تحفة الزوار إلى قبر النبيِّ المختار
للفقيه الشافعي:
أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي
تمهيد/ وردت السُّنة المطهرة بإباحة زيارة القبور عامة، وجعلت ذلك من المندوبات المستحسنة، وجاء الحث على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تُذكر الآخرة)، ولكن ذلك مُقيَّدٌ بالزيارة الشرعية، التي ليس فيها مخالفةٌ لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو نقضاً لسُنته، ولا تتضمن قول محظورٍ ولا فعل محظور، من العكوف عندها، أو إيقاد السرج عليها، أو الصلاة إليها، أو جعلها عيداً بتقصد الدعاء عندها، أو شدِّ الرحال إليها، أو الاستغاثة بأصحابها، أو الطلب منهم، وكل ذلك صيانة لجناب التوحيد؛ ومنعاً للأسباب التي قد تؤدي إلى الشرك.
ولم يمنع أحدٌ من السلف من زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية، التي ليس فيها شدُّ الرحال إلى القبر بخصوصه من الأماكن البعيدة، وإنما استحبوا أن يكون القصد في السفر إلى المسجد النبوي للصلاة فيه، ثم يشرع له زيارة قبر النبيِّ الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وعليه؛ فزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ مستحبَّةٌ بإجماع المسلمين، ولكن ينبغي لمن أراد زيارته ألا يقصد مجرد السفر إلى القبر، وإنما يقصد زيارة مسجده وتأتي زيارة القبر تبعاً، أو يقصد زيارة المسجد والقبر، وحينئذٍ لا حرج في ذلك، وقد كره جماعةٌ من السلف قصد القبر بالزيارة وشد الرحال إليه، لأن ذلك من اتخاذه عيداً، كذلك لا يمسّ القبر بيده، ولا يلتزمه، بل يُحافظ على مسافة بينه وبينه كما كان الصحابة يفعلون في حياته.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى شاء وقدّر أن يكون القبر الشريف في المسجد، فما الضير أن يقصد المسلم في سفره: مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل المسجد وصل إلى القبر الشريف، ولكن:
من نوى وقصد بسفره المسجد فقد أصاب السنة،
ومن قصد القبر ونوى السفر إليه دون المسجد؛ فقد وقع فيما نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم،
بخلاف زيارة قبر الصالحين والأولياء، فإن شدَّ الرحال إليها للزيارة بدعةٌ منكرة، ومعصيةٌ ظاهرة،
وأما قبره صلى الله عليه وسلم فلا يوصل إليه لأنه محجور، ولن يصل المسلم إلا إلى المسجد حقيقةً.
كذلك فإن فضيلة المسجد النبوي الشريف ثابتة قبل دخول القبر الشريف، ولم تزد فضيلته بدخول القبر الشريف فيه، ولو لم يدخل القبر الشريف فيه ما نقص ذلك من قدر المسجد شيئاً، فإن الأحاديث التي ثبتت في فضله وتضعيف الصلاة فيه، وأنه أسس على التقوى، قالها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قبل أن يكون هناك قبرٌ أصلاً.
ومن ظن أن المسجد لم يكن فاضلاً إلا بدخول القبر فيه، فهو جاهلٌ يُعلم الحق والصواب، ولا يُحتج بقوله إلى قول دليل على سقوطه وترديه.
ويبدأ الزائر للقبر الشريف بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله المسجد، من أيِّ مكانٍ في المسجد، ويصلي ركعتين تحية المسجد، ومن ثم يأتي مكان القبر ويُسلم على النبي، ويُثني عليه بما هو أهله، وبعد ذلك يذهب إلى مكان في المسجد النبوي، ويشتغل بقراءة القرآن، أو بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله له بالوسيلة والفضيلة ورفعة المقام، ويسأل له المقام المحمود.
ويحرم الإحداث وفعل البدع في مسجده، ويحرم الغلو في مدحه والثناء عليه عند قبره الشريف، فهو صلى الله عليه وسلم خير الخلق، وأعلاهم منزلةً ومقاماً، ولكن ليس له من أمر الربوبية شيء، ولا من أمر الخلق والتدبير شيء، فلا يُدعى، ولا يُستغاث به، ولا يُطلب منه تفريج الكربات، أو دفع الضر، أو شفاء المريض، ونحو ذلك التي هي من أذيته صلى الله عليه وسلم، وصرف حقٍّ من حقوق الله إليه.
وكذلك يحرم ما يفعله المبتدعة من دعائه والطلب منه؛ لأن هذا شركٌ من شرك أهل الجاهلية، ويُكره تقصُّد الدعاء عند القبر، لأنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين له خصوصية عن غيره، ولا جاء ذلك عن أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحدٍ من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيدة، ولا مشايخهم الذين يُقتدى بهم؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وأمثالهم.
ومن يعتقد أن الدعاء عنده أفضل من الدعاء في أي موضع آخر فهو مبتدع، فإن هذا من التقوُّل على الله وعلى شرعه بغير دليل؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقفوا على قبره الشريف للدعاء عنده، وليس الظن بهم أن يتركوا شيئاً سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ذلك سُنة، ولا يدعوا شيئاً حظره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما لم يعرفوا هذا الأمر، ولا فعلوه ولا أمروا به، وهم أشدُّ الناس محبةً له، وحرصاً على اتباعه، دلَّ ذلك على أن هذا الأمر غير مشروع، بل إنهم تركوا ذلك تعظيماً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على امتثال أمره ونهيه، ولذلك نجد أن منهم من أُصيب بالأمراض المختلفة والجراحات المتعددة والشدائد المتنوعة، ولم يثبت عن واحدٍ منهم أنه جاء القبر الشريف للدعاء عنده، وهذا هو الظنُّ اللائق بهم رضوان الله عليهم، أنهم لم يتركوا العمل بالسُّنة، ولا خالفوا لنبيهم أمراً، ولم يبتدعوا في دين الله شيئاً يُضاهي شريعته وسنته، وهذا هو الحق المُبين الذي لا معدل عن اعتقاده.
وقد بيَّنت السُّنة النبوية صفة الزيارة الشرعية للقبور، وأنه يسلَّم على أصحاب القبور، ويدعو لهم، لا أن يقصدهم في قضاء الحاجات ولا إزالة الكربات من دون الله عز وجل؛ لأن هذا من الشرك المحرم، وفعل مثل هذه الأمور عندها أعظم من اتخاذها عيداً للزيارة، والتي يجتمع حولها الزوار، ويحتفل عندها المحتاجون، فيطلب كل منهم مسألته، وهذه مصادمة صريحة لشرعته وسُنته صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الكثيرة التي ثبتت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتي يقول فيها: (لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً).
وفي المقابل جاءت نصوص كثيرة في النهي عن شد الرحال إلى القبور أو المبالغة في تعظيم القبور؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، وحرم الإسلام وسائل ذلك من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مسجداً، وإيقاد القناديل عليها، واتخاذ السرج لها، وجعلها أعياداً يجتمع حولها الناس كما يُجتمع للعيد،
وقد تعرض الهيتمي -رحمه الله تعالى -في كتابه هذا-إلى مواضيع متعددة في باب الزيارة النبويّة، منها ما يُوافق عليه، ومنها ما لا يُوافق عليه؛ كسائر كتب أهل العلم في هذا الباب، والميزان الدقيق في ذلك هو كتاب الله عز جل، وسنة النبيِّ عليه الصلاة والسلام، والآثار الصحيحة الواردة عن الصحابة والتابعين، وما كان عليه أئمة السلف.
فأما المقبول من كلامه فهو ما وافق الشرع الحنيف مثل قرنه في (الباب الثاني) بين قصد زيارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع قصد زيارة مسجده، وفي ذلك يقول: (الباب الثاني في تأكد مشروعية زيارة وقربها من درجة الوجوب، وشد الرحال إليها وإلى المسجد النبويّ الذي حوى المطلوب).
وأما كلامه الذي يُخالف الشرع فإننا نردُّه عليه قولاً واحداً؛ لأنه من البدع الحادثة التي أنشأها المتأخرون، وتعاقبوا على تقريرها، وليس لهم فيها سلف، والأقوال الواهية التي تقدح في عقائد الإيمان الثابتة، كالقول "بحياة الأنبياء في قبورهم حياةً كاملة كالتي في الدُّنيا"، والصحيح أن حياتهم في قبورهم هي حياةٌ برزخية وهي أكمل من حياة الشهداء.
وحاول الهيثمي أن يتأول حديث: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي) ليثبت أن إعادة الروح هنا للجسد لا يعني بعثاً جديداً، وإن كان محصل كلامه هو أن النبي يُبعث في قبره قبل يوم القيامة، وأورد هذه الوجوه السيوطي في كتابه "غتحاف الأذكياء بحياة الأنبياء".
ولا شك أن التمسُّك بالسُّنن والاقتصار على الزيارة الشرعية من أسباب النجاة والفوز والفلاح، ومن أسباب تحصيل رضا الله عز وجل، والبعد عن سخطه وعقابه، ولم يخل هذا الكتاب من الخلط واللبس والشُّبه، وفيه من الحق الشيء الكثير إن شاء الله تعالى.
وكذلك تعرض لمسألة (نذر الزيارة للقبر الشريف)، ونقل عن ابن كج أنه يلزمه الوفاء به. وأما قبر غيره، ففيه وجهان. وبه قطع السُّبكي في "شفاء السُّقام"،
كذلك دعواه (التوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم) حيَّاً وميّتاً، وغلوه المُفرط في ذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالتوجه إليه والاستغاثة به، مخالفاً هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). ونلاحظ تقصير المؤلف في توحيد الله عز وجل وإخلاص العبودية له في هذا الباب تحديداً، وذلك بدعواه التوجه والاستغاثة بغير الله، هذا مع أن الذي جاءت به الرسل من نوحٍ عليه السلام إلى خاتمهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله سبحانه في القصد والطلب، والدعاء والثناء.
وتعرض لمسألة (شدِّ الرحال وإعمال المطيِّ بقصد زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم) الذي أوصلها إلى درجة قريبةٍ من الوجوب تبعاً لبعض متأخري الحنفية، وكذلك تطرق إلى آداب المجاورة بالمدينة، والمساجد، والآثار التي ينبغي زيارتها.
وقد أسرف الهيتمي على نفسه حين تعدى قواعد أهل العلم في الحكم على أحاديث هذا الكتاب؛ فحسَّن أحاديث واهية وضعيفة، وردَّ الصحيح الثابت بالآثار المقطوعة والمنقطعة، كذلك الدعاوي العارية عن الصحة، كما أنه أنشأ كلاماً من عنده ونسبه لأهل العلم بطريق الحكاية مبهماً من قاله، وموهماً كذلك من سمعه.
كذلك نقله لأشعار الغُلاة من القبوريين على سبيل الاستدلال الإشاري فيما ذهب إليه من البدع العملية، وعدم تفريقه بين التوسل والاستغاثة والتوجه والتشفع، وكل هذه الألفاظ لها دلالاتها وحقائقها الشرعية المتباينة، والتي يختلف الحكم فيها من واحدٍ لآخر؛ فماذا يقول الهيثمي عن الأنبياء الذين يزعم في أشعاره المنقولة استغاثتهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا من الباطل والكذب، والقصيدة التي أوردها في ذلك (95) من الباطل الكثير الذي حشا به كتابه، وهذا ديدن البدع التي فقدت نور الدليل، فقامت في لجج الظلمات المتراكمة يركب بعضها بعضاً، حتى إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
بالإضافة إلى ذكره المنامات التي فيها غلو كثيرٌ وبدع، كما أن في كلامه كثيرٌ من الباطل، منه ما هو واضح البطلان في دين الله تعالى، فالإنسان مؤاخذٌ بما يصدر عنه من الآثام والمعاصي، حتى لو كان في أعلى درجات المحبة للأنبياء والصالحين.
وماذا ينفع المُحبُّ أن يسجد للقبر أو يطوف حوله أو يُقبل جداره، وليست المحبة مما يرفع التكليف الشرعي عن المخاطب إلا أن يكون مجنوناً ذهب عقله، ولم يعُد يُميز بين الكاف واللام، والخروج عن حدود الشريعة بحجة الاستغراق في المحبة والشوق كلامٌ فارغ، وفتحٌ لباب التحلُّل والانسلاخ من الدين، وما أكثر الأدعياء في عصرنا، وفيمن قبلنا.
وقد حاول الهيثمي رحمه الله أن يُدلل إلى ما ذهب إليه بكل ما قدر عليه من حجج وبراهين، ولكن جملتها هي أحاديث واهية وضعيفة غير منجبرة أو موضوعة، وكذلك جاء كتابه مدججاً بالحكايات والقصص والمنامات التي لا يثبت بها حكم، ولا تصلح دليلاً شرعياً (ص 118 -)، فيورد حكاية عن أحد الناس يشكو مرضه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيشفى، وآخر يشكو جوعه فيأتيه الطعام، وثالثٌ يشكو دينه فيأتيه ما يسدُّ به دينه، وآخر يشكو إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظلماً وقع عليه من بعض الناس فيُعاقب الظالم فوراً، وآخر يتمنى ثريداً فيأتيه الثريد والسمن واللحم! والعجيب أن كل ذلك يحصل بعد منامٍ أو رؤيا، على أن الملاحظ في صانع تلك القصص من بلاد مصر.
وكل هذه الحكايات لا تمتُّ إلى دين الإسلام، ولا إلى هدي النبيِّ وطريقته بصلة، وشأن الهيتمي في إيراد مثل هذه القصص شأن كثيرٍ ممن تكلم في هذه المسألة، الذين أعيتهم الأدلة فلجأوا إلى مثل هذه الحكايات والخرافات حيث لم تسعفهم أدلة الكتاب والسُّنة الصحيحة.
وقد نقل المصنف كلام النووي وفيه الإجماع على عدم جواز لمس القبر الشريف، ولكن الهيتمي عارضه بقول من هو أقلُّ درجةً في العلم: السمهودي (ت 911 هـ)، والسُّبكي (ت 756 هـ)
نسبة هذا الكتاب إليه:
وهذا الكتاب تفرد بنسبته إليه إسماعيل باشا البغدادي (ت 1339 هـ)، صاحب "إيضاح المكنون"، و"هدية العارفين"، انظر: الإيضاح (1/ 249)، والهدية (1/ 249).
وقد رتبه الهيثمي على مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة.
فالمقدمة: في ذكر آداب السفر والزيارة.
وأما الأبواب:
فالباب الأول: في ذكر الأحاديث الواردة في الزيارة.
والباب الثاني: في تأكد مشروعيتها وقربها من درجة الوجوب.
والباب الثالث: في توسل الزائر وتشفعه بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال إلى ربه سبحانه وتعالى، وذلك في أربع أحوال (أول الخلق، وفي الدنيا، وفي البرزخ، وفي القيامة)، وفيه من الأمور المنكرة والروايات الباطلة الشيء الكثير.
والباب الرابع: في آداب المجاورة بالمدينة والمقام بها، وبركة مدها وصاعها، وغيره كما وردت به الآثار التي يُتبرك بها، وزيارة المساجد المأثورة بها: كمسجد المدينة، ومسجد قباء، ومسجد الجمعة (بني النجار)، ومسجد الفضيخ، ومسجد بني قريظة، ومسجد بني الظفر، ومسجد سلمان الفارسي، ومسجد أبي بكر الصديق، ومسجد بني حرام، ومسجد القبلتين (بني سلمة)، ومسجد ذباب (الراية)، ومسجد أحد، ومسجد الرماة، ومسجد الوادي، ومسجد السافلة، ومسجد البقيع، ومسجد ومسجد السقيا، ومسجد بئر غرس، يذكر في كل ذلك "فضله، وبناءه، وحدوده" والآبار وهي عشرين بئراً مأثورة، والمعروف منها الآ سبهة، وما يُقال عند الخروج منها.
وقد نظم بعضهم هذه الآبار بقوله:
إذا أردت آبار النبيِّ بطيبة … فعدتها سبعٌ مقالاً ولا وهن
أريسٌ، وغرسٌ، رُومةٌ، وبِضاعةٌ … كذا بصّة قل بئر جامع العهن
وذكر ما جاء في تمر المدينة، ولم يثبت في هذا شيء.
وأما الخاتمة: فذكر فيها المنبر الشريف، وحدود المسجد النبوي، وما فيه من الآثار وحدود المسجد النبوي، وما زيد فيه من السواري الواردة فيها الأخبار، وأسمائها، وبنائها.
****
ذكر بعض آداب الزيارة
قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام) الحديث.
قال النووي: فينبغي المحافظة على الصلاة فيه فإن لفظ الإشارة تقتضي الحصر فيما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم.
ومن آداب الزائر أن يتجنب لمس القبر الشريف، وتقبيله، والطواف به، والصلاة إليه.
قال النووي رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يطوف بقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الحليمي: يكره إلصاق البطن والظهر بجداره، وكذا مسحه بيده وتقبيله، والسجود عليه، بل من الآداب أن يبعد عنه، كما كان يبعد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -لو كان حياً.
هذا هو الصواب: وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ومن خطر بباله أن المسح ونوه أبلغ في البركة فهو من جهالته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع، وأقوال العلماء؛ لأن المس والتقبيل من فعل النصارى واليهود.
كما ورد النهيُ عنه. قال الزعفرانيُّ: إن وضع اليد على القبر ومسّه وتقبيله من البدع التي تُنكر شرعاً.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً وضع يده على قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فنهاه، وقال: "لا نعرف هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأنكره مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى أشدَّ الإنكار.
وقال ابن عساكر: ليس من السُّنة أن يمسَّ جدار القبر المطهر المقدس، ولا يُقبله ولا يطوف به كما يفعله الجهال، والوقوف من بُعد أقرب إلى الاحترام وإلى القبول والإكرام.
وروي عن نافع: أن ابن عمر كان يكره أن يكثر مسَّ قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُلمس أو يُتمسّحُ به؟ قال: ما أعرف هذا، قلتُ: فالمنبر. قال: أما المنبر فنعم؛ فإنه جاء فيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مسح المنبر بيده.
وروي عن يحيى بن سعيد -شيخ الإمام مالك رحمهما الله -لما أردت الخروج إلى العراق، جاء إلى المنبر فمسحه، ودعا.
وقيل لأبي عبد الله: إن أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون القبر، ويقفون ناحيةً، ويٍُلمون؛ فقال: ونعمَّ هذا.
وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك، نقله ابن عبد الهادي عن ابن تيمية. وفي روايةٍ: عن عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما، قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسُّ منبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويتبرك به ويُقبله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله، قال: لا بأس به. (وهذا لا يثبت عن الإمام أحمد، كما ذكر ذلك الحافظ في "الفتح"، وابن تيمية في "المجموع").
قال الهيتمي: ومن آداب الزائر أن يتجنب الانحناء عند التسليم كما فعله الأعاجم؛ فإنه من البدع المستنكرة، ويظنُّ من لا علم له أنه من شعار التعظيم.
وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر؛ فإنه من البدع المنكرة، ولم يفعله أحدٌ من السلف الصالحين، والخير كله في الاتباع.
ومن خطر بباله أن ذلك أبلغ في البركة؛ فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأفعال السلف وأقوالهم.
والعجب كل العجب ممن أفتى بتحسينه، واستشهد لذلك بالشعر، وخالف أقوال السلف وأفعالهم.
ومن آدابه أيضاً أن لا يمرَّ بقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى يقف ويُسلم عليه سواءً كان مروره من داخل المسجد أم من خارجه، وأن يُكثر من قصده وزيارته مُدة إقامته.
ونقل إمام الحرمين عن شيخة: أنه أفتى بالمنع في شد الرحال لما سوى المساجد الثلاثة، وكان يقول: يُكره أو يحرم.
وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم ولا يُكره، وإنما أبان النبي صلى الله عليه وسلم أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة وما عداها فليس بقربة.
وقال السُّبكي: إن قصد بذلك التعظيم، فالحق ما قاله الشيخ أبو محمد؛ لأنه تعظيم ما لم يُعظمه الشرع، وإن لم يقصد مع عينه أمراً آخر فهذا قريب من العبث؛ فيترجح ما قاله الشيخ أبو علي.
وذهب الداودي: إلى أن ما قرب إلى هذه المساجد الفاضلة فلا بأس بإتيانه ماشياً، وراكباً، استدلالاً بمسجد قباء؛ لأن شد الرحال لا يكون لما قرب غالباً.
وقال القاضي عياض:إنه إنما يمنع إعمال المطي للناذر، ومذهبنا ومذهب الجمهور إنه لا يصحُّ نذرُ ما سوى المساجد الثلاثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق