شفاء السالك في إرسال مالك
لأبي الحسن علي بن سلطان محمد القاري الحنفي
المعروف بـ: ملا علي القاري (ت 1014 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذه رسالة لطيفة في تحقيق مسألة شريفة تتعلق بوضع اليدين في الصلاة، حقق فيها مصنفها أن الأحاديث مثبتة لهذه السنة فعلاً وتقريراً، وأنه ليس عند من نفاها دليلٌ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سدل يديه أو أمر بإسدالهما.
وقد نسب بعضهم القول بالسدل إلى الإمام مالك رحمه الله! مع أن الثابت المشهور عنه خلافه.
وقد جاء في رواية ابن القاسم عنه: أنه يرى كراهة وضع اليدين على الصدر في الفريضة، وجوازه في النافلة. وقيل في توجيه ذلك: أن الكراهة تتعلق فيه للاعتماد على اليدين في الصلاة، وقد جاء النهي عنه.
ويقول الباجي من كبار المالكية: "وقد يُحمل قول مالكٍ بكراهة قبض اليدين على خوفه من اعتقاد العوام أن ذلك ركنٌ من أركان الصلاة، تبطل الصلاة بتركه".
وفي رواية أخرى عن أشهب ومطرف وابن الماجشون وغيرهم عن مالك: أنه لا بأس به في الفريضة والنافلة. وقال ابن رشد بعد أن ذكر هذه الرواية عنه: "وهذا هو الأظهر، وهو ما كان عليه الناس في الزمان الأول".
وقال ابن عبد البر: "لم يزل مالكٌ يقبض حتى لقي الله عز وجل"، والقبض سُنَّة على المشهور في مذهب المالكية.
وقيل: إن سبب إرسال مالك أن الخليفة المنصور ضربه على يديه؛ فشُلّت، فلم يستطع ضمّها إلى الأخرى، لا في الصلاة ولا في غيرها.
وبالإجمال فقد اتفق الفقهاء على أنَّ من وضع يديه بأيِّ هيئةٍ من الإرسال أو القبض أن صلاته صحيحة، لأن الخلاف فيها من قبيل السنن وليس الواجبات، وقد أثبت المصنف هذه السنة، واعتذر عن الإمام مالك في تركها دفعاً للملامة.
واختلفوا في أيُّ صفات قبض اليدين أقرب إلى السُّنة، وأحسن ما رُوي في هذا الباب هو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وضع يديه على صدره، وهذا الحديث وإن كان فيه كلامٌ لأهل العلم، إلا أنَّ الإمام الألباني حسَّنه من طريقين أحدهما مُرسلٌ، والآخر منقطعٌ، وصححه ابن القيم في زاد المعاد أيضاً، والنوويُّ في المجموع، وابن خزيمة، وابن حبان، وضعفه غيرهم، وأما قضية السدل فهي ضعيفة اتفاقاً،
ويُستدل للقبض بأحاديث، منها:
1- حديث قبيصة بن هُلبٍ عن أبيه -رضي الله عنه، قال: «رأَيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه وعن يساره ورأَيته يضع يده على صدره». رواه أَحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، وحسَّنه الترمذيُّ بشواهده، وأقرَّه النووي في المجموع.
2- حديثُ وائل بن حجر؛: «أَنه - رضي الله عنه - رأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره». رواه ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي في سننه. وهو حديثٌ حسنٌ بشواهده، سكت عليه ابن حجر في "الفتح"، و"التلخيص"، ومقتضى شرطه في ذلك أن يكون صحيحاً أو حسناً، وساقه ابن القيم في "إعلام الموقعين" محتجاً به.
وقد اشتد بعض المُقلدين على الإمام القاري كونه يُنكر قضية السدل؛ كالمُحبي، والعصامي -اللذان أثنيا على علمه وأشادوا بفضله، ولكنهم أنكروا عليه هذه القضية، ولا شك أن هذا الإنكار لا يضرُّه؛ إذا وضع اليدين على الصدر سُنَّةٌ ثابتةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عنوان الخضوع والتذلل بين يدي الله عز وجل، كما أن الإمام القاري أظهر هذه السُّنة في مقام بيان العلم، وليس في مقام الإزدراء أو الإساءة أو الانتقاص، كما أن الاختلاف في الفروع سائغ، ما دام المختلفون ينشدون الحق وغايتهم العمل بالدليل.
وقد ردَّ لإمامين الشوكاني، والأمير الصنعاني على العصامي والمُحبي وبيّنا تعصُّب هؤلاء، وبعد كل ما تقدَّم: أفليس اللائق بعد كل ما سبق أن يترك إخواننا المالكية ملازمة الإرسال، ويوافقوا بقيَّة المُسلمين في القبض؛ فإن هذا أفضل لهم وأنفع، وأكثر ثواباً وأجراً.
خاتمة
ومما يحسن ذكره في هذا الباب أنه يُستحبُّ للرجل أن يتمذهب بمذهب فقهي مُعين، فيُتقن فروعه وأصوله، وطرق الاستدلال والبحث فيه، على أن لا يترك طلب الحديث والسُّنة، لأن أهل الحديث يتميزون عن غيرهم بأمور منها:
أولاً: لا يتعصبون لأحد من الأئمة، ولا يهضمون حق أحد منهم، فضلاً عن تجريحه.
ثانياً: يأخذون الأحكام من النصوص، مستعينين على فهمها بفهم الأئمة، فمحورهم النصوص، وطريقهم إليها علماء الأمة.
ثالثاً: الأصل عند أهل الحديث الجمع بين النصوص، لا قبول بعض ورد بعض، فتراهم يسعون جاهدين للتوفيق بين النصوص، والأخذ بها جميعاً.
رابعاً: أن أهل الحديث في كل مسألة، هم فيها وسطٌ بين الغالين والجافين، لأنهم اتخذوا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم مسلكاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق