درء الضعف عن حديث من عشق فعف
تأليف أبي الفيض أحمد بن الصديق الغُماري
اعتنى به: إياد أحمد الغوج
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا جزءٌ حديثي نفيس، وضعه الشيخ أحمد بن الصديق الغماري جواباً عن سؤالٍ ورده في حديثٍ اشتهر على ألسنة الناس، وهو (من عشق فعفَّ فمات فهو شهيد)، هل هو صحيحٌ ثابت أم باطلٌ موضوع؟ وإذا كان باطلاً فهل البطلان يشمل السند والمعنى أم أنه يقتصر على السند فقط دون المعنى؟
وقد تصدى الغماري لبحث هذا الحديث ومناقشته عرضاً ونقداً، فأراد من خلال ذلك إثبات صحة هذا الحديث، فزعم أن هذا الحديث في أعلى درجات الصحة، ثم شرع في نفي الضعف الثابت له، وسماه (درء الضعف عن حديث من عشق فعف)، وكان فراغه من تأليفه في العام (1376 هـ).
وبالجملة فلم يخلُ نقد الغماري لكلام العلماء حول هذا الحديث من التحكم والمبالغة في الرد، والتمحل لكلام الحُفاظ والأئمة، ولمن يُخالفه في اجتهاده الذي تفرّد به، بالإضافة إلى تطاوله على الأئمة الكبار: كابن عدي، وابن معين، وابن الجوزي، وابن القيم، وكان الغماري يجرح بأي شيء.
ولا شكَّ أن الغماري رجلٌ فيه حدة، وكانت حدته تخرجه عن طور الإنصاف في بعض الأحيان إلى حيز التطاول، وله كلمات سيئة لم يكن له أن يتفوه بها، كما أن له آراء خالف فيها جماهير العلماء، استناداً إلى ما ظنه دليلاً، وإنما هو شبهة دليل.
والقضية الفاصلة في هذا الحديث: هو قبول سويد للتلقين، ولا يُقال إن التلقين جرحٌ غير مُفسّر، بل هو جرحٌ مُفسّر.
ومحاولة الغماري ابعاد التلقين عن سويد لا يُفيده شيئاً، بل قد يضرُّه، لأنه كثرت أحاديثه المناكير، وكثرة منكرات الرجل وغرائبه تجعله مظنةً للتُّهمة، بل قد يتركونه لأجلها.
أهمية هذا الكتاب:
(1) التعرف إلى بعض النواحي التطبيقية لتخريج هذا الحديث وتتبع مروياته والحكم عليها.
(2) التعرف إلى طرف يسير من ترجمة أحمد الغماري، والذي بلغت مصنفاته حوالى (250) مؤلف، ومن أشهرها: "المداوي لعلل المناوي"، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية"، و"المستخرج على مسند الشهاب"، و"مستخرج على الشمائل".
خلاصة القول في هذا الحديث:
قال رحمه الله في "المداوي" عند الكلام على هذا الحديث: "وبعد فحديث الباب قد صحَّحته، وأفردتُ لذلك تأليفاً عجيباً سميته (درء الضعف عن حديث من عشق فعف)؛ فعليك به، فإنه مُفيدٌ إلى الغاية. انتهى.
وقد روي حديث العشق عن ابن عباس، والسيدة عائشة رضي الله عنهما.
(أما حديث عائشة) فروايته عنها وهمٌ مُحقق بلا خلاف؛ حيث رواه محمد بن أحمد بن مسروق، عن سويد بن سعيد، عن علي بن مُسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن السيدة عائشة رضي الله عنها.
وهذا وهمٌ من مسروق؛ حيث خالف فيه سائر الرواة عن سُويد؛ لذا نصَّ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" (12/ 479) على أن المحفوظ هو روايته عن ابن عباس.
(وتبقى رواية الحديث عن ابن عباس)، وقد رُوي على وجهين:
الرفع والوقف.
أما الرفع؛ فروي بإسنادين:
أ- الأول: سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس.
ب- والثاني: الزبير بن بكار، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به.
أما الموقوف؛ فروي كذلك بإسنادين:
أ- الأول: أبو سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس.
ب- الثاني: أبو بكر الأزرق، عن سويد عن علي بن مُسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وأبو بكر الأزرق: كان يرفعه أولاً؛ فعوتب فيه، فكان لا يُجاوز ابن عباس، والملاحظ أن لفظه موقوفاً، هو (من عشق فعفَّ فمات دخل الجنة)، وليس فيه ذكر الشهادة!.
وهذا الموقوف ضعيف؛ لأن في إسناده الأول: أبو سعيد البقال: ضعيفٌ مدلس، وفي الثاني: أبو يحيى القتات، وقد ضُعّف، والأزرق ليس حاله بذاك.
وأما حكمه مرفوعاً؛ فقد اختلف فيه العلماء على أربعة أقوال:
(1) التصحيح: صححه الزركشي في "التذكرة"، والبرهان البقاعي في "أسواق العشاق"، وعلاء الدين مغلطاي في "الواضح المُبين في ذكر من استشهد من المحبين"، والغماري في "جزئه هذا.
(2) التحسين: انفرد به الزرقاني في "اختصار المقاصد الحسنة".
(3) التضعيف: وإليه ذهب ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، وابن الملقن في "خلاصة البدر المنير"، وابن حجر في "بذل الماعون"، حيث قال: وفي سنده مقال. ورمز له السيوطي بالضعف في "ضعيف الجامع"، وتبعه المناوي.
(4) الوضع والبطلان: قال فيه ذلك يحيى بن معين، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم ممن ذهب إلى أن حديث سويد منكر؛ كالبخاري، وشيخه علي بن المديني، ونقل ذلك عن البيهقي أيضاً. وممن بعدهم: ابن طاهر القيسراني، وعدّه الذهبيُّ في "الميزان" من منكرات سويد، وأطال ابن القيم النفس في إبطاله في عدد من كتبه، وعليه توجه كلام الغماري، وحكم بوضعه أيضاً الشوكاني في "الفوائد المجموعة".
وخلاصة هذا الباب هو أن هذا الحديث باطلٌ مرفوعاً، وضعيفٌ موقوفاً، مع ملاحظة أن الموقوف ليس فيه ذكر الحكم بالشهادة للعاشق، وقد ذكر المحقق عدة مناقشات للغماري ردَّ عليه فيها بأسلوب علمي رصين، واختلفوا في صحة معنى الحديث، والظاهر حمله على العفة وحفظ الجوارح من المعصية، فهو من جملة الأعمال التي تدخل صاحبها الجنة. وأما إطلاق الحكم لهذا الحديث فلا يصح. ولا يُقال للمتعفف العاشق شهيد.
كلام ابن القيم على هذا الحديث في "زاد المعاد"
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/ 252 -253): ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه عن أبي مسهر أيضا، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم، ورواه الزبير بن بكار، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عشق، فعف فمات، فهو شهيد)، وفي رواية: (من عشق وكتم وعف وصبر، غفر الله له وأدخله الجنة) .
فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون من كلامه، فإن الشهادة درجة عالية عند الله، مقرونة بدرجة الصديقية، ولها أعمال وأحوال، هي شرط في حصولها، وهي نوعان: عامة وخاصة، فالخاصة: الشهادة في سبيل الله. والعامة خمس مذكورة في " الصحيح " ليس العشق واحدا منها.
وقال رحمه الله أيضاً (4/ 254): ولا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث صحيح البتة.
ثم إن العشق منه حلال، ومنه حرام، فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد، فترى من يعشق امرأة غيره، أو يعشق المردان والبغايا، ينال بعشقه درجة الشهداء.
وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة؟ كيف والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعاً وقدراً، والتداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما، وإما مستحب.
وقال أيضاً (4/ 255): لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة، بل ولا بحسن، كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث، ورموه لأجله بالعظائم، واستحل بعضهم غزوه لأجله.
وقال أبو أحمد بن عدي في "كامله": هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد، وكذلك قال البيهقي: إنه مما أنكر عليه، وكذلك قال ابن طاهر في "الذخيرة" وذكره الحاكم في "تاريخ نيسابور" وقال: أنا أتعجب من هذا الحديث، فإنه لم يحدث به عن غير سويد، وهو ثقة، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "الموضوعات".
وكان أبو بكر الأزرق يرفعه أولاً عن سويد، فعوتب فيه (والذي عاتبه هو محمد بن المرزبان)، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما.
ومن المصائب التي لا تحتمل جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله، لا يحتمل هذا البتة، ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون عن ابن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وفي صحته موقوفاً على ابن عباس نظر.
وقد رمى الناس سويد بن سعيد راوي هذا الحديث بالعظائم، وأنكره عليه يحيى بن معين وقال: هو ساقط كذاب، لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه، وقال الإمام أحمد: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال البخاري: كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه، وقال ابن حبان: يأتي بالمعضلات عن الثقات يجب مجانبة ما روى. انتهى.
وأحسن ما قيل فيه قول أبي حاتم الرازي: إنه صدوق كثير التدليس، ثم قول الدارقطني: هو ثقة غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه انتهى.
وعيب على مسلمٍ إخراج حديثه، وهذه حاله، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره، ولم ينفرد به، ولم يكن منكرا ولا شاذا بخلاف هذا الحديث، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
مسائل هذا الكتاب:
ويتكون هذا الكتاب من "مقدمة" للمحقق "الغوج"، وفيه عرض حال حديث "من عشق"، واختلاف العلماء عليه، وبيان أنه حديثٌ ضعيف.
ثم ترجمة موجزة للغماري، وعرض السؤال المرفوع إليه والذي كان سبباً في وضع هذا الكتاب. ثم توالت فصول هذا الكتاب العشرين، كالتالي:
الفصل الأول: بيان أن سويد روى الحديث على وجهٍ واحد.
الفصل الثاني: تعقب ابن القيم بعدم ورود لفظ العشق في الشرع.
الفصل الثالث:مناقشة الحكم بالنكارة على حديث الباب.
الفصل الرابع:مناقشة ابن القيم في قوله: إن العلماء رموا سويداً بالعظائم: واعتبر الغماري أن كلام ابن القيم باطل، ومجازفة من غير تحقيق، وأن غاية ما رموا به سويداً هو التدليس الذي ما نجا منه إلا القليل من الرواة. هذا مع أن سويداً قد عمي وصار يُلقن، وله أحاديث منكرة عديدة ولم يُتابع عليها وكان مسلمٌ رحمه الله يتجنب أحاديثه المنكرة، ويخرج له من أصوله المعتبرة.
الفصل الخامس: مناقشة كلام ابن معين بتوسع، وقوله في سويد: ساقط كذاب: فرمى الغماري ابن معين بالعصبية والتحامل وأنه كان من أتباع أبي حنيفة، فتأثر بمذهبه الفقهي.
الفصل السادس: قول ابن معين: لو كان لي فرسٌ لغزوته يعني سويد: فزعم الغماري أن هذا إنما قاله ابن معين في حديثٍ آخر لسويد لا في هذا الحديث، وأن ابن معين قاله عصبيةً لمذهبه، حيث كان على مذهب أبي حنيفة.
الفصل السابع: تزييف ما نُقل عن أحمد أنه قال في سويد: متروك: فزعم الغماري أن الذي نقل هذا الكلام عن أحمد هو ابن الجوزي، ثم اتهم ابن الجوزي بأنه غير معتمد في نقله، ولا فهمه، وأنه لا يُحسن التصرف في النقول، وأنه يأتي بالطامات!! ووصفه بأمورٍ كثيرة فيها تنقيص وذم، والحق مع ابن الجوزي.
الفصل الثامن: رد طعن النسائي في سويد لما قال عنه: ليس بثقة: وزعم الغماري أن النسائي قال ذلك تقليداً لابن معين.
الفصل التاسع: مناقشة طعن ابن حبان في سويد، وقوله: يأتي بالمعصلات: وزعم الغماري أن ابن حبان اعتمد على كلام ابن معين، وقد اشتد الغماري على ابن حبان فذَّمة، ووصفه بأنه خسّاف مشهور، وهذا -مع كونه لا يليق، فإن لحق مع ابن حبان.
الفصل العاشر: أهمية الاستقصاء في نقل أحوال الرواة، وتوثيق سويد: وفيه استحسن الغماري قول أبي حاتم الرازي أن سويداً صدوقٌ كثير التدليس، وكذلك قول الدارقطني: هو ثقة، وأخذ يُجادل عن ذلك.
الفصل الحادي عشر: مناقشة كلام ابن القيم أن مسلم لم يخرج لسويد في الأصول: وادعى الغماري بعد ذلك أنه هذا الحديث تابع فيه مجاهدٌ عكرمة، وأنه ليس بشاذٍ ولا منكراً.
الفصل الثاني عشر: الكلام على ذكر ابن الجوزي له في "الموضوعات": وزعم الغماري أن هذا من تساهل ابن الجوزي.
الفصل الثالث عشر: عدم اعتماد ابن طاهر القيسراني في "تذكرة الموضوعات": وقد رماه الغماري بالوهم وقلة التحقيق؛ كابن الجوزي.
الفصل الرابع عشر: بيان أن تفرد الثبت الثقة مقبول ما لم يتبين وهمه أو غلطه: وقد اعتمد الغماري على كلام الحاكم في "تاريخه"، ووهم الغماري فظنَّ كلام الحاكم تصحيحٌ له، وإنما هو تضعيف للحديث، وهو ما فهمه الذهبي رحمه الله، ونص عليه في "الميزان".
الفصل الخامس عشر: ذكر من صحح حدث الباب أو حسنه بعد نفي ابن القيم صحته وحسنه. وقد صححه ابن القيم في "طوق الحمامة"، وعلاء الدين مغلطاي في "الواضح المبين"، وذكر أن الفقهاء ذكروا هذا الحديث في كتبهم، ونظموا فيه الشعر.
الفصل السادس عشر: الكلام على رواية ابن الماجشون، وقد بينا نكارة طريق ابن الماجشون، وروايته لهذا الحديث لا تصح.
الفصل السابع عشر: متابعة ابن الماجشون لسويد ينفي تفرده: وقد بينَّا أن ضعف سويد لا يُحتمل.
الفصل الثامن عشر: الرد على ابن القيم في أن الشهادة لا تُعطى لعاشق: وأراد الغماري الجواب على ابن القيم في أن العاشق يُعف نفسه، ويجاهدها في سبيل الله. وإعمال القياس في هذا الباب بعيد.
الفصل التاسع عشر: بيان اندماج شهادة العاشق في جملة الشهداء: وقد جمع فيه الغماري أسباب الشهادة، فذكر (37) خصلة، وأن العشق يدخل في عموم الموت في سبيل الله.
الفصل العشرون:خاتمة هذا الجزء، وقد بين المحقق أن الغماري وهم في مثل تصحيح السخاوي، وإنما كان كلامه تعليقاً على كلام العراقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق