ماهية القلب
محيي الدين بن عربي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: طالما ارتبط الذوق عند المتصوفة بنوع من الحكمة الإشراقية، التي تعتمد على الإدراك الفطري للأمور، والمستقر في عمق القلب الإنساني، وبعبارة أخرى: فإن كل إنسان بتضمن بداخله نوعاً من المعرفة الإلهية، ووظيفته هي إزالة الحجب عن هذه المعرفة بواسطة الذوق، الذي يعد الوسيلة الوحيدة للحصول على هذه المعرفة، وهو ما يعبرون عنه بالشهود المباشر للحقائق، وبمقدار ما يترقى الإنسان في التعرف إلى ذاته يمكنه رؤية النور الذي بداخله، وبالتالي يتجلى الحق ويظهر بشكل أكبر.
ولا شك أن القلوب أوعية، بعضها أوعى من بعض، بحسب ما يتصل به من أنوار المعرفة الواردة إليه من نور العقل المتصل به، لقوله (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)، والمراد بالقلب هنا: بؤرة الوجدان والمعرفة، ومحل الكشف والإلهام في الإنسان، وهو العين التي يبصر بها خلالها بواطن الأمور، وما وراء الفكر، وقل بالعارف في تحرر مستمر من قيود ظلمة النفس والطباع البشرية، وباكتمال هذا التحرر يمكن القلب الاتصال مباشرة بالتجلي التام للحقيقة الإلهية.
ولذا فإن تركيز العارف يكون في الانتقال من الأسباب إلى المسبب، ومن السوى إليه هو، ومن الأشياء إلى رب الأشياء، وعلة ذلك أن العمل بحركات القلوب في مطالعة الغيوب أشرف من غيره.
وتشير نظرية ابن عربي إلى أن القلب هو الأداة التي هيأها الله للتأمل، وبه يتحقق اكتساب المعارف الباطنية، وقد أوضح ههنا ماهية المعرفة، وكيفية تحصيلها، وما هي مضامينها، ومجال عملها، وأقسامها المتمثلة في علم العقل، وعلم الأحوال، وعلم الأسرار.
وذكر ابن عربي في كتابه هذا عشرة فصول، كلها تدور على هذا المعنى، جلاها في تسعة وثلاثين حُلّة، كل حُلّةٍ منها تمثل لطيفة روحانية ومعراجاً قلبي، يترقى بها الإنسان معرفياً في مراتب الكمال والولاية، مع بيان تفصيل ذلك، وإشارات الشرع الشريف لذلك في بعض نصوصه، وتأييد ذلك بالبرهان العقلي والمثال الحسي.
ويمكن تلخيص نظرية ابن عربي فيما يلي:
1-أن القلب معنى زائد عن حقيقة المادية، يتمثل هذا المعنى فيما استودع فيه من القوة الجاذبة والنور العقلي المعبر عنه بعين البصيرة، فإذا اتصلت الأنوار كان ذلك (نور على نور)، فإذا فاضت الأنوار على النفس، واستوعبها القلب، ألقى بها إلى القوة المخيلة في الدماغ، ثم إلى القوة المفكرة التي تميز ما يصلح أن يعول عليه، ثم إلى القوة الحافظة التي تحفظه في الغيب، وانبنت عليها تصرفاته الظاهرة والباطنة.
2-اتصال الأنوار العقلية بأنوار اليقين، يفضي إلى رؤية ملكوت السماوات والأرض، فيحصل للقلب الطمأنينة في عالم الغيب كما حصل ذلك بالعيان في عالم الشهادة.
3-النفس الأمارة بالسوء تقع بين أنوار العقل وظلمات الطبع، واتصالها بأنوار العقل يرقيها في معراج القلب إلى ساحة البصيرة، التي ينكشف فيها طبيعة التكليف.
4-إذا اتصل فيض النفس بمرآة القلب، أشرق ضوؤه حتى يلتحق بعين البصيرة حال صفائها، ثم يرتقي إلى عالم العقل المتصل بالدماغ.
5-أن حسم مادة الهوى عن القلب، يكون بالاستهتار بذكر الله تعالى، والتمسك بالعروة الوثقى، والاعتصام بالحبل المتين، وتلاوة الكتاب المبين، وترك الترخص فيما يُفضي إلى الندم في الحال والمآل، وحفظ النطق من مطاعم الشبهات، والاحتراز من مظان التهم ومواقع الغرور، والتصرف بالورع الصادق، ومجانبة قرناء التخليط، وحفظ الحواس الظاهرة من مداخل الفتن، والاعتماد على الله تعالى في استقامة الظاهر والباطن، والإخلاد إليه في جميع المقاصد.
6-أن الاعتبار هو وظيفة من وظائف النفس، يعني العبور من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، أما التدبر فهو وظيفة القلب، وذلك بالاستدلال بالشاهد على الغائب، بواسطة القياس العقلي.
7-أن النفس إذا اتصفت بالأخلاق الحميدة عوضاً عن الذميمة، وتخلصت من التعلق بالحركات البدنية وما اتصل بها من الهمم القلبية، ارتقى من سعادة إلى سعادة، ومن مقام إلى مقام، يعبر عن هذه السعادات، أولاً: بالفناء عن عالم الصور، ثم الفناء عن عالم المعاني، وهو الفناء الأوسط، الذي ليس بعده إلا النهاية، وهو الفناء عن الفناء، وهو مقام الحرية؛ فإذا اتصف القلب بهذه الأخلاق الطاهرة، وتجرد عن الأخلاق النفسية، شارك الملائكة في خصوص العبودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق