إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم في بيان مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه
(مـنـاقـب الإمـام الشَّـافـعـيّ (150- 204 هـ))
تأليف الإمام فخر الدين أبو عبد الله "محمد بن عمر بن الحسين" الرازي
(544 - 606 هـ)
تحقيق الدكتور: أحمد حجازي السقا
تمهيد/ إن سيرة الإمام الشافعيِّ المطلبي من أجل السِّير، فهو الفاضل في نفسه، المتمسك بكتاب ربه، والمقتدي بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الماحي لآثار أهل البدع، الذاهب بخبرهم، الطامس لسيرهم، وهو الإمام الذي سارت بفقهه الركبان، وقد قهر خصومه بقوة أدلته، وباينهم بإنصافه وشجاعته، وظهر عليهم بورعه وديانته.
ومن عظيم فضل الله علينا: أن أوقفنا على هذا السِّفر الجليل والكبير كماً وكيفاً؛ لأحد أعلام المائة السادسة للهجرة، وهو الإمام المُفسِّر الفقيه: أبي عبد الله: محمد بن عمر الرازي، نسبةً إلى الري التي ولد فيها سنة (544 هـ)،
وقد رأينا في هذا الكتاب كيف أنَّ الإمام الرازي انتصر لمذهب الشافعيَّة وفضَّله على مذهب الحنفيَّة، وكأنه ما وضعه إلا لأجل ذلك، وكان وضعه له أثناء سفره، لذا نراه يقول في الفصل الخامس/ من الباب الرابع/ من القسم الثالث: "واعلم أنا كنا على عزمٍ أن نذكر في كل كتابٍ من كتب الفقه مسائل نُشير إلى تقرير دلائلها، ليُعرف أن مذهب الشافعي في غاية القوة، إلا أنا كنا في السَّفر، وكانت كتبنا الفقهية منقطعةً عنا، فلهذا السبب اكتفينا بهذا القدر، وبالله التوفيق، والله أعلم".
ومعلوم أن الصراع المذهبي كانت له آثاره السيئة في تاريخ أمتنا القديم، لا سيما الصراع المقيت بين الحنفية والشافعية، والذي كان أول ظهوره على رأس المائة الرابعة، وذلك في عهد الخلافة العباسية، حيث استطاع الإمام الشافعي الكبير: أبو حامد الإسفراييني أن يؤثر في الخليفة القادر بالله العباسي، فأقنعه بتحول القضاء من الحنفية إلى الشافعية وذلك في حدود سنة (393 هـ).
وكذلك أعلن القاضي الفقيه منصور بن محمد السمعاني تغيير مذهبه من الحنفية إلى الشافعية في دار الإمارة بمرو، وذلك بعد اعتناق المذهب الحنفي طوال ثلاثين سنة، وكان ذلك في حدود المائة الخامسة، سنة (489 هـ)، ولا شكَّ أن ذلك له كبيرُ الأثر على عامَّة الناس والفقهاء لا سيما الحنفية منهم، الذين احتجُّوا لذلك، وكان لهذا الأمر تداعياته، ما اضطر السمعاني إلى الخروج من مدينة مرو.
ووقعت فتنٌ كثيرة في القرن السادس الهجري، والذي أصبح القتال فيه ظاهراً بين أئمة المذاهب، ولم يكن الرازي يعيش بمعزلٍ عن كل هذه الفتن، سيما بين الحنفية والشافعية، والتي كان آخرها بأصفهان سنة (582 هـ)، والتي وقع فيها الكثير من القتل والنهب والدمار، حتى نق ياقوت الحموي (المتوفى سنة: 626 هـ) أن مدينة أصفهان عمها الخراب بسبب الفتن والتعصب بين الحنفية والشافعية، فكانت الحروب بينهما متصلة.
ونحن نذكر هذا الأمر لأنه مهمٌّ في فهم نفسية الإمام الرازي ونفسه الحاد جداً في نقد مذهب الحنفية، وكان قد فرغ من تأليف هذا الكتاب في ليلة الأربعاء، ا27/ صفر/ 599 هـ) أي بعد بضعة سنوات من فتنة "أصفهان".
أما عن محتوى هذا الكتاب، فهو مؤلف من أربعة أقسام، ويتألف كل قسم من مجموعة من الأبواب، وكل باب من مجموعة من الفصول.
أما القسم الأول: فهو في شرح أحواله على سبيل التأريخ، وهو يتكون من ثلاثة أبواب.
الباب الأول: في نسبه وما يتعلق به، وفيه (ثلاث فصول: 18- 37).
الباب الثاني: في أساتذته، وأسانيده وتلاميذه، وفيه: (ستة فصول: 41- 68).
الباب الثالث: في محنة الإمام الشافعي، وفيه: (أربعة فصول: 69- 92).
أما القسم الثاني، فهو في فضائل الشافعي وعلومه ومناقبه، ويتألف من عشرة أبواب:
الباب الأول: معرفته بعلم الأصول، وفيه (فصلان: 93- 140).
الباب الثاني: في معرفته بأصول الفقه، وفيه (أحد عشر مسألة: 151- 187).
الباب الثالث: في علم الشافعي بكتاب الله تعالى، وفيه (ثلاث فصول: 189- 216).
الباب الرابع: في علم الشافعي بالحديث، وفيه (ثلاث فصول: 217- 232).
الباب الخامس: في معرفة الشافعي باللغة، وفيه (ثلاث فصول: 237- 265).
الباب السادس: في مناظرات الشافعي، وفيه (ثلاث وعشرون مسألة: 269- 295).
الباب السابع: في أشعاره والحكايات المنقولة عنه، وفيه (مقدمتان: 297- 321).
الباب الثامن: في معرفة الشافعي بالطب والفراسة، وفيه (أربعة فصول: 223- 234).
الباب التاسع: في النكت اللطيفة المنسوبة إلى الشافعي، وفيه (فصلان: 235- 248).
الباب العاشر: في شرح خصاله الحميدة، وفيه ( أحد عشر فصلاً: 249- 268).
القسم الثالث: في ذكر ما يدل على أن مذهبه راجحٌ على سائر المذاهب، وفيه بابان.
الباب الأول: ترجيح مذهبه من حيث الإجمال، وفيه (سبعة فصول: 373- 230).
الباب الثاني ترجيح مذهبه من حيث التفصيل، وفيه (خمس فصول: 334- 517).
القسم الرابع: في حكاية الوجوه التي يطعن بها الحنفية على الشافعي، وفيه (سبع حجج: 533- 535).
ومما لفت انتباهي "ويؤخذ على الكاتب" أن المُحقِّق أشار إلى نفسه عندما أتى بأخبار المجددين على رأس المائة الثالثة، فقرن نفسه بالإمام الشافعي مجدد المائة الثالثة، وكذلك نسب التجديد للإمام الرازي مع أن الرازي نفسه لم يزعم ذلك، وذلك في الفصل الثاني- من القسم الثالث، وذكر سنة ميلاده (1940 م)، انظر: (هامش، ص: 387).
تعريفٌ موجز بالمؤلف (الفخر الرازي):
هو محمد بن عمر بن الحسين القرشيِّ البكري الطبرستاني، الملقب بـ"فخر الدين"، المعروف بـ"ابن الخطيب"، من أشهر متكلمي الأشاعرة، ومن غلاة المؤولة المسرفين في الطعن على السلف، ومن المؤلفين في كل فن حتى في السحر والتنجيم.
قال عنه ابن حجر: "صاحب التصانيف، رأسٌ في الذكاء والعقليات، لكنه عُري عن الآثار، وله تشكيكاتٌ على مسائل من دعائم الدين، تورث حيرة، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب (السر المكتوم في مخاطبة النجوم) سحرٌ صريحٌ، فلعله تاب من تأليفه، إن شاء الله تعالى".
مات سنة (606 هـ) بهراة.
انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 500)، ولسان الميزان (7/ 426).
سبب تأليف هذا الكتاب:
قال الفخر الرازي في مقدمته (ص 16): وقد سألني جماعةٌ من أفاضل الأصحاب، وأكابر الأحباب أن أُصنِّفَ كلاماً مُختصراً، مُلخصاً في فضائل الإمام الشافعي المطلبي، وفي ترجيح مذهبه، فصنفتُ هذا المختصر، إرشاداً للطالبين، إلى المنهج القويم، وهدايةً لهم إلى الصراط المستقيم، وسألت ربي أن يجعله سبباً للنفع في الدارين، والسعادة في المنزلتين، إنه خيرُ موِّفقٍ ومُعين، وبالإسعاف جديرٌ وقمين".
اسم الكتاب:
هو "إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم في بيان مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه"، وقد اعتمد فيه مؤلفه على كتاب "مناقب البيهقي" بشكل واضح.
وقد أفاد المحقِّق بأن هذا الكتاب مُحقَّقٌ على أربعة مخطوطات من معهد المخطوطات العربية بالكويت، وهو غير كتاب "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم الرازي، المتوفى سنة (327 هـ)، وغير كتاب مناقب الشافعي، للبيهقي، المتوفى سنة (458 هـ)".
أهميَّة هذا الكتاب:
1- أنه من الكتب الموسوعية في التراجم ؛ فذكر نسب الإمام، وذكر كل ما يتعلق به، وقد تضمن آثار وأحداث وفوائد لم تُذكر في غيره.
2- أن المؤلف هو أحد أئمة الشافعية المدافعين عن المذهب، وأنه ذكر فيه روايته عن أبيه.
3- بيان النفس الحاد بين الشافعية والحنفية في تلك الفترة التي احتدم فيها الصراع المذهبي.
4- بيان نقاط الخلاف وما جرى من الردود والاعتراضات، سواء من الحنفية أو الشافعية، ووجوه تفضيل بعضم على بعض، وطريقة المناقشات بينهم.
* ملاحظاتي على الكتاب:
1.أشار في المقدمة (ص 15) إلى ضمير الغائب (هو)، للدلالة على الله سبحانه، ورأينا في بعض العبارات مبالغة، كقوله: "إن قلتَ: هل هو هو ؟، قلت: لا هو إلا هو!!"، وهذا الكلام لا يُفيد توحيداً، ولا ثناءً على الله، وبقية كلامه جيد.
2. يؤخذ عليه تحامله الشديد على الجرجاني (ص 20- 22)، وعدُّه النسبة إلى الموالي نقيصة، وهي ليست نقيصةً في نفس الأمر، فكثيرٌ من علماء التابعين المبرزين من الموالي، وكذلك المحدثين، والفقهاء، كأبي حنيفة، والبخاري، وابن المبارك وغيرهم من الفضلاء.
3) نقله قول حرملة (ص 35): أنه قال: كان الشافعيُّ يُخرجُ لسانه، فيبلغ أنفه !. ويُعلق على ذلك بقوله: فلا جرم، فقد كان في غاية القدرة على الكلام ونهاية الفصاحة !!!.
4) زعمه (ص 106) أن أهل السُّنة حشويَّة، وأن إنكارهم لعلم الكلام يُشبه تمسُّك آزر بدينه الباطل، قال: وكذلك كل من أنكر علم الأصول وأصر على تقليد الأسلاف!!.
5) نسبة الرازي (ص 114) نفي الجسمية والجوهرية ونفي المكان إلى الشافعي بمجرد قول الإمام في خطبة كتابه الرسالة: "أنه لا يبلغ الواصفون كنه عظمته، وأنه كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه". فقال الرازي: وهذا الكلام يدل على أنه كان يعتقد أنه تعالى ليس بجسم، ولا في جهة. وإلا لبلغ الواصفون كنه عظمته. قال: وهذا القدر، وإن كان كلاماً قليلاً إلا أنه كافٍ في الغرض.
6 (زعم الرازي (ص 167) أن الإجماع منعقد على أن أخبار الآحاد ضعيفة.
7) تحامله الشديد على الإمام أبي حنيفة وأتباعه (ص 173)، وكذلك تحامله على أبي المعين النسفي، ووصفه له بالحشو والسفاهة! (ص: 175)، ومن العجيب أن الرازي يقول في نفس الموضع: "وههنا ننبه في هذا الموضع بأنه يجب أن يُستعاذ بالله من التعصب الشديد، والحب المفرط، فالحب المفرط يُعمي ويُصم، فإنه كما قيل: حُبُّك الشيء يُعمي ويُصم، فهذا المسكين! لشدة شغفه بدفع حجة الشافعي، وقع في هذه الكلمات المتناقضة".
8) إبعاده النجعة في الانتصار للإمام الشَّافعي في القسم الثالث من الكتاب، وخوضه في أمور وأشياء كان ينبغي ألا يخوض فيها، من تفضيل الشافعيِّ على أبي حنيفة بطريقةٍ توحي للقارئ بالانتقاص من قدر الإمام أبي حنيفة، وليته لم يتكلم منه بكلمة، وقد أحسن المُحقِّقُ إيراد أشياءٍ عليه في ذلك، لو قُدِّر الرازي ما استطاع دفعها، ولا أتصور أن أهل ذلك الزمان قبلوا ذلك منه.
ملحق، وفيه أمران:
أولاً: قبسٌ من حكم الشافعي ومواعظه.
ثانياً: ما قيل في الإمام الشَّافعي.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى: ما رأيت رجلا قط أعقل من الشافعي رحمه الله.
وقال الإمام يونس بن عبد الأعلى رحمه الله تعالى: لو أن عقول الناس كلهم جعلت في عقل الشافعي لغرقت عقولهم في عقله.
كيف لا وقد جمع الله له إلى رفعة النسب التنشئة الصالحة من أم عاقلة، وشيوخ ناصحين، وما اجتمع له من مجالسة كبار الرجال في عصره من أهل العلم والسياسة، وعصره من أزهى عصور الحضارة الإسلامية قاطبة وأجمعها لأفذاذ الرجال على مدى الدهر.
كما يسر سبحانه له مشافهة العرب في بواديهم، فجمع إلى كمال العقل فصاحة اللسان.
ناهيك بسفره ورحلته، وما في السفر من حكم وعبر تعلم الفدم العيي، فكيف برجل من طراز الشافعي!.
وأحببت ألا أخلي هذا الكتاب من طرف من حكم هذا الإمام ومواعظه، عسى الله ينفعني بها وقارئها؛ إنه سميع فمن ذلك ما رواه السبكي في الطبقات؛ قال الإمام المزني رحمه الله تعالى: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وقال بحر بن نصر بن سابق الخولاني: كنا إذا أردنا نبكي قلنا بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حى نتساقط بين يديه، ويكثر عجيجنا بالبكاء فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة من حسن صوته .
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول؛ وسأله رجل عن مسألة، فقال: يروى عن النبي فو أنه قال: كذا وكذا. فقال له السائل: يا أبا عبدالله، أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي، واصفر وحال لونه وقال: ويحك، أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول اللهجة شيئا لم أقل به. نعم على الرأس والعين.
وفي لفظ: متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
قال الربيع: سمعته يقول: من صدق في أخوة أخيه، قبل علله وسد خلله، وعفا عن زلله. قال: وسمعته يقول: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل.
وقال الربيع: وسمعته يقول: الكلام يقظة العقل، والسكوت نومه، فانظر كيف مراعاتك له في نومه ويقظته.
وعن الربيع أيضا: المروءة أربعة أركان: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك.
وعنه أيضاً؛ قال الشافعي: جوهر المرء في ثلاث: كتمان الفقر حتى يظن الناس من عفتك أنك غني، وكتمان الغضب حتى يظن الناس أنك راض، وكتمان الشدة حتى يظن الناس أنك متنعم.
وعن البويطي رحمه الله: قال الشافعي: لا يكمل الرجل في الدنيا إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة.
وقال الشافعي يوما لا بنه لما رأى من عجلته: يا بني رفقا رفقا، فإن العجلة تنقص الأعمال، وبالرفق تدرك الآمال.
وقال رحمه الله : الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط.
وقال أيضا: لا وفاء لعبد، ولا شكر للكيم، ولا صنيعة عند نذل.
وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: عاشر كرام الناس تعش كريما، ولا تعاشر اللثام فتنسب إلى اللؤم.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته.
وقال المزني رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: من أحسن ظنه بلكيم كان أدنى عقوبته الحرمان.
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: لا تقصر في حق أخيك اعتمادا على مودته.
وقال رجل للشافعي رحمه الله تعالى: أوصني، فقال: إن الله خلقك حرا فكن كما خلقك.
وعن البويطي، أن الشافعي قال: من نم لك نم بك، ومن نقل إليك نقل عنك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك؛ إذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك.
وقال الربيع: كنت مع الشافعي إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فقال الشافعي: من سام نفسه فوق ما يساوي رده الله تعالى إلى قيمته.
وقال رحمه الله تعالى: الحرية هي الكرم والتقوى، فإذا اجتمعا في شخص فهو حر .
وقال يونس: سمعت الشافعي يقول: التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللثام، وأرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكثر الناس فضلاً من لا يرى فضله.
وقال أيضاً: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان .
وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: سمعتُ الشافعي يقول: من كتم سره كانت الخيرة في يده
قالوا في الإمام الشافعي رحمه الله:
قال الإمام أبو ثور: ما رأيت مثل الشافعي، يه، ولا رأى الشافعي مثل نفسه.
وقال الإمام أبو يعقوب البويطي: ما عرفنا نحن مقدار الشافعي حتى رأيت أهل العراق يذكرون الشافعي، ويصفونه بوصف ما نحسن نحن نصفه، فقد كان حذاق العراق بالفقه والنظر، وكل صنف من أهل الحديث وأهل العربية والنظار، يقولون إنهم لم يروا مثل الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال الإمام المزني رحمه الله تعالى: قدم علينا الشافعي، وكان بمصر عبد الملك بن هشام، صاحب المغازي، وكان علامة أهل مصر في العربية والشعر، فقيل له في المصير إلى الشافعي، فتثاقل ثم ذهب إليه فقال: ما ظننت أن الله خلق مثل الشافعي، وكان ابن هشام بعد ذلك قد اتخذ قول الشافعي حجة في اللغة.
وكان الإمام قتيبة بن سعيد رحمه الله يقول: مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد وتظهر البدع. ثم قال: الشافعي إمام.
وقال محمد بن عبد الله بن الحكم المصري رحمه الله تعالى: ليس أبو عبيد عندنا بفقيه. قيل: لم؟ قال: لأنه يجمع أقاويل الناس ويختار لنفسه منها قولا.
قيل: فمن الفقيه؟ قال: الذي يستنبط أصلا من كتاب أو سنة لم يسبق إليه، ثم يشعب من ذلك الأصل مائة شعبة. قيل: ومن يقوى على هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى.
ويقول عنه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي.
ويقول أيضا ما رأيت أفصح منه ولا أفهم للعلوم منه.
وقال الإمام الماوردي رحمه الله تعالى: لما كان محمد بن إدريس الشافعي قد توسط بحجتي النصوص المنقولة والمعاني المعقولة، حتى لم يصر بالميل إلى أحدهما مقصرا عن الأخرى منهما، كان أرضى طريقة، وأحمد مذهبا تخصص بأحد النوعين، وانحاز إلى أحد الجهتين، فصار باتباعه أحق وبطريقته أوثق.
وقال الإمام البيهقي: فإن حسن التصنيف يكون بثلاثة أشياء: حسن النظم والترتيب، وذكر الحجج في المسائل مع مراعاة الأصول، الثالث: تحري الإيجاز والاختصار فيما يؤلفه، وكان الشافعي خص بجميع ذلك.
ويذكر عن أبي عبد الله البوشنجي: تصفحنا أخبار الناس، فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة، أوضح شأنا، ولا أبين بيانا، ولا أفصح لسانا من الشافعي ، مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله: ونحن نحمد الله الذي جعلنا مقلدين لإمام، إذا طمحت نفوسنا في وقت إلى النظر في دليل مسألة من يشرح الصدر، مسائله، أدانا النظر إلى ما كنا مقلدين له فيه، فإن ذلك مما ويطمن القلب على ما هو عليه من تقليده لهذا الإمام .
وقال الإمام داود بن علي الأصفهاني: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره:
فأول ذلك: شرف نسبه ومنصبه، وأنه من رهط النبي ة، ومنها: صحة الدين، وسلامة المعتقد من الأهواء والبدع، ومنها سخاوة النفس، ومنها معرفته الحديث وسقيمه وناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها حفظه لكتاب الله تعالى، ولأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بسير النبي عليه الصلاة والسلام وسير خلفائه، ومنها كشفه لتمويه مخالفيه وتأليفه الكتب.
ومنها ما اتفق له من الأصحاب مثل أبي عبد الله أحمد في زهده وعلمه وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي والحميدي و الكرابيسي والربيع والحارث وحرملة والمزني، ولم يتفق لأحد من العلماء والفقهاء ما اتفق له من ذلك.
وقال أيضا بعد ذكر مسألة: وهذا قول مطلبينا الشافعي الذي علاهم بنكته، وقهرهم بأدلته، وباينهم بشهامته، وظهر عليهم بحمازته، التقي في دينه، النقي حسبه، الفاضل في نفسه، المتمسك كتاب ربه، المقتدي بقدوة رسوله صلى الله عليه وسلم، الماحي لآثار البدع، الذاهب بجمرتهم، الطامس ألسنتهم، فأصبحوا كما قال الله تعالى: {فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيءٍ مقتدراً} (الكهف).
وقال أيضاً رحمه الله: الراد على الشافعي متعوب.
وروى البيهقي بسنده إلى الإمام الزعفراني قال: كنت مع يحيى بن معين في جنازة؛ فقلت له: يا أبا زكريا ما تقول في الشافعي؟ قال: دعنا لو كان الكذب له مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب.
قال البيهقي رحمه الله تعالى: وإنما كانوا يسألون يحيى عنه لما كان قد اشتهر من حسد يحيى إياه، وإفراط أحمد بن حنبل في توقيره وتعظيمه وتقديمه والاعتراف بفضله وعقله وعلمه والأخذ عنه!.
وقال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره وارتفع قدره، حتى صار منه ما صارا.
وقال العلامة الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيق "الرسالة": فإني أعتقد غير غال ولا مسرف؛ أن هذا رجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ البصر، ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة ونفوذ البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره، فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة، تأدب بأدب البادية وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله أو بعده.
وقال العلامة الشيخ علي الخفيف: وقد امتاز مذهب الشافعي بأصوله التي ذكرها صاحبه، ففصلها وناضل عنها في كتابيه «الأم»: و«الرسالة» التي وضعها في هذا الغرض، فكانت أصولاً لمذهبه مقطوعا بها غير مظنونة مروية عن الشافعي نفسه غير مستنبطة من النظر في مذهبه.