المنهاج القويم في مسائل التعليم
شرح شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ تعد المقدمة الحضرمية من الكتب المشهورة والموثوقة في المذهب، اقتصر فيها مؤلفها العلامة بافضل الحضرمي على فقه العبادات؛ لحاجة الناس الماسّة إلى ذلك في حياتهم اليومية، وربّما سماها بـ"المقدمة"؛ لتكون مدخلاً إلى بقية أقسام الفقه، وهو في فقه العبادات مختصرٌ مُفيد، وأحكامه صحيحةٌ ومعتمدة، ولذلك تلقاه الفقهاء الشافعية بالقبول، وأقبل الطلبة على دراسته وحفظه، وكثر الشراح له.
ومن أجلِّ شروحاته: شرح الإمام الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي -رحمه الله تعالى، والذي سماه (المنهج القويم شرح مسائل التعليم)، وذكر الجرهزي في حاشيته على المنهج القويم لابن حجر (ص 46) نقلاً عن ابن شيخ العيدروس في كتابه "النور السافر" في ترجمة (عبد الرحمن بن عمر العمودي) أنه هو الذي طلب من الشيخ ابن حجر الهيثمي شرح مختصر الفقيه عبد الله بافضل. فلبى طلبه، وشرحه.
وكتبت عدة حواشي على هذا المتن من أهمها: (حاشية الشيخ محمد سليمان الكردي)، وله ثلاثة حواشي على الكتاب. وحاشية الجرهزي، وكذلك حاشية الترمسي وهي من أوسع الحواشي وأكبرها.
وينبغي لمن وقع على هذا الكتاب أن يُطالعه حتى يُتمَّه، ففيه فوائد كثيرةٌ جمَّة، وعلمٌ غزير كثير، وينوي بقراءته أن يُصلح الله دنياه وآخرته، كما قال الإمام الحافظ المزي:
من حاز العلم وذاكره … صلُحت دنياه وآخرته
فأدم للعلم مذاكرةً … فحياةُ العلم مُذاكرته
وفي هذا المقال:
أولاً: ترجمة الإمام أحمد بن حجر الهيتمي (لمحمد بن أبي بكر باذيب).
ثانياً: مدلول كلمة الفقه، وأدوار الفقه الإسلامي.
ثالثاً: أسباب اختلاف الفقهاء.
رابعاً: التعريف بالمذهب الشافعي (نخبة من الأساتذة).
ترجمة العلامة الإمام الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي
رحمه الله تعالى (٩٠٩ - ٩٧٤ هـ)
[كتبها محمد بن أبي بكر باذيب -طبعت بدار المنهاج]
اسمه ونسبه: هو الشيخ العلامة الفقيه الإمام أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر السلمنتي، الهيتمي، الأزهري، الوائلي، السعدي، المكي، الأنصاري، الشافعي.
والسلمنتي: نسبة إلى ( سلمنت) من بلاد حرام، من أقاليم مصر الشرقية؛ حيث كانت أسرته بها قبل انتقالها إلى محلة أبي الهيتم. وسمي بـ(ابن حجر)؛ لأن جده كان ملازماً للصمت. والهيتمي - بالتاء المثناة الفوقية - : نسبة إلى محلة أبي الهيتم، قرية من أعمال مصر الغربية. وابن حجر رحمه الله - من بني سعد، من الأنصار الذين هاجروا إلى مصر أيام الفتوحات، وهم من بطون قبيلة وائلة.
مولده ونشأته:
ولد بمحلة أبي الهيثم في رجب أواخر سنة (٩٠٩ ه)، ومات أبوه وهو صغير، فكفله جده لأمه الذي عمَّر أكثر من مثة وعشرين عاما ثم مات الجد، فكفله شيخا أبيه الإمامان: الشمس الشناوي ، والشمس محمد الرواي ابن أبي الحمائل.
ثم إن الشيخ الشناوي رحمه الله تعالى تولى رعايته ونقله إلى مقام السيد البدوي رحمه الله تعالى بطنطا؛ حيث تلقى مبادئ العلوم هناك.
طلبه للعلم:
في سنة (٩٢٤ ه) نقله الشمس الشناوي إلى الجامع الأزهر، فبدأ بقراءة الحديث، والنحو، والمعاني، والبيان، والأصلين، والمنطق، والفرائض والحساب، والطب.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى -بعد ذكره تحصيل هذه العلوم: (حتى أجاز لي أكابر أساتذتي بإقراء تلك العلوم وإفادتها، وبالتصدر لتحرير المشكل منها بالتقرير والكتابة، ثم بالإفتاء والتدريس على مذهب الإمام الرئيس، الشافعي ابن إدريس، ثم بالتصنيف والتأليف، فكتبت من المتون والشروح ما يغني روايته عن الإطناب في مدحه، والإعلام بشرحه، كل ذلك وسني دون العشرين).
شيوخه:
أخذ الإمام ابن حجر عن جمع من كبار علماء عصره ، ولقي عددا من كبار المعشرين والمسيدين من العلماء، وصنف في أخذه عنهم وتراجمهم ثبتاً ذكر فيه أخيارهم، وأسانيده الشهيرة إلى أمهات كتب العلم، ونحن ذاكرون هنا أبرزهم وأجلهم بحسب ترتيب وفياتهم:
1-الإمام شيخ الإسلام: زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، المتوفى سنة (٩٢٦ ه) .
2- الإمام: زين الدين عبد الحي بن محمد السنباطي، المتوفى سنة (٩٣١ ه ) .
3- الإمام: شمس الدين محمد ابن أبي الحمائل السروي، المتوفى سنة ( ٩٣٢ هـ ) .
4- الإمام: شهاب الدين أحمد بن الصائغ الحنفي، المتوفى سنة (٩٣٤ هـ ) .
5- الإمام: شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الدلجي، العثماني، الشافعي، المتوفى سنة (٩٤٧هـ) .
6- الإمام: شمس الدين محمد بن شعبان بن أبي بكر بن خلف الدمياطي، المشهور بابن عروس المصري، المتوفى سنة ( ٩٤٩ هـ) .
7- الإمام: أحمد بن عبد الحق السنباطي، الشافعي، المصري، المتوفى سنة (٩٥٠ه).
8-الإمام: محمد بن محمد بن عبد الرحمن البكري، الصديقي، الشافعي، المتوفى سنة (٩٥٢هـ ).
9- الإمام: شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطابي، الرعيني، الأندلسي، المتوفى سنة (٩٥٤ه).
10- الإمام: شهاب الدين، أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي، المصري، الشافعي، المتوفى سنة ( ٩٥٧هـ).
كما أن ابن حجر أخذ عن كُلٍّ من:
11- الشيخ يوسف الأرميوني، المتوفى سنة ( ٩٥٨هـ ) .
12- والناصر اللقاني، المتوفى سنة (٩٥٨ ه)، الفقيه المالكي المعروف.
13- وناصر الدين محمد بن سالم الطبلاوي، الأزهري، المتوفى سنة (٩٦٦ هـ ).
وبعض شيوخه مات بعده؟ كالعلامة الإمام:
محمد بن عبد الله الشنشوري، الفرضي، المتوفى سنة (٩٨٣ هـ) .
وعدَّدَ بعض الباحثين شيوخ الإمام ابن حجر فأوصلهم إلى (٣١) شيخاً، ذكرنا أبرزهم وأجلهم.
مُقاساتُه في الطلب وخروجه إلى مكة:
كان ابن حجر رحمه الله تعالى -يتردد إلى مكة المكرمة، وقد جاور بها في بعض السنين، وأول زيارة له سنة (٩٣٤ هـ ) مع شيخه البكري، ثم مرة ثانية سنة (٩٣٨ هـ)، ثم في سئة (٩٤٠ هـ) قرّر الرحلة إلى مكة والإقامة بها، وكان سبب خروجه من مصر ما حصل من سرقة بعض كتبه من قبل بعض الحسّاد، وهو كتابه «بشرى الكريم» الذي شرح به العباب شرحا عظيماً، ولم يزل متأثراً بذلك الحادث، حتى إنه كان كثير الدعاء بالعفو عن ذلك الفاعل، ويقول: (سامحه الله وعفا عنه) .
وقال ذاكراً مجاهداته والشدائد التي عاناها: (قاسيتُ في الجامع الأزهر من الجوع ما لا تحتمله الجبلة البشرية، لولا معونة الله وتوفيقه؛ بحيث إني جلت فيه نحو أربع سنين ما ذقت اللحم إلا في ليلة، دعينا لأكل فإذا هو لحم يوقد عليه، فانتظرناه إلى أن أبهار الليل، ثم جيء به، فإذا هو يابس كما هو نيء، فلم أستسغ منه لقمة
وقاسيتُ أيضاً من الإيذاء من بعض أهل الدروس التي كنا نحضرها ما هو أشد من ذلك الجوع إلى أن رأيت شيخنا ابن أي الحمائل قائماً بين يدي سيدي أحمد البدوي، فجيء باثنين كانا أكثر إيذاء لي، فضربهما بين يديه فمُزّقما كل ممزق)
كل هذه الأسباب كانت حاملة له على مغادرة مصر والإقامة بمكة، فسكنها لمدة (٣٤) سنة، حتى توفي بها، وكان منزله بالحريرة قريباً من سوق الليل، كما كانت له خلوة برباط الأشرف قايتباي بقرب المسجد الحرام .
تلامذته:
بعد استقرار الإمام الهيثمي رحمه الله تعالى بمكة. . شاع حديثه، وانتشر ذكره في الآفاق، فقصده طلاب العلم من كل فج، وتخرج به أكابر الفقهاء في القرن العاشر الهجري، فمن أعلام تلامذته وكبارهم:
1-الفقيه، الإمام الشيخ: عبد الرحمن بن عمر بن أحمد العمودي، الحضرمي، المتوفى سنة ( ٩٦٧ ه ) .
2- العلامة، المتفنن الشيخ: عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي، المكي، الشافعي، المتوفى سنة (٩٨٢ هـ) .
3- العلامة الشيخ: عبد الرؤوف بن يحى بن عبد الرؤوف الزمزمي، الواعظ، المتوفى سنة (٩٨٤هـ) .
4- محدث الهند، الإمام العلامة : محمد طاهر الفتني، الهندي، الحنفي، المتوفى سنة (٩٨٦هـ) .
5- السيد الشريف، الإمام العلامة، الفقيه: شيخ بن عبدالله بن شيخ العيدروس (لأوسط) ، مصنف «العقد النبوي»، المتوفى سنة ( ٩٩٠هـ ).
6- الإمام: شهاب الدين أحمد بن قاسم العبادي، المصري، الشافعي، الأصولي، المتكلم ، المتوفى سنة (٩٩٤ هـ).
7- السيد الشريف، العلامة القاضي: عبد الرحمن بن الشيخ شهاب الدين الأكبر العلوي، الحسيني، التريمي، المتوفى سنة (١٠١٤ه ) .
مؤلفاته:
عدّها بعض الباحثين فبلغت (١١٧) مؤلفا في شتى فنون العلم؛ من حديث، وفقه ، وسيرة، وتراجم، ونحو، وأدب، وأخلاق، وعقيدة، وغير ذلك.
إلا أن أبرز الفنون التي اشتهر بها رحمه الله تعالى -هو علم الفقه، وله في ذلك اليد الطولى، وما «تحفته» التي عليها المدار والاعتماد في الإفتاء عند الشافعية إلأ أصدق دليل على ذلك.
ومن مؤلفاته رحمه الله:
1- الفتح المبين بشرح الأربعين؛ يعني : «الأربعين النووية»، وهو شرح مفيد ونافع.
2- الفتاوى الحديثية .
3- فتح الإله بشرح المشكاة.
4- الفتاوى الفقهية الكبرى .
5- تحفة المحتاج بشرح المنهاج
6- المنهج القويم بشرح مسائل التعليم ، وهو شرح لـ «المقدمة الحضرمية»، صنفه ابن حجر رحمه الله سنة (٩٤٤هـ ) بطلب من الفقيه عبد الرحمن العمودي، وقد انتفع به طلاب العلم أيما انتفاع.
7- المنح المكية في شرح الهمزية، شرح فه «همزية الإمام البوصيري» رحمه الله تعالى المتوفى سنة ( ٦٩٥ ه).
8- الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم.
وهذا ذكر لبعض مصنفات الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى، أما بقية كتب ابن حجر الفقهية؛ كـ «الإيعاب»، و«الإمداد»، و«فتح الجواد»، و«شرح الإيضاح».
وبقية الكتب الأخرى؛ كـ«الصواعق»، و«الزواجر»، و«كف الرعاع» ، و«الإعلام بقواطع الإسلام»، وغيرها. . فالكلام عنها يطول.
ومن أراد التوسع ومعرفة هذه الكتب ووصفها وما يتعلق بها. . فعليه بالبحث الموسَّع عن الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى ضمن مصادر الترجمة .
ويكفي أن نشير هنا إلى كتابه الفريد الجامع المسمى «أسنى المطالب في صلة الأقارب»، وهو كتاب كبير، حوى نفائس الفوائد، وهو هام في بابه.
وفاته:
ولما كبرت سنه رحمه الله تعالى. . ابتدأ به مرض ألجأه إلى ترك التدريس لمدة نيف وعشرين يوماً، وكتب وصيته في الحادي والعشرين من رجب سنة (٩٧٤ ه)، وفي ضحوة الإثنين (٢٣) من الشهر المذكور لبى نداء ربه راضيا مرضياً.
وصلي عليه تحت باب الكعبة الشريفة، ودفن في المعلاة بقرب من موضع صلب الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، في التربة المعروفة بتربة الطبريين. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
عن مدلول كلمة الفقه، وأدوار الفقه الإسلامي
وأسباب اختلاف الفقهاء، والتعريف بالمذهب الشافعي
(د. سعيد الخن. د. مصطفى البُغا. د. محيي الدين مستو. على خالد الشربجي)
أولاً: مدلول كلمة الفقه.
الفقه لغة: الفهم، قال في المصباح: «الفقه فهم الشيء»، قال ابن فارس: «وكل علم بشيء فهو فقه له».
وقد ورد في القرآن الكريم استعمال الفقه بمعنى الفهم: قال سبحانه: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} (هود: 91) أي: مانفهم.
وقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) أي: لاتفهمون تسبيحهم.
وورد في الحديث الشريف بهذا المعنى، ففي صحيح البخاري، في كتاب الاعتصام، باب مجيء الملائكة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم -وهو نائم، رقم (٧٢٨١)، فقالوا: «أولوها له يفقهها» أي: يفهمها.
وفي مسند الإمام أحمد، (١٣٨/٦) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان كلام النبي فصلاً، يفقهه كل أحد، لم يكن يسرده سردا».
على أن ابن حجر في فتح الباري (١٢١/١): يرى أن هناك تفاوتاً في معنى الفهم بحسب الفعل الذي اشتق منه، فقد قال: «يقال فقه بالضم؛ إذا صار الفقه له سجية، وفقه بالفتح؛ إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بالكسر؛ إذا فهم»
والفقه شرعاً: غلب على العلم بالدين في أي مجال من مجالاته، حتى بات لايتناول غيره عند الإطلاق. قال في لسان العرب: «الفقه: العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلوم، كما غلب النجم على الثريا، والعود على المندل».
وقد ورد في الحديث دعاء النبي لابن عباس «اللهم فقهه» أي في الدين [رواه البخاري (١٤٣) في الوضوء، ومسلم (٢٤٧٧) (١٣٨) في فضائل الصحابة].
وقال -صلى الله عليه وسلم -عندما قدم عليه أهل اليمن «الفقه يمان، والحكمة يمانية» [رواه البخاري (٤٣٩٠) في المغازي، ومسلم (٥٢) (٨٢) في الإيمان].
قال العيني: المراد بالفقه هنا: الفهم في الدين.
ويرى الغزالي أن الفقه إنما يطلق على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقـائق آفات النفوس، وما يتصل بذلك. وبقريب من هذا عرف الإمام أبو حنيفة، فقال: «الفقه معرفة النفس مالها وما عليها».
أما لفظ الفقيه: فأصبح يطلق ويراد به: معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وقد يطلق الفقه على مجموعة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة.
قال ابن الأثير في النهاية: «الفقه في الأصل: الفهم، واشتقاقه أي: المعنوي - من الشق والفتح، يقال: فقه الرجل بالكسر يفقه فقها؛ إذا فهم وعلم، وفقه بالضم؛ إذا صار فقيها عالما، وقد جعله العرف خاصا بعلم الشريعة، وتخصيصا بعلم الفروع منها».
وقال الآمدي: «العلم الحاصل بجملةٍ من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال».
ثانياً أدوار الفقه الإسلامي:
لقد مر الفقه الإسلامي بمراحل وأدوار من النمو والتطور، وكل دور منها يتصف بخصائص غالبة، وهي خمسة أدوار:
الدور الأول: الفقه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ويبتدئ من البعثة، وينتهي بالوفاة النبوية، ويشمل العهد المكي والمدني، ومصادر التشريع فيه:
١. القرآن الكريم.
٢. السنة الشريفة.
٣. الاجتهاد: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتهاد الصحابة رضي الله عنهم. إذا لم يكونوا عند رسول الله، لكن يرجعون بعد ذلك إلى الرسول فإما أن يقرهم وإما لا.
الدور الثاني: الفقه في حياة الصحابة:
ويبتدئ من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وينتهي في أواخر القرن الأول من الهجرة. ومصادر الفقه والتشريع في هذا الدور:
١ . القرآن الكريم.
٢. السنة النبوية.
٣. الاجتهاد، اجتهاد المفتين من الصحابة.
الدور الثالث: الفقه في حياة التابعين، ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين:
ويمتد هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى أوائل القرن الرابع الهجري، وفيه اتسع الفقه الإسلامي ودون، وظهرت كل من مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي ومدرسة الظاهرية، ومدرسة الشيعة.
أ- خصائص مدرسة الحديث:
١. اتجاه الفقهاء إلى حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفتاوى الصحابة، ووقوفهم في الفتوى عند الرواية غالباً، وعدم استعمال الرأي في الأحكام.
٢. صحة ما يروونه من الحديث؛ لاستيثاقهم منها.
٣ـ وقوفهم عند ظواهر النصوص، من غير بحث عن عللها في الأعم الأغلب.
٤ـ قلة تفريعهم الفروع، وكراهيتهم السؤال عن مسائل لم تقع بعد.
ب - خصائص مدرسة الرأي:
١. كثرة تفريعهم الفروع حتى الخيالي منها.
٢ قلة روايتهم للحديث بسبب اشتراطهم فيه شروطا لا يسلم معها إلا القليل.
٣ - عنايتهم بالبحث عن العلل والمقاصد في الفقه والتشريع، وعن معقولية كل حكم من الأحكام.
ج- مدرسة الظاهر:
وأسسها داود بن علي الأصبهاني الظاهري المتوفى سنة (٢٧٠هـ) وكان ينكر القياس، ويتمسك بظاهر الكتاب والسنة.
ثم أتى من بعد داود ابن حزم الأندلسي، المتوفى سنة (٤٥٦ ه) وحمل لواء هذا المذهب، ودافع عنه.
د ـ مدرسة الشيعة:
والاعتماد فيها الكتاب والسنة، ولكنهم لاياخذون حديثاً ولا أصلاً ولا فرعاً إلا عن إمام شيعي، وراو شيعي، أو من بوتقة الإمام، وقد أنكروا الإجماع العام، وأنكروا القياس، لأن الدين لا يؤخذ بالرأي، وإنما يؤخذ عن الله ورسوله وعن الأئمة المعصومين.
أما مصادر الفقه والتشريع في هذا الدور، فتنقسم إلى قسمين:
أـ أصلية ب ـ وتبعية.
* المصادر الأصلية:
١. القرآن الكريم ٢ . السنة. ٣ . الإجماع. ٤ ـ القياس.
* المصادر التبعية:
١. الاستحسان: وهو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول. وهو مصدر عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
٢. المصالح المرسلة: وهي المصالح التي أرسلها الشارع، ولم يقم دليل فيه على اعتبارها، كما إنه لم يقم دليل على إلغائها وعدم اعتبارها، وهو مصدر عند المالكية.
٣ العرف: وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وجميع المذاهب أخذت بالعرف.
٤. الاستصحاب: وهو اعتبار الحكم الذي ثبت بالدليل في الماضي قائما في الحال، حتى يوجد دليل يغير هذا الحكم. وهو حجة مطلقا عند جمهور الفقهاء، مع اختلافهم في بعض جوانب الاستدلال به.
٥. شرع من قبلنا، واحتج به الحنفية والمالكية.
٦ـ مذهب الصحابي، وهو ما اختاره الصحابي، ولم يرد فيه حكم لا في القرآن ولا في السنة، واحتج به جمهور الحنفية ومالك.
٧ـ سد الذرائع: والذرائع هي التوسل بما فيه مصلحة إلى ما هو مفسدة سواء أكان ذلك قصدا أم بغير قصد، وسدها: منعها، واحتج بها جميع الفقهاء ولكن على درجات متفاوتة.
٨ . عمل أهل المدينة، وهو عند الإمام مالك دليل شرعي.
الدور الرابع: الفقه في مرحلة التقليد: ويبتدئ من أواسط القرن الرابع إلى ماقبيل العصر الحديث.
وقد توقفت حركة الاجتهاد في هذا الدور للأسباب التالية :
١ - انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك.
٢. التعصب المذهبي.
٣. عدم وجود نظام للسلطة التشريعية.
٤ـ فشو أمراض خلقية بين العلماء، كالتحاسد والأنانية والتشهير.
٥ـ تدوين المذاهب، واستغناء الناس بها عن غيرها.
٦ـ ثقة الناس بالمذاهب، بعد الدعاية لها حتى ملكت على الناس قلوبهم ومشاعرهم.
أما عمل العلماء في هذا الدور فاقتصر على ثلاثة أمور:
تعليل الأحكام، والترجيح، والانتصار للمذهب.
الدور الخامس: الفقه في هذا العصر، وما طرأ عليه من بوادر النهضة الحديثة، ومن هذه البوادر:
١ـ مجلة الأحكام العدلية، وتحتوي على قانون في المعاملات المدنية مأخذه الفقه الإسلامي.
٢. قانون حقوق العائلة العثماني، وصدر عام ١٩١٧م.
٣ـ عدم التقيد بمذهب معين.
٤ـ ظهور مدونات فقهية.
٥. تدريس المذاهب الأربعة على قدم المساواة في الجامعات.
٦. العناية بتدريس الفقه المقارن، ما يقوي الملكة الفقهية، وطريقة استنباط الأحكام من الأدلة المختلفة.
٧. عناية المجلات بإبراز الأبحاث الفقهية، مما يحتاجه الناس.
٨- عناية الجامعات يجعل أسبوع للفقه الإسلامي.
٩. إقامة مؤتمرات دورية تعالج الأمور المستجدة واستخراج الأحكام الشرعية لها.
١٠. محاولة إيقاظ الفكر العالمي نحو الفقه الإسلامي.
١١. وجود مؤسسات تعنى يجمع الفقه الإسلامي على شكل موسوعات فقهية تشرف عليها وتنفق عليها حكومات إسلامية.
١٢ - وجود مجلس للفقه الإسلامي يعنى ببحث الأمور المستجدة وإيجاد الأحكام الشرعية لها مأخوذة من قواعد الاستنباط ومصادر التشريع.
ثالثاً - أهم أسباب الاختلاف "بين الفقهاء في الفروع":
١ ـ اختلاف القراءات.
٢ـ عدم الاطلاع على الحديث
٣ الشك في ثبوت الحديث.
٤ـ الاختلاف في فهم النص وتفسيره.
٥. الاشتراك في اللفظ.
٦. تعارض الأدلة.
٧ـ عدم وجود نص في المسألة.
٨. الاختلاف في القواعد الأصولية.
[انظر الأمثلة على كل سبب من هذه الأسباب في كتاب «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» للدكتور مصطفى سعيد الخن - طباعة مؤسسة الرسالة في بيروت..
وما ينبغي ملاحظته الفرق بين الاختلاف والمخالفة، وأن الأئمة الأعلام لم يقل أحدهم قولاً مخالفاً لنص من كتاب الله أو سنة رسول الله، وهم أشد حذرا من ذلك، وأعلمهم بقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣)، وانظر كتاب «موقف الأمة من اختلاف الأئمة» للشيخ عطية محمد سالم، المدرس بالمسجد النبوي في المدينة المنورة]
رابعاً: التعريف بالمذهب الشافعي:
ينسب هذا المذهب إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي القرشي رحمه الله، المولود بغزة سنة (١٥٠ ه) والمتوفى بالقاهرة سنة (٢٠٤هـ) تفقه أول ما تفقه على أهل الحديث من علماء مكة؛ كمسلم بن خالد الزنجي، وسفيان ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث مالك بن أنس في المدينة المنورة، ابن عيينة، فلزمه، ولقي من عطفه وفضله ما يجعله يحبه ويجله.
ثم رحل الشافعي إلى العراق رحلته الأولى، بعد أن تشيع من الفقه في الحجاز على طريقة الحجازيين، فاسترعى نظره تحامل أهل الرأي على أهل الحديث وخاصة على أستاذه مالك وعلى مذهبه.
وكان بدهياً أن يدافع الشافعي عن أستاذه وعن مذهبه، وعقد مناظرات كثيرة بينه وبين تلاميذ أبي حنيفة، نقلها رواة الأخبار، كان في معظمها يعلي من شأن الاعتماد على الآثار، ويضعف من شأن الاعتماد على القياس.
ولقد وضع الشافعي في بغداد كتاب «الحجة» ذلك الكتاب الذي اشتمل على مايعرف بالمذهب القديم، وكان في جل أمره ردا على مذهب أهل الرأي، وكان قريبا من مذهب أهل الحديث، حتى سمى ببغداد «ناصر الحديث».
ويروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منة، فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ قال: إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي، وأقام الحجة عليهم.
ثم إن الشافعي عاد إلى بغداد مرة أخرى وأقام فيها سنتين، اشتغل فيهما بالتدريس والتأليف، وأتاح له المقام النظر في كتب أهل الرأي، والتأمل فيها بعمق، وكان هذا مدعاة أن يسير في طريق وسط بـين الـرأي والحديث، جين وضع مذهبه الجديد في مصر، ورد على مالك كثيراً من مسائله.
قال ابن خلدون في مقدمته (ص ٤٤٧- ٤٤٨): «ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس الشافعي المطلبي رحمهما الله، رحل إلى العراق من بعد مالك، ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة، وأخذ عنهم، مزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهبه وخالف مالكا رحمه الله في كثير من مذهبه».
وقال أبو الوفاء الغنيمي في كتابه دراسات في الفلسفة الإسلامية (ص ٩٤. ٩٥): «أما الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة ٢٠٤هـ، فقد درس المذهبين، أعني مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، ولاحظ مافيهما من نقص، وبدا له أن يكمل هذا النقص، فاتجه في الفقه اتجاها جديداً، هو الاتجاه إلى دراسة الأصول، وإقامة الفقه على قواعد منهجية ثابتة، من ضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، فكان ذا شخصية مستقلة تماما، وكان له أثر كبير في توجيه الدراسات الفقهية والأصولية»
والخلاصة: فإن المذهب الشافعي يعتمد على المصادر التشريعية الأربعة، وهي:
القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، كما يأخذ بالاستصحاب والعرف، وسد الذرائع، والعمل يخبر الآحاد، ولم يأخذ بأقوال الصحابة، لأنها اجتهادات تحتمل الخطأ، ورد حجية الاستحسان والمصالح المرسلة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة.
ومن أشهر كتب الفقه الشافعي المطبوعة:
١ - الأم ؛ للإمام الشافعي محمد بن إدريس، المتوفى سنة (٢٠٤ه).
٢. مختصر المزني ؛ لأبي إبراهيم بن يحيى المزني ، المتوفى سنة (٢٦٤ هـ).
٣ المهذب؛ لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، المتوفى سنة (٤٧٦ ه).
٤ـ التنبيه؛ لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، المتوفى سنة (٤٧٦هـ).
٥ـ منهاج الطالبين ؛ للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (٦٧٦ ه).
٦ - روضة الطالبين؛ للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (٦٧٦ ه).
٧. المجموع شرح المهذب: للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (٦٧٦ هـ).
٨. الغاية القصوى في دراية الفتوى؛ للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (٦٧٦هـ).
٩ . المنهاج القويم؛ لابن حجر الهيتمي، المتوفى سنة (٩٧٤هـ).
١٠. الحواشي المدنية؛ للشيخ محمد بن سليمان الكردي، المتوفى سنة (١١٩٤هـ).
١١. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج؛ للشيخ شمس الدين محمد ابن أحمد الشربيني الخطيب، المتوفى سنة (٩٧٧هـ).
١٢. حاشية البجيرمي على الخطيب؛ للشيخ سليمان بن محمد البجيرمي المصري المتوفى سنة (١٢٢١هـ).
١٣-تحفة المحتاج شرح المنهاج؛ لابن حجر الهيتمي.
١٤-نهاية المحتاج شرح المنهاج؛ للشيخ محمد الرملي (ت ١٠٠٤ هـ).
وهذان الكتابان الأخيران هما العمدة في الفتوى على مذهب الإمام الشافعي.