تشجير أهم الكتب الفقهية المطبوعة
على المذاهب الأربعة
باسل بن عبد الله الفوزان
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا كتاب مُفيدٌ في بابه، جديدٌ في أسلوبه وطريقته، حيث يُسهل على طلبة العلم معرفة أهم الكتب المعتمدة في المذاهب الفقهية الأربعة، والتي يحسن بالطالب معرفتها، والإلمام بأسمائها، ومعرفة أصحابها، لا سيما وأنها كتبٌ مخدومةٌ من أصحابها، وقد حُققت ونُقحت، وهذا بالطبع لا يعني أنها نصوص مُقدسة لا ينبغي مخالفتها، أو يدعي أحدٌ وجوب الجمود على ما ورد في هذه الكتب، أو ادعاء عدم الحاجة إلى النظر فيها من جديد، أو زعم كونها لا تقبل العرض على الكتاب والسنة، استناداً إلى أن من قام بتأليفها ووضعها هم العلماء المجتهدون والمحققون.
ومع ما في هذا الكتاب من الجهد الكبير، والنَفَس الجميل؛ إلا أننا نرى أن الفقيه الحق -بعد دراسته وتمرُّنه على مذهب فقهي مُعين، لا ينبغي أن يحبس عينيه ويُجمّد عقله في أتون الأقوال وثنايا الآراء فقط، ويحصر نفسه بين جدران المذهب، تاركاً الاستفادة من جهود العلماء الآخرين، وعبقرياتهم الفذّة، ولكنه يتعرف إلى معتمد مذهبه، وينظر في آراء المتقدمين من أهل المذهب، ويعقد مقارنة تستند إلى الدليل، وينظر بعدها إلى آراء المذاهب الأخرى ومدى موافقتها أو مخالفتها للمعتمد وآراء المتقدمين.
ولا يُلتفت إلى من قال بغلق باب الاجتهاد، لا سيما وأن المتأخر قد توفرت لديه مواد العلم الخام أكثر من المتقدمين، ومن يتقن الأصول والفروع وطرق تخريج المسائل، وتوفرت لديه الملكة ووفرة الدراسة للمذهب، فإنه بإمكانه الاجتهاد وتخريج الفروع الفقهية على الأصول الصحيحة للأئمة الفقهاء، وينبغي مراعاة أصول العقيدة السلفية السُّنية للأئمة رضوان الله عليهم، وترك ما أحدثه المتكلمون في مفاصل المذهب وجوانبه.
كذلك؛ فإنه مما يؤسف له -خصوصاً بين متأخري فقهاء المذاهب أن بعض شروحهم أصبحت ألغازاً لأصولها السهلة، بحيث تصرَّف كثيرٌ من المتأخرين بعبارات الشيوخ وفتاويهم، حتى أصبحت بعض الألفاظ مُوهِمة، نشأت منها آراء جديدة لا تمتُّ إلى الفقه بصلة، ولم تخطر للأئمة على بال، وشُرحت على أنها جزءٌ من ذلك الأصل البعيد، ومن ثم تناقله بعضٌ عن بعض، كما هو ظاهرٌ في أكثر حواشي المتأخرين.
ومن المناسب هنا تأييد قولنا بما قاله ابن القيم في "الطرق الحكمية" (2/ 608): وإنَّما المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثمَّ يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة.
ثم قال: ولا يحلُّ أن ينسب إلى إمامه القول، ويُطلق عليه أنَّه قول بمجرَّد ما يَراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالَ المنتَعَها من كلام سِبين إليه، فإنَّه قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاوهم بأقوال المنتَسِبين إليهم واختياراتهم، فليس كلُّ ما في كتبهم منصوصًا عن الأئمة، بل كثيرٌ منهم يخرج على فتاواهم، وكثيرٌ منهم أفتَوْا به بلفظه أو بمعناه، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يقول: هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنَّه قوله ومذهبه.
وقد تضمن هذا البحث التعريف بكتب الأصول المعتمدة والشروح والحواشي، ونظمها على هيئة تشجير (وهي وضع رسومات توضيحية لسلسلة شروح وحواشي الكتب المبسوطة على شكل مشجر) مُوجَز لأهمِّ هذه الكتب وأجود طبعاتها.
قواعد مهمة في المذهبية:
أولاً: نحن لا نهدر جهود العلماء السابقين والمجتهدين المنتسبين إلى المذاهب الفقهية المختلفة بل نستفيد منها جميعاً دون تعصُّبٍ لواحدٍ على حساب الآخر، ونأخذ بكل رأي وجدنا دليله أ{جح وحجته أقوى، مهما كان قائله.
ثانياً: تعاملنا مع الكتب الفقهية يقوم على قاعدة أن هؤلاء العلماء المجتهدين هم بشرٌ غير معصومين، وأنه يقع منهم الخطأ كما يقع منهم الصواب، وإن كان صوابهم أكثر، فليس كلامهم كله قولاً فصلاً، يُلغِي كل خلاف، ويمنع من مخالفتهم.
ثالثاً: أنه لا يوجد أحدٌ يجب على المسلمين تقليده، وامتثال أقواله وأعماله إلا واحداً، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما غيره من العلماء والمجتهدين فيؤخذ من كلامهم ويُترك.
رابعاً: نعتقد أن كل مجتهدٍ معذورٌ في خطئه إذا كان كلامه مما يسعه الدليل ويحتمله النص، ويأخذ في ذلك أجره مرة واحدة، وأنه مأجورٌ أجرين إذا أصاب، كما ثبت ذلك في الحديث.
خامساً: لا بُد من تنقية المذاهب الفقهية من الشوائب والأخطاء والانحرافات في أبواب العقيدة والسلوك، لا سيما المخالف منها للكتاب والسنة وإجماع السلف، وذلك من خلال إعادة النظر في التراث الفقهي بعين الإنصاف والعدل.
سادساً: أن معظم الخلافات والإشكالات الفقهية والعقدية استثارها متأخرة المقلدين في المذاهب الإسلامية، وأما الأئمة المجتهدين فهم على طريقة محمودةٍ في الدين، ويقيناً أن الأئمة أنفسهم لو بُعثوا واطلعوا على ما أحدثه المتأخرون من المنتسبين إليهم؛ لتبرأوا منهم، وأنكروا ما فعلوه أشد الإنكار.
سابعاً: لا يُقبل قول متعصبة المُقلدة في ردِّ النصوص الصحيحة بالعلل الواهية والسافطة علمياً، كقولهم: إن هذا النص منسوخٌ وليس معهم ما يدلُّ على نسخه، أو: لا يُراد من هذا النص ظاهره ولا قرينة تؤيد قولهم، أو ادعاء أن علماءهم المتأخرين أعلم بهذا النص من غيرهم، أو: اطلعوا على شيءٍ لم يطلع أحدٌ عليه، وما أكثر هذا في المتأخرين.
ثامناً: أن أئمة الفقهاء نصحوا أتباعهم برد أقوالهم المخالفة إلى الكتاب والسنة، فعذروا مقلديهم من الوقوع في هذه المخالفة العظيمة، ونصحوهم أن يأخذوا مما أخذوا منه، وأن يدعوا من أقوالهم ما يظهر لهم مخالفته للكتاب والسنة، وأعلنوا لهم طريقتهم في الاتباع، وأُثر هذا عن المحققين في المذاهب الفقهية المتنوعة، ذلك عنهم مبثوثٌ مشهور.
تاسعاً: ينبغي على المتفقه أن يحفظ آيات الأحكام، ويتدبرها بمزيد عنايةٍ واهتمام؛ مثل كتاب "أحكام القرآن"؛ للجصاص الحنفي، و"أحكام القرآن"؛ لأبي بكر ابن العربي المالكي، و"أحكام القرآن"؛ للقرطبي المالكي، و"أحكام القرآن"؛ للكيا الهراسي الشافعي، وغيرهم
عاشراً: ينبغي على المتفقه الاعتناء بكتب أحاديث الأحكام، مثل (بلوغ المرام) لابن حجر، و(عمدة الأحكام) لعبد الغني المقدسي، كذلك الاعتناء بكتب التخريج الحديثية، والتي وضعها العلماء لدراسة الأحاديث التي استدلَّ بها مجتهدو المذهب؛ ومثال ذلك (معرفة السنن) للبيهقي، و (التلخيص الحبير تخريج أحاديث الرافعي الكبير)؛ لابن حجر، وكتاب (العناية معرفة أحاديث الهداية)، و (الطرق والوسائل في تخريج أحاديث خلاصة الدلائل) كلاهما للشيخ عبد القادر بن محمد القرشي، وكذلك (المجموع شرح المهذب) للنووي، وغيرها، واعتماد أحكامهم على الآثار في ذلك.
حادي عشر: ينبغي على المتفقه أيضاً الاعتناء بفقه السلف في القرون المفضَّلة، لا سيَّما فقه الصحابة والآخذين عنهم من التابعين؛ ومظان ذلك في الجوامع والمصنفات والحديثية، وهذا النوع من الفقه مهمٌ جداً للطالب، لأن السلف هم الذين شَهِدُوا التتريل، وهم أعلَمُ الناس كذلك بناسخ القرآن ومنسوخه،و مُحكَمه ومتشابهه، وأعلَمُ الناس بوجوه اللغة والبلاغة، وأدرَكُ الناس لقرائن النصوص.
ثاني عشر: ضرورة الاعتِناء مَد من كتب المذاهب، والتنبُّه إلى تصرُّف بعض المتأخِّرين واجتهاداتهم ممَّا يُخالِف أصحاب المذهب أصلاً.
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في ذمِّ ما أحدَثَه المتأخِّرون من الحِيَل: "والمتأخِّرون أحدَثُوا حيلاً لم يصحَّ القول بها من الأئمَّة، ونسَبُوها إلى الأئمَّة وهم مُخطِئون في نسبتها إليهِم ولهم مع الأئمَّة موقفٌ بين يدي االله - عزَّ وجل".
قال: "فكثيرًا ما يُحكَى عن الأئمَّة ما لا حقيقةَ له، وكثيرٌ من المسائل يخرِّجها بعض الأتباع على قاعدةٍ متبوعة، مع أنَّ ذلك الإمام لو رأَى أنها تُفضِي إلى ذلك لما التزَمَها".
ثالث عشر: وممَّا ينبَغِي على المتفقِّه أن يقرأ هذه الكتب المعتمدة على شيخٍ مُتقِنٍ، مأمونٍ في دينه وعقيدته، لا سيما من يتبع نهج السلف، في العقيدة، وهؤلاء من أتباع المذاهب الفقهية الأربعة كُثر بحمد الله تعالى.
رابع عشر: الحذَر من تتبُّع رخص وزلات العُلَماء من كتبهم وأقوالهم، فليس هذا من هدي السلف، وذلك محرم بإجماع العلماء.
خامس عشر: لا تخلو بعض الكتب الفقهية المذكورة من بعض الملاحظات والأخطاء العقدية فينبغي التنبه لذلك.
عيوب المذاهب الفقهية في القرون المتأخرة، وكيفية التعامل معها:
1-مخالفة بعض الفروع الفقهية للنصوص الصحيحة، ويتبع هذا الأمر تقديم الآراء على هذه النصوص ضرورةً، سواءً بقصد أو بغير قصد، وينبغي في مثل هذا تقديم النصوص الصحيحة الثابتة، والاعتذار عن مخالفة صاحب الكتاب أو الحاشية أو المتن.
2- امتلاء الكتب المذهبية بالأحاديث الضعيفة، وبناء الأحكام عليها، وبالإمكان التساهل في بعض الأحاديث الضعيفة التي لم يشتد ضعفها، وتوافق عموم الأدلة، ولكن الأمر المستنكر هو نقل بعض الأحاديث الواهية والمنكرة، بل والقصص المكذوبة استدلالاً أو استئناساً لفعل بعض الأعمال المردودة وغير المقبولة شرعاً، ولذلك ينبغي النظر والاعتناء بالأسانيد وتحقيق تلك الآثار وفق القواعد العلمية المضبوطة والنظر كذلك في القصص والحكايات المنقولة، وبيان ما فيها من الخطأ والصواب.
3- تقديم أقوال المتأخرين على أقوال الأئمة والمتقدمين، وهذا عيبٌ آخر نلحظه في الكتب المذهبية المتأخرة، إذ يُقدمون في كثيرٍ من الأحيان أقوال الفقهاء المتأخرين على أقوال أئمة المذاهب أنفسهم وأقوال تلامذتهم الأولين.
4-الانحباس في مذهب واحد، وعدم الاستفادة من المذاهب الأخرى، بحيث لا يتعدونه ولا يتجاوزونه إلى المذاهب الأخرى، ليستفيدوا من جهود علمائها ورجالها، ومحققيها وأدلتها، وليس هناك شكٌّ في أن هذا الانحباس داخل جداران المذب، يُعد تضييعاً لجهود علماء كبار، وإهداراً لنتاج عبقريات ضخمة حفل بها كل مذهب، لا لسبب معقول إلا أن هؤلاء ليسوا من مذهب هذا العالم.
5-خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية، وكذلك فإن كثيراً من كتب المتأخرين تُخالف كتب الأئمة والمجتهدين الكبار، ولا تُقبل دعوى أن كتب المتأخرين نسخت كتب المتقدمين.
6- شيوع التقليد والجمود وإقفال باب الاجتهاد في وجه كل من يبحث عن حلول للقضايا المستجدة والمعاصرة، ولا شك أن هذا الفعل القبيح نشره بعض ضيقي الأفق، وأصحاب الفكر الجامد، الذين أرهبوا كل من يُقدم على هذه الخطوة، وأبدى استعداداً للنظر والبحث، بحجة أن من يفعل ذلك فإنما يطعن في الأئمة والعلماء السابقين، كما أنهم كانوا معصومين لا أخطاء لهم، وغالوا في ذلك ولفقوا القصص والحكايات التي لا تمتُّ إلى الدين والواقع بصلة.
ملاحظة/ بعض مواد هذا المقال مستفاد من كتاب: بدعة التعصب المذهبي؛ لمحمد عيد عباسي، المكتبة الإسلامية، عمان -الأردن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق