أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 24 سبتمبر 2022

مقدمة تأصيلية للدكتور حسين بن علي الحربي أستاذ علوم القرآن المساعد -بجامعة جازان اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

مقدمة تأصيلية في مبهمات القرآن الكريم

للدكتور حسين بن علي الحربي

أستاذ علوم القرآن المساعد -بجامعة جازان

اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ أول ما ظهر البحث عن تعيين مبهمات القرآن كان في زمن الصحابة ، ثم استمر ذلك عند السلف، ودون ضمن مصنفات التفسير، حتى أفرد بالتصنيف وأصبح علما من علوم القرآن ، وكان أول كتاب ألف في علم مبهمات القرآن هو كتاب: (التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام في القرآن الكريم) للسهيلى (ت:٥٨١ه) ، ثم توالى التأليف بعد ذلك.

 وقد اهتم الباحث في هذا البحث بعرض ودراسة مقدمات علم مبهمات القرآن وأسسه، من حيث تحديد المصطلح، ونشأة هذا العلم وتطوره، وأهم الدراسات فيه قديماً وحديثاً، وأسباب الإبهام وأقسامه وأنواعه من جهة مصادر بيانه، وبيان علاقة الإسرائيليات بعلم المبهمات، وتحرير ضابط تفسير المبهمات الذي يعتمد عليه المفسر عند النظر في تفسيرها، أو دراسة أقوال المفسرين واختيار الأصح منها، وأخيرا قراءة في مصنفات المبهمات ومناهجها.

وقد ظهر من خلالها أن تعيين المبهمات التي تضمنتها هذه المصنفات لا تخرج عن ثلاثة أوجه:  

الوجه الأول: تعيين المبهمات من خلال ما ورد في القرآن، أو السنة، أو أسباب النزول والقصص والأخبار التي حدثت وقت تنزل القرآن ، وهذا الوجه هو المعتمد في تفسير المبهمات.  

الوجه الثاني: تعيين مبهمات من خلال قصص بني إسرائيل وأخبارهم، وهذا مصدر لا يوثق به.  

الوجه الثالث: بيان أمور خارجة عن تفسير المبهمات، وهذا الوجه خارج عن محل تفسير المبهمات.  

وقد أبرزت هذه الدراسة الطريقة المثلى في تفسير مبهمات القرآن، والتي يرجى من خلالها الوصول إلى أصح الأوجه في تفسير الألفاظ القرآنية المبهمة، ومصادر تفسيرها، وانتهت الدراسة بخاتمة تضمنت أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.

المقدمة 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ...وبعد:  

فإن الله تعالى فضل هذه الأمة بأن أرسل إليها أفضل رسله، وأنزل عليها أشرف كتبه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} (المائدة: ٤٨)، وقد بين لنا تعالى كتابه، وجعل مهمة نبيه صلى الله عليه وسلم بيان هذا الكتاب العظيم، فبين لأصحابه كل ما يحتاجون إلى بيانه، وكذا عمل الصحابة على بيان معاني القرآن وأحكامه وحكمه.

وهكذا تعاقبت أجيال هذه الأمة، وهى تتناقل هذا الكتاب ومعانيه التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن من جملة ما ورد بيانه عنهم مبهمات القرآن، وقد ظهر اهتمام العلماء بعلم المبهمات منذ وقت مبكر، إذ كان تفسير المبهمات متزامنا مع تنزل القرآن، وتناقل الصحابة وكذا التابعون بيان مبهمات القرآن، وتضمنتها مصنفات علم التفسير ضمن تفسير ألفاظ القرآن الكريم، إلى أن أفرد هذا العلم بالتصنيف، ولئن كان العلماء قديماً قد تحدثوا عن مبهمات القرآن في مصنفاتهم، إلا أنني- ومن خلال تكرار الدرس والنظر في كتب التفسير وكتب المبهمات- لاحظت أن هذه المصنفات لا تخلو من نظر في المنهج والأفراد، إذ لم أجد مَن حرَّر مسائل الإبهام في القرآن من حيث تحديد المصطلح، والمنهج ، والمصادر، ونحو ذلك من المسائل ذات العلاقة، بل ربما جعلوا ما لا يدخل في الإبهام من المبهمات، ولريما بينوا مبهما بما لا يصلح أن يكون بياناً له، ولريما اعتمدوا مصدراً لبيان المبهمات وهو مما لا يوثق به.

فأردت من خلال هذا البحث أن أحدد مصطلح الإبهام الذي يتعلق بعلم مبهمات القرآن، وأنواع الإبهام في القرآن، والمصادر التي يصح اعتمادها في تفسير المبهمات، وضابط تفسيرها، وضربت أمثلة مما ذكروه في مصنفات مبهمات القرآن وهو خارج عن هذا المنهج، فجمعت في هذا البحث بين الجانب النظري والجانب التطبيقي لتأصيل علم مبهمات القرآن، وضوابط النظر في كلام المفسرين فيها، وسميته ب(مبهمات القرآن الكريم دراسة تأصيلية) .  

ولقد عملت من خلال هذه الدراسة على رصد أهم المقدمات التي ينبغي الإلمام بها قبل الخوض في بيان المبهمات، أو تحديد المراد باللفظ المبهم أو ترجيحه؛ لتكون بمثابة المدخل لمن أراد دراسة هذا العلم من علوم القرآن على منهج أمثل، جمعت شتاته مما نشره أهل العلم في مصنفاتهم مع الدرس والتحليل والاستنتاج .  

لقد حاولت قدر المستطاع في هذا البحث أن أحدد معالم وضوابط لهذا النوع من التفسير، وأن أنبه على قيمته العلمية، وأنه معتمد على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله وتفسير الصحابة الذين شاهدوا التنزيل رضى الله عنهم جميعا، وقد خرجت هذه الدراسة بشمان مقدمات هي:  

المقدمة الأولى: مصطلحات البحث .  

المقدمة الثانية: نشأة هذا العلم وعناية السلف به .

المقدمة الثالثة : الدراسات السابقة .  

المقدمة الرابعة: مقاصد الإبهام في القرآن وأسبابه .  

المقدمة الخامسة: أقسام الإبهام في القرآن .  

المقدمة السادسة: الإسرائيليات: أقسامها، وعلاقتها بتفسير المبهمات .  

المقدمة السابعة: ضابط تفسير مبهمات القرآن .  

المقدمة الثامنة: قراءة في مناهج مصنفات مبهمات القرآن .  

ثم ختمت البحث بخاتمة ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها .  

أرجو أن تكون هذه الدراسة نافعة لي وللمتخصصين في الدراسات القرآنية، وعموم المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.  

المقدمة الأولى : مصطلحات البحث:  

لا بد في بداية هذا البحث من التعريف بالمصطلحات التي يدور عليها البحث، وهي الألفاظ التالية:(مقدمات، علم، مبهمات، القرآن)  

فالمقدمات: جمع مقدمة، والمقدمة الجماعة التي تتقدم الجيش هي من قدم بمعنى تقدم، ومنه قولهم المقدمة والنتيجة. 

والمقدمة: الناصية والجبهة، وقد استعير لكل شيء فقيل: مقدمة الكتاب ومقدمة الكلام، بكسر الدال، وقد تفتح، وقيل: مقدمة كل شيء أوله، و مقدم كل شيء نقيض مؤخرها.

والمقدمة في الاصطلاح: تطلق على ما يتوقف عليه الأبحاث الآتية. 

العلم: العين واللام والميم أصل صحيح واحد، يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره، ومن ذلك العلامة وهي معروفة، والعلم: الراية ، والجمع أعلام، والعلم: الجبل، وكل شيء يكون معلوماً: خلاف المجهول. 

والعلم: نقيض الجهل، يقال تعلمت الشيء، إذا أخذت علمه.

والعلم في الاصطلاح هو: إدراك الشيء على حقيقته، وقيل هو: زوال الخفاء من المعلوم  والجهل نقيضه.

المبهمات: جمع مبهمة، والمبهم: اسم مفعول من الإجام، وهو ضد التعيين للشيء، وتدور أصل مادة (الباء والهاء والميم) على بقاء الشيء لا يُعرف المأتي إليه، يُقال هذا أمر مبهم: إذا كان ملتبساً لا يعرف معناه ولا بابه. 

وأبهم الكلام إبهاماً، إذا لم يبينه. ومنه ليلٌ بهيم: لا ضوء فيه إلى الصباح. والحروف المبهمة التي لا اشتقاق لها، ولا يعرف لها أصول، مثل: الذي، والذين، وما، ومن، وعن، وما أشبهها. ومنه البُهمة: الصخرة التي لا عرق فيها، وبها شبه الرجل الشجاع الذي لا يقدر عليه من أي ناحية طلب، ثم قيل لما يصعب على الحاسة إدراكه. إن كان محسوساً، وعلى الفهم إن كان معقولاً: مبهم.  

القرآن: مأخوذ من قرأ بمعنى ضم وجمع، وهو مصدر قرأ قراءةً وقرآناً، وسمي بذلك لضمه السور وجمعه لها، أو لجمعه الأحكام والقصص وغير ذلك.

ويمكن تعريفه اصطلاحاً بأنه: كلام الله تعالى على الحقيقة، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته ، المفتح بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس. 

المركب الإضافي (مبهمات القرآن):  

لم يذكر المصنفون في علم المبهمات حداً (لمبهمات القرآن) يطابق المحدود، ولا يعدو ما ذكروه عن أن يكون وصفاً وتعداداً لما سيتناولوه بالبيان من مبهمات القرآن في مصنفاتهم .فقال السهيلي (ت: ٥٨١ هـ): إن قصدت أن أذكر في هذا المختصر الوجيز ما تضمنه كتاب الله العزيز ،من ذكر من لم يتم فيه باسمه العلم :من نبي أو ولي، أو آدمي، أو ملك أو جني، أو بلد أو شجر، أو كوكب، أو حيوان له اسم  «علم» قد عرف.

وقال ابن جماعة (ت ٧٧٣ هـ): هذا كتاب مختصر أذكر فيه-إن شاء الله تعالى- اسم من ذكر في القرآن العظيم بصفته، أو لقبه، أو كنيته، وأنساب المشهورين من الأنبياء والمرسلين، والملوك المذكورين، والمعنيّ بالناس والمؤمنين إذا ورد لقوم مخصوصين، وعدد ما أبهم عدده وأمد ما لم يبين أمده.

وبنحو ذلك جرت عبارات المصنفين في المبهمات! ويمكن أن يقال في تعريف المركب الإضافي (علم مبهمات القرآن) بأنه : علم يعرف به بيان الألفاظ القرآنية المبهمة التي طريق معرفتها النقل المحض.  

فقولي: (علم يعرف به بيان الألفاظ القرآنية المبهمة) يدخل فيه كل الألفاظ المبهمة التي تحتاج إلى بيان وتفسير، سواء أكان طريق معرفة هذا البيان النقل، أم دلالة اللفظ اللغوية، أم دلالة السياق. فيدخل في ذلك من لم يسم في القرآن باسمه العلم، وإنما ذكر بوصفه أو هيئته أو عمله دون اسمه العلم الذي يعرف به، سواء أكان نبيا أم وليا أم ملكا أم آدميا أم جنياً أم بلداً أم شجراً أم كوكبا أم حيوانا. 

ويدخل فيه ما لم يحدد عدده، أو زمنه، أو مكانه من المعدودات أو الأزمنة أو الأمكنة ونحوها. ويدخل فيه ما يحتاج إلى بيان المراد منه من جهة الدلالة اللغوية، أو دلالة السياق.  

وقولي : (التي طريق معرفتها النقل المحض) قيد أخرج الألفاظ المبهمة التي تحتاج إلى تفسير وطريق معرفته دلالة اللفظ اللغوية، أو دلالة السياق.  

المقدمة الثانية: نشأة علم مبهمات القرآن وعناية السلف به  

يشرف علم التفسير وتعلو منزلته بشرف معلومه وهو معان القرآن الكريم، وعلم تفسير مبهمات القرآن من أصيل علم التفسير؛ لأنه متعلق ببيان ألفاظ القرآن المبهمة سواء أبقي إبهامها أم ورد تعيينها في موضع آخر من القرآن نفسه، أم في السنة أم في كلام الصحابة الذين عاصروا حوادث نزول القرآن وعرفوا أسبابه، فنشأته كانت بنشأة علم التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ عيّن بعض مبهمات القرآن، وكذا عين الصحابة رضي الله عنهم طائفة من مهمات القرآن مستندين إلى علمهم ومعاصرتهم لحوادث نزول القرآن، فعرفوا المراد بمبهماته.

وقد اعتنى السلف بعلم مبهمات القرآن عناية كبيرة، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس (ت:٦٤ ه) - رضى الله عنهما - أنه قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب (ت: ٢٣ ه) عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج حاجاً، فخرجت معه، فلما رجعت- وكنا ببعض الطريق- عدل إلى الأراك لحاجة له، قال: فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة (ت:٤١ه) وعائشة (ت:٥٨ه)، قال: فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبة لك ... " .

وعنه أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس (ت:٦٨ه) هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب (ت: ٢٢ ه)، فدعاه ابن عباس (ت:٦٨ه) فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه، هل سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال نعم سمعت رسول الله يقول: (بينما موسى في ملا من بني إسرائيل، جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية ،... الحديث. 

ومثله ما روي عن عكرمة (ت:١٠٥ هـ) قال في قوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً} (النساء: ١٠٠) طلبت اسم هنا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته، وهذا الذي بحث عن اسمه عكرمة (ت:١٠٥ هـ) هو ضمرة بن جندب. 

فعن ابن عباس (ت:٦٨ ه) رضي الله عنهما قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على الله وكان الله غفرواً رحيماً} (النساء: ١٠٠)

وجملة هذه النصوص دالة على عناية حبر الأمة وترجمان القرآن وسلف الأمة بهذا العلم. قال السهيلي(ت:٥٨١ هـ) بعد أن ساق بعض الآثار السابقة: "فهذا أوضح دليل على اعتنائهم بهذا العلم ونفاسته عندهم". وقال في موضع آخر بعد أن ساق أثر عكرمة (ت:١٠٥ هـ) الآنف الذكر: "وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديماً، وأن الاعتناء به حسن، والمعرفة به فضل". 

وقال السيوطي (ت:٩١١ هـ): علم المبهمات علم شريف، اعتنى به السلف كثيراً وساق حديث ابن عباس (ت: ٦٨ ه) السابق. ثم قال: قال العلماء: هذا أصل في علم المبهمات.

واستمر نقل الروايات في بيان مبهمات القرآن وتفسيرها من الصحابة إلى التابعين إلى أن جاء عصر التدوين، فكانت ضمن ما دون من الأحاديث والآثار في كتب الحديث، ولما أفرد علم التفسير بالتأليف، كان علم مبهمات القرآن مدوناً ضمن علم التفسير وهو منه، فتفسير اللفظة المبهمة في الآية ضمن ألفاظ الآية وسياقها، وينقل ما أثر في تفسيرها عن السلف في موضع تفسيرها من القرآن، إلى أن جاء الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (ت: ٥٨١ هـ) فأفرد علم مبهمات القرآن بالتأليف في كتابه (التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام في القرآن) وكان أثر هذا الكتاب فيمن بعده كبيراً، إذ توالى التأليف بعده تذييلاً عليه، وجمعاً واستدراكاً.  

كما أن علم مبهمات القرآن حفلي بعناية المصنفين في علوم القرآن فذكروه نوعا من أنواع علومه، وذكروا فيه أهم ما يتعلق بعلم المبهمات، وجملاً من الآيات التي ورد فيها الإبهام، وما يتعلق بها من بيان هذه المبهمات.

المقدمة الثالثة: الدراسات السابقة .  

أفرد جماعة هذا العلم بالتصنيف، ومن أشهر مصنفاته:  

١) كتاب (التعريف والإعلام فيما أجم من الأسماء والأعلام في القرآن الكريم) للحافظ العلامة أي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي الأندلسي المالقي المعروف بالسهيلى، المتوفى سنة (٥٨١ه) صاحب كتاب (الروض الأنف) وهو أول من أفرد مبهمات القرآن بالتصنيف، والكتاب مطبوع ومتداول.  

٢) كتاب (التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام) لمحمد بن على بن خضر الغساني المعروف بابن عسكر المالقي المتوفى سنة (٦٣٦ ه)، وعمل فيه على استكمال ما فات السهيلي (ت: ٥٨١ ه) واستدراكه. والكتاب مطبوع ومتداول.

٣) كتاب (غرر التبيان لمبهمات القرآن ) للقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله، المعروف بابن جماعة الشافعي المتوفى سنة (٣٣٧ه). والكتاب مطبوع ومتداول وحقيقة هذا الكتاب أنه اختصار لكتاب له في مبهمات القرآن أكبر حجماً منه، قال في مقدمة غرر التبيان: "هذا كتاب اختصرت فحواه من كتاب سبق لي في معناه"، والكتاب الأصل في عداد المفقود حتى الآن.  

٤) كتاب (صلة الجمع وعائد التذييل لموصول كتابي الإعلام والتكميل) والمشهور بتفسير مبهمات القرآن لأبي عبد الله محمد بن على البلنسي الأندلسي المتوفى سنة (٧٨٢ه)، وقصد فيه مصنفه إلى الجمع بين كتابي (التعريف والإعلام)و(التكميل والإتمام) في كتاب واحد، وزاد عليها فوائد أفادها من تفسير الزمخشري (ت: ٥٨٣ هـ) وتفسير ابن عطية (ت: ٥٤٢ هـ) وغيرهما، والكتاب مطبوع ومتداول في مجلدين.  

٥) كتاب (مفحمات الأقران في مبهمات القرآن) لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة (٩١١ هـ)، وقد أتى المؤلف على كتابه بقوله: وهذا كتاب يفوق الكتب الثلاثة. يعني كتاب السهيلي (ت: ٥٨١ه)، وكتاب ابن عسكر(ت: ٦٣٦ه)، وكتاب ابن جماعة (ت: ٧٣٣ هـ) بما حوى من الفوائد والزوائد، وحسن الإيجاز، وعزو كل قول إلى قائله، مخرجاً من كتب الحديث والتفاسير المسندة، فإن ذلك أدعى لقبوله وأوقع في النفس، فإن لم أقف عليه مسنداً، عزوته إلى قائله من المفسرين والعلماء، والكتاب مطبوع ومتداول.  

٦) كتاب (ترويح أولي الدماثة بمنتقى الكتب الثلاثة) لعبد الله بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي الشهير بالمؤذن المتوفى سنة (٤٨١ه)، جمع فيه مؤلفه الكتب الثلاثة: كتاب السهيلي (ت:١٨٥ه)، وكتاب ابن عساكر (ت: ٦٣٦ ه)، وكتاب البلنسى (ت: ٢٨٧ه)، وقد تبعه في طريقته ومنهجه واصطلاحاته، والكتاب مطبوع ومتداول في مجلدين.  

٧) وللحافظ ابن حجر العسقلاني(ت ٨٥٢ هـ) كتاب في مبهمات القرآن ذكره في كتابه الإصابة في معرفة الصحابة (٤ /٢ ٢١) وهو في عداد المفقود.  

٨) واختصر الشيخ محمد بن عمر بن مبارك المشهور بـ(بحرق) المتوفى سنة (٩٣٠ هـ) كتاب «التعريف والإعلام» في مختصر سماه: «تلخيص التعريف والإعلام فيما أبهم من القرآن من الأسماء والأعلام»، ولا يزال مخطوطاً، وهو صغير جداً في ثلاث عشرة ورقة، توجد نسخة منه بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى تحت رقم (٩٥٣). مصورة عن مكتبة الأحقاف باليمن.  

وثمة كتب أخرى لا تزال مخطوطة، أو في عداد المفقود أو لا نعرف عنها سوى ما ذكرته كتب التراجم، لا تخرج في غالبها عما تضمنته الكتب المذكورة .  

وقد قدمت رسائل ودراسات علمية حديثة في علم المبهمات منها:  

١) مبهمات الأماكن الواردة في القرآن الكريم، رسالة دكتوراه عام ١٩٨٣م، للباحث  محمود مصطفى الشنقيطي، جامعة الأزهر.  

٢) مبهمات القرآن، رسالة ماجستير عام ١٩٩٢م، للباحث: مولود أزين، جامعة  أنقرة.

٣) المبهمات في القرآن الكريم، رسالة ماجستير عام ١٩٩٧م، للباحث: محمد عطيان عباس، جامعة بغداد.  

٤) علم مبهمات الأسماء والأعلام في الكتاب والسنة، رسالة دكتوراه، عام ١٩٩٧م، للباحث: الحسين أجاك. دار الحديث الحسنية.  

المقدمة الرابعة : مقاصد الإبهام في القرآن وأسبابه:  

ذكر الزركشي (ت:٧٩٤ هـ)، والسيوطى (ت:٩١١ هـ)، سبعة أسباب للإبهام في القرآن الكريم، واستدلا عليها من خلال سياقات الآيات، وحوادث نزولها، وهذه الأسباب هي:  

السبب الأول: أن يكون اللفظ أبهم في موضع الاستغناء ببيانه في موضع آخر في السياق نفسه كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢)} (الطارق: 1، 2)، أبهم الطارق في هاتين الآيتين، ثم بُين بقوله بعدها {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} (الطارق:٣) أو في سياق آخر كقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٧ )، أبهم المنعم عليهم في هذه الآية، وبينوا في قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: ٦٩).

السبب الثاني: أن يتعين المبهم لاشتهاره كقوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: ٣٥)، فلم يعين اسم زوجته (حواء) لأنه ليس له غيرها. وورد تحديد اسمها في السنة النبوية في حديث أبي هريرة (ت: ٥٧ ه) قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر).  

السبب الثالث؛ قصد الستر عليه ليكون أبلغ في استعطافه كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (البقرة: ٢٠٤)، فقيل: هو الأخنس بن شريق (ت: ١٣ ه) قد أسلم بعد وحسن إسلامه .

قال الزركشي (ت:٧٩٤ه): ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغه عن قوم شيء خطب فقال: (ما بال رجال قالوا كذا)، وهو غالب ما في القرآن. أي: من المبهمات.  

وقصد الستر عليه بعدم تخليد ذكر اسمه العلم في القرآن إلى قيام الساعة في مقام الذم، فلو بيّن بعد ذلك من عاصر التنزيل لم يكن معارضاً للغرض الذي أبهم من أجله، كما ورد عن جِلّة من السلف.  

السبب الرابع: التنبيه على العموم، وأنه غير خاص بخلاف لو عين، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (النساء: ١٠٠)، قال عكرمة(ت: ١٠٥ هـ) أقمتُ أربع عشرة سنة أسال عنه حتى عرفته هو ضمرة بن العيص، وكان من المستضعفين بمكة، وكان مريضاً فلما نزلت آية الهجرة خرج منها فمات بالتنعيم" وصورة سبب النزول قطعية الدخول في العموم.  

السبب الخامس تعظيمه بالوصف، الكامل دون الاسم كقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} النور: ٢٢)، وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} (الزمر: ٣٣)، وقوله تعالى: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} التوبة: ٤٠)، والمراد في هذه الآيات كلها أبو بكر الصديق (ت: ١٣ ه) وفي ذلك إعلاء لمنزلته.  

السبب السادس تحقير المبهم بالوصف الناقص، كقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر: ٣).

السبب السابع: أن لا يكون في تعيينه كبير فائدة كقوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف:٢٠) فأبهم عدد الدراهم التي بيع بها يوسف، ولا فائدة تعود على طالب الهداية القرآنية من هذا النص معرفته بعدد الدراهم، وأمثال ذلك كثير في القرآن، وأكثر ما يفسر به هذا النوع من الإبهام هو أخبار بني إسرائيل.  

وقد تصلح عدة أسباب في مثال واحد سببًا للإبهام.  

المقدمة الخامسة : أقسام الإبهام في القرآن .  

من خلال دراسة المبهمات في القرآن الكريم يمكن تقسيمها قسمين:  

القسم الأول: مبهمات استأثر الله تعالى بعلمها ، وورد في نصوص الشرع ما يدل على أنها من علم الغيب الذي اختص الله تعالى بعلمه، وهذا القسم لا يجوز الخوض فيه ،ومن أمثلة هذا القسم قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: ٥٩)، فأبهم الله تعالى مفاتيح الغيب، وأحال علمها إلى نفسه سبحانه. 

ومن أمثلته أيضاً، قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: ١٨٧).

قال الزركشي (ت: ٧٩٤ ه): لا يبحث فيما أخبر الله باستئثاره بعلمه، كقوله:{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال: ٦٠)، قال: والعجب ممن تجرأ وقال: قيل: إنهم قريظة، وقيل: من الجن.

ونازعه السيوطي (ت ٩١١ هـ) فقال معلقاً على قوله بعد أن ساقه ليس في الآية ما يدل على أن جنسهم لا يعلم، وإنما المنفى علم أعيانهم ولا ينافيه العلم بكونهم من قريظة أو من الجن، وهو نظير قوله في المنافقين: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } (التوبة: ١٠١)، فإن المنفي علم أعيانهم. 

ثم القول في أولئك بأنهم بنو قريظة، أخرجه ابن أبي حاتم (ت: ٣٢٧ هـ) عن مجاهد (ت:١٠٤ هـ)، والقول بأنهم من الجن، أخرجه ابن أبي حاتم (ت: ٣٢٧ هـ) من حديث عبد الله بن عريب، عن أبيه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا جرأة. 

وعند التأمل نجد أن ما ذكره الزركشي (ت: ٧٧٤ هـ) هنا مستقيم اتفاقاً من حيث التأصيل، ومن حيث التمثيل على الصحيح، فأما التأصيل فإن الله تعالى استأثر عقيقة علم بعض الأمور وأبهمها في القرآن كالآيات التي ذكرتها آنفا، ولا منازع في كون موعد قيام الساعة ومفاتح الغيب مبهمتين واختص الله تعالى بعلمهما، ولا يجوز التخرص بشيء من البيان فيهما.  

أما من جهة صحة المثال الذي ذكره الزركشى (ت: ٧٧٤ هـ) ونازعه فيه السيوطي (ت: ٩١١ هـ) فإن حقيقة الإبهام في القرآن الكريم تتعلق بالأعيان لا بالقبائل والأجناس في الجملة، لأن الأجناس غالباً تعلم من سياق الآيات، فلا إبهام لها على الحقيقة إذا علم الجنس من سياق الخطاب في الآية، وحديث القرآن عن اليهود أو الجن أو المؤمنين أو الكافرين وغيرهم يعرف من سياقه دون بيان في الأغلب من أسلوب القرآن.  

ولو سلمنا جدلاً بالمنازعة في هذا المثال فغيره من الأمثلة واضح بحمد الله بلا إشكال.  

القسم الثاني: ما لم يرد فيه نص من القرآن أو السنة دال على استئثار الله بعلمه. 

وهذا القسم هو الذي خاض المفسرون في تفسيره، وهو أنواع :  

النوع الأول: ما أجمله الله تعالى في موضع، وبينه في موضع آخر .  

وهذا البيان من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، فإذا ورد في السياق نفسه، أو في سياق آخر ما يدل على أن البيان الوارد للمبهم ورد مورد التفسير والبيان له، فهذا أعلى أنواع التفسير، وهو تفسير القرآن بالقرآن التوقيفي الذي لا اجتهاد فيه لأحد.

ومثال ما ورد فيه بيان اللفظ المبهم في السياق نفسه، قول الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه}: فقد أبهم الله تعالى في صدر هذه الآية اسم الذي أنعم الله عليه، وأنعم عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم،  ثم بينه في نفس سياق الآية بقوله : {فلما قضى زيدٌ منها وطراً} (الأحزاب: ١٣٧)، فدل على أن الذى أنعم الله عليه، وأنعم عليه النيي هو (زيد)، وبينت الآثار نسبه بأنه زيد بن حارثة (ت ٨ هـ).

ومثال ما ورد بيانه في القرآن في سياق آخر، بيان الإبهام في قوله تعالى: {الذين أنعمتَ عليهم} (الفاتحة: ٧)، فقد أجمل الله تعالى، في هذا الموضع المنعم عليهم، ثم بينه الله تعالى في سورة النساء، في قوله تعالى: {من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} (النساء). فإن عامة المفسرين جعلوا آية النساء مفسرة لآية الفاتحة ومبينة للإبهام في المراد بالمنعم عليهم.  

النوع الثاني : ما أبهمه الله تعالى في القرآن وفسره النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.  

وهذا من بيان السنة للقرآن المندرج في معنى قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: ٤٤).

ومن أمثلة هذا النوع إبهام الله تعالى اسم صاحب موسى عليه السلام الوارد ذكره في قوله تعالى:  {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (الكهف: ٦٦).

وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أي بن كعب (ت: ٢٢ ه) ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال له هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا الخضر ..  فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه .." فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النص أن العبد الذي أمر الله تعالى موسى باتباعه هو الخضر .  

النوع الثالث: ما أبهمه الله تعالى في القرآن وبينه الصحابة بما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو مما عرفوه من أسباب تنزل القرآن والحوادث التي حفت بنزوله، وعامة هذا النوع فيما أبهم بشأن هذه الحوادث والوقائع، كإبهام أسماء الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، و الوارد ذكرهم في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: ١١٨)، فالصحابة الذين حضروا الحادثة عرفوا من هم الثلاثة، وأنهم (كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفى)، وذلك من خلال تفاصيل قصتهم التي عاش أحداثها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعامة أصحابه في المدينة لخمسين ليلة، وكانت قصتهم هذه سبباً لنزول هذه الآيات، كما في حديث كعب بن مالك الطويل في الصحيحين.

ومثله إبهام اسم المجادلة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة: ١). فلم يبين من هي، وبينتها عائشة (ت ٥٨ هـ) رضى الله عنها التي عاصرت الحادثة فقالت رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع معه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله لتشكو زوجها، فكان يخفى عليَّ كلامها فأنزل الله عز وجل: هذه الآية.   

وقد روت خولة قصتها بنفسها، فعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت (ت: ٣٤ هـ) فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله يجادلني فيه، ويقول «اتقي الله فإنه ابن عمك». فما برحت حتى نزل القرآن {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا…}.

وهذا يزيل الإبهام في اسم (المجادلة)، وكان طريق بيانه هم الصحابة الذين عاصروا تنزيل القرآن سواء أكانوا أطرافاً في الحادثة، أم من عموم الصحابة الحاضرين للقصة .  

قال الطاهر ابن عاشور (ت: ١٣٩٣ ه): إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنىً عن علمه؛ لأن فيها بياناً مجملاً أو إيضاحاً خفياً وموجزاً، ومنها ما يكون وحده تفسيراً... وقد تصفحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها لخمسة أقسام:  

الأول: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه، فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة: ١).  ونحو: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (البقرة: ١٠٤)،  ومثل بعض الآيات التي فيها {ومن الناس}.

النوع الرابع: ما أجمله الله تعالى في القرآن من أخبار الأمم السالفة، أو من أحوال اليوم الآخر، وأشراط الساعة، ولم  يبينه الله تعالى، ولم يبينه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سنته.  

وعامة ما يندرج تحت هذا النوع من قبيل المغيبات، أو الأخبار التي لا تعلق ها بالعقائد أو الأحكام أو الاهتداء، و لم يقم دليل على صحتها، وهي ما لا يحتاج المسلمون معرفة تفاصيله، ولا ينبني على معرفتها فائدة تعود على العبد، وقد خاض جماعة من المفسرين في بيان مبهمات هذا النوع، وعامة مصادرهم في ذلك أخبار بني إسرائيل.

المقدمة السادسة: الإسرائيليات: أقسامها، وعلاقتها بتفسير المبهمات: .  

الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، وهي: كل ما زوي من أخبار بني إسرائيل عن طريق كتبهم أو علمائهم.  

فقيد: (من أخبار بني إسرائيل) أدح هنا القيد كل ما ليس مصدره أهل الكتاب كالقصص الموضوعة المكذوبة لأي غرض كان، وغيرها.  

وقيد (عن طريق كتبهم أو علمائهم) أخرج أخبار بني إسرائيل وقصصهم التي قصها الله تعالى لنا في القرآن، وأخرج أخباره التي قصها لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته، فلا يصح أن يطلق عليها إسرائيلية.  

أقسام الإسرائيليات:  

قسم العلماء الإسرائيليات ثلاثة أقسام، وبينوا حكم كل قسم منها، وما يجب على المسلم تعاطيه نحوها:  

فالقسم الأول : أن يعلم صحتها بما عندنا من الشريعة، فإذا ذكر هذا القسم إنما يذكر استشهاداً لا اعتقاداً، ولا حاجة لنا فيه، استغناءً بما ثبت في شرعنا. وإذا ذكر في التفسير لا يكون هو المفسر للآية، يل المفسر للآية هو ما ثبت في شرعنا.  

والقسم الثاني: أن يعلم كذبها بما عندنا من الشريعة ، فيجب ردها واطراحها، ولا تجوز حكايتها إلا على سبيل التنبيه على بطلانها.  

قال الحافظ ابن كثير (ت: ٧٧٤ ه): وما شهد له شرعنا منها -يعني من الإسرائيليات - بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال.

القسم الثالث: أن تكون من المسكوت عنه، فلم يرد في شرعنا ما يدل على صدقها ولا كذبها. ومنزلة هذا القسم هو الشك لا يصدق ولا يكذب كما أرشدنا لذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، غير أنه عند دراسة أمثلة هذا القسم يعد أنه ينقسم إلى قسمين:  

القسم الأول : أخبار مسكوت عنها، فلم يرد في شرعنا ما يدل على صدقها ولا كذبها، لكنها أقرب إلى الخرافة والكذب وتحيلها العقول الليمة، أو يحيلها الحس والواقع، ويغلب على الظنون كذبها، كجبل قاف المزعوم، والحوت « نون» الذي يحمل الأرض، وقد ثبت لنا بالحس والعقل أنه لا حوت ثم يحمل الأرض، ولا جبل قاف يطوقها، فمثل هذه الإسرائيليات يجب ردها.

قال الحافظ ابن كثير (ت: ٧٧٤ ه): وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل.

القسم الثاني أخبار مسكوت عنها، فلم يرد في شرعنا ما يدل على صدقها ولا كذبها والعقول السليمة لا تحيلها، ولا يغلب على الظنون كذبها، فيجب في مثل هذا التوقف، فلا نؤمن بها ولا نكذبها، وأكثر هذا النوع ورودا في تفسير مبهمات القرآن ، وعلى هذا القسم ينزل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا..".

قال الحافظ ابن حجر(ت: 852 هـ): أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم، فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي (ت:204 هـ) رحمه الله .اهـ 

وقال الحافظ ابن كثير (ت: ٧٧٤ ه) ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا، ما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه. وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله. اهـ  

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) محمول على الإذن بالتحديث عن بني إسرائيل بالإسرائيليات المندرجة تحت هذا القسم، لا تفسير القرآن وبيان مهماته بما جاء فيها، وغالب هذا النوع من المبهمات لا فائدة للأمة في تحديدها، كأسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، ومكان الكهف، وكم عدد الدراهم الي اشتري بها يوسف عليه السلام.

 أما ما تحتاجه الأمة فقد بينه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وشرحه، وأوضحه، عرفه من عرفه، وجهله من جهله .  

فإذا كان حكم هذا القسم هو التوقف في التصديق والتكذيب، فلا يصح تفسير كلام الله بأمور مشكوك في صدقها وكذبها، فلربما حملت الآية عليها فكانت كذبا، فيكون قد فسر كلام الله تعالي بالكذب حقيقة، أو يكون قد خولف أمر النبي وذلك باعتقادنا صدق هذه الإسرائيليات، وأي تصديق لها أعظم من جعلها بيانا لمراد الله تعالي فيما أجمله عن خلقه . وكلا الأمر باطل، فالقرآن حق ولا يحمل إلا على حق، واعتقادنا في الإسرائيليات المسكوت عنها التوقف. فتعيَّنَ صحة عدم تفسير آيات القرآن ومبهماته بهذه الإسرائيليات.  

قال العلامة عبد الرحمن السعدي (ت: ١٣٧٦ ه ) واعلم أن كثيرا من المفسرين - رحمهم الله - قد  أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجهة تكون مفردة غير مقرونة ولا منزلة على كتاب الله، فإنه لا يجوز جعلها تفسيراً لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم". فإذا كانت مرتبتها أن تكون موضع شك، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة التي يغلب على الظن كذبها، أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله، مقطوعا بها، ولا يستريب بهذا أحد  أ. هـ.

وقال العلامة أحمد شاكر (ت: ١٣٧٧ ه) إن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه أو كذبه - شيء ، وذكر ذلك في تفسير القرآن، وجعله قولا أو رواية في معنى الآيات، أو في ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما أجمل فيها - شيء آخر ، لأن في إثبات مثل ذلك جوار كلام الله، ما يوهم أن هذا الذي لا نمف صدقه ولا كذبه مبين معنى قول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه من ذلك.  

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أذن بالتحدث عنهم - أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم. فأي تصديق لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله ونضعها منه موضع التفسير أو البيان؟ . أ.هـ

وبهذا التحرير يعلم أن جميع أقسام الإسرائيليات لا يصح تفسير القرآن وتعيين مبهماته بها. كما أن الإسرائيليات التي صحت نسبتها إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. إنما تحدثوا بها من قبيل التحديث للاستشهاد لا للاعتقاد في حدود إذن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بجواز التحديث عنهم ، ولا يلزم من ذلك جعلها أنها تفسير لكلام الله تعالى في غالب أحوالهم خاصة في القصص، مما ألصقت بعد ذلك بالآيات في تفسير القرآن من المصنفين الذين صنفوا في التفسير .والله أعلم  

المقدمة السابعة: ضابط تفسير مبهمات القرآن .  

(لا يصح بيان مبهمات القرآن بما لم يرد به النص، أو الخبر عمن عاصر الحادثة ) 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية(ت 728 هـ) رمحه الله ـ عند حديثه عن المنقولات: القسم الثاني من المنقول: وهو ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه ـ عامته مما لا فائدة فيه، والكلام فيه من فضول الكلام، وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله تعالى نصب على الحق فيه دليلاً، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه: اختلافهم في «لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل ... فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذه منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كاسم صاحب موسى أنه الخضر، فهذا معلوم.  

وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب (ت:٣٤ه)، ووهب (ت: ١١٤ ه) ، ومحمد بن إسحاق (ت: ٠ ١٥ هـ) وغيره ممن يأخذ عن أهل الكتاب ـ فهنا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن لنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال :"إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوك بحق فتكذبوه. وإما أن يحدثوك بباطل فتصدقوه"

 والمقصود أن الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه، ولا تفيد حكاية الأقوال فيه، هو كالمعرفة لما  يروى من الحديث الذي لا دليل على صحته.

وقال السيوطي (ت ٩١١ هـ): اعلم أن علم المبهمات مرجعه النقل المحض، لا مجال للرأي فيه، وإنما يرجع فيه إلى قول النبي وأصحابه الآخذين عنه، والتابعين الآخذين عن الصحابة.

إيضاح معنى الضابط:  

تعين مبهمات القرآن معتمد على النقل المحض، ولا مجال للرأي فيه ، فلا سبيل إلى تعيين مبهمات القرآن ما لم رد ذلك التعيين في القرآن أو السنة أو عمن عاصر حوادث نزول القرآن، وعلم ما أبهمه الله تعالى من تفاصيل هذه الحادثة ، وتتضمن المبهمات ما أجمله الله من أحبار من قد مضى وسلف؛ كأمور بدء الخلق، وأخبار الأمم البائدة، وما وقع من حوادث في عصر نزول القرآن وما لم يقع الملاحم والبعث، ونحوها، فكل ذلك لا يصح تفسيره، أو تعيين مبهماته باجتهادات لا دليل عليها، أو بأخبار إسرائيلية.  

فإذا حاء بيان اللفظ المبهم في القرآن، أو صح الحديث في تفسير المبهم، أو ثبت الخبر عمن عاصر الحادثة وعرف سبب النزول، فيجب حمل الآية عليه، وتفسير اللفظ المهم به، وما سوى ذلك فالأصل أن يبقى اللفظ المبهم على إبهامه.  

الأمثلة على هذا الضابط وأثر تطبيقه في تفسير المبهمات:  

فمن أمثلة يان القرآن للإبهام الوارد في موضع آخر من القرآن نفسه، الإبهام الوارد في قوله تعالى: {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها} (الشمس ١٣) . فقد أبهم الله تعالى اسم الرسول في هذه الآية، على حين ورد بيانه بأنه نبي الله صالح عليه السلام في غير هذا الموضع من القرآن كقوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} (الأعراف: ٧٣)، وقوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} (الإسراء: ٥٩) . وغيرها من الآيات .  

ومن أمثلة ما بينته السنة النبوية، ما جاء في قوله تعالى: {عبس وتولى، أن جاءه الأعمى} (عبس: ١ -٢)، فقد أبهم الله تعالى اسم الأعمى المذكور في الآية،، وبيته السنة النبوية فعن عائشة (ت: ٥٨ هـ) رضي الله عنها. قالت أنزل الله {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم الأعمى (ت: ١٥ ه) أتى رسول الله فجعل يقول يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول أترى بما أقول بأسا؟ فيقال لا. ففي هذا أنزل.  

ومن أمثلة ما بينه الصحابي الذي عاصر نزول القرآن وعلم أسباب نزوله ، ما جاء في تفسير قوله تعالى: {أمسك عليك زوجك واتق الله} (الأحزاب: ٣٧)، فقد أبهم الله في هذه الآية اسم الزوجة التي أمر ايه بإمساكها، وورد عن الصحابي الذي عاصر التنزيل بيان هذا الإبهام، وأنها زينب بنت جحش (ت: ٢٠ هـ)، فعن أنس بن مالك (ت: ٩٣ هـ)، قال : نزلت هذه الآية {وتخفي في نفسك ما الله مُبديه} (الأحزاب: ٢٧) في شأن زينب بنت جحش (ت: ٢٠ هـ) وزيد بن حارثة (ت: ٨ ه).  

ومن أمثلة ما أورده بعض المفسرين أو المصنفين في علم المبهمات، وهذا الضابط يرد ما ذكروه، ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} (يوسف: ٢٠) ، فقد اختلفت أقوال المفسرين في عدد تلك الدراهم المعدودة التي شري بها يوسف عليه السلام:  

فقال بعضهم: كان عشرين درهما.  

وقال آخرون؛ بل كان عددها اثنين وعشرين درهماً.  

وقال آخرون: بل كانت أربعين درهماً.  

وبدراسة هذه الأقوال نجد أنها بينت لنا الإبهام في عدد الدراهم الوارد ذكرها في الآية، وكلها لا دليل عليها من القرآن أو السنة، ولم تكن القصة حصلت وقت تنزل القرآن ليعرف الصحابة أو بعضهم بعض تفاصيلها، وهذا يظهر عدم ثبوت تعيينها من مصدر يوثق به، فالمتعين في مثل هذه الحالة حمل الآية على إبهامها، وأن يوسف عليه السلام شري بثمن بخس دراهم ذات عدد، ولا ينفعنا العلم بعددها، ولا يضرنا الجهل به.  

قال الإمام ابن جرير الطبري (ت: ٣١٠ ه) رحمه الله. بعد أن ذكر الأقوال الآنف ذكرها: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى حين ذكره أخير أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحد مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول. وقد يحتمل أنه كان عشرون، ويحتمل أنه كان اثنين وعشرين، وأن يكون أربعين، وأقل من ذلك وأكثر. 

وأياً ذلك كان، فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس في العلم مبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضر فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه. أ. هـ.

وهذا منهج قوم في دراسة مبهمات القرآن عند ابن جرير (ت: ٣١٠ ه) رحمه الله، وهو الحق الذي ينبغي أن يجري عليه تفسير مبهمات القرآن . والله أعلم .  

المقدمة الثامنة :قراءة في مصنفات مبهمات القرآن:  

يعتبر السهيل (ت:٥٨١ هـ) أول من أفرد علم المبهمات بالتصنيف في كتابه (التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام في القرآن الكريم) وقد أملاه جواباً لمن سأله عن هذه الأسماء المبهمة في القرآن، فاعتمد رحمه الله على حافظته في إملاء هذا المصنف القيم، فكان بذرة في إفراد هذا العلم بالتصنيف، وقد حدد في خاتمة كتابه مصادره التي اعتمد عليها في محفوظه القديم والحديث بأنها كتب التفسير، والأخبار، ومسندات الأحاديث والآثار، وحدد منهجه فيما يورده بأن منه ما حفظ لفظه فأورده كما حفظه، ومنه ما اختلفت فيه ألفاظ الرواة فلم يتتبع جميعها، ولكنه لخص المعنى، كما أنه أضرب عن ذكر أسانيد ما رواه طلبا للاختصار، إذ كان الكتاب جواباً لسائل وعجالة لمستفهم، والتزم في أكثر ما ذكر بالإحالة إلى المواضع التي أخذ منها من دواوين التفسير والحديث والسير والأنساب. 

ثم توالى التأليف فجاء ابن عساكر (ت: ٦٣٦ ه)، فأكمل عمل السهيلي (ت:٥٨١ه)، واتبع منهجه مقتصراً على جمع ما فاته، وسماه (التكملة والإتمام لكتاب التعريف والإعلام فيما أبهم من القرآن)، ثم جاء بعدهما بدر الدين ابن جماع ة(ت:٧٣٣ ه) وألف كتابا واسعاً في علم المبهمات، ثم اختصره في كتابه (غرر التبيان في مبهمات  القرآن)، ويعتبر كتاب ابن جماعة(ت:٧٣٣ه) من أوضح كتب المبهمات منهجا ، واستقصاء للألفاظ، وإيجازاً للعبارة، ثم جمع البلنسي (ت:٧٨٢ ه) بين كتابي السهيلي (ت:٥٨١ه) وابن عساكر (ت:٦٣٦ ه)، وزاد عليهما بعض الفوائد التي أفادها من تفسير الزمخشري (ت: ٥٣٨ ه)، وابن عطية(ت:٥٤٢ هـ) وغيرهما، في كتابه (صلة الجمع وعائد التذييل لموصول كتابي الإعلام والتكميل)، وأخيراً جمع السيوطي (ت: ٩١١ ه) كتابا مختصراً في علم المبهمات حدد معالم منهجه في مقدمته، وسماه (مفحمات الأقران في مبهمات القرآن)، وتميز بعزو الأقوال إلى قائليها في الجملة، وتوثيقها من مصادرها.  

وبدراسة هذه الكتب، يلاحظ الدارس أن إفادتهم من مصادرهم المتعددة وتوظيفها في بيان مبهمات القرآن لا تخرج عن ثلاثة أوجه:  

الوجه الأول: تعيين مبهمات من خلال ما ورد في القرآن، أو السنة، أو أسباب النزول، والقصص والأخبار التى حدثت وقت تنزل القرآن .  

الوجه الثاني: تعين مبات من خلال قصص بني إسرائيل وأخباره .  

الوجه الثالث : يأن أمور خارجة عن تفسير اللفظ المبهم وبيانه في القرآن .  

وبدراسة هذه الأوجه، نجد أن الوجه الأول هو الصحيح المعتمد في بيان مبهمات القرآن وعليه يعول، وقد سبق في المقدمة الخامسة ذكر بعض أمثلة هذا الوجه بما أغنى عن إعادتها في هذا الموضع.  

وأما الوجه الثاني فلا يصلح أن يكون مبيناً لما أجمله الله تعالى في كتابه، كما سبق تقريره في المقدمة السادسة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .  

أما الوجه الثالث فهو خروج عن المقصود الذي من أجله صنفت هذه الكتب وخصصت له، وذهاب بها إلى تفسير اللفظ من الجانب الدلالي أو السياقي، أو حشو القصص والأخبار ونحو ذلك من الأمور التى لا علاقة لها بتفسير المبهم ، فهو خروج عن القصد الذي من أجله أفرد علم المبهمات بالتصنيف، وأمثلة هذا الوجه كثيرة، من ذلك قولهم في تفسير لفظ (الغيب) في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: ٣) هو ما غاب عن المكلف بالإيمان به، الملائكة، وأمور القيامة، وقيل : الوحي، وقيل: القدر.

ومثله ما ذكروه في قوله: {من فوقكم} (الأنعام: ٦٥) قالوا: كحاصب قوم لوط، وأصحاب الفيل .  


وومثله ما ذكره في قوله تعالى: {منه آياتٌ محكمات هُنَّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران: ٧)، قالوا: المحكم: ما وضح معناه، والمتشابه: ما نسخ، وقيل: آيات الحلال والحرام ، والمتشابه: آيات الصفات والقدر ...، ومثل هذا ليس بياناً لمبهم، وإنما هي حدود وتفسير مدلول اللفظ اللغوي أو المقصود بالسياق، وبعضه محلنظر وبحث.  

ومثله ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: {كيف تكفرون} (البقرة: ٢٨)، قالوا: الخطاب لمشركي العرب، وهذا بيان سياقي، وليس فيه بيان لإبهام.  

ومن هذا الوجه، ذكرهم لأنساب أعلام ورد التصريح بأسمائهم في القرآن، كبعض الأنبياء، ومن ذلك قولهم في بيان قول الله تعالى: {وكفلها زكريا} (آل عمران: ٣٧) :هو زكريا بن آدن.

واستطردوا في ذكر اسم ولده، واسم زوجة إبراهيم (سارة)، وكل هذا خارج عن البيان للآية، إذ لا إبهام في الآية أصلاً، فإن نبي الله زكريا عليه السلام مذكور في الآية باسمه العلم، فلا إبهام، وأما اسم أبيه فلم يثبت به مصدر يمكن اعتماده .  

ومثل ذلك قولهم في بيان لفظ: (إبليس) من قوله تعالى: {فسجدوا إلا إبليس} (البقرة: ٣٤) قالوا: اسمه عزازيل ومعناه: الحارث، وكنيته أبو مرة، وقيل : أبو كردس. وهذا إبهام للواضح البين، وترك للاسم الذي ذكره الله في القرآن في أحد عشر موضعاً علما عليه، وعدول إلى اسم لم يرد به دليل صحيح، ففي هذا إحالة الواضح إلى مبهم.  

ومن هذا الوجه تعيينهم أحياناً لبعض المبهمات تعييناً يوهم خلاف المقصود من الآية، فمثلاً عند ذكر قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران:١٥٩) قالوا :الذين أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم هم أبو بكر (ت:١٣ه)، وعمر(ت:٢٣هـ ) رضي الله عنهما، وتعيين الإبهام في هذه الآية بهما يوهـم أن المقصود بالخطاب أبو بكر (ت: ١٣ هـ)، وعمر (ت:٢٣ ه ) رضي الله عنهما دون بقية أهل الشورى من الصحابة، وهذا ليس مراداً قطعاً، إذ الآية ظاهرة في كونها أمرٌ للنيى بمشاورة أهل الشورى من أصحابه عموماً.  

فإن قيل: كذا فسرها أهل التفسير، قيل: تفسيرها بذلك لا يوهم مثل ما يوهمه حمل هذا التفسير على تعيين مبهم فيها. إذ تفسيرها بذلك من قبيل حمل الآية على بعض ما يدخل تحت عمومها من قبيل التفسير بالمثال بأظهر من يندرج تحت دلالة اللفظ، وإنما الإيهام جاء من جعل هذا التفسير بيانا لإبهام الآية وحصرهم في أبي بكر (ت:١٣ه) وعمر (ت:٢٣ ه )، وسياق تفسيرها بهذا دل على تعيين المبهم بهما على وجه التحديد. 

فإن قيل في تعيين المبهم مثل ما قيل في التفسير بأن ذلك من قبيل ذكر بعض ما يحتمله اللفظ، قيل: إذا لا مزية في تعيين المبهم، ولا حاجة لذكره في مثل هذه السياقات، وإنما يكون ضمن تفسير الآية فحسب.  

ومن هذا الغرض يظهر حاجة مصنفات المبهمات إلى مراجعة تبين المبهم وفق ما يصح أن يفسر به المبهم، وما هو داخل في الإبهام، وبمنهج يختلف عن مناهج كتب التفسير؛ لأن تفسير اللفظ ببعض ما يحتمله سائغ ومقبول في التفسير، وجرت عليه طرائق السلف في التفسير، لكنه في تعيين المبهمات ليس كذلك، إذ يجب أن يكون تعيين المبهم مطابقاً لمن أريد باللفظ، أو عين من كان طرفاً في الحادثة التي تتحدث عنها الآية.

 ونظائر هذه الأمثلة كثير في كتب المبهمات.  

الخاتمة : نسأل الله تعال حسنها  

الحمد لله الذي يسر وأعان على إتمام هذا البحث الذي برزت من خلاله النتائج الآتية:  

١) أن تفسير مبهمات القرآن لا بمجال للرأي فيه، بل يعتمد على النقل المحض .  

٢) أنه لا يصح تفسير اللفظ القرآن المبهم الذي استأثر الله تعالى بعلمه .  

٣) أن المصنفين في علم مبهمات القرآن لم يلتزموا في بيانهم للمبهمات بالنقل المحض عن المصادر التي يوثق بها.  

٤) أن المصنفين في علم مبهمات القرآن تابعوا كتب التفسير في مناهجها في تعيين المبهمات، ولم يفردوا المبهمات بالبحث، بل ربما أدخلوا معها ما ليس من قبيل الإبهام.  

٥) أن عموم المفسرين تناولوا تفسير مبهمات القرآن وبيانها ضمن تفسيرهم للنص القرآن على اختلاف مناهجهم في ذلك .  

3) كان ابن عباس (ت: ٦٤ هـ) -رضى الله عنهما- من أبرز الصحابة الذين اعتنوا جذا العلم.  

٧) يعتبر السهيلي (ت: ٥٨١ هـ) أول من أفرد هذا العلم بالتصنيف .  

نسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا تأويل كتابه، كما أسأله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق