أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 5 فبراير 2021

المطالب المنيفة في الذي عن أبي حنيفة

المطالب المنيفة في الذب عن أبي حنيفة

السيد مصطفى نور الدين الواعظ الحسيني الحنفي 

مطبعة الآداب -العراق، 1329 هـ

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ لا ريب ولا اشتباه بأن لكل مذهب من المذاهب الإسلامية الأربعة مدرك لطيف، وقواعد راسخة، تُفرّع عليها المسائل، وتستنبط بها الأحكام، وكلٌّ منهم يستند إلى دليلٍ صحيحٍ عنده، ويعضد قوله بأثرٍ ثابت لديه، ولكن الخطأ وارد عليهم؛ إذ العصمة لهم غير ثابتة، وبعض أصولهم لا يُوافقون عليها، فالخلاف مع الأدب سائغ، والفروع تتجاذبها القواعد وطرق القياس، مداً وجزراً، صحةً وضعفاً، والمنشود هو إصابة الحق بالدليل.

ثم إن دراسة الفقه وفق مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة -مع كونه أمراً حسناً -إلا أنها تحتاج من الطالب إلى أمورٍ أهمها: (التجرُّد من أيِّ عصبيَّةٍ مقيتة) تُهين المُخالف وتزدريه، ويكون الباعثُ عليها الحسد والحقد والأضغان. و(الإنصافٌ الذي يحمل صاحبه على قبول الحقِّ من أي وجهٍ جاء، ومن أي طريق أتى) إذا كان يسنده الدليل الشرعي الصحيح. و(وجوب ذكر الأئمة بالخير، وحسن الثناء عليهم، والترضي عنهم)، واعتقاد أنهم لو سلمت لهم طرق الأدلة، وصحَّ عندهم وجه الدليل لقالوا به، ولكن جلَّ من لا يسهو، فهم الأئمة المجتهدون الذين حرَّروا الأحاديث، ونقَّحوا الآثار، وأخذوها من معدنها، وعن رواتها، مع ما عندهم من عدلٍ وورع وتقوى وعبادة واحتياط في دين الله سبحانه، يوجب لهم حسن الظن.

وعليه؛ فإن مخالفة الطالب النبيه للمذهب الفقهي في بعض مسائل الفروع لدليلٍ سائغٌ جداً، بل واجبٌ لمن تحققت معرفته بتلك المسألة، وعرف وجه الصواب فيها، إذ الإصرار على الخطأ كبرٌ وعناد، والموفق هو من ألهمه الله الصواب، فسدَّد وقارب، واتبع ولم يبتدع.

وهذا الكتاب جاء للرد على قصة صلاة القفال الشاشي بين يدي السلطان محمود بن سُبكتيكين على مذهب أبي حنيفة، والذي تحول على إثرها إلى مذهب الإمام الشافعي. 

وبين السيد مصطفى الحنفي أن هذه القصة مكذوبةٌ ومُفتراة على أبي حنيفة، وقد أظهر استياءه من ذكر ابن خلكان لها في "الوفيات" في نقله مثل هذه القصة، التي اتخذها الغلاة وسيلةً للطعن في أئمة المذاهب، والسخرية منهم، وكذلك ذريعةً للطعن في العلماء المُقتدى بهم، وقد ذكرها "نعمة الله الجزائري" في "زهر الربيع"، ونقلها بعض نصارى المشرق على سبيل التهكم بالملة الإسلامية، وردَّ عليها ردَّاً مُفصّلاً، يأتي.

القصة التي ذكرها ابن خلكان في الصلاة عند الحنفية

ذكر القاضي ابن خلكان في "وفيات الأعيان" في ترجمة أبي القاسم محمود بن ناصر الدولة سبُكتكين الملقب بـ"سيف الدولة" من حكاية صلاة القفال الشافعي على مذهب الحنفية، ونصُّها: أن هذا السلطان كان يستفسر الأحاديث؛ فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي، فجمع الفقهاء من الحنفية والشافعية ، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يُصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي وعلى مذهب أبي حنيفة، لينظر السلطان، ويختار ما هو أحسنها، فصلى القفال الشافعي المروزي بطهارةٍ مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجوه الكمال والتمام، وقال: هذه صلاة لا يجوِّزُ الإمام الشافعي دونها.

ثم صلى ركعتين على ما يُجوّز أبو حنيفة: فلبس جلد كلبٍ مدبوغ، ثم لطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في حميم الصيف، في المفازة واجتماع الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكساً منعكساً، ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نيةٍ في الوضوء، وكبّر بالفارسية، ثم قرأ آيةً بالفارسية، ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصلٍ، ومن غير ركوعٍ، وتشهد، وضرط في آخره من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان: لو لم تكن صلاة أبي حنيفة لقتلتك؛ فأنكرت الحنفيّة أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السلطان كاتباً نصرانياً يقرأ كتب المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة، على ما حكاه القفال) انتهى بلفظه.

دفاع السيد مصطفى عن الإمام أبي حنيفة

وردِّه على القفال الشافعي

وبين السيد مصطفى أن الإمام أبو حنيفة كان له الاحتياط التام في باب الطهارة والمياه، واشتهر عنه أنه كان لا يُصلي في الثوب الذي يتوضأ به؛ لقوله بنجاسة الماء المستعمل أولاً، وذهب في الآخر إلى القول بطهارته تخفيفاً، ولا يجوز التطهير به.و لم يقل بطهارة الجلد المدبوغ عن رأيه غير مُستندٍ إلى دليلٍ من الأدلة الشرعية، وحكم بالعفو عما دون ربع الثوب المتنجس بالنجاسة الخفيفة لا المغلظة (والنجاسة الخفيفة كبول مأكولا اللحم، خلاف الغليظة كبول الإنسان وغائطه)، وإنما أجاز ذلك لعموم البلوى، والحرج، وعُسر الاحتراز عن ذلك.

وأباح الوضوء بنبيذ التمر عند عدم وجود الماء المطلق؛ كالتيمم بالتراب عند عدم الماء لا مطلقاً، واشترط لذلك: كون مائه رقيقاً وسائلاً أم المشتد من النبيذ والمتغير اللون تغيُّراً فاحشاً؛ فلا يجوز الوضوء به.

وأما وضوءه المُنكَّس المُنعكس؛ فلأن الترتيب عنده سُنَّة، ويروى أثرٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بعد أن غسل رجليه، فلم يقل بسقوط الترتيب في الوضوء تحكُّماً، بل لما صحَّ عنده من الأدلة السمعية "الشرعية"... 

وأما تركه النيَّة في الوضوء؛ فلأن حديث: (الأعمال بالنيات) عنده على تقدير: ثواب الأعمال وأجرها، وهذا أمرٌ أخروي، ولأن هذا الحديث ظنيُّ الثبوت، فهو يُفيد السُّنية لا الوجوب.

وجوّز الصلاة بالقراءة الفارسية ضرورةً، ولقوله تعالى: {وإنه لفي زُبر الأولين}، قال: وهذا يقتضي أن معانى القرآن موجودةٌ في الكتب السابقة، وهي بلغةٍ غير لغة العرب، فصحَّ القراءة بها. كما أنه وإن قال الإمام أبو حنيفة بجواز القراءة بالفارسية لمن يُحسن العربية مع الكراهية التحريمية؛ فإنه رجع آخراً إلى عدم الجواز لمن يُحسن العربية.

وأما قوله: ناقراً نقر الديك بلا ركوعٍ، أي يسجد سجدتين من غير فصلٍ بينهما، ومن غير ركوع؛ فهذا افتراءٌ وجهلٌ أو تجاهلٌ وتعصُّب، وهل يتصور أن أحداً يعدُّ الصلاة على هذه الهيئة القبيحة صلاة؟ وهل يعقل أن أحداً يجهل أن الركوع ركنٌ لا تتم الصلاة إلا به ؟ وهل يقول مسلمٌ أن الصلاة بلا ركوعٍ أو سجودٍ صحيحة، وشرائط الصلاة وأركانها التي اتفقت الأمة وأجمعت عليها الأئمة الأكثر منها ثابتٌ بالكتاب، والبعض منها ثابتٌ بالسنة المتواترة .

فالصلاة عند أبي حنيفة بلا طمأنينة -وإن كانت صحيحة، إلا أنها ناقصة الواجب؛ فيجب قضاء تلك الصلاة إن ترك ذلك عمداً، وإن يُعدها كان فاسقاً آثماً، هذا إذا ترك الاعتدال بعد الركوع والسجود، وأما السجود كنقرة الديك من غير فصلٍ بين السجدتين، وبلا ركوعٍ؛ فهذه باطلة بالاتفاق.

وأما قوله: يتحلّل من صلاته بتعمُّد الحدث، وأنه تشهَّد وضرَّط في آخره من غير نيّة السلام، فإنه أراد بهذا أن أبا حنيفة لا يقول بفرضيّة لفظ السلام عند تحليل الصلاة، بل يحصل الخروج من الصلاة بالعمل المُباين للصلاة من سلامٍ أو كلامٍ أو أكلٍ أو شرب أو حدث، ولم يقل بفرضية السلام لأن الأحاديث الواردة في ذلك عنده آحاد، وللأحاديث التي ذُكر فيها التشهد ولم يُذكر فيها السلام، على أن الإمام أبا حنيفة يستحبُّ السلام.

قال: والقفال الشافعي إن صحَّ عنه ما حكى عنه ابن خلكان أنه أخرج صلاته صلاة المتلاعب؛ فإنه ينبغي أن يختم صلاته بضراط وضحك وعياط ليكون أضحوكةً لأولئك الحُضّار… عامله الله بعدله.

فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنما ذكر حكم المسائل المذكورة لمن ابتلي بها تطبيقاً لقواعد أصّلها، وأصولٍ هذبها، وضوابط رتبها، لا أنه يقول ينبغي للمُصلي أن يُصلي بجلد الكلب المدبوغ مع وجود غيره متوضئاً بوضوءٍ منكوسٍ مُفتتحاً بالفارسية قارئاً بها تاركاً للطمأنينة، ناقراً نقر الديك بلا ركوعٍ، مُتحللاً من صلاته بتعمُّد الحدث!! حاشا وكلا، على أن الحاكي تلك الصلاة افترى على الإمام تجويزه الصلاة من غير ركوع، والركوع وكذا السجود ركنان لا تصح الصلاة بدونهما، هذا وكم للمذاهب نظير هذه المسائل وأشباهٍ: علمها من علمها وجهلها من جهلها.

                                         كلمة في خاتمة المقال

الاتباع حقٌّ خالصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ويجب على كل مُسلمٍ أن يعلم أنه لم يوجب الله علينا اتباع رجلٍ بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أوجب على الناس أن يتبعوا رجلاً مُعيناً أو رجالاً مُعينين، بحيث تحرم مخالفتهم، فقد أخطأ خطئاً فاحشاً، وضلَّ ضلالاً مُبيناً، ولم يأتِ في القرآن ولا في السُّنة وجوب اتباع مذهبٍ مُعين، وإنما الواجب اتباع كتاب الله عز وجل، واتباع سُنَّة نبيّه عليه الصلاة والسلام، وما أجمع عليه المسلمون في القرون الثلاثة الأولى، ولكن مع ذلك فإنه يُستحبُّ لطالب الفقه والعلم أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب، وأن يتعلم فروعه وأصوله، لتحصل له الملكة، والدُّربة على فهم كلام العلماء، والأخذ به أيضاً، فإن في كلامهم حقٌّ وخيرٌ كثير. 

والخلاصة، أنه:

● لم يتعبدنا الله (عز وجل) بفهم كتاب غير كتابه، ولا بحفظ كلام سوى كلامه، ولم يتعبدنا الله بالاجتهاد في فهم معميات المختصرات، ولا بالاجتهاد في فهم منطوق كلام أحد من خلقه ومفهومه، إلا كلام رسوله (صلى الله عليه وسلم)؛ الذي هو حجة يجب تأملها والنظر فيها؛ وفق ما تقرر من قواعد الفهم والاستدلال..

● والمطلوب من العقل البحث عن الحق بايسر وسيلة وأقربها، دون تعمق او تكلف، فلا يجوز للإنسان أن يضيع عمره في سلوك الدروب المتعرجة مع تمكنه من الوصول إلى الغاية بالطريق المستقيم.

● ولا يجوز لأحد أن يرضى من نفسه بتقليد كل أحد من الناس، بل واجب عليه أن يبحث عن سبيل الحق والصواب، مع تحري الدقة والأمانة في البحث عنه؛ فيثبت في حق طالب الحق وجوب العلم الذي يعينه على معرفة الحق من الباطل، وتمييز السنة من البدعة، والتفريق بين الصحيح والفاسد.

● وعلى المسلم السالك المجد في طلب الحق: أن يختار أثناء سلوكه من الأمور اصوبها، ومن الأفعال أحسنها، ومن العقائد أصحها، ومن الطرق أسلمها، بعيدا عن الإشكالات والمغالطات والخلافات التي لا طائل تحتها..

والله اعلى واعلم...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق