فتح الملك العلي
بصحة حديث باب مدينة العلم علي عليه السلام
لأحمد بن الصديق الغماري الحسني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا جزء حديثي مفرد، صحح فيه أحمد الغماري حديث ابن عباس مرفوعاً: (أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها)، وفي لفظٍ: (أنا مدينة الحكمة، وعلي بابها)، وفي رواية عن عليّ مرفوعاً: (أنا مدينة الفقه، وعليٌّ بابها)، وفي رواية عنه: (أنا دار الحكمة، وعلي بابها) أخرجه الآجري في "الشريعة"، قال: وكان علي رضي الله عنه يقول: إن بين أضلاعي لعلما كثيراً.
وجاء عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: (أَنا مَدِينَة الْعلم وَأَبُو بكر أساسها، وَعمر حيطانها وَعُثْمَان سقفها وَعلي بَابهَا لَا تَقولُوا فِي أبي بكر وَعلي وَعُثْمَان إِلَّا خيراً) ضعفه السخاوي كما في "المقاصد الحسنة" ١٢٤، والغزي في "إتقان ما يحسن" ١/ ١٢٦، وغيرهما.
وابتدأ الغماري برواية هذا الحديث بإسناده، من طريق الحسن بن أحمد السمرقندي في كتابه (بحر الأسانيد في صحاح المسانيد) قال: أنا أبو طالب حمزة بن محمد، أنا محمد بن أحمد، أنا أبو صالح الكرابيسي، أنا صالح بن محمد، أنا أبو الصلت الهروي، أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد بابها فليأتِ علياً).
والحديث صححه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن عبد الرحيم ومن طريق الحسين بن فهم، كلاهما عن أبي الصلت به.
وأخرجه الخطيب من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأنباري، عن أبي الصلت. وقال القاسم: سألتُ يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: هو صحيح.
ذكر من أخرج الحديث:
أما هذا الحديث -فأخرجه ابن حبان في «المجروحين» (١/١٥٧)، والطبراني (١١/٦٥) (١١٠٦١)، والحاكم (٤٦٣٧) مطولاً، وله شواهد ومتابعات تكلم عنها الغماري، وقد جمع سبعة متابعات لصالح بن محمد، عن أبي الصلت (=عبد السلام بن صالح) الهروي، وذكر من أخرجها من أصحاب المسانيد، واختلاف ألفاظها.
وهذا الحديث اختلفت فيه آراء النُّقاد والعلماء:
أ- فمنهم من حكم عليه بالوضع.
ب- ومنهم من حكم عليه بالضعف دون الوضع.
ج- ومنهم من حكم عليه بالحُسن وبلّغه بمجموعه رتبة الصحيح.
فمن العلماء الذين حكموا عليه بالنكارة والوضع، وأنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: البخاري، والترمذي، وابن طاهر، وابن العربي، وابن تيمية، وابن الجوزي، والإمام النووي، والذهبي، وملا علي القاري، ومن المتأخرين ابن باز والألباني، وبيان ذلك فيما يلي:
-قَالَ ابن حبان ويحيى بن سعيد القطان: لَا أصل لَهُ.
-ورواه الترمذي في جامعه وأنكره.
-وأنكره البخاري، انظر الفوائد الموضوعة ٩٤.
-وَقَالَ ابْن طَاهِر مَوْضُوع، كما في "تذكرة الموضوعات" للفتني ٩٦.
-قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ٤/٤١٠: ضعيف بل موضوع.
-وقال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن للشافعي ٣/٨٦: باطل.
-وقال ابن الجوزي في "الموضوعات" ٢/١١٣: لا يصح من جميع الوجوه.
-وقال الإمام النووي تهذيب الأسماء واللغات ١/٣٤٨: باطل.
-وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" ١٨/٣٦٨: موضوع.
-وقال ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ١٣٨: قيل: لا أصل له أو بأصله موضوع. وحكم عليه بالوضع ابن باز في "فتاويه" ٢٦/ ٢٨٨، والألباني في ضعيف الجامع ١٣١٣.
ومن العلماء من حكم عليه بالنكارة والضعف لا بالوضع، كالإمام المزي، والمعلمي والدهلوي:
- فقال المعلمي في "تراجم منتخبة من التهذيب" ١٤/ ١٣٣: فيه أبو معاوية مدلس، والأعمش مدلس، ويمكن- إن كان أبو معاوية رواه- أنه دلسه عن بعض الضعفاء، ثم تركه تورعًا.
-وقال المزي في "تهذيب الكمال" ١١/٤٦٢: فيه أبو الصلت الهروي قال النسائي ليس بثقة، وقال أبو حاتم لم يكن عندي بصدوق وهو ضعيف، وأما أبو زرعة فأمر أن يضرب على حديثه.
-وقال الدهلوي في "لمعات التنقيح" ٩/ ٦٧٥: والحكم عليه بالوضع باطل قطعًا، إنما سكت أبو معاوية عن روايته شائعًا لغرابته لا لبطلانه، إذ لو كان كذلك لم يحدث به أصلًا مع حفظه وإتقانه، وللحديث طريق أخرى
ومن العلماء من حكم عليه بالحسن أو بالصحة، وتابعهم عليه الغماري؛ كالحاكم، والعلائي، والزركشي، والسيوطي، وابن حجر، والصالحي، والشوكاني، ويلاحظ أن أكثرهم من المتأخرين:
-وضعف العلائي جملة من أسانيده في "رسائله"، ثم حسَّنه في "النقد الصحيح" ٥٥. وحسنه الزركشي في الآلئ المنثورة ١٦٣.
-ونقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر كما في اللآلئ المصنوعة ١/٣٣٤: أن هذا الحديث من قسم الحسن لا يرتقي إلى الصحة ولا ينحط إلى الكذب.
- بل صرَّح الحافظ كما في لسان الميزان ٢/٣٦٥: بأن له طرقاً كثيرة أقل أحوالها أن يكون له أصلاً، فلا ينبغي أن يطلق عليه بالوضع.
-وحسنه محمد بن طولون الصالحي كما في "الشذرة" ١٣٠.
- والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٤٩.
- وقال الفتني في "تذكرة الموضوعات" ٩٦: لَهُ متابعات فَمن حكم بكذبه فقد أَخطَأ.. وينتهي بطرقه إلى درجة الحسن فلا يكون ضعيفا فضلا عن أن يكون موضوعاً.
أما العلماء الذين حكموا عليه بالوضع، فعمدتهم نكارة لفظ الحديث، والطعن في أبي الصلت عبد السلام بن صالح (=لمعرفته برواية المناكير، وأنه متشيع)، واستندوا في ذلك إلى كلام الإمام أحمد فيه عندما سئل عن هذا الحديث، فأعله به، ومن ذلك:
قول الإمام أحمد كما في "تهذيب التهذيب" ٦/٣٢٠، وتاريخ بغداد: ١١/ ٤٩: فيه أبو الصلت الهروي روى أحاديث مناكير.. أما هذا (يعني الحديث) فما سمعنا به.
وقال الإمام أحمد كما في المنتخب من العلل للخلال ١٧٢: قبح الله أبا الصلت، ذاك ذكر عن عبد الرزاق حديثاً، ليس له أصل.
والإمام ابن معين: فقد روى الخطيب في تاريخ بغداد ١١/٢٠٥، عن يحيى بن معين، قال في هذا الحديث: منكر جداً.
وقال في موضع آخر ١١/٥٠: ما هذا الحديث بشيء، وعنه في الجرح والتعديل ٦/٩٩، وتهذيب الكمال ١٤/ ٢٨: ليس له أصل، وفي سؤالات ابن الجنيد ، عنه: كذب ليس له أصل، وعنه في المنتخب من العلل للخلال ١٧٢، قال ابن معين كذب، ليس له أصل، وعنه كما في تهذيب التهذيب ٧/٤٢٧: لا أصل له.
وتوهم الغماري تصحيح يحيى بن معين لهذا الحديث لبعض روايات الحديث، والحق أن قول ابن معين (صحيح) يعني عن الراوي أبي معاوية (=الراوي عن الأعمش) وليس عن الحديث، وانظر تهذيب التهذيب ٦/٣٢٠.
وقال الإمام الدارقطني في تعليقات على المجروحين ١٧٩: قيل : إن أبا الصلت وضعه على أبي معاوية وسرقه منه جماعة.
وأعله ابن القيسراني بأبي الصلت كما في "معرفة التذكرة" ١٢٧، وقال في "تذكرة الحفاظ" ١٣٦: مما ابتكره أبو الصلت والكذبة على منواله نسجوا، وروي بأسانيد مختلفة.
-وقال ابن عدي: الحديث موضوع يُعرف بأبي الصلت، ومن حدث به سرقه منه، وإن قلب إسناده، وسئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؛ فقال: قبح الله أبا الصلت".
وقال محمد بن طاهر المقدسي: كذاب.
وقال الذهبيُّ في "اللسان": واه شيعى، متهم مع صلاحه. وعلق الذهبيُّ على تصحيح الحاكم له؛ فقال: "موضوع، وأبو الصلت لا ثقة ولا مأمون".
وقال النسائي: ليس بثقة.
بينما توسط المحسنون لهذا الحديث، وجعلوا رواية أبي الصلت من قسم الضعيف المنجبر أو أدنى درجات الحسن، وبيان ذلك:
استدلالهم بقول أحمد بن سيار المروزي: ناظرته فلم أره يُفْرِط، ورأيته يقدم أبا بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما، وكان لا يذكر أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بالجميل، وكان يقول: هذا مذهبي الذي أدين اللَّه به.
وقال ابن حجر في "التقريب" عن أبي الصلت: صدوق له مناكير وكان يتشيع، وأفرط العقيلي؛ فقال: كذاب. وقال في"المصابيح" (١٠١) "ضعيف عندهم"، وفي "الدراية" (١/ ١٣٣): "ضعيف يسرق الحديث"، وفي "التلخيص" (١/ ٤٢٤): "متروك"، وفي "الكشاف" (2/ 465) "كذبوه".
قال أبو حاتم ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
وقال أبو جعفر العقيلي، والدارقطني: أنه رافضي خبيث وذكر عن عبد الله بن أحمد تلينيه بأنه غير مستقيم الأمر.
وقال ابن دقيق العيد: "قولهم روى مناكير، لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته..". وقد تكلموا في الطبراني، وأبي نعيم، وابن مندة، والحاكم وجماعة من الحفاظ لروايتهم المناكير أيضاً.
وصحح الغماري هذا الحديث من تسعة أوجه، ورد طعن الطاعنين في حديث أبي الصلت بأنه قد يحصل من بعض النقاد تغالٍ في الجرح، فيعدون كل تفردٍ منكراً، أو يُضعفون كل من تفرد بحديث، وهذا من التوسع المردود.
وزعم الغماري أنه يبيّن ذلك من تسعة وجوه، هي:
١-توثيق أبي الصلت، حيث لم يقتصر على توثيق النقاد له لوجود ما يقدح في ذلك، وإنما من طريق رواية الناس عنه. وقد قال العجلي: ثقة. وقال يحيى بن معين: أبو الصّلت ثقة صدوق إلا أنه يتشيّع.
٢-أنهم صححوا أحاديث رجال لم يبلغوا رتبة أبي الصلت في العدالة والتوثيق، وذكر نماذج كثيرة لذلك.
٣-أن الراوي (أبي الصلت) وإن كان متكلماً فيه، فحديثه يقوى ويصحح بالمتابعات، منهم: محمد بن جعفر الفيدي، وجعفر بن محمد الفقيه، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وأحمد بن سلمة الجرجاني، وإبراهيم بن موسى الرازي، ورجاء بن سلمة، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وذكر الغماري من أخرج هذه الروايات، وذكر متابعات أخرى قاصرة عن الأعمش.
٤-أن الراوي لو لم يكن له متابعون، فإن حديثه يُصحح أيضاً بالشواهد المعنوية، وذكر لذلك أحاديث عن ابن عباس، وأبي ذر، وزيد بن أبي أوفى، وحديث علي، وكلها ما بين موضوعٍ وواهٍ جداً، ومنكر.
٥-تعدد مخارج الحديث، فقد روي عن غير ابن عباس بمعناه، وذلك من مخرجين:
الأول: عن عليّ رضي الله عنه مرفوعاً (أنا دار الحكمة وعلي بابها)، أخرجه الترمذي في "سننه"، وقال: غريب منكر، وحكم عليه ابن الجوزي في "الموضوعات" ٢/١١٢، بالوضع، وقال: لا يصح من جميع الوجوه. والعجلوني في كشف الخفا" بالاضطراب والضعف، وابن الملقن في "شرح البخاري" بالنكارة.
وحسّن إسناده ابن جرير في "مسند علي" على علة ذكرها فيه وهو أنه لم يذكر إلا من هذا الوجه، وأعله بسلمة بن كهيل، وأجاب الغماري على اعتراض ابن جرير، بأن الحديث روي من غير ذلك الوجه عن عليٍّ رضي الله عنه، على أن في بعض الطرق ضعف ظاهر، لكن جبره الغماري بتأويلات المحدثين وبعض مسالكهم في التصحيح، بالإضافة إلى متابعة الشعبي، والحسين والأصبغ، والحارث لسلمة بن كهيل.
الثاني: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) أخرجه الحاكم في "المستدرك" ٤٦٩٧، وصححه، وابن المقرئ في "معجمه" ١٧٥، وأخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد"، ثم قال: لم يروه عن عبد الرزاق غير أحمد بن عبد الله هذا، وهو أنكر ما حُفظ عليه، وأجاب الغماري على اعتراض الخطيب، بمتابعة أحمد بن طاهر بن حرملة عن عبد الرزاق، كما ذكره ابن عدي وابن الجوزي، وذكر أنه لا نكارة في تفرد أبي جعفر السامري عن عبد الرزاق بمثل هذا الحديث؛ لأن هذا التفرد لم يكن لندرة الرواية وإنما للتخصيص، حيث إنهم كانوا يتهمون من يروي الأحاديث في فضائل عليّ، فكان يخصُّ بعض أصحابه دون بعض.
وله شاهد آخر -لم ذكره الغماري -عن أنس بن مالك، قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ١٢٤، رواية هذا الحديث: ضعيف، وقال محمد بن محمد الغزي في "إتقان ما يحسن" ١/١٢٦: ضعيف واه.
٦-أن هذه المخارج الثلاثة: عن ابن عباس، وعلي، وجابر، قد حُكم بصحة كل مخرجٍ منها على انفراده، وقد جزم السيوطي في (الجامع الكبير) بصحته، بعد أن رأى تصحيح ابن جرير والحاكم له.
٧-أن الحديث يرتقي بشواهده الروائية والمعنوية ومتابعاته إلى درجة الصحيح، بعد أن حكم لكل حديث منها بالحسن.
٨-أننا لو حكمنا على جميع هذه الطرق والشواهد بالضعف، ولم نحكم لشيء منها بالصحة ولا بالحُسن، فإن هذا الضعيف من قبيل المنجبر يرتقي إلى الصحيح، لتعدد طرقه وكثرة مخارجه وشواهده، فالاحتجاج والحالة هذه بالمجموع، وذكر لذلك تسعة أحاديث.
٩-أنه تقرر أن من علامة صدق الراوي وصحة حديثه مطابقته للواقع، وصدق مخبره، وعلي بن أبي طالب كان أعلم الصحابة على الإطلاق كما هو معلوم مشهور!
- واستدل بحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالَ لابنتهِ فاطمة: (قد زوَّجتُكِ أعظمَهم حِلمًا وأقدمَهم سِلمًا وأكثرَهم عِلمًا)، وذكر له عدة طرق، قال الذهبي في "تاريخ الإسلام ٣/٦٢٨: روى نحوه جابر الجعفي وهو متروك عن ابن بريدة عن أبيه.
-وبحديث: (قُسِّمَتِ الحكمةُ عشرةَ أجزاءٍ فأُعْطِيَ عليٌّ تسعةً والناسُ جزءًا واحدًا) قال الذهبي في "تلخيص العلل المتناهية" ٨١: لعن الله واضعه، وقال ابن كثير في البداية والنهاية ٧/٣٧٣:موضوع، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" ١/٢٤١: لا يصح
-وبحديث: (من أراد أن ينظرَ إلى آدمَ في علمِه وإلى نوحٍ في حكمتِه وإلى إبراهيمَ في حِلْمِه فلينظر إلى عليٍّ) قال الذهبي في ميزان الاعتدال ٤/٩٩: منكر، وقال ابن تيمية في "منهاج السنة ٥/٥١٠: كذب موضوع.
-وبحديث: (أقضى أمتي عليّ بن أبي طالب)، وهو ثابت صحيح.
-وبغير ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين الذين أدركوا علياً، قال الغماري: والآثار بهذا كثيرة ويُغني عنها ما هو متداولٌ من حكمه العجيبة ومعارفه الغريبة، التي لم ينقل مثلها عن غيره، بحيث من وقف عليها رأى العجب العُجاب.
معنى الحديث على فرض صحته:
ومعنى ذلك أن سيدنا علياً رضي الله عنه باب من أبواب العلم، وبه يتوصل إلى الحق والخير والرشد، وله لسانٌ عالٍ في الفقه والحكمة والورع.
وقد شهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، بالعلم في القضاء، وبعثه قاضياً إلى اليمن، وولاه المدينة، وشهد له الصحابة الكرام بذلك، فقد كان عمر يتعوذ من مسألةٍ ليس لها أبو الحسن، وقال ابن عباس: ملئ عليٌّ علماً وحلماً، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إنه أعلم الناس بالسنة، وشهد له أيضاً خزيمة بن ثابت، وعبد الله بن عياش، ومعاوية بن أبي سفيان، وابن مسعود.
قال المُناوي في "الفيض" ٣/ ٤٦: فناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم أن المراد بقوله (وعلي بابها) أنه مرتفع من العلو =وهو الارتفاع؛ فقد تنحل لغرضه الفاسد بما لا يجزيه ولا يسمنه ولا يغنيه .. فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلها، ولا بد للمدينة من باب؛ فأخبر أن بابها هو علي -كرم الله وجهه -فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى، وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمخالف والمعادي والمحالف أهـ.
وقال الدهلوي في "لمعات التنقيح" ٩/ ٦٥٦: ولا شك أن العلم قد جاء منه صلى اللَّه عليه وسلم من قِبَل باقي الصحابة، وليس منحصرًا في علي المرتضى -رضي اللَّه عنه، فلا بد أن يكونوا أبواب العلم، لكن لا بد للتخصيص من وجه بأن يكون متميزًا من سائر الأبواب بالسعة والفتح والعظمة ونحوها، واللَّه أعلم أهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "والكذب يعرف من نفس متنه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان (مدينة) لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحداً، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن، وتلك القرائن إما أن تكون منتفية، وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس، أو أكثرهم، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة، بخلاف النقل المتواتر: الذي يحصل به العلم للخاص والعام. وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل، ظنه مدحاً، وهو مطرق للزنادقة إلى القدح في علم الدين ... "
وناقش الغماري قضايا أخرى في هذا الكتاب، منها:
١-أن المبتدع يُسمى ضالاً، ولا يُسمى فاسقاً، ولا يُرد خبره بمجرد بدعته، ما لم توجب بدعته الكذب.
٢-أن فسق الشيعة السابّة للشيخين إنما هو من جهة اجترائهم على المحرمات، لا من جهة بدعتهم.
٣-أن مذهب جماعة من المحدثين قبول رواية الفاسق ببدعته، ما لم يستحل الكذب. وذهب الجمهور إلى قبول رواية المبتدع ما لم تؤيد بدعته.
٤-وأنه على الرغم في تشدد بعض الأئمة في منع الرواية عن المبتدعة إلا أنهم رووا عن جماعةٍ منهم، واحتجوا بأحاديثهم في بعض المواضع، وتصرفهم هذا مخالفٌ لقولهم.
٥-ودافع عن أبي الصلت بأنه ثقة وليس منكر الحديث، بدلالة موافقته للثقات في روايتهم، وأن المنكر في اصطلاحهم هو أن يُعرف الراوي المستور والمجهول بالتفرد، ومخالفة الأصول، الأمر الذي لا ينطبق على أبي الصلت.
٦-ويرى الغماري أن أكثر الطاعنين في هذا الحديث، إنما هو لكونه في فضائله عليه السلام، ومرجع ذلك إلى الهوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق