أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 5 فبراير 2021

الذخيرة الكثيرة في رجاء مغفرة الكبيرة - علي سلطان محمد القاري الحنفي (ت 1014 هـ)

الذخيرة الكثيرة في رجاء مغفرة الكبيرة

تأليف العلامة الشيخ

علي سلطان محمد القاري الحنفي  (ت 1014 هـ)


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ الحجُّ عبادةٌ عظيمة، وشعيرةٌ كريمة، يتوجَّه فيها المسلم إلى مكَّة لأداء نُسكها من الطواف والسعي والوقوف بعرفات والحلق، امتثالاً لأمر الله عز وجل في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} (آل عمران: 97)، فيؤديه المسلم في العمر مرةً واحدة، حينما تتوفر الاستطاعة: من الصحة، وإمكان السفر، وأمن الطريق. 

وفي أداء فريضة الحج غذاءٌ روحيٌّ كبير، يمتلئ فيه العبد إيماناً وتعظيماً لله عز وجل، ويزداد إقباله فيه على ربّه سبحانه، وتنمو فيه عاطفة المحبة وتأتلف مشاعر الأخوة الإيمانية الصحيحة، ويعود الحاج من رحلته: صافي القلب، قد حظي بالنقاء، وقد انغمس في الطُّهر والبركة، مُفعماً بالخير والإحسان.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ: (مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجَع كما ولَدَتْه أمُّه)/رواه البخاري وغيره/، وفي هذا الحديثِ: بيان فضل الحج، وأنَّ الحج المستوفي لشروطه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ، ولكن العلماء مختلفين: هل الذنوب المُكفَّرة هي الصغائر وحدها كما هو قول أكثر العلماء كالنووي وابن عبد البر، والهيتمي، أم أن المغفرة تشمل الذنوب جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ كما يقول بعضهم ؟

والذي ذهب إليه الإمام القاري أن الحجَّ يُكفر الذنوب جميعها: صغائر وكبائر إلا ما ورد في بعض حقوق العباد وحقوق الله التي يجب قضاؤها، ولا تسقط بالتقادم، على أن هذا الباب هو باب رجاء لا باب جزمٍ وقطع؛ لأن أمر المغفرة لا نعلمه؛ فيغفر الله ما شاء لمن يشاء، وهذا القول هو قول ابن تيمية، وابن المنذر، وبه قال جماعةً من المُحققين.

وقال التوربشتي الحنفي في "شرح المصابيح": إن الإسلام يهدم ما كان قبله مطلقاً، مظلمةً أو غير مظلمة، صغيرةً أو كبيرة، وأما الهجرة والحج فإنهما لا يُكفران المظالم، ونقطع فيهما بغفران الكبائر التي بين العبد ومولاه، وتحتمل هدم الكبيرة التي تتعلق بحقوق العباد بشرط التوبة.

والحق أن حقوق العباد لا تسقط بالحج والهجرة إجماعاً؛ فلا يُكفرها إلا التوبة ورحمة الله تعالى.

كذلك اتفق العلماء: على أن من لم تكن له صغائر فإن الحج يُخفف من إثم الكبائر، فإن لم تكن لديه كبائر؛ فإنه يرفع درجته في الجنة.

والحج المبرور: هو الذي كثر فيه الخير والبر والطاعة، والخالي من الإثم والفسوق والمعصية، وقيل: هو المقبول، ومن علامات القبول: أن يرجع الحاج خيراً مما كان ولا يُعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا يُخالطه شيءٌ من المعاصي؛ كم حج بمال الحرام. وقيل: هو الذي لا رياء فيه ولا سُمعة. وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وكلها مُرادة ومتداخلة.

وهذه رسالة نافعة ماتعة، سلك فيها الشيخ علي القاري منهجاً وسطاً بين من يرى أن الكبيرة لا يُمكن تكفيرها في الحج المبرور، وبين من يرى أن الحجَّ يُكفر جميع الكبائر من غير تفصيل؛ فيرى الشيخ القاري أن الكبائر المتعلقة بحقوق العباد لا بُدَّ من التحلُّل منها: إما بالأداء أو بالإبراء؛ فمن قتل نفساً معصومةً بغير وجه حق؛ فإن عليه تمكين أولياء المقتول من نفسه، أو أن يدفع إليهم الدية، وكذلك يردُّ مال المظلومين وبضاعتهم، ويستحلَّ منهم. 

وأما الكبائر التي تتعلق بحقوق العباد، والتي لا يُتصور تدراكها؛ لعدم العلم وجود أهلها، أو عدم القدرة على استحلالهم منها، فيُرجى أن تكون مغفورةً إذا كانت الحجة مبرورة.

وأما الكبائر المتعلقة بحقوق الله عز وجل؛ فهي قسمان:

الأول: قسمٌ أجمع العلماء على أنه لا بُد من قضائها، ولو  بعد التوبة: كترك الصلاة والصوم.

الثاني: الكبائر المتعلقة بحق الله التي لا قضاء فيها، ولا استدراك منها: كشرب الخمر، ونحوها.

وحقيقة هذه الرسالة هو الردُّ على الشيخين ابن حجر الهيتمي الشافعي، القائل بنفي تكفير الكبائر مجملاً بسبب أداء الحج المبرور، والشيخ مير بادشاه البخاري الحنفي، الفائل بإثبات التكفير مطلقاً من غير تفصيل.

كلمة أخيرة:

التوبة وظيفة الإنسان المستمرة، ولا يوجد إنسانٌ بلا خطيئة، والموفّق هو من يغسل ذنبه بدموع التوبة، ويُحرقها بنار الندم، فكيف الحال إذا كان العبد يُبارز الله بالمعصية ليلاً ونهاراً، ويستطيل على عباد الله بقوته ومنصبه وجاهه، وبسبب هؤلاء يُمنع الغيث والخير من السماء، فوجود شؤمٌ على الناس، وشؤمه على نفسه أكثر؛ لأنه يوبقها بمثل هذه الأعمال، فالتوبة اليوم معروضة، وأبواب السماء مفتوحة، فتوبةٌ في ستر، خيرٌ من فضيحةٍ على الملأ يوم القيامة..هذا، وأستغفر الله لي ولكم.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق