كشف الستر عن حكم الصلاة بعد الوتر
لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)
تحقيق: هادي بن حمد بن صالح المري
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ كان من هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُصلي عقب الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس متربعاً، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة الزلزلة وفي الثانية الكافرون، وتارةً يقرأ فيهما جالساً، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، وإلى هذا القول ذهب جماعةٌ من الشافعية كابن خزيمة، والشيخ أبي حامد، والقاضي المُحاملي -وتعقبه الإمام البُلقيني. وينبغي التنبيه إلى أن هاتين الركعتين غير ركعتي الفجر.
وممن ذهب إلى استحبابهما من الشافعية أيضاً: تاج الدين بن الفركاح، والمُحب الطبري، وكان مُعاصرين للإمام النووي الذي نفي سُنيتها، وهو قولٌ عند بعض الحنابلة والحنفية، ومن المتأخرين ابن باز، وابن عثيمين، والألباني.
وقد ذهب الإمام البيهقيُّ إلى أن هاتين الركعتين نُسختا، وبوّب لذلك بقوله (باب من قال يجعل آخر صلاته وتراً، وأن الركعتين بعد الوتر تركتا)، ونسب هذا القول للإمام الشافعي، ولم يثبت عنه، ولا يصح القول بنسخهما.
وقد عد كثيرٌ من العلماء هاتين الركعتين ضمن الثلاثة عشر ركعة التي ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يزيد عليها سفراً ولا حضراً، وهو قول المالكية والشافعية والحنفية في المشهور عنهم، وأما الحنابلة فاختلفوا في ذلك.
وجزم جماعةٌ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهما سُّنةٌ بحد ذاتها، وأغرب ابن القيم، فقال في (الهدي النبوي): أن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر، قال الحافظ: ولم أر له فيها سلفاً إلا ما قاله بعض الشافعية في إضافته إياهما إلى الوتر.
بينما يرى الحافظ ابن حجر أن صلاة النبيِّ لهاتين الركعتين بعد الوتر لبيان الجواز، تبعاً للإمام النووي، وليس أنهما سُنة كان يداوم عليهما، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم فعلهما في حالٍ مخصوصة، وهي حال السفر؛ لعلة المشقة والتعب التي تُصيبه، فجاز له تأخيرهما إلى ما بعد الوتر، وقاس الحافظ ابن حجر على السفر من به مرض ونحوه بالعلة الجامعة. قال: وهذا هو الرأي الراجح.
أما عمدة القائلين باستحبابها؛ فهو ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" وابن خزيمة في "صحيحه" (باب ذكر القراءة في الركوع بعد الوتر)، والبيهقي في "الكبرى" (باب في الركعتين بعد الوتر)، والطحاوي في (باب التطوع بعد الوتر)-عن أبي أمامة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصليهما بعد الوتر وهو جالسٌ، يقرأ فيهما: {إذا زلزلت الأرض}، و {قل يا أيُّها الكافرون}).
وفي لفظٍ: (كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوترُ بتسعٍ حتّى إذا بدنَ وكثرَ لحمُهُ أوترَ بسبعٍ وصلّى ركعتينِ وهوَ جالسٌ يقرأُ بِـ {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} و{قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ}).
وهذا الحديث حسن بشواهده، قال الهيثمي في "المجمع": رجال أحمد ثقات.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد": وقد أشكل هذا على كثير من الناس، فظنوه معارضاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع من فعله، قال: وأنكره مالك وقالت طائفة: إنما فعل هاتين الركعتين، ليبين جواز الصلاة بعد الوتر، وأن فعله لا يقطع التنفل، وحملوا قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا على الاستحباب، وصلاة الركعتين بعده على الجواز.
والصواب: أن يقال: إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري الركعتان بعده مجرى سنة المغرب من المغرب، فإنها وتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، والله أعلم. انتهى.
وسبب هذا التأليف أن أحد أصحاب الحافظ سأله عما وقع في "العجالة" لابن المُلقن، حيثُ قال: (فائدة) قال ابن حبان في صحيحه: ذكر الأمر بركعتين بعد الوتر إن خاف أن لا يستيقظ للتهجد وهو مسافر.
ثم أخرج عن ثوبان رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ؛ فقال: (إن هذا السفر جهدٌ وثقل، فإذا أوتر أحدكم، فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له) انتهى.
قال الحافظ: ورُغبَ إليَّ أن أتكلَّم على هذا الحديث تصحيحاً وإعلالاً، وعلى شرحه استنباطاً واستدلالاً، فااستعنت الله على ذلك، فانحصر الكلام فيه في فصول:
الفصل الأول في حال الحديث:
وهذا الحديث على شرط الصحيح عند ابن حبان، وعند شيخه ابن خزيمة، وقد أخرجاه، وهما ممن لا يفرد نوع الحسن من الصحيح، بل كل ما يدخل تحت دائرة القبول عندهم يُسمى صحيحاً.
وأخرجه جماعةً من الأئمة في تصانيفهم المبوبة وغيرها، منهم: أبو محمد الدارمي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر البيهقي، وأبو بكر الرازي، وأبو القاسم الطبراني.
أخرجوه كلهم، من طريق: معاوية بن صالح، عن شريح بن عُبيد، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن ثوبان.
وهذا الإسناد على طريقة من يُفرد الحسن من الصحيح، على شرط الحسن، لا يرتقي إلى رتبة الصحيح، وعند من لا يُفرده صحيح. ثم بيَّن ذلك.
الفصل الثاني: في بيان ما وقع في إسناده من اختلاف:
وهذا الفصل نفيسٌ جداً، وعند النظر فيه تُدرك سعة علم الحافظ ابن حجر رحمه الله، وعبقريته في التوفيق بين الروايات، والترجيح بينها، وما وقع فيها من أوهام الرواة، وتبيين الأسماء المُبهمة، وضبط المُشكلة منها، والكلام على الرواة جرحاً وتعديلاً.
الفصل الثالث في بيان ما وقع في ألفاظ المتن من اختلاف الرواة، وشرح مفرداته
(كنا في سفر) بالفاء وفي رواية في (سهر) بالهاء، ويحتمل أن يكون بالهاء محفوظاً، ولا يُخالف الذي بالفاء، لأن السهر غالباً يتسبب عن السفر، فيتقارب المعنى.
الفصل الرابع في معانيه
فقال: (إن هذا السفر جهدٌ) أي مشقة، لكونه مظنّةٌ لذلك؛ كما جاء في الحديث: (السفر قطعة من العذاب)، (وثقل) أي: تعب. وفيه ذكر العذر قبل الفعل أو الترك، وإرشاد من فاته شيء إلى ما يقوم مقامه، والأخذ في الدين بالسهولة، كما جاء في الحديث: (إن الدين يُسر)، (فإن أوترأحدكم)، وفيه التنشيط إلى العبادة، والأخذ بما هو أرغب، (فليركع ركعتين) ظاهره أن الركعتين بعد الوتر، أو على احتمال الإرادة، فتكونان قبل الوتر، وهو ما قوّاه ابن حجر، خلافاً للنوويِّ الذي رجَّح جواز الوجهين، (فإن استيقظ) يعني من نومه ليُكمل القيام، وعند الدارمي: (فإن قام من الليل) وهي أبين، وفيه فضل قيام الليل، وأن الصحابة يُداومون عليه سفراً وحضراً، (وإلا كانتا له) يعني محسوبةً له من التهجد، وقائمةً مقامه.
الفصل الخامس في بيان خصوص الحكم الذي ترجم به ابن حبان
قال ابن حبان في صحيحه: ذكر الأمر بركعتين بعد الوتر إن خاف أن لا يستيقظ للتهجد وهو مسافر. وقد اشتمل كلامه على أمرين:
أحدهما: إيقاعهما بعد الوتر. ثانيهما: تقييده بالمسافر.
قال الحافظ: والراجح عندي في حديث ثوبان تخصيصه بالمسافر كما قال ابن حبان، لكنه يستنبط منه إلحاقاً من به مرض ونحوه بالعلة الجامعة.
الفصل السادس في بيان حكم الركعتين اللتين جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الوتر والتفصيل بذلك:
وذكر الحافظ كلام الموفق في "المغني"، وما قاله من أن الصحيح فيهما أنهما ليستا بسنة، لأن الذين وصفوا تهجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروهما، وأن أكثر الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم على تركهما. وأجاب الحافظ عليه من وجوه كثيرة، بين فيه الأحاديث والروايات التي ذكرها ابن قدامة، وذكر من خرجها، وحكم على كل منها بما يُناسبها.
والراجح جواز فعلهما، ولا يُمنع منهما، لأنهما من جملة النوافل المستحبة، في وقتٍ تُشرع فيه النافلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق