نتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار
تأليف العلامة الشيخ أبي العون محمد بن أحمد السّفاريني (1188 هـ)
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا كتابٌ نفيس تكلم فيه السفاريني رحمه الله على حديث سيد الاستغفار، وقد ذكر فيه هذا الحديث ابتداءً، وأتبع ذلك بذكر من رواه من الأئمة، وترجم لهم، وترجم للراوي الأعلى، وأوضح ما فيه من اللطائف والحِكَم والأسرار والفوائد والأحكام اللغوية والشرعية، وبيَّن وجه تسميته بسيد الاستغفار، وما تضمنه من الثناء على الله بربوبيته وألوهيته، وتحدث فيه عن السيادة بمعناها العام، وسيادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمعناها الخاص، وآداب الداعي المستحبة من تقديم الثناء على الله والذكر له، وما ينبغي أن يكون عليه الداعي بهذا الحديث من كمال الافتقار لله عز وجل، وصدق الرغبة في حصول المغفرة، مع مشاهدة منة الله وفضله، ومطالعة الإنسان لعيوب نفسه وما أودعه الله فيه من أسرار الخلق، والحكمة البالغة في تكوينه، ورؤية تقصيره في العمل.
وقد أطال السفَّاريني النفس عند حديثه عن حكمة الله في الخلق، وعظيم لطف الله في تصويره لأعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة، ومراتب الاستغفار، وأحوال المستغفرين، وقد تكلم عن كل ذلك بطريقة تذهل الألباب، وتُبهر العقول، وذكر اختلاف العلماء في مكان العقل هل هو في الرأس أم في القلب، وأن الصواب في ذلك: أن العقل منشؤه في القلب وثمرته في الرأس والدماغ.
وضمَّ إلى كتابه الرد على الفرق المنحرفة من أهل الحلول والاتحاد، كذلك الرد على النصارى، لا سيما في مباحث التوحيد، وذكر أصل الشرك ومن الذي أدخله إلى قبائل العرب، وأن شرك العرب كان من جنس شرك قوم نوح، وأن الأصنام أصلها تماثيل قومٍ صالحين.
وكل ذلك بعد مقدمة طويلة نسبياً وحافلة بالفوائد العلمية والتربوية: في الحث على طلب العلم وبيان فضله، وفضل طلبه، ذكر المحقق فضائل الاستغفار من كلام الحافظ ابن حجر، وابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر منهجه في هذا الكتاب، وتعقباته على الإمام السفاريني في بعض عباراته المنتقدة عليه، وقد أطال المحقق الكلام في الحاشية جداً في بعض المواضع، وما أحوجنا في هذا الزمان إلى الاختصار والاقتصاد وذكر الزبدة تيسيراً على القارئ.
وفيما يلي ذكر هذا الحديث، وشرحه باختصار، ويلي ذلك بيان مطالب الكتاب وموضوعاته الرئيسية.
الحديث وشرحه:
وقد رواه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهمَّ أنتَ ربِّي لا إلَهَ إلا أنتَ خلَقتني وأنا عبدُكَ وأنا على عَهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ أعوذُ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ أبوءُ لَكَ بنعمتِكَ عليَّ وأبوءُ بذنبي فاغفر لي فإنَّهُ لا يغفرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ).
وهذا الحديث يُسمى بـ"سيد الاستغفار"، والسيد هو الفاضل، أي هو أعظم صيغ الاستغفار وأفضلها، وأجمعها لمعاني التوبة والرجوع والأوبة إلى الله سبحانه. والاستغفار: هو طلب المغفرة من الله جل جلاله، ومن أسماء الله تعالى الغفّار والغفور.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (الشورى: 25)، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (البروج: 14)، وأصل المغفرة من الغفر: وهو التغطية والستر، ومغفرة الله لعباده تتضمن إلباس المذنبين أثواب العفو والتجاوز، فيُلقي عليهم سبحانه ستره الجميل، ويُقابلهم
وقد تضمن هذا الدعاء تقديم الاعتراف بالربوبية وتوحيدها، والإلهية، والإقرار لله بالخلق والتمسك بالعهد والوعد على حسب الاستطاعة، والاعتراف بالنعم، والإقرار بالذنوب واللمم، ثمَّ طلب المغفرة.
(اللَّهمَّ) أي: يا الله، والميم، قيل إنها: عوضٌ عن حرف النداء (يا)، وقيل: إنها للتعظيم. و(الله) هو الاسم الجامع لمعاني جميع الأسماء والصفات، فكأن السائل إذا قال: اللهم! كأنه قال: أدعو الله بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العُلا. ولهذا قال الحسن: اللهم مجمع الدعاء.
(أنتَ) وهذا ضمير خطاب منفصلٍ مبنيّ يُخاطب به العبد ربَّه سبحانه مُشيراً إليه بخصال التعظيم وأوصاف الجلال: (ربِّي) أي: الذي أُقرُّ له بالربوبية، فهو سبحانه وحده الخالق المالك المدبر لأمر جميع المخلوقات. وفي تعريف الطرفين (أنت ربي) إفادة الحصر، فأفاد أنه لا ربَّ للعباد إلا الله جل في علاه.
(لا إلَهَ) أي لا معبود بحقِّ في الوجود (إلا أنتَ) فيه توحيد الله بالعبادة والرغبة والرهبة والدعاء والثناء، وفيه إبطالٌ لكل معبودٍ سواه، وأن كل إله غيره عاطلٌ وباطل، وهو سبحانه الإله الحق.
(خلَقتني) والخلق هو أخصُّ أوصاف الربوبية، المتضمن لطلب الحفظ والإعانة والصيانة عن الوقوع في الذنب أو العودة إليه بعد التوبة منه أو تكراره بعد الإقلاع عنه، وذكر الخلق يُناسب الاعتراف بالذنب والتقصير في حق الله عز وجل، ويُناسب الإقرار بالتفريط في جنب الله. كذلك هو مناسبٌ في ذكر أعظم نعمةٍ منَّ الله بها على عبده وهي نعمة إخراجه من العدم إلى الوجود، ثم جعله غارقاً في أسباب النعيم، عارفاً لأسباب اللذة، مُتذوقاً لها.
(وأنا عبدُكَ) وهذه هي الكَسرة العظيمة التي يُحبها الله ويرضاها، فالله يُحب أن يرى عبده على عتبة العبودية يتملق له، ويتذلل ويتمسكن بين يديه، يبخشوع وحضور قلبه وسيلان دمعه، ولذلك قيل لبعضهم: أيسجد القلب؟ قال: نعم؛ يسجد سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة، وإذا سجد القلب هذه السجدة سجدت معه جميع الجوارح، فهو الملك والأعضاء جنوده. فنحن بحاجة إلى هذه الكَسرة التي تتمكن من القلب وتملكه حتى يصبح أسيراً بقيد العبودية، ناكس الرأس بين يدي الله عز وجل.
و(أنا عبدك) هذا الشعار العظيم فيه هذا غاية الافتقار والتذلل لله سبحانه، والعبادة لله: هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه، وتقديم الأنا في باب الافتقار والعجز جائزٌ بل مُستحب، والعبودية تتضمن الإخلاص في الطلب والقصد والرجاء؛ ثم هو ينسب نفسه إلى معبوده سبحانه وتعالى، كأنه يقول: لا أخرج عن طور عبوديتك، طوعاً ولا قهراً، فأنا عبدك الخالص في عبوديته لك سواءٌ جئتك طائعاً مختاراً أو مقهوراً مغلوباً على أمري، على حدِّ قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مريم: 93)، فأنا عبدٌ لك برعوناتي وأخطائي وأهوائي، مُقيمٌ في ساحتك، آكل من رزقك، وأشرب من مائك، وأستعين بقوتك وحولك، ولا غنى لي عن فضلك، ولا عن عفوك فطالما تكرمت علي وتحنَّنت إلي، وتوددت إليَّ. كذلك فإن الأنا فيها دعوى، وأصدق هذه الدعاوي هي دعوى العبودية لله، فإنها صدقٌ كلها، وإخلاصٌ كلها.
(وأنا على عَهدِكَ) وهذا إخبارٌ يُفيد الإنشاء والالتزام، فهذا إقرارٌ مني أن التزم عهدك الذي عاهدتك عليه من لزوم الطاعة واجتناب المعصية، لا أزول عنه ولا أحول، وإن بدر مني تقصير فليس نقضاً لذلك العهد، وإنما لضعف نفسي وقلة حيلتي في مغالبة شهوتي، وها أنا اعتذر، وأقرُّ بخطأي، ولا أتنصل من عبوديتي لك.
وأنا على (وعدِكَ ما استطعتُ) أي مُقيمٌ على الطريق الذي وعدتي في آخره بالنجاة والفوز، فاجعلني في ذمتك، ومن أهلك المرضيين، ولا تطردني من ساحات مغفرتك، فأنا شيء ورحمتك وسعت كل شيء، وأنت الذي إذا وعد وفَّى، وإذا أوعد أحبابه عفا.
(أعوذُ بِكَ) ألتجئ واحتمي واتحصن بك يا ملاذي وإلهي ومولايَ لا بغيرك، فكلُّ متعوذٍ بغيرك خائب، وكل مُعتضمٍ بسواك ناكب
(من شرِّ ما صنعتُ) أي من سوء فعلي وقصدي، وقبح جُرمي وعملي، فإن صنيعي مما أتبرأ إليك منه، لأن فيه مخالفة ومعصية لأمرك، وما فعلته إلا لهوان نفسي عليَّ، وإلا فشأنك العفو والمغفرة، وشأني التقصير والذنب.
(أبوءُ لَكَ بنعمتِكَ عليَّ) أي اعترف لك بنعمك عليّ الظاهرة والباطنة، والتي لا تُعد ولا تُحصى، وحقُّ هذه النعم شكر من أنعم بها علينا، وألا يُعصى الله بها، ولكن عصيناك بها وهذا من سوء فعلنا، ولذلك قدم الاستعاذة من سوء الفعل وقرنه بفضل الله علينا بالنعم.
(وأبوءُ بذنبي) وهذا إقرارٌ ثانٍ واعتراف بالذنب، وشأن الكريم إذا سمع الاعتذار أن يعفو ويتجاوز، نسأل الله سبحانه أن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا، ويعفو عنها فيما نستقبل، والذنب يشمل كل تقصير، وكل خطأ، وكل عيب، وكل زلة.
(فاغفر لي) يعني ذنوبي، وهذا يعمُّ كل ذنب.
(فإنَّهُ) أي الشأن (لا يغفرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ) على حد قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135). فالله هو الغفور وهو الغفار، وكما قيل:
أدعوك ربي كما أمرتَ تضرُّعاً. .. فإن رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مطالب الكتاب وفصوله:
مطلب ذكر الحديث ومن وراه وتخريج الحديث بإيجاز.
مطلب في ذكر تراجم رواة الحديث ورواية الصحابي، وفيه: موضوع علم الحديث وحده وغايته، وترجمة راوي الحديث.
فصلٌ في ترجمة الإمام أحمد، وذكر من سمع منهم، ومكانته العلمية، ووفاته رحمه الله.
مطلبٌ في ترجمة الإمام الترمذي، ومكانة جامع الترمذي، ووفاته.
مطلبٌ في ترجمة الإمام النَّسائي، ووفاته، وبعضاً من سيرته، ونسبته.
مطلبٌ: في ذكر الاستغفار وفضيلته والحث عليه.
مطلب في أن الدعاء في موضعه أفضل من غيره.
مطلبٌ في ذكر حديث الدواوين الثلاثة وبيان معانيه.
والشروط المتممة لكلمة التوحيد، وأسنان مفتاح الجنة.
مطلبٌ في ذكر سبب تسمية سيد الاستغفار بهذا الاسم، وعلى من تطلق لفظة (السيد)، وما ورد فيها.
مطلبٌ: سيادة رسول الله على البشر، وسبب تسمية الدعاء بسيد الاستغفار.
مطلبٌ في ذكر أفضلية هذا الدعاء على غيره من الأدعية، ومجمل معاني الدعاء.
مطلبٌ في آداب الدعاء المستحبة، وآداب الداعي وما ينبغي أن يكون عليه حاله عند ذكره لسيد الاستغفار، وذكر بعض أعداء الإنسان من نفسه وفي خلقه وشيطانه، وما سخر الله لحماية الإنسان من هواه وشيطانه.
مطلبٌ في بداية شرح حديث سيد الاستغفار، وتركيب كلمة (اللهم) ومعناها، والتناسب بين حروف هذا اللفظ ومعناه.
مطلبٌ: في معنى (أنت ربي)، و (لا إله إلا أنت).
مطلبٌ: في الكلام على أنواع التوحيد، واعتراف جميع الخلق بتوحيد الربوبية، وبيان فساد عقيدة النصارى والرد عليهم، وبيان عجز المتكلمين في باب توحيد الربوبية ولجوؤهم إلى دليل التمانع، وأن غالب شرك الأممم من تعظيم القبور وتماثيل الصالحين، والتشابه بين شرك العرب وشرك قوم نوح، وأن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية ويتخذون الأصنام للشفاعة.
مطلبٌ في أن المتصوفة جعلوا توحيد الربوبية غاية السالكين، وأنه لا سبيل لمن أقر بتوحيد الربوبية إلا أن يُتبعه بتوحيد الألوهية، وأن بعض الفرق الضالة تثبت للأشياء صانعاً غير الله.
مطلبٌ: في التفصيل في قوله عليه الصلاة والسلام (خلقتني)، وأحوال ابن آدم من نشأته إلى بعثه، وأحوال هذه النشأة.
مطلبٌ في: مبدأ الخلق وعجائب التكوين، والنظر في جسم الإنسان وتقسيمه، وخلق الرأس وتكوينه، وخلق الأنف وتكوينه، وخلق الفم وتكوينه، وخلق الأسنان، وخلق الشفتين، وخلق الحنجرة، وقبول شهادة الأعمى، وخلق اليدين، وخلق الأظفار، وعظام البدن وحكمته سبحانه فيها، وباطن الجسم، والقلب وتكوينه وعجائبه، ومبدأ الحواس والعقل من القلب أو الدماغ؟ والقلب أول الأعضاء تكوناً والرد على المخالف.
مطلبٌ في بيان قوله عليه الصلاة والسلام (وأنا عبدك)، وفيه: تعريف العبادة ومستلزماتها، وأن ما صرف لغير الله من العبادة شرك.
مطلبٌ في درجة العبودية وشرفها وعلو مكانة أهلها، وكونها المرتبة العظمى، ومعنى (من عرف نفسه عرف ربه)، وسعة رحمة الله وعفوه.
مطلبٌ: في كيفية نيل العبد درجة العبودية، وكون مدار العبودية على قاعدتين.
مطلبٌ في معنى قوله (وأنا على عهدك).
مطلبٌ في الفرق بين (العهود)، و(العقود)، والذمة لغةً وشرعاً، والميثاق المأخوذ على بني آدم، ومعنى (وأنا على وعدك)، ومعنى (أعوذ)، ومعنى (من شر ما صنعت)، ومعنى (أبوء لك بنعمتك عليّ)، وأركان الشكر.
مطلبٌ في نعم الله عز وجل وكونها تعمُّ جميع الخلق، وذكر الخلاف، وأقسام النعم.
مطلبٌ في أن شكر النعم يُديمها، وكفرها يُزيلها، وأقسام الذنوب، وأول أقسام الذنوب استيلاءً على الإنسان، وأقسام الذنوب بالنسبة لضررها، ومعنى (فاغفر لي)، والفرق بين التكفير والمغفرة، وبعض ما ورد في محو السيئات، ولا تُمحى السيئات من الصحائف إلا بعد أن يُوقف العبد عليها.
مطلبٌ: السيئة التي تدخل الجنة والحسنة التي تدخل النار، والعارف يسير بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس، وسعة عفو الله ومغفرته، واقتران الاستغفار بالتوبة وعدم الإصرار، وحقيقة الاستغفار ومعناه، وحالات المستغفر، واستحباب الزيادة على الاستغفار والتوبة، وصيغ الاستغفار.
مطلبٌ في: الإخلاص في ذكر سيد الاستغفار يُشهد العبد جميع منازل العبودية، وأنه لا بُد أن يكون هناك وقتاً للأوراد أول النهار وآخره، وعلة تخصيص الأوراد بالصباح والماء، وتخريج الحديث بطرقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق