المطلب السوي شرح حزب الإمام النووي
مصطفى بن كمال البكري الصديقي
المتوفى سنة (١١٦٢ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الحزب الشهير والورد النثير؛ لإمام متأخري الشافعية، محيي الدين زكريا بن شرف النووي، وأعظم به من إمام اجتمع فيه العلم والعمل، والزهد والتقوى والورع، وتحقق في مراتب الدين، وتفقه على قدم السلف الصالحين. وشرحه الشيخ مصطفى البكري الصديقي، وقد نثر فيه فرائد علمه، وملح فوائده، ومجربات زمانه، وغيرها من الأذكار التي فيها من عطف القلوب، ودفع السموم، ونيل الثواب والأجور.
وعدَّ بعض العلماء حزب الإمام النووي من أشهر الأحزاب وأكثرها بركةً، وعلامة فضله أنه وإن لم ينتسب إلى واحدٍ من أصحاب الخرق، إلا أن الصوفية ضمنوه في مجاميع أورادهم، وأفسحوا له المكان، واحتفوا به، وقد نسبه الحافظ السيوطي في "الخصائص" إلى أنس بن مالك رضي الله عنه كما خرَّجه ابن سعد عن إبان بن عياش عن أنس.
ووقع في شرح البكري النقل عن البوني (الصوفي) وغيره ممن اشتهر بالسحر وسيمياء الحروف والشعوذة، نعوذ بالله من ذلك، بالإضافة إلى بعض الأمور التي لا أصل لها أو غير ثابتة، في الفضائل أو الفروع، ولما رأينا بعض الأمور المنكرة، رأينا اختصار هذا الشرح، وبعده ترجمة موجزة للبكري.
مختصر شرح حزب الإمام النووي -رحمه الله تعالى
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) ابتدأ بالبسملة تبركاً، واقتداءً بالكتاب العزيز، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بالٍ لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)، والباء فيها للاستعانة، والاسم مشتق من السمة وهي العلامة، أو من السمو وهو العلو والرفعة، والله علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، المنزه عن كل نقص، والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان، بنيتا للمبالغة، والرحمن أبلغ من الرحيم، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
(بسم الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) أي: الله أجل وأعظم وأعز وأكرم من كل جليل وعظيم وعزيز وكريم، والتكبير في اللغة: التعظيم والتبجيل والتفخيم، ومن فوائد التكبير إطفاء الحريق، لخبر: (إذا رأيتم الحريق فكبروا؛ فإن التكبير يُطفئه)، وفي الحديث أيضاً: (أوصيكَ بتقوى اللَّهِ والتَّكبيرِ على كلِّ شَرَفٍ)، والتكبير يملأ السماوات والأرض، لخبر: (وسبحان الله والحمد لله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض)، وأتى بالتكبير ثلاثاً لاستحباب الوترية في الأذكار، وفي الحديث عن ابن مسعود مرفوعاً: (كان يُعجبُه أن يدعوَ ثلاثًا ويستغفرَ ثلاثًا)، ويصحُّ فتح راء "أكبر" وضمها أشهر. ومن فوائد التكبير، ما ذكره الشهاب أحمد الشرجي، عن بعض الصالحين أنه إذا ضلَّ الإنسان الطريق، وأذّن هداه الله إلى الطريق، وقال في موضعٍ آخر: رُوي عن بعض العلماء أنه من أذّن في أُذن مصروع اليُمنى، وأقام في اليُسرى أفاق بإذن الله.
(أقول) أتلفظ بما يُفيد مع زيادة التبرك (على نفسي) محوطاً ومبركاً عليها مع إرادة الحفظ والحراسة لها ولما يذكر عقبها، وقدَّمها لأنها أحقُّ من يُتصدق عليه، ونفس الشيء عينه وذاته (وعلى ديني) والدين هو الشرع الذي بُعث به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويُطلق على العادة والسيرة والحساب، والقهر والقضاء والحكم والطاعة والحال والجزاء، وفي الخبر: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)، وعصمة الدين عصمة لسائر الأمور، فإذا فسد الدين فسدت سائر الأمور، (وعلى أهلي) وأهل الرجل قرابته الأدنون، ويدخل فيه الولد والوالد، ويطلق على الأتباع (وعلى أولادي) جمع ولد، وهو ثمرة القلب، وفي الخبر أنه (مبخلة مجبنة محزنة)، (وعلى مالي)، وقال الثوري: إنما سُمي المال مالاً؛ لأنه يميل بالقلوب، وليس ذلك مادة اشتقاقه، (وعلى أصحابي) جمع صاحب، وهي الرفقة (وعلى أديانهم) جمع دين، والضمير للأصحاب ولمن تقدم.
(وعلى أموالهم) وعلى أديانهم لتُحرس عما يشينها أو يُنقصها (ألف الف) عدد مذكر، والجمع آلاف وألوف (بسم الله الله اكبر الله اكبر، أقول) أي أذكر علو جهة التبرك وإرادة الحفظ (على نفسي وعلى ديني وعلى أهلي وعلى أولادي وعلى مالي وعلى أصحابي وعلى أديانهم وعلى أموالهم ألف ألف بسم الله الله اكبر الله اكبر الله اكبر)، وفي الخبر عن ابن مسعود مرفوعاً: (قلْ كُلَّما أَصْبَحْتَ وإذا أَمْسَيْتَ: بسمِ اللهِ على دِينِي، ونفسي وولدي، وأهلي، ومالي) حسنه السيوطي في "الجامع".
وفي خبر ابن عمر مرفوعاً: (ما يمنعُ أحدُكم إذا عسرَ عليه أمرُ معيشتِه أن يقولَ إذا خرجَ من بيتِه بسمِ اللهِ على نفسي ومالي وديني اللهمَّ أرضني بقضائِك وباركْ لي في قدرِك حتى لا أحبَّ تعجيلَ ما أخرتَ ولا تأخيرَ ما عجلتَ) أخرجه الطبراني في "الدعاء"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، وهو ضعيف.
وفي الحديث عن ابنِ عباسٍ أنَّ رجُلًا شَكا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ تُصِيبُهُ الآفاتُ، فقالَ لَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إذا أصْبَحْتَ بِسْمِ اللهِ على نَفْسِي وأهلِي ومالِي، فإنَّهُ لا يذهبُ لكَ شيءٌ فقالَهُنَّ الرجلُ فذهَبَتْ عنهُ الآفاتُ) ضعف إسناده النووي في "الأذكار".
ويشهد لمعناه دعاء ابن عباس وابن عمر مرفوعاً: (اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأَهلي ومالي، اللَّهمَّ استُر عورَتي وآمِن رَوعَتي واحفَظني مِن بينِ يديَّ ومن خَلفي وعن يميني وعن شِمالي ومِن فوقي وأعوذُ بِك اللَّهمَّ أن أُغتالَ مِن تَحتي) يعني الخسف، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر، والبخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عباس.
(أقول على نفسي وعلى ديني وعلى أهلي وعلى أولادي وعلى مالي وعلى اصحابي وعلى أديانهم وعلى أموالهم ألف ألف لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم) والحول قيل: الحيلة وهي الاستطاعة، وقيل: الحركة، والقوة ضد الضعف، يعني لا حركة ولا استطاعة إلا بقوة الله وإرادته ومشيئته، وقيل في معنى الحوقلة: لا حول عن معصية الله إلا بالله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله، والحوقلة كلمة استسلام وتفويض، وتعني أن العبد لا يملك من نفسه شيئاً، وليس له حيلة في دفع الشر، ولا قوة في جلب الخير إلا بإرادته تعالى، ولهذه الكلمة تأثير في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، وفي الدخول على من يُخاف شرُّه، وكان بعض العلماء يستحبُّ للمرء أن يقولها إذا لقي الأعداء.
(بسم الله) أتبرك واستعين وأسير (وبالله) أي بقوته أتحرك وأعتصم وأستعين (ومن الله) أرتجي الثواب والخير الكثير (وإلى الله) ألتجيء فهو المُعين والنصير (وعلى الله) أعتمد وأتوكل، (وفي الله) أجهد وأجتهد وأتحمل وأصبر (ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم) وهذه الكلمة كنزٌ من كنوز الجنة كما ورد في الخبر، والعليُّ هو العالي على خلقه قدراً وقهراً وصفةً، والعظيم هو الذي يحتقر عند ذكره كل ما سواه.
(بسم الله على ديني) وقدم الدين هنا لأنه يُفدى بالروح وبالنفس (وعلى نفسي وعلى أولادي بسم الله على مالي وعلى أهلي، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي) والشيء في الأصل يُطلق على الموجود، والمعدوم لا يُسمى شيئاً، والعطاء ضد المنع، وهو يشمل العطاء الحسي والمعنوي، الدنيوي والأخروي، والرب هو السيد المالك المتصرف، فسأل الله تعالى أن يحفظ هذه الخمس ببركة اسم الله أولاً، ويحفظ سائر ما أعطاه الله ببركة اسم الله ثانياً.
وفائدة هذا الترتيب: أن من حفظ الله تعالى عليه الدين نجا في الدارين من كل ما يشين، ومن حفظ عليه التفس خلص في المواطن الخمس، ومن حفظ عليه العقل لم يقدمه إذا خالف النقل، ومن حفظ عليه النسب سلم من الريب فيما اكتسب، ومن حفظ عليه المال وُفق لإنفاقه في مراضي الله على كل حال.
(بسم الله رب السموات السبع) والسماء هي كل ما علا ارتفع، والمراد بها الأجرام العلوية المظلة للأرض، والسبع هي عدتها، وفي الخبر عن ابن مسعود مرفوعاً: (إذا تخوَّفَ أحدُكم السلطانَ فليقل: اللَّهمَّ ربَّ السماواتِ السبعِ وربَّ العرشِ العظيمِ، كنَّ لي جارًا من فلانٍ، ومن شرِّ الإنسِ والجنِّ وأتباعِهم، أن يفرُطَ منهم، عزَّ جارُك وجلَّ ثناؤُك ولا إلهَ غيرُك)، وحسن إسناده الحافظ في "بذل الماعون". وروي عن ابنُ مسعودٍ أنه كان إذا أراد أن يدخُلَ قريةً قال: "اللهمَّ ربَّ السَّماواتِ وما أظَلَّتْ، وربَّ الشَّياطينِ وما أضَلَّتْ، وربَّ الرِّياحِ وما أذَرَّتْ أسألُك خيرَها وخيرَ ما فيها وأعوذُ بك مِن شرِّها وشرِّ ما فيها".
(ورب الأرضين السبع) والأرضين جمع أرض، وهي اسم جنس، وهن سبعٌ وأشار الكتاب العزيز إلى ذلك بقوله: {ومن الأرض مثلهن} (الطلاق: ١٢) أي عدداً لا هيئةً وشكلاً فقط، وفي البخاري: (مَن ظَلَمَ مِنَ الأرْضِ شيئًا طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أَرَضِينَ)،
(ورب العرش العظيم) والعرش هو أعظم المخلوقات، وهو جسم علوي نوراني ذو قوائم، محيط بجميع المخلوقات، وهو سقف الجنة، وهو المحيط بالكرسي والسماوات، وخصه بالذكر لأنه أوسع المخلوقات، وقيل هو أول المخلوقات على خلاف بينه وبين الماء الذي ورد في حديث أبي رزين-رضي الله عنه-أنه قال: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: (كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء).
(بسم الله الذي لا يضرُّ) أي لا يؤذي (مع) ذكر أو ملاحظة (اسمه) تعالى وتقدس (شيء) كائن أي موجود (في الأرض) ذات الفجاج (ولا في السماء) ذات الأبراج (وهو السميع) أي المتصف بالسمع وهو إدراك جميع المسموعات على اختلاف الأصوات واللغات، (العليم) أي العالم بجميع المعلومات، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء (ثلاثا) أي يكررها الذاكر ثلاثاً، لخير: (من قالَ: بسمِ اللَّهِ الَّذي لا يضرُّ معَ اسمِهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وَهوَ السَّميعُ العليمُ، ثلاث مرات، لم تُصِبْهُ فجأةُ بلاءٍ حتّى يُصبِحَ، ومَن قالها حين يُصبِحُ ثلاثَ مرّاتٍ لم تُصِبْهُ فجأةُ بلاءٍ حتّى يُمسِيَ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح، وفي رواية عنه (لم يضره شيء).
(بسم الله خير الأسماء في الأرض وفي السماء) وخير الأسماء أي أعلاها وأشرفها وأرفعها، والمراد بالأسماء الأسماء الإلهية التي سمى الله تعالى بها نفسه. وفي الخبر عن عبد الله بن الزبير، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم (كان يتشهَّدُ: باسمِ اللهِ وباللهِ خيرِ الأسماءِ..) ومداره على ابن لهيعة وفيه مقال. و"الله" هو أشرف اسم يُذكر به الباري جل وعلا.
(بسم الله افتتح ) أي أبتدئ متبركاً بهذا الاسم الكريم (وبه اختتم) في كل أمرٍ ذي بال، يهتم به شرعاً، (الله الله الله الله) الأول مبتدأ وما بعده للتوكيد، (ربي) خبر أو هو عطف بيان ويكون الخبر: (لا أشرك به شيئاً) وربي هو سيدي ومالك أمري والمحسن إليَّ بإيجادي وإمدادي وهدايتي، لا أشرك به شيئاً من خلقه، والشرك محبط للأعمال، والمراد بالشرك هنا صغاره كالرياء وكباره كالتنديد، وفي الخبر: (الشركُ فيكم أخفى من دبيبِ النملِ، وسأدلُك على شيءٍ إذا فعلتَه أذْهَبَ عنك صَغارُ الشركِ وكبارُه، تقولُ: اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أُشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ -ثلاث مرات) صحيح، قاله لأبي بكر الصديق.
وفي الحديث عن عائشة مرفوعاً: (إذا أصاب أحدَكم هَمٌّ أو لَأْواءٌ فلْيقلْ: اللهُ اللهُ ربي لا أُشركُ به شيئًا)، وجعل المناوي التكرار في اسم الجلالة؛ لأجل التلذذ بذكره تعالى، وهو مفرج الهم والغم والكرب بإذنه تعالى.
(الله الله الله الله ربي، لا إله إلا الله) أي لا معبود بحق إلا الله تعالى، وفي حديث طلحة مرفوعاً: (أفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له)،
(الله أعز) أي أمنعُ جانباً، (وأجل) أي أعظم شأناً، وأفخم برهاناً (وأكبر) من أن يُحاط به (مما) أي من الذي (أخاف) أي أخشى منه (وأحذر) من شره.
(بك) أي بحولك وقوتك (اللهم أعوذ) أي اعتصم وألتجئ بك لا بغيرك (من شر نفسي) الأمارة بالسوء، والموقعة في الضير والحرج، وفي الخبر عن أبي هريرة مرفوعاً: (أعوذُ بِك مِن شرِّ نفسي وشرِّ الشَّيطانِ وشركِه)، والنفس مجمع الشهوات والمفاسد.
(ومن شر غيري) أي سواي، (ومن شر ما خلق ربي) وخصَّ عالم الخلق بالاستعاذة لانحصار الشر فيه، دون عالم الأمر فإنه كله خير (وذرأ) أي خلق، ومنه الذراري وهو نسل الثقلين (وبرأ) وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان يتعوذ ويقول: (أعوذُ بكلماتِ اللهِ التاماتِ التي لا يُجاوزُهنَّ برٌّ ولا فاجرٌ من شرِّ ما خلق وذرأَ وبرأَ ومن شرِّ ما ينزلُ من السماءِ ومن شرِّ ما يعرجُ فيها ومن شرِّ ما ذرأ في الأرضِ ومن شرِّ ما يخرجُ منها ومن شرِّ فتَنِ الليلِ والنهارِ ومن شرِّ كلِّ طارقٍ إلا طارقًا يطرقُ بخيرٍ يا رحمنُ)،
(وبك) أي بقوتك (اللهم) أي يا الله (احترز) أي أتوقى واتحصن (منهم) أي من الخلق؛ لأن الشر يأتي منهم ظاهراً وباطناً (وبك) أي بسطوتك وقوتك (اللهم أعوذ من شرورهم) أي من شرور الشياطين ومردتهم، (وبك اللهم) أي بحولك وقوتك (أدرأ) أي أدفع (في نحورهم) جمع نحر، وهو موضع القلادة من الصدر، وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري، قال: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا خافَ قَومًا قال: اللَّهمَّ إنّا نَجعَلُكَ في نُحورِهم، ونَعوذُ بكَ مِن شُرورِهم) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وخصَّ النحر تفاؤلاً بنحرهم، ولأنه أقوى وأسرع في الدفع والتمكين من المدفوع (وأقدم بين يديَّ وأيديهم) أي أجعل ما يأتي أمامي وأمام أهلي وأموالي وأولادي وأصحابي (بسم الله الرحمن الرحيم، قل هو الله أحد) سورة الإخلاص، وهي تعدل ثلث القرآن؛ لاشتمالها على جميع المعارف الإلهية، وذلك من إثبات الإلهية، والوحدانية، والغنى المطلق، وتنزيه الله عن الشركاء والأضداد والأنداد، وإنما عدلت ثلث القرآن؛ لأن مقاصده ثلاثة، وهي: العقائد والأحكام والقصص (إلى اخرها ثلاثاً) يقرأها ثلاث مرات.
ويقول عقب ذلك: (ومثل ذلك) أي نظير ما تقدم من التلاوة والاستعاذة (عن يميني وأيمانهم، ومثل ذلك عن شمالي وعن شمالي وعن شمائلهم، ومثل ذلك أمامي وأمامهم، ومثل ذلك من خلفي ومن خلفهم) وذكر هذه الجهات لأنها الجهات المشار إليها في قوله تعالى: {لآتينّهم من بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا نجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف: ١٧)، (ومثل ذلك من فوقي ومن فوقهم، ومثل ذلك من تحتي ومن تحتهم) وذكر ذلك ليكون الحفظ عاماً من جميع جهاته، فيُحرس من جميع توجهاته، وفي الحديث عن ابن عباس، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو، ويقول: (اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأَهلي ومالي، اللَّهمَّ استُر عورَتي وآمِن رَوعَتي واحفَظني مِن بينِ يديَّ ومن خَلفي وعن يميني وعن شِمالي ومِن فوقي وأعوذُ بِك اللَّهمَّ أن أُغتالَ مِن تَحتي)، وأُغتال بضم الهمزة، أي أهلك. (ومثل ذلك محيط) أي مُحدق (بي وبهم) أي بنفسي وبما ذُكر.
(اللهم اني أسالك) أي أدعوك وأطلب منك (لي ولهم من خيرك) أي من عطائك وجودك وكرمك (بخيرك) الذي منه معرفتك ومحبتك وقربك وإحسانك (الذي لا يملكه غيرك) أي سواك، بل أنت المالك له ولغيره من كل باقٍ وفان، وفي الخبر عن ابن مسعود، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، يدعو يقول: (اللهم إني أسألُك من فضلِك ورحمتِك؛ فإنَّه لا يملُكها إلا أنت).
(اللهم اجعلني) أي خُصَّني وأدخلني (وإياهم في عبادك) الذين ليس للشيطان عليهم سلطان (وعياذك) أي حصنك وحرزك الذي لا يستطيعه أحد (وجوارك) أي حمايتك وذمتك، (وأمانك) أي كلأك ورعايتك، وفي خبر ابن عمر مرفوعاً: (إنَّ اللَّهَ إذا استُودِعَ شيئًا حفظَهُ) (وحزبك) وفي نسخة "وحزرك"، وعلى الأول أي: جندك، وعلى الثاني: يكون بمعنى الجوار والأمان، (وكنفك) أي في ستر رعايتك، وحصن حمايتك (من شرِّ) نزغ وكيد (كل شيطان) وهو كل عاتٍ متمرد من الإنس والجان والدواب، وهو مشتق من شطن بمعنى بعد؛ لبعده عن كل خير، أو من شاط بمعنى احترق؛ لأن ذلك مصيره في الآخرة، والجن فيهم الأخيار والأشرار، ولهم قوة على التشكل بأشكال مختلفة؛ لأنهم أجسام هوائية، قادرة على الأفعال الشاقة، والظهور بأشكال مختلفة (و) من شر كل ذي (سلطان) أي صاحب ولاية وأمر، (وإنس) أي البشر (وجان) أي من شر كل جان.
ونقل السفيري -رحمه الله -عن كتاب "البدائع" لابن القيم أن عشرة أشياء إذا فعلها الإنسان حفظ من الشيطان: أولها: الاستعاذة، والثاني: المعوذتين، والثالث: آية الكرسى، والرابع: سورة البقرة، والخامس: خاتمتها وهى من {آمن الرسول} (البقرة: ٢٨٥)، والسادس: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فمن قالها مائة مرة كانت له حرزاً من الشيطان، والسابع ذكر الله، والثامن: الوضوء، والتاسع: الصلاة، والعاشر: ترك الفضول من الكلام والطعام وترك النظر وترك مخالطة الناس فإن الشيطان يتسلط على ابن آدم وينال غرضه من هذه الأبواب الأربعة، نسأل الله العظيم أن يحفظنا من كيد الشيطان الرجيم.
ونقل الشعراني في كتابه "اليواقيت والجواهر" في الباب الحادي والخمسين: ما جالس أحد الجان وحصل له منهم بالله علم جملة واحدة؛ إذ هم أجهل العالم الطبيعي بالله وصفاته، قال: وربما يتخيل جليسهم بما يخبرونه من حوادث الأكوان، وما يقع في العالم من العالم أن ذلـك من كرامة الله له، وهيهات فإن غاية ما يمنحونه لمن يجالسهم أن يطلعوه على شيء من خواص النبـات والأحجار والأسماء والحروف، وذلك معدود من علوم السيميا فما اكتسب هذا منهم إلا العلم الذي ذمته الشرائع، قال: ومما جرب أن من أكثر من مجالستهم صار عنده تكبر على الناس، ومن تكبر مقته الله تعالى وأدخله النار كما جاءت به الآيات والأخبار. انتهى.
(وباغ) أي ومن شرِّ كُلِّ مُعتدٍ، والبغي الإفراط والمجاوزة وتعدي الحدود، وفي الحديث عن أبي بكرة مرفوعاً: (ما من ذَنبٍ أَجدرُ أن يُعَجَّلَ لصاحبِه العُقوبةُ مَعَ ما يُدَّخَرُ لهُ، من البَغي وقَطيعةِ الرَّحِمِ) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه، (وحاسد) والحسد هو تمنى زوال النعمة عن الغير ولو لم تحصل له، (وسَبُع) وهو الحيوان الذي يفترس بنابه، (وحية وعقرب) وهما من ذوات السموم، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتلهما في الحل والحرم، وفي الخبر: (اقتُلوا الأسوَدَيْنِ في الصَّلاةِ: الحَيَّةَ، والعَقرَبَ) واستعاذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يموت لديغاً، (ومن شر كل دابة) وهو كل ما يدب على الأرض من الحيوان، (أنت) يا مولانا (آخذ بناصيتها) أي مالك لها، قادر عليها؛ (إن ربي على صراط مستقيم) أي على الحق والعدل، فلا يضيع عنده معتصم به، ولا يفوته ظالم، وفي الخبر عن أبي الدرداء، مرفوعاً: (اللَّهمَّ أنتَ ربِّي لا إلَه إلّا أنتَ عليكَ توَكلتُ وأنتَ ربُّ العرشِ العظيمِ ما شاءَ اللهُ كانَ وما لم يشأ لم يَكن لا حولَ ولا قوَّةَ إلّا باللَّهِ العليِّ العظيمِ أعلمُ أنَّ اللَّهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ وأنَّ اللَّهَ قد أحاطَ بِكلِّ شيءٍ علمًا اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِك من شرِّ نفسي ومن شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتِها إنَّ ربِّي على صراطٍ مستقيمٍ، من قالَهنَّ أوَّلَ نَهارِه لم تصبهُ مصيبةٌ حتّى يمسيَ ومن قالَها آخرَ النَّهارِ لم تصبهُ مصيبةٌ حتّى يصبحَ)
(حسبي الرب من المربوبين) أي يكفيني السيد المالك من شرهم، والمربوب هو العبد المملوك، (حسبي الخالق من المخلوقين) أي يكفيني موجد الكائنات وممدها وقيومها من شرها (حسبي الرازق من المرزوقين) أي يكفيني رزقه عن رزق من سواه، لأنه الرازق حقيقةً، وغيره أسباب يجري على أيديهم الرزق، (حسبي الساتر من المستورين) أي يكفيني الذي يستر ذنوب عباده بالمغفرة والصفح، من شر المستورين عن أعين الخلق من إنس وجن، (حسبي الناصر من المنصورين) أي يكفيني المؤيد لأوليائه على أعدائه، من أن ينتصر عليَّ أحدهم بالباطل، (حسبي القاهر من المقهورين) أي يكفيني من قهر عبادته بقوته وسطوته وملكه من المقهورين المربوبين الخاضعين لأقداره وأقضيته، (حسبي الذي هو) لا غيره (حسبي) فلا أتوجه بالاعتماد والتوكل إلا عليه، (حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل) والوكيل هو الكافي، وهو المتوكل بمصالح عباده، (حسبي الله من جميع خلقه) أي مخلوقاته.
{إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} (الأعراف: ١٩٦)، أي إن الله ناصري ومدبر أموري، وهو الذي نزل الكتاب على سيد الأحباب، وهو ولي الصالحين من عباده، {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} (الإسراء: ١٨٥)، قيل: حجاباً يمنعهم عن فهم ما تقرأه.
{وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّو على أدبارهم نفوراً} (الإسراء: ٤٦)، أي هرباً من استماع التوحيد ونفرةً منه وتولية.
{فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} (التوبة: ١٢٩)، فإنه يكفيك معرتهم، ويعينك عليهم، ويقول ذلك (سبعاً) أي يكررها، كما ورد في خبر أبي الدرداء مرفوعاً، ومن قالها سبعاً كفاه الله همه، (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) تقدم الكلام عليها، ويقولها (ثلاثاً) أي يكررها.
(وصلى الله على سيدنا محمد) وصلاة الله على نبيه ثناء مقرون بالتعظيم والرحمة، وهو سيدنا الذي ساد العالمين بما تجمع فيه من خصال الخير والكمال والشرف التام، لخبر الترمذي: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، ومحمد اسم منقول عن صفة، وأصله اسم مفعول من حمَّد المضعف، ثم نقل وجعل علماً له عليه السلام، وهو الذي يحمد المرة بعد المرة، أو المحمود لكثرة خصاله الحميدة (وعلى آله) وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب (وصحبه) وهو كل من لقي النبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، (وسلم) أي سلمه من الآفات وهي النقائص والعيوب، (خبأت نفسي) أي حرزتها (في خزائن) أسرار وبركات (بسم الله أقفالها) أي هذه الخزائن (ثقتي بالله مفاتيحها) أي اعتمادي على الله مفتاح هذه الخزائن، (لا قوة الا بالله، أدفع بك) أي بقدرتك وقوتك (اللهم عن نفسي ما أطيق) ما في وسعي (وما لا أطيق) ما ليس في وسعي، (لا طاقة لمخلوق مع قدرة الخالق حسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم).
ترجمة الشارح مصطفى البكري
هو مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي، الخلوتي طريقة، الحنفي مذهبا، أبو المواهب، متصوف، من العلماء، كثير التصانيف والرحلات والنظم.
ولد في دمشق، ورحل إلى القدس سنة 1022 هـ وزار حلب وبغداد ومصر والقسطنطينية والحجاز، ومات بمصر.
من كتبه (مجموع رسائل رحلاته - خ) في مجلد كبير أكثره بخطه. وفي تاريخ المرادي أسماء كتبه كلها، وقد بلغت مؤلفاته 222 ما بين مجلد وكراستين وأقل وأكثر، وله نظم كثير وقصائد جمة خارجة عن الدواوين تقارب اثني عشر ألف بيت
منها (السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد - ط)
و (الذخيرة الماحية للآثام في الصلاة على خير الأنام - ط)
و (المورد العذب لذوي الورود، في كشف معنى وحدة الوجود - خ) رسالة،
و (الصلاة الهامعة - ط) في فضائل الخلفاء الأربعة،
و (الفتح القدسي - خ) أدعية، و (بلغة المريد - ط) أرجوزة في التصوف 213 بيتا،
و (أرجوزة في الشمائل - خ)
و (التواصي بالصبر والحق - خ) تصوف،
و (شرح القصيدة المنفرجة - خ)
و (فوائد الفرائد - ط) منظومة في العقائد، شرحها الدردير،
و (اللمحات - ط) في صلوات ابن مشيش،
و (منظومة الاستغفار - ط) مع شرح لها،
و (المنهل العذب السائغ لورّاده في ذكر صلوات الطريق وأوراده - ط).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق