانية أي من نور هو ذاته لا بمعنى إنها مادة خلق نوره بل بمعنى تعلق الإرادة به بلا واسطة شيء في وجوده. انتهى.
وقال أيضاً -يعني الزرقاني -قبل ذلك بأوراق عديدة: أما ما ذكر من (أن الله قبض من نور وجهه قبضة، ونظر إليها، فعرقت وذلقت فخلق الله من كل نقطة نبياً، وإن القبضة كانت هي النبيّ!! وإنه كان كوكباً دُرياً، وإن العالم كله خُلق منه!! وإنه كان موجوداً قبل أن يُخلق أبواه!! وإنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه جبريل!!) وأمثال هذه الأمور؛ فقال الحافظ أبو العباس أحمد بن تيمية في "فتاويه" ونقله الحافظ ابن كثير في "تاريخه" وأقره كل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بحديثه انتهى.
تنبيه: وقد اشتهر بين القصاص حديث (أول ما خلق الله نوري) وهو حديث لم يثبت بهذا اللفظ! وإن ورد غيره موافقا له في المعنى.
ومن العجيب أن يتأول السيوطي هذا الحديث مع أحاديث أخرى موضوعة في أولية القلم والروح والعقل!!، وذكره ذلك في تعليق جامع الترمذي المسمي "بقوت المغتذي"!!.
ونظير (أول ما خلق الله نوري) ..ما اشتهر علي لسان القصاص والعوام والخواص من حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك).
قال علي القاري في "تذكرة الموضوعات" حديث لولاك لما خلقت الأفلاك. قال العسقلاني موضوع كذا في "الخلاصة"...وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (٢/ ١٤٠)، ثم قال: هذا موضوع، وفيه أبو السكين، وإبراهيم بن اليسع، ويحيى البصري: متروكون.
ويُقاربه في المعنى حديث، رُوي عن ابن عباس: (أوحى اللهُ إلى عيسى آمِنْ بمحمدٍ، فلولاه ما خلقتُ آدمَ ولا الجنَّةَ ولا النّارَ) أخرجه الحاكم، وحكم عليه الذهبيُّ بالوضع، فقال: هذا موضوع على ابن عباس.
وكذا ما اشتهر على ألسنة القصاص من حديث: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين). وفى رواية: (وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين)، فإنه صرح السخاوي في "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة"، والسيوطي في "الدرر المشتهرة في الأخبار المشتهرة"، وغيرهما بأنه موضوع بهذا اللفظ..
ومنها، ما يذكره الوعاظ عند ذكر الحُسن المحمدي أنه في ليلة من الليالي سقطت من يد عائشة إبرته، ففقدت فالتمستها، ولم تجد فضحك النبي وخرجت لمعة أسنانه فأضاءت الحجرة ورأت عائشة بذلك الضوء إبرته.
وهذا، وإن كان مذكورا في "معارج النبوة" وغيره من كتب السير الجامعة للرطب واليابس، فلا يستند بكل ما فيها إلا النائم والناعس، ولكنه لم يثبت رواية ودراية. انتهى كلام اللكنوي.
٢-نقل المؤلف الشنقيطي في "خاتمة رسالته" بعض أسماء من حكم على هذا الحديث بالوضع، فقد سئل الحافظ السيوطي عن حديث مصنف عبد الرزاق كما في الحاوي في الفتاوي أي من الجزء الأول صفحة ٥٠٠ منه - فأجاب: بأنه لا سند له يثبت ألبتة.
وقال العلامة ابن عجيبة المغربي في شرح حكم أحمد بن عبدالكريم بن عطاء الله السكندري في ذكرى منازع الصوفية: منها أنه ضعيف عند العلماء وأن عليه اعتماد المتصوف.
وقال أحمد الصديق الغماري في مقدمة كتابه المغير على مافي الجامع الصغير: : إنه موضوع لا يشك طالب علم في وضعه واختلاقه.
وسئل عنه الألباني فأجاب : بأنه باطل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق