البرهان الجلي في انتساب الصوفية إلى علي
والاتصال بأبي الحسن الشاذلي
تأليف أحمد بن الصديق الغماري
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا شك أن الإرادة الصادقة تورث المريد محبة وصلاحاً وتزكية، وأن الأرواح المؤتلفة تتشامٌّ فيما بينها، فتتآلف على الخير والطاعة، وأن الصحبة الصالحة تورث الهداية والحفظ والإعانة من الله تعالى، ولكن .. لا تعلق لهذه الإرادات والنيات والعزمات بالخرق ولا غيرها من الألبسة، وهو الأمر الذي نريد التعرف إلى حقيقته، وجذوره.
إن حقيقة الخرقة إن جردناها من كل ملابساتها وعوامل ظهورها وابتداء لبسها -على فرض صحتها -هي خلع الأخلاق المحمدية على المريد الصادق، ونزع الأخلاق الردية عن نفسه، من غير إدَّعاء تسلسل كساء أو رداء أو قلنسوة أو عمامة، لأن بركة الأخلاق أعظم من بركة الأردية والألبسة.
وكل من له نظر ومعرفة يدرك حقيقة انتفاع الطالب من ملاحظة معلمه وشيخه، وما يورثه ذلك من كمال أحواله، وصفاء قلبه، والتشبه به في الظاهر والباطن، والاقتداء به في سيرته وأخلاقه، فليس مدار الأمر على خرقة توضع على الاكتاف مع وجود أردى الأوصاف، وليست الخرقة شيئاً تسري فيه الأحوال، أو تتقل بواسطته الإرادات، أو تكمل به الغايات، وإنما هي شيء اعتاده القوم، وربطوه باعتقادات فاسدة أو لا حقيقة لها.
وهذا الكتاب ألفه الغماري للرد على شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي أوضح انقطاع إسناد الخرقة، وأنها لا تصح عن عليٍّ رضي الله عنه من طريق الحسن البصري، ورد على تقسيمه الخرقة إلى خرقة إرادة وخرقة تبرك، في كلام له في إبطال الخرقة المزعومة.
وكان اتجاه ابن تيمية -رحمه الله -يصبُّ في إبطال دعوى الخرقة، لما تلبسها من شعائر وطقوس في إلباسها تجعلها في مصاف التعبدات، والله تعالى لم يتعبدنا بإلباس الخرق وما في معناها من الألبسة.
وكان نظر الغماري إلى إنكار ابن تيمية يصبُّ في اتجاه أنه بذلك يطعن في علم عليّ رضي الله عنه، ويعادي أهل البيت، ولذلك كان سلوك الغماري في كتابه عنيفا ومندفعاً بغير وجه حق، بل ومتهوراً في التقريروالاحتجاج.
وكان للغماري في هذا الكتاب اتجاهات معروفة في الدفاع عن الخرقة، وهي:
الاتجاه الأول: أن الخرقة هي رمز للمعاني الروحية، والإفاضات الباطنية، قبل أن تكون لبسة ظاهرية، وأن أصل ذلك مذكور في قوله: {لباس التقوى}، وحقيقتها موجودة وإن انقطعت تلك السلاسل، ولم تكن معروفة أيام الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم.
الاتجاه الثاني: أن سند خرقة علي -لم تقتصر على إسناد الحسن البصري الذي طعن فيه العلماء، ولكن أخذت من طريق الحسن بن علي، وأخيه الحسين، وأويس القرني، فالانقطاع الذي وقع بين الحسن وعلي -يمكن جبره بخرقة الحسنين أولاده وخرقة أويس عنه، أو بفرض وجود واسطة بين البصري وبينه فيكون الاتصال واقعاً، بالإضافة إلى أن أكثر الأولياء والعارفين إنما تلقوا الخرقة عن عليٍّ رضي الله عنه ومن طريقه.
الاتجاه الثالث: أن الحسن البصري ثبتت رؤيته لعليّ بن أبي طالب، وهذا يفيد نوع اتصال، واحتمال أنه لبس الخرقة منه، وهي حجة دافعة لا مثبتة للمتأمل، كما أنها جاءت من جهة استحسان المشايخ إن لم تثبت بطريق التلقي، بالإضافة إلى إحسان الظن بالسلف، لا من جهة نظر أهل الحديث.
الاتجاه الرابع: إبطال الخرق الأخرى المروية عن الشيخين أبي بكر وعمر، لأنهما -بحسب زعمه -لم يخصهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بما خصَّ به علياً من العلوم الباطنية، والأسرار الإلهية، وله بحث طويل في تفضيل علي رضي الله عنه على الشيخين.
المؤلفات في قضية الخرقة:
وقد سبق الغماري العديد من المؤلفات في قضية الخرقة، عموماً في كتب المناقب أو في مؤلفات خاصة، منها (جمع الفرق لرفع الخرق) لأبي الفتح الطاوسي، و(اتحاف الفرقة لرفو الخرقة) للسيوطي، و(استدعاء اللباس عن كبار الناس) لأبي موسى المديني، و(الصفوة في الخرق) لمحمد بن طاهر المقدسي، و(رسالة في نسب الخرقة) لابن عربي، ورسالة (في الخرق والتلقين) لابن عراق، و(نور الحدق في لبس الخرق) لنور الدين الكركري، و(ارتقاء الرتبة في اللباس والصحبة) لقطب الدين القسطلاني، و(المنح البادية في سند الطريقة الوفائية) لأحمد بن عقبة الحضرمي، وغيرها.
حقيقة الخرقة الصوفية:
والقضية الأساسية ليست مجرد لبسة تسلسلت واشتهرت في القوم، وإنما لهذه اللبسة معانٍ أخرى باطنية ترتبط بحقيقة التصوف، إذ أن لفظه في الأصح الراجح مشتق من الصوف، وهي اللبسة المرتبطة بنسبة القوم، وهذا ينقلنا إلى الحديث عن الرافد الأول للتصوف، والعوامل التي ساهمت في نشأته، وارتباط أغلب سلاسله بسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
التشيع وعلاقته بالتصوف:
لذا لا بد من الحديث عن المصدر الشيعي للتصوف، سيما وأن التشيع يعد الامتداد الأول للتصوف، والرافد الذي يصب فيه. يوضح ذلك الشيخ سعد محمد حسن -أحد علماء الأزهر، حين قال: كان الصوفية على اتصالٍ تام بالشيعة، فأخذوا عنهم الكثير من تعاليمهم، كالتفرقة بين الشريعة والحقيقة، أو علم الظاهر وعلم الباطن، وأخذ الصوفية عن الشيعة أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه -انفرد –دون سائر صحابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم –بعلم الحقيقة أو علم الباطن، وصار جزءاً من معتقدهم، حتى ليقول ابن الفارض:
وأوضح بالتأويل ما كان مشكلاً ... عليٌّ بعلمٍ ناله بالوصيَّةِ
ويقول -الدكتور سعد -أيضاً: كذلك اقتحمت مبادئ الشيعة وتعاليمهم –الغريبة هي الأخرى عن الإسلام –ميدان التصوف، فأخذ المتصوفون عن الشيعة فكرة المهدي، وأسبغوا عليها ثوباً جديداً، وإذ بالمهدي ينقلب (قطباً) هو الذي يدبر الأمر في كل عصرٍ من أعصار هذا الكون، وهو عماد السماء، ولولاه لخرت على الأرض، ويهلك الحرث والنسل، ويليه في المرتبة (النجباء) وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثني عشر... إلخ ما قالوا.
وهكذا استطاع المتصوفة تلامذة الشيعة، أن ينتفعوا بعقيدة (المهدي) في إقامة نظامهم الروحي للكون، مما لا نجد له من الإسلام الحق سنداً، أو دعامةً، وإنما هي فلسفات غنوصية، ورهبانية مسيحية، وتخليطات هندية.
وقد قالوا بخلوده ورجعته، روى الشعراني عن الصُّوفي "علي وفا"، يقول: "إن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، رُفع كما رُفع عيسى عليه السّلام، وسينزل كما ينزل عيسى عليه السلام"، ثم قال الشعراني: "وبذلك قال سيدي عليّ الخواص رضي الله عنه، فسمعته يقول: إن نوحاً عليه السلام أبقى من السفينة لوحاً على اسم عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، يُرفع عليه إلى السماء، فلم يزل محفوظاً في صيانة القدرة حتّى رُفع عليّ بن أبي طالب رضب الله عنه، فالله أعلم بذلك
ويقول الدكتور عبد القادر محمود: "ومعنى هذا أن التصوف قد أفرخ في بيئة التشيع، وكان التشيع مدخل التطور إلى النظريات الفلسفية المنحرفة... وكانت الولاية الصوفية هي الإمامة الشيعية، وتطور الموقف مع الصوفية حتى أصبحت الولاية أخص من النبوة، بل كانت جوهر النبوة، وحتى صار الولي أسمى من النبي بالتبعية حسب زعمهم!.
ويقول الشيخ الحكيم محمد رشيد رضا: "وإن أكثر البدع والخرافات إنما جاءت من غلاة الشيعة، وهم حماتها ودعاتها، وهي مرتزق زعمائها، وعليها مدار جاههم العريض، ومنهم سرت عدواها إلى طريقة الصوفية الذين ينتسبون إلى آل البيت بالباطل".
أضف إلى ذلك أنَّ (مؤسس الدولة الفاطميَّة) أبو عبد الله الشيعي (المقتول على يدي عبيد الله المهدي، بعد أن مهَّد له الخلافة بالمغرب، سنة ٢٩٨ هـ)، وقد اشتُهر باسم (الصُّوفي)؛ لأنَّه كان يرتدي الخشن والمُرقَّع من الثياب الصُّوفيَّة، وظلَّ فترةً طويلة بدون زواج، واكتفى بزوجةٍ واحدةٍ في آخر حياته.
ولكن ما مدى ارتباط التصوف بالتشيع؟
حتى وإن قلنا إن التصوف بعيد عن التشيع، فإن هناك روابط مشتركة، وخصائص مستوية لها علاقة بالطرفين من جهة الارتباط والنشأة، منها: (الإمامة الباطنية، والعودة إلى التقشف، وانتحال التقية، وعداوة الأمويين، وحركة الوضاعين، والثقافات الوافدة بواسطة المسلمين الجدد، وترجمة كتب الفلسفة، وانتشار التنجيم وعلوم السحر، والقطب، والكشف).
يقول الدكتور عبد القادر محمود: "لقد ظهرت الشيعة في الكوفة، التي كانت محل حزب المعارضة أيام الدولة الأموية، ومنها انتشرت في سائر العراق، ولهذا ظهر التصوف المتطور عن الزهد مباشرة، أول ما ظهر في الكوفة المتشيعة، وكان زهاد الكوفة أول من لبس الصُّوف كرد فعل للأمويين لابسي الحرير، وقاموا بتقليد الرهبان النصارى"!
يقول الغماري ص ٩٣: (والمشايخ الصوفية .. في علم الأسرار وتصفية الباطن، فإن المرجع فيه إلى العترة الطاهرة مما تلقته عنه عليه السلام بالرواية "والوراثة").
ما علاقة التصوف بالخرقة ؟
ويعتقد المتصوفة أن سيدنا علي بن أبي طالب أول من نطق بعلومهم، وأول من ألبس الخِرقة (KHIRKA)! وترمز هذه الخرقة إلى الخلافة الباطنية والعلم الإلهي، الذي اختُصَّ به عن غيره من الصحابة، وهي عتبة الصحبة، وعلامة الدخول في حكم الشيخ -كما يقول السهروردي في "المعارف".
وبلغت خرفات الصوفية أن أحوال المريدين إنما يهبها الشيخ إلى مريديه باغترافها من الهواء، ومنحها إياهم أو بلمسهم،
يقول ابن عربي (ت ٦٣٨ هـ): "إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على علم من الله لا يعلمه غيره، وإنه ضرب على صدره وقال: إن ها هنا لعلوماً جماً، لو وجدت لها حملاً. وقد اعترف بذلك (الجنيد)، بكل وضوح وصراحة، كما ذكر ذلك الطُّوسيُّ في (اللمع) عنه (وذكر ذلك الغماري، ص ٩٢).
الاهتمام بسلاسل التصوف:
أما الاهتمام بسلاسل التصوُّف؛ فقد جاء في مرحلة متأخرة من القرن الثاني الهجري، عندما أحسَّ الصُّوفيَّة بضعفٍ شديد في الحُجَّة والمسلك، فاحتاجوا إلى أن يجلبوا احترام المريدين بسند يبين صحَّة طريقتهم، ثم اخترعوا بعد ذلك خرافة (الخرقة) =وكان أول ظهور لها في القرن الرابع في زمن أصحاب الجنيد كالشبلي (ت ٣٣٤ هـ)، وابن خفيف (ت ٣٩١ هـ)، ثم شهرت وتداولها الصوفية.
وتعد الخرقة هي حلقة الإمداد الأولى للأتباع، والعلقة الروحية الناشئة التي يرتبط بواسطتها المريد بالطريقة، حتى جاءت الشاذلية في القرن السابع، وقطعت شعيرة الخرقة وأبطلت وجودها، واكتفت بالصحبة والاقتداء كما كان عليه المتصوفة قبل القرن الرابع، التي تحولت فيما بعد إلى طرق ذات أنفاس وسلوكيات متباينة، بعيدة كل البعد عن هدي الإسلام وطرق أهل الإيمان.
ماذا قدَّم الغماري في كتابه (البرهان الجلي)؟
ولقد خاض الغماري نقاشات كثيرة حول رجال هذه السلاسل، المتصلة صورة المنقطعة معنى وحقيقة، وذكر نقولات ظاهرها الجزم بانقطاع السلسلة، وفي طيات كلامه تجد حقيقة اختلاف المتصوفة أنفسهم في تعيين بعض المذكورين فيها، واختلافهم في هل اتصال رجال السلسلة من طريق رواية كتاب أم من طريق لبس الخرقة؟ وهل كان لبعض الرجال صحبة واقتداء بمن فوقه أم هو مجرد تبرك وادعاء؟ وهل الخرقة شرطٌ في الاتصال أم يكتفى بالصحبة والاقتداء؟
وقد ظهر التدليس جلياً في عدد من هذه السلاسل؛ فإن بعض رجالها لم يلتق جزماً بمن فوقه ولا صحبه ولا أخذ عنه، بل بلغ الانقطاع بين بعضهم جيلين أو أكثر! وكانت القفزات كبيرة في مواضع عدة في تلك السلاسل، بحيث يجزم المحقق بمفازات لا يمكن قطعها.
ناهيك عن دوران هذه السلاسل على رجال مبهمي العين، مجهولي الهوية، لا يُعرف لهم خبر ولا وجود إلا مجرد رقمها في تلك السلاسل المختلقة، وكل ذلك أقرَّ بذلك الغماري في سياقه لتلك الأسانيد.
بالإضاقة إلى تصريح الغماري بأن بعض رجال السلسلة كانوا من الزُّهاد الصالحين، ولم يكن لهم دراية بطريق القوم، وليس لهم بهذه الطرق والمعارف نوع اتصال، وأن كل دعوى تفيد اتصالهم بها؛ فهو خبط وتخليط وتهور قبيح!
ووقع في هذه الأسماء اختلاف كثير بالزيادة والنقص والتقديم والتأخير، بسبب تحريف الناقلين، الذي صححه بعضهم مكابرةً وعناداً، وظهرت دعوى قبيحة وهي ادعاء الشرفية في النسب لكثير من رجال السلسلة، ونسبتهم إلى آل البيت!
وحاول المتصوفة جبر هذه الخروق بخروق أخرى، فزعموا لمن لم يلتق بالوصية، والرؤيا المنامية، وإذا كان بعض الرجال من أهل البيت، فإنها تنتقل إليه بالوراثة!
على أن الغماري أقرَّ بشكل واضح أن وقوع التردد والشك والاختلاف في رجال السلسلة، وأن بعضهم لم يكن من علماء الدين عند التحقيق.
خلاصة القول:
ويُلاحظ القارئ بشكل قاطع أن جملة هذه السلاسل مختلقة موضوعة، وأمارات الكذب عليها من كل جهة، وأطنب الغماري في ذكر خرقة أبي الحسن الشاذلي، والشيوخ الذين تلقفها عنهم.
وخلاصة القول أن محاولات الغماري لتمليع هذه الأسانيد والسلاسل، ومحاولة ترقيعها هي محاولات هزيلة ضعيفة، لا ترقى بها إلى درجة الاتصال، وعليه تبقى هذه السلاسل مجهولة الهوية، منقطعة الحبال، وكل محاولات تزيينها وزخرفتها محاولات ضعيفة، وما عابه على الإمام السيوطي فهو أولى به منه!
اعتماد الغماري التفضيل كأساس للخرقة:
وناقش الغماري قضية تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على الشيخين أبي بكر وعمر، وكان ينظر إلى التفضيل من جهة تعدد الحيثيات بالتفضيل، ونقل اتفاق الصوفية على تفضيل عليٍّ باطنياً على الشيخين (انظر ص ٩٢).
تطور سلاسل الخرقة إلى التمايز والتفاضل:
ثم انتقل المتصوفة من التبرك بالانتساب إلى هذه السلاسل إلى قضية أخرى وهي التمييز بين هذه السلاسل وتفضيل بعضها على بعض، فجرى خلع الألقاب، وتأليف المناقب على بعض رجال السلسلة، واختلفوا على أحوالهم في الولاية، وعدة الكرامات وأنواعها، وألفت في ذلك الكتب، وخرق المتصوفة في ذلك أطواق العقل والشرع، وشذو في متاهات الإلحاد والشرك والبدعة.
حقيقة الانقطاع بين الحسن البصري وعلي بن أبي طالب:
بالإضافة إلى انقطاع هذه السلسلة إلى علي من طريق الحسن البصري الذي لم يلقَ علياً رضي الله عنه، كما صرَّح به كثيرٌ من الحفاظ والفقهاء والمؤرخون، كالحافظ ابن حجر وتلميذه السخاوي، والمؤرخ ابن خلدون وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الذهبي، وأكثر الطرق المؤدية إلى الحسن البصري هي من طريق الجنيد بن محمد عن خاله السري السقطي عن معروف الكرخي بسندين معروفين.
والحسن البصري هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، التابعي الجليل، وإمام أهل البصرة، وأحد الفقهاء الفصحاء، الشجعان، ولد بالمدينة، وسكن البصرة، وكان يأمر الولاة وينهاهم، وكانت له المواقف الشجاعة معهم، ومنهم الحجاج بن يوسف، ولم يخرج عليه.
ولم يصح أن الحسن روى عن عليّ بن أبي طالب شيئاً، ولا تلفت إلى ما يتناقله المتصوفة من أن خرقتهم وأسانيدهم موصولة بعلي من طريق الحسن، بل إن الحسن البصري بريء منها، وكان الحسن البصري يوم بويع لعيّ رضي الله عنه ابن أربع عشرة سنة، ورأى علياً بالمدينة، ثم أخرج عليٌّ إلى الكوفة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك.
وللعلماء موقف من أحاديث الحسن التي لم يُصرح بالسماع فيها، وهذا لا يعيبه ولا ينقص من قدره، ولكن المنهج السليم يوجب عليهم ذلك، وقد حدّث عن عدد كبير من الصحابة، وكانت وفاته سنة ١١٠ هـ.
وحاول الغماري جبر هذا الكسر الذي لا يمكن لأمه، بطرق منها:
١-ادعاء أن هذه الخرقة مروية من جهة الإتصال الروحاني المعنوي، خلاف الأحاديث المروية بالاتصال الجثماني المعتبر باللقاء والمعاصرة.
٢-قياس لبس الخرقة على إلباس النبي العمامة لبعض أصحابه أو ما في معنى العمامة من الأردية والأكسية.
٣-بيان أن علي بن أبي طالب مخصوص بالأعلمية والوراثة الباطنية من بين الصحابة، وعلمه انتقل إلى أصحابه رواية، وإلى ذريته وراثةً لحديث الكساء.
٤-أن المقصود من الخرقة اللباس الباطني، والخرقة ترمز إلى هذا اللباس الذي هو لب الشريعة وروحها.
٥-أن سند الطريق لا يترتب عليه حكم شرعي، بخلاف الأسانيد الحديثية التي يترتب عليها حكم شرعي غالباً.
٦-أن المتصوفة لم يتقيدوا بلبس الخرقة، وإنما عبروا عن الصحبة بواسطتها في زمن من الأزمان، ثم انتهى ذلك الأمر.
نكد الغماري وطعنه في العلماء:
وأغار الغماري كعادته على من يطعن في سند الخرقة، فشنع على الحافظ ابن حجر الذي صرَّح بانقطاعها، وشكك في تمحيصه للرجال! واتهم ابن خلدون وابن تيمية بالنصب وعداء آل البيت.. وهذا النكد الفارغ نعرفه جيداً من أدعياء التصوف الذين لم يراعوا لله حُرمة، ولا لرسوله سُنة، ولم يحفظوا ألسنتهم عن الخوض فيما لا يعرفون، ووالله لقد ارتقى الغماري بفريته مقامات صعبة المراقي!! وغرَّه في ذلك الكبر والعصبيّة الجهلاء.
وقد فجر الغماري بابن تيمية أيما فجور، وقال فيه ما لم يقله مالك في الخمر (وانظر ص ٨٩ -٩١)، واتهمه بإمام الضالين، وشيخ المجرمين، وسبه ولعنه، كما أنه فجر بابن خلدون واتهمه بالخُبث والنفاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهذا كله من الحقد الدفين، وتميز الغيظ في نفسه، وغمط الحق والعناد، وتجاهل الحقائق والمكابرة فيها.
وتلك شنشنة معروفة ونكبة مستمرة، والله المستعان، وحاول الغماري بيان أفضلية عليٍّ رضي الله عنه على الشيخين، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خصه بأنواع من العلوم الباطنية!، وسلك في ذلك طرقاً ضعيفة لا تقوم على ساق، بل يخجل منها الحكماء وذوي العقول.
دندنة الغماري حول حديث بعض الأحاديث الموضوعة، وهو:
وقد أقر الغماري بعض الأحاديث الموضوعة، دون بيانٍ لدرجتها، وبنى على ألفاظها الباطلة معانٍ باطلة أيضاً، ومن ذلك:
١-قولهُ تعالى: {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سألتُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يجعلَها أذنكَ يا عليُّ
قال ابن تيمية في "منهاج السنة" ٧/١٧١ موضوع باتفاق أهل العلم. وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" ٤/٥٢٢ فيه أبو الدنيا الأشج المغربي كذاب.
٢-عن عبدالله بن عباس، قال: (عَهِدَ إلى عليٍّ سبعينَ عَهْدًا لم يعهدها إلى غيرِهِ).
أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (٩٥٦)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (٢/٢٢٥)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٢/٣٩١)، وقال الذهبي في "تهذيب التهذيب" ١/١٩٧: منكر. وقال الهيتمي في "مجمع الزوائد" ٩/١١٦: فيه من لم أعرفهم. وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" ٦٢٨٨: باطل.
٣-وقال الغماري ص ١٥٠ -١٥٢: أما حديث الخرقة الذي يروونه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه نزل بها من الجنة ليلة المعراج، بعدما لبسها من يد جبريل عليه السلام وقال له (يا حبيب رب العالمين، يا محمد قد أمرني الحق سبحانه وتعالى أن ألبسها لك)، فباطل موضوع، وإن ذكره بعض الصوفية وصححه كابن عراق. فإنه قال في رسالته في الخرقة: وليعلم أنه لا شك أن اليد كانت فيما بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى زمن سيد الطائفة الجنيد يد عهد ولبس وتحكيم.. وقد نص جمع على بطلان حديث (الفقر فخري وبه أفتخر).
دعوى ظهور علم الحروف على يدي عليٍّ رضي الله عنه:
يقول الغماري ص ٩٦: "وكذلك أسرار الحروف والأسماء وعلوم الجداول والتصرف بها، مما أفرد بالتأليف، إنما نقلت عن عليٍّ وآل بيته الكرام"، وذلك كله من الكذب المختلق الموضوع على سيدنا علي رضي الله عنه
وختم الغماري كتابه بمجموعة من الآداب والنصائح الوصايا القيمة، التي يحتاجها كل مسلم في دينه ودنياه، وترجمة (لبعض) رجال خرقة الحسن البصري، وأخبار بعض مشاهير المتصوفة، وأسانيد بعض العلماء والمشاهير إلى الخرقة.
ترجمة أحمد بن الصديق الغماري:
هو الشيخ أبو الفيض أحمد بن الشيخ الإمام المجتهد القدوة، الحافظ الحجة، أبي عبد الله شمس الدين محمد بن الولي الكبير، محمد بن أبى العباس أحمد بن محمد آل عبد المؤمن التجكاني المنصوري، الشريف الإدريسي.
ينتهى نسبه إلى إدريس بن عبد الله المحض بن الحسن بن علي عليهم السـلام .
ووالدته: حفيدة العارف بالله، عبد الحفيظ ابن الولي الكبير، أحمد بن القطب الكبير، أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، صاحب التفسير، وشرح الحكم، وغيرها.
فقد جمع المؤلف الشرف من الجهتين، وضرب أسباب المجد من الطرفين.
ولد سنة ١٣٦٠ هـ، بقبيلة بنى سعيد، فى بيت عمته، حيث كان الإمام والده فى زيارتها. وسماه باسم جده سيدي أحمد بن عبد المؤمن الذى كان إلى جانب حفظه للقراءات السبعة، وإمامته في الفقه وعلوم العربية، يحفظ صحيـح البخارى فعادت عليه بركة تلك التسمية، فصار من كبار حفاظ الحديث، بل أمير المؤمنين فيه .
نشأ في بيت علم وتصوف، وحفظ القرآن الكريم فى سن مبكرة، وصلى تراويح رمضان بوالديه فى البيت،بالختمة كلها، وعادة أهل المغرب في صلاة التراويح، قراءة الختمة كلها في رمضان، بواقع جزء من القرآن كل ليلة.
وكان في صغره يحضر دروس الشيخ الإمام والده فى صحيح البخارى، فيسمع منه الحض على جهاد الكفار، ووجوب الاستعداد لذلك، فاتجه إلى تعلم الرماية، ومهر فيها حتى صار يصيب من العشرة عشرة، واقتنى أجود المسدسات والبندقيات، استعداداً للجهاد الذي كن يتوق إليه، ويقتني - إلى جانب ذلك - كتب التفسير والحديث والفقه والتصوف، حتى جمع مكتبة عظيمة أنشا لها غرفة خاصة في الزاوية الصديقية.
ولما أمر الشيخ الإمام والده الإخوان الصديقين المقيمين بالزاوية: أن يحفظوا القرآن، كتب المؤلف لهذه المناسبة كتاب «رياض التنزيه في فضل القران وفضل حامليه» وهو باكورة انتاجه العلمي، وكان سنه حين كتبه أقل من التاسعة عشرة.
ومما ألفه فى شبابه - وهو دون العشرين كتاب: «تنوير الحلبوب بمكفرات الذنوب» وهو ثاني تأليف له. ولما وصل إلى الأزهر لحضور مجالس العلم، اشتغل أثناء ذلك،بتخريج أحاديث الشهاب للقضاعي، وكتاب الشهاب فيه مائتان وألف حديث، من غير ذكر صحابي أو عزو إلى كتاب، وقد شرع في تخريج أحاديثه العلامة المحدث السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله. لكنه لم ستمه، لأنه وجد فيه أحاديث غريبة لم يجد لها مخرجاً. فجاء المؤلف وخرج تلك الأحاديث كلها حديثاً حديثاً، مع بيان رتبتها، وذكر شواهد لها.
بل كتب تخريجين لها: أحدها صغير، فى مجلد، سماه: «بغية الطلاب بتخريج أحاديث الشهاب»، ثم سماه أيضاً «فتح الوهاب»، والآخر كبير في مجلدين، سعاه «الإسهاب في تخريج أحاديث الشهاب» يذكر الحديث بإسناده منه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. على طريقة الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام. وأضرابه من الحفاظ الذين يروون في كتبهم من الأحاديث بأسانيده، وهى طريقة عزيزة لم يسلكها أحدٌ بعد ابن عساكر (٥٧١ ه)
وهى تدل على كثرة الحفظ، وسعة الرواية، وله غير هذا من المؤلفات الكثيرة، التي بلغت مائة وعشرين كتاب، كلا ما بين حسن وأحسن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق