الفتنة بين الصحابة
محمد حسان
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: لا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أرباب النفوس والمجاهدات، وأصحاب المعاملات والمكابدات، وما نالوا هذا الشرف العظيم، والمنزلة العالية الرفيعة، إلا بإيمانهم بالله تعالى، ومجاهدتهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم، وحبهم الشديد لهذا الدين، وقد تزينت كتب السنة الصحيحة بعبير فضائلهم، وزهر مناقبهم، فتواترت الأخبار في بيان أنهم كانوا خيرة الناس، وصفوة الناس، ولذا فإن محبتهم واجبة، وهي من فرائض الدين، فلا يبغضهم إلا منافق، ولا ينقصهم إلا شقيٌّ هالك.
ولما وقعت الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية، وبين علي وعائشة، وبين علي وابن الزبير وطلحة، كثر الطاعنون في الصحابة ودينهم، وخاض في هذه الفتنة من لا يحسن السباحة، ونازل فيها من لا يجيد النزال، واستعمل المشاققون لذلك آثاراً واهية، وردت في كتب أئمة السلف؛ كابن عساكر، والطبري، وابن كثير وغيرهم، فنقلوا هذه الآثار دونما علم ألبتة بأقوال أهل الجرح والتعديل في أسانيد هذه الآثار، وقد كان علماؤنا السابقون يدونون هذه الآثار، ويروونها بأسانيدهم، ليسهل على كل ناقل أن يستخرج الحق من ركام الباطل، وليس لأنهم احتجوا بها، أو أنزلوها منزل النص القطعي.
ومع كثرة الأخذ والرد، كان لا بد من تجلية الحديث عن هذه الفتنة الحالكة، التي بدأت بقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهن وانتهت بمقتل علي والحسن والحسين، وجمع كبير من الصحابة رضوان الله عليهم.
وقد بين المؤلف في هذا الكتاب: المقصود بالصحابي، وفضل الصحبة وكرامتها، من القرآن الكريم، وكتب أهل التفسير؛ كابن كثير والطبري، ومن السنة المطهرة، وشروحها، وأقوال التابعين، ثم بين فضائل بعضهم كأبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسامة بن زيد، وسعد بن معاذ رضي الله عنهم.
ثم عقد باباً في الفتن، بين فيه: معنى الفتنة في اللغة، ثم بيان مصدر هذه الفتن ومنبعها، ثم بداية الفتنة، وكيفية خروجها، م نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم بمقتل عثمان بن عفان على يد الغافقي والتجيبي، ودور ابن سبأ في إشعال هذه الفتنة.
ثم تحدث عن مبايعة المسلمين لعلي رضي الله عن، وما جرى في موقعة الجمل سنة 36 هـ، ثم موقعة صفين سنة 37 هـ، ثم أتم الكلام على قضية التحكيم، وتكلم على رواية "مخنف لن لوط"، ودافع عن الصحابة، وعلى رأسهم: أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان.
وتحدث أيضاً عن اتفاق الصحيفة، ثم ظهور الخوارج في جيش علي، ثم مقتل علي رضي الله عنه، ثم بعض مناقب الحسن رضوان الله عليه، والصلح الذي تم بينه وبين معاوية سنة 41 هـ.
ولعل كلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوي" يُلخص ذلك، حيث يقول:
"ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم. ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه: هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون " أ. هـ.
ويلخصه كلام ابن كثير رحمه الله في "الباعث الحثيث":
"وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع عن غير قصد، كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد، كيوم صفين. والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضاً، وأما المصيب فله أجران اثنان، وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين" أهـ.
ويقول العلامة ابن حجر العسقلاني في "الفتح":
"واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين".
وختم المؤلف ببابٍ أوضح فيه واجبنا نحو الصحابة رضي الله عنهم، ذكر فيه فصلين:
الفصل الأول: واجب المسلم نحو الصحابة، ونوجزه فيما يلي:
أولاً: اعتقاد أنهم خير الناس وأفضلهم على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل؛ وهذا صريح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)
ثانياً: اعتقاد أن الصحابة ليسوا على درجة واحدة في القدر والفضل، بل هم على درجات في الفضل والقدر وهذا حق، والمنزلة، فالنصوص الشرعية دلت على أن الصحابة –رضي الله تعالى عنهم- يتفاضلون فيما بينهم، فأفضلهم الخلفاء الراشدون، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أصحاب الشجرة، ثم من أسلم قبل الفتح، ثم من أسلم بعده، وهكذا.
ثالثاً: أنهم لا يذكرون إلا بأحَسن وبأفضل ما تنطق به الألسنة من الثناء عليهم، ومن الكلام الجميل فيهم –رضي الله عنهم، ويدخل في ذكرهم بأحسن ذكر: نشر محاسنهم، والدفاع عن أعراضهم، ووصفهم بما ثبتت به النصوص الشرعية –رضي الله تعالى عنهم-.
رابعاً: الكف عما شجر بينهم من خلاف، وعدم الخوض فيما وقع بينهم من حروب ومن نزاعات، مع التماس المخارج لهم يعني الأعذار، والمسالك الصحيحة المستقيمة تجاههم –رضي الله عنهم.
خامساً: الاقتداء بهم، والسير على منهاجهم، والأخذ ِ بهديهم، على أنه ينبغي التنبه لأمرٍ هام، وهو أنه ليس في تفضيل الصحابة بعضهم على بعض عندنا ثمرة علمية، بل هي دراسة تاريخية.
سادساً: الدعاء لهم، وذلك بالترضي عنهم والترحم عليهم، والاستغفار لهم، وذكرهم بخير، والتأسي بهم، ومعرفة فضلهم وسبقهم ومنزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبار فهمهم للدين، وتقديمه على فهم غيرهم، وسؤال الله اللحاق بهم.
الفصل الثاني: منهج المسلم في الفتن:
أولاً: الاعتصام بالله جل وعلا، والصدق في طلب العون منه؛ ليُعينك الله ويثبتك في هذه الفتن المتلاطمة الأمواج، فالمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى، والمخذول من خذله؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثانياً: تجديد الإيمان، لأن الإيمان يزيد وينقص، يضعف ويقوى، يضعف في بيئة الفتن والمعاصي، ويقوى في بيئة الطاعات، فعرّض قلبك قدر الاستطاعة لبيئة الطاعة، واجعل لنفسك ساعة تسمع عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولتجلس في مجلس علم لعالمٍ رباني أو داعية صادق؛ ليزداد إيمانك، فملازمة مجالس العلم بية خالصة توفق في الخروج من البدعة إلى السنة، ومن الحرام إلى الحلال، ومن الباطل والشر إلى الحق والخير، ومن الضلال إلى الهدى.
ثالثاً: التمسك بالكتاب والسنة والعمل بهما؛ فيجب علينا أن نحوّل القرآن والسنة في بيوتنا ووظائفنا ومصانعنا وشوارعنا إلى واقع عملي ومنهج حياة، قال تعالى: {طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرةً لمن يخشى}.
رابعاً: الثقة في وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم السنة الربانية؛ لأن شبابنا إن لم يفهموا السنن وقعوا في محنة حالكة، ألا وهي محنة القنوط واليأس من التغيير، بل ربما وقعوا في محنة الشك في الله وفي وعده ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نفهم السنن الربانية؛ لأن لله تعالى سنناً في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقومات الحياة، فالله لا ينصر ولا يمكن ولا يستخلف ولا يُعز إلا من حقق الإيمان، وهنا تزول هذه الفتنة، التي تعصف بكثير من القلوب.
خامساً: التحصن بالعبادة في وقت الفتن، لأنها أقوى سلاح يستعين به المسلم في مواجهتها، بأن يبذل قلبه وقالبه في عبادة سيده ومولاه في الوقت الذي تعصف تلك الأمور العظام بالقلب وتغشاه.
سادساً: الاستعاذة بالله من الفتن؛ فعلى العبد أن يستعيذ بالله من الفتن عند ورودها، بل وقبل ورودها، روى مسلم من حديث زيد بن ثابت مرفوعاً: (تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن).
سابعاً: المحافظة على الصلوات في جماعة، لقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}.
ثامناً: ذكر الله عز وجل؛ فالذكر من أعظم وسائل الثبات في الفتن؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
تاسعاً: الصحبة الطيبة الصالحة؛ فالصحبة قد تؤثر في الإنسان تأثيراً يتضاعف على تأثير البيت نفسه؛ فالصاحب ساحب؛ ما للثرى وإما للثريا.
عاشراً: الفرار من الفتن، والابتعاد عن أماكنها، وعدم الوقوف في وجهها، لأن ليس في ذلك شجاعة ولا ثبات، مهما ظننت أنك بلغت من الإيمان مبلغاً عظيماً، وإلا فقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على اعتزال مواطن الفتن، والفرار منها.
تتمة: سبُّ الصحابة رضوان الله عليهم عند الروافض:
ولي أن أضيف شيئاً آخر، وهو أن سب الصحابة مذهب قديم عند الروافض:
وقد بين العلامة علي القاري موقفهم، وعباراتهم الدارجة في شتم الصحابة عامة، والشيخين خاصة في كتابه "شم العوارض"، كما بين الشيخ محمد بهجة البيطار في آخر رسالته "الإسلام والصحابة الكرام بين السنة والشيعة" (ص 65 -66) موقف الرافضة المعاصرين من الصحابة، فقال: "وهذا كاتب من أوثق الكُتّاب قد زار بلادهم، ورأى فيها أشياء تُصمُّ السميع، وتُعمي البصير، ويُسأل على مثلها العافية؛ فقد كتب تحت عنوان (في بلاد الشيعة):
"جُلتُ في بلاد الشيعة -طولاً وعرضاً -سبعة أشهر وزيادة، وكنتُ أمكث في كل عواصمها أياماً أو أسابيع...". إلى أن قال: "وأول شيء سمعته، وأنكر شيءٍ أنكرته في بلاد الشيعة هو لعن الصديق والفاروق، وأمهات المؤمنين السيدة عائشة، والسيدة حفصة، ولعن العصر الأول كافة، وفي كل خطبة، وفي كل حفلة ومجلس، في البدء والنهاية، وفي ديابيج الكتب والرسائل، وفي أدعية الزيارات كلها، حتى في الأسقية، ما كان يسقي من ساقٍ إلا ويلعن، وما كان يشرب من شارب إلا ويلعن. وأول كل حركة وعمل هو الصلاة على محمد وآل البيت، واللعن على الصديق والفاروق وعثمان، والذين غصبوا حقّ أهل البيت وظلموهم، وهو عندهم أعرف معروف، يلتذُّ به الخطيب، ويفرح عنده السامع، وترتاح إليه الجماعة، ولا ترى في مجلسٍ أثر ارتياح إلا إذا أخذ الخطيب فيه، كأنّ الجماعة لا تسمع إلا إياه، أو لا تفهم غيره" انتهى.
قلتُ (الشيخ البيطار): وما هذا إلا امتداد لبغض قديم من أسلافهم للصحابة رضوان الله عليهم، حتى وصل حالهم إلى كتابة لعن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم على أبواب المساجد؛ كما في "البداية والنهاية" (11/ 240)، و"الكامل" (8/ 549).
بل كان بعض فرقهم يأخذ البغل أو الحمار ويضربه ويُعطشه ويُجيعه على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه، إيماناً منهم بتناسخ الأرواح، وكذلك يفعلون، بالعنزة على أن روح عائشة فيها؛ كما قال ابن حزم في "الفصل" (4/ 182).
بل صنف الكركي صاحب الحظوة عند الشاه طهماسب رسالة بعنوان "نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت" وكان لا يركب ولا يمضي؛ إلا والسَّبابُ يمشي في ركابه؛ مجاهراً يلعن الشيخين، ولا يزال المتشيعون يذكرون مقتل عمر رضي الله عنه إلى يومنا هذا، فيحتفلون بمقتله كل عام.
فبالله؛ كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يُشاهد فيه إلا غالياً في الحُبّ، مفرطاً في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟!
فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمانٍ قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد م الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البُغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما عملنا الله، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق