الإخوان المسلمين قراءة في الملفات السرية
عبد الرحيم علي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: يتناول هذا الكتاب بالرصد والتحليل -وعلى مدار أكثر من ثمانين عاماً -هو عمر جماعة الإخوان. كيف انزلق الإخوان في مستنقع الانتهازية منذ البدايات وعلى يد الشيخ حسن البنا -بتعبير الشيخ أحمد السكري -صديق البنا المُقرّب ورفيقه في تأسيس الجماعة، والذي يُعد أنبل وأشرف رجالات الجماعة في ذلك الوقت، لكن للأسف تم إيقافه وفصله بعد أن اعترض على سياسات البنا داخل وخارج الجماعة.
وكيف سمح البنا لجماعته بالتلون حسب الحكومة التي تتولى السلطة، وسياساته التي تقترب من بعض الأحزاب أو تبعده عنها بحسب المصلحة .. يهادنون حزب الوفد ويثنون عليه ثم ينقلبون عليه.. يدعمون الملك فاروق ويسمونه بأمير المؤمنين ثم يناصبونه العداء .. يتعاونون مع رجال ثورة يوليو في البداية ثم يتصادمون معهم .. يساندون السادات ثم يتمردون عليه .. يصرخون ليل نهار بالعداء لأمريكا ثم يسعون في الخفاء لمد الجسور معها.
يدّعون الديمقراطية والتعددية، ويضيقون بها، وبالمطالبين بإعمالها داخل الجماعة، فإما -السمع والطاعة -وإما الاقصاء والتهميش، بعد التنقيط والتبكيت والتشنيع، إلى أن بلغ بهم الأمر إلى الاتهام والتخوين والاتهام بالعمالة لدول الشر والأعداء.
ويناقش الكتاب الفساد السياسي والإداري داخل الجماعة، من خلال الكولسة والتأطير والنقض للمعاهدات، بالإضافة إلى غياب النزاهة والشفافية في اتخاذ القرارات وتنفيذها. وغير ذلك الكثير .. حتى بدا أن هذه الانتهازية هي النهج المألوف في سلوك الإخوان وتحالفاته، حتى بعد ثورة يناير، في سياق سلسلة من التحالفات التي تنتهي دائماً بالغدر في الحليف!
والكتاب في أبوابه الثلاثة: الإخوان والانتهازية السياسية (بفصليه: الإخوان والواقع السياسي المصري ، والإخوان والإنشقاقات)، والملفات السرية (بفصوله الخمسة: ملف العنف، والديمقراطية الداخلية، وملف التنظيم الدولي، وترددهم بين الدين والسياسة، وعلاقتهم بالولايات المتحدة الأمريكية)، ودولة الإخوان بفصليه: (الجماعة في إطارها الحركي، وسيد قطب الجسر)، ومن خلال وثائق الجماعة الخاصة -يتتبع التاريخ الطويل الممتد، الذي عمد خلاله الإخوان إلى خلط الخطاب الديني "الثابت" بالمقاصد السياسية "المتغيرة" -ليخلقوا خطاباً ضبابياً .. متعدد الوجوه .. هافاً للاستحواذ والإقصاء بمفردات وسلوكيات أيضاً -تحمل في طياتها الكثير من الاستعلاء والمراوغة.
وهذا الكتاب يكشف بجلاء شديد مشروع "دولة الإخوان" ومخاطره على حاضر ومستقبل البلاد المصرية وغيرها من بلدان العالم الإسلامي.. كما يكشف "مأزق الجماعة" ومخاطره على حاضر ومستقبل الوطن.. كما يكشف صعود الجماعة نحو الهاوية.
فتعرض الكتاب إلى سعي الإخوان من خلال كتابات سيد قطب إلى تبرير الأفكار التكفيرية، ونقد أبو الأعلى المودوي والقرضاوي لفكرة التكفير، ونصب الأخوان على ظهره رايات الجاهلية والتكفير، لنسف فكرة المواطنة، والتي أنقل في هذا المقال طرفاً منها:
نسف فكرة المواطنة:
المجتمع الجاهلي عند سيد قطب هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم. وبذلك فإن كل المجتمعات المسيحية واليهودية هي جاهلية بلا جدال. لحق التحريف برسالاتها من خلال تصوراتها الاعتقادية التي لا تخص الله وحده بالألوهية، وتخلع على هيئات من الشر خاصية الحاكمية العليا. ولذلك يرى سيد قطب أن العلاقة مع تلك المجتمعات والمجتمع المسلم هي علاقة تعارض دائم ومستمر، لا يتحقق معه التقاء في كبيرة ولا صغيرة، ذلك أن غير المسلمين هؤلاء لا يبغون إلا أن يحول المسلمون عن دينهم الحق!
وفي المقابل يتحتم على المسلمين أن يسعوا إلى نشر دينهم، وتعبيد العباد الله وحده. وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم وتجبرهم على عبادة غير الله. وعلى الرغم من أن المفكر الإخوانى لا يميز في حكم الجاهلية بين المجتمعات الكتابية والوثنية. إلا أنه وجد في انتساب الكتابيين إلى دين وكتاب قبل الانقلاب عليهما. مسوغا للتمتع بشيء من المعاملة المختلفة. يظهر في إحلال نسائهم وطعامهم. ومراعاة مشاعرهم وأحوالهم الشخصية وصولا إلى تشريعاتهم الجنائية والتجارية والمدنية. حيث تقضى القاعدة الفقهية بألا يجبروا على الالتزام بتشريع يمس عقائدهم. ولذلك يمكن إعفاؤهم من بعض الحدود والتسامح مع سلوكيات بعينها لا يقبلها الإسلام.
ويقدم سيد قطب تفسيراً غرائبيا لمفهوم حرية العقيدة، فهو يرى أنه من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهى الشامل: وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه هذا التبليغ بأي حال من الأحوال من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارا في اعتناق هذا الدين. لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة. فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة لا بالأذى ولا بالإغراء ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة.
أما حرية العقيدة عند سيد قطب؛ فهي ذات اتجاه واحد فهى حرية التحول من الجاهلية إلى الإسلام، وبهذا التحول تنتهى فكرة الحرية، ولا يجوز أن يحدث تحول عكسي من الحق إلى الضلال: فجزاؤه القتل. ولو لم يصحبه خروج على سلطة الدولة. أهل الكتاب بلا حقوق سياسية وحريتهم العقائدية مقيدة.
وفكرة المواطنة ليست مطروحة في الدولة التي يقودها ويوجهها حزب الله، وغاية ما يمكن أن يتمتع به غير مسلم هو بعض الحقوق المدنية المتعلقة بالأحوال الشخصية. وبعض الحقوق الاجتماعية والإنسانية. مثل كفالة أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، والتمتع بالضمان الاجتماعي عند العجز والفقر كالمسلمين سواء بسواء. وفي مقابل هذه الحقوق التي يجيزها والانصياع للنظام الإسلامي العام. فأهل الكتاب. كما أفهم مطالبون باتخاذ موقف سلبى من صراع العقائد فلا يفتنوا من يختار منهم الإسلام. ولا يدعوا المسلمين إلى اعتناق دينهم. ولا يطعنوا في الإسلام"
وتكتمل ملامح اللوحة بالنصيحة التحذيرية التي يوجهها سيد قطب إلى المسلمين فهم مطالبون بألا يشعروا برابطة ولاء أو تناصر معهم. لمجرد شعور المواطن المصرى المسلم بوحدة الانتماء مع المواطن المصرى المسيحي التي يحرمها سيد قطب من حسن البنا المؤسس والمرشد الأول. إلى مهدى عاكف المرشد السابع الذي لا يجرؤ الإخوان - حتى الآن على الأقل - إلى القول بأنه مفكر مجدد. مرورا بسيد قطب. الذي يقول عنه الهضيبي إنه الأمل المرتجى للدعوة تتحطم فكرة الوحدة الوطنية المصرية ويتلاشى مفهوم الانتماء الوطني الرابطة الوحيدة المعترف بها الإخوان دينية لا وطنية.
ونسف فكرة المواطنة مشترك وراسخ لا يتغير نظرة سيد قطب إلى غير المسلمين من أبناء الوطن. استعلائية قمعية. فهم ليسوا مواطنين كإخوانهم المسلمين. لكنهم كتلة هامشية مختلفة. يمكن نقبلها داخل النسيج على مضض. دون السماح لها بالذوبان فيه.
حرب صليبية
في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام. يؤكد سيد قطب أن الصراع ضد الاستعمار الغربي ليس اقتصاديا أو سياسيا لكنه صراع صليبي ! مقولة قطب تفرغ الصراع من جوهره الحقيقي ويتحول الأمر إلى مجرد حلقة في سلسلة الحروب الصليبية قوامها المعتقد الديني وكأن كثيرا من التناحرات والحروب والغزوات الاستعمارية في العصر الحديث لم يتوجه بها استعماريون يدينون بالمسيحية إلى شعوب مسيحية يتم استعمارها. أو كأن الإمبراطورية العثمانية الإسلامية لم تكن ذات طبيعة استعمارية.
من المنطقى أن تنعكس هذه النظرة الصليبية على رؤبة سيد قطب للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين في منظومته التكفيرية الشاملة. ومن الغرائب التي توصل إليها أنه لا يجوز تلقى العلم من غير المسلمين: إن الإسلام بتسامح في أن يتلقى المسلم من غير المسلم. أو عن غير التقى من المسلمين في علم الكيمياء البحتة أو الطبيعة أو الفلك أو الطب أو الصناعة أو الزراعة أو الأعمال الإدارية والكتابية وأمثالها، ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته ولا مقومات تصوره مجتمعه، ولا نظام حكمه ولا منهج سياسته ولا موحيات فنه وأدبه وتعبيره. من مصادر غير إسلامية. ولا أن يتلقى عن غير مسلم لا يثق في دينه وتقواه في شيء من هذا كله. ويواصل قطب: ومن ثم يكون من الغفلة المزرية الاعتماد على مناهج الفكر الغربي.
وعلى نتاجه كذلك في الدراسات الإسلامية. ويضيف: ومن ثم تجب الحيطة كذلك في أثناء دراسة العلوم البحتة التي لابد لنا في موقفنا الحاضر من تلقيها من مصادرها الغربية من أى ظلال فلسفية تتعلق بها. لأن هذه الظلال معادية في أساسها للتصور الدينى جملة، وللتصور الإسلامي بصفة خاصة، وأى منها قد يكفى لتسميم الينبوع الإسلامي الصافي.
من البدهي أن المسلم لن يتلقى علومه ومعارفه الدينية المباشرة المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة النبوية من غير المسلم. لكن دراسة ما يقوله غير المسلمين جديرة بالمتابعة والاهتمام والتحليل والقراءة لهم لن تفتن مسلما عن دينه، أو تنحرف بعقيدته وإيمانه من غير المنطقى أن يدعو سيد قطب إلى قطيعة معرفية باترة مع مجمل الثقافة الإنسانية الغربية تاريخا واجتماعا وسياسة وفلسفة وفنا وأدبا. فمثل هذه الدعوة الرجعية العنصرية تتغافل عن حقيقة تشكل الثقافة الإسلامية الصافية نفسها من احتكاك قوى إيجابي بمؤثرات غير إسلامية يونانية ورومانية وفارسية وهندية.
ومن بوتقة هذا الاحتكاك المثمر تشكلت ثقافتنا العربية الإسلامية التي أسهمت بدورها في بناء الثقافة الغربية المعاصرة التبادل بين الثقافات قائم على مدار التاريخ الإنساني بلا قطيعة أو جفاء. ولا يعقل أن باحثا مسلما معاصرا جادا في مجالات التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والفلسفة وعلم النفس. يستطيع الاستغناء عن نظريات الغرب وإضافاته كما أن الفنانين والأدباء لا يملكون إدارة الظهر للمنتوج الذي قدمته الثقافة الغربية في الشعر والمسرح والرواية والقصة القصيرة والفن التشكيلي والنقد وسيد قطب الأول قبل انقلابه على المجتمع الجاهلي دليل عملى على ضرورة الاحتكاك والتأثر فكتابه النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه ليس إلا إعادة إنتاج لما قدمه الغرب غير المسلم.
مثل هذه الوصاية المتعنتة البغيضة لا تعكس رغبة قطب في الدفاع الصحى الصحيح عن الإسلام والمسلمين. والحقيقة أنها دعوة تعبر عن غياب الثقة بإيمان المسلمين وتهافت عقيدتهم. فهل يعتقد المفكر التكفيرى أن قراءة المصادر الغربية ستفتن المسلم الناجح عن دينه؟!. لن يحدث ذلك إلا إذا كانت عقيدته هشة عاجزة عن الصمود.
وقد برهن التاريخ على أن الإسلام لا يتأثر بزوابع الفكر المضاد. وأن المسلمين يؤمنون بدينهم ولا يفرطون فيه بالسهولة التي يتخيلها من منح نفسه حق الوصاية على الدين.
القطبيون يدعون لقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون يصل الأمر بسيد قطب إلى درجة الدعوة الصريحة لقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون ويعلق الأستاذ السيد يوسف على هذه الفكرة في الجزء الثامن من موسوعته الإخوان المسلمون: هل هي صحوة إسلامية؟ فيقول: وهو يفسر الآية ١٩ من سورة التوبة التي تقول: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} بأنها عامة في اللفظ وفى المدلول وهي تعنى كل أهل الكتاب.
وهي أحكام نهائية تحتوى على تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب وخاصة النصارى منهم والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس. أساس إعطاء الجزية ".
ويعلق فهمي هويدي على أن التفسير بأن سيد قطب قد انفرد به بین فقهائنا المعاصرين وبين الأغلبية الساحقة من مفسرى السلف المعتمدين. إذ ليس صحيحا أن آية قتال أهل الكتاب تمثل حكما عاما، لأنها نزلت في حالة خاصة وهي قتال المسلمين للروم في غزوة تبوك، وهو ما يقرره الطبرى والقرطبي وابن كثير، وأنها ليست موجهة ضد كل أهل الكتاب. وعن موضوع الجزية ذكر أنها مرتبطة بدفاع المسلمين عن أهل الكتاب فهي بدل خدمة عسكرية. فإذا اشترك أهل الكتاب في الخدمة العسكرية فلا محل للجزية.
ثم قال إن حدة سيد قطب ليست مقصورة على غير المسلمين. ولكنه حاد ومتشدد بنفس القدر على المسلمين أيضاً.
وما يشير إليه فهمي هويدي من أقوال الفقهاء القدامى منهم والمعاصرين. يعبر عن جوهر العقيدة الإسلامية التي ينحرف عنها سيد قطب بأفكاره التحريضية التكفيرية. لكن اعتذاره الأخير بأن حدة سيد قطب لا ينجو منها المسلمون أنفسهم - لا تعنى شيئا في الدفاع عن رجل يعيش في النصف الثانى من القرن العشرين. وتؤثر أفكاره حتى الآن. ولا يتورع عن مطالبة الأقباط بدفع الجزية. وهي مطالبة مقدمة في نبرة تهديد ووعيد هذا رجل لذته الوحيدة فى الهدم وهى عملية يسيرة يتفنن فيها الفوضويون والإرهابيون ويسطع في سمائها أسامة بن لادن - قبل مقتله - ومن بعده الآن أيمن الظواهرى. وهما اللذان تتلمذا على أفكار قطب وتلميذه عبد الله عزام.
إنهم قادرون على القتل والترويع والإفساد في الأرض. وإذا سألتهم عن برنامج لإعادة التشييد والبناء. لن تجد عندهم شيئا إلا الشعارات الفضفاضة والعبارات الغامضة ذات الطابع العمومي. لا يختلف سيد قطب عن مدرسة الإخوان التي ينتمى إليها وينظر لها.
فالتأجيل اللانهائي للمشروع المتكامل واضح الملامح: إن الجاهلية التي حولنا تسأل المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية أين تفصيلا نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن مشروعات، وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم. وتجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة، وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته. إننا مطالبون بالصمت التام، وأن نترك الأمل المرتجى وتلاميذه الجدد يعملون لبناء العقيدة وأسلمة المجتمع. ثم نتحول بعدها إلى فئران تجارب تخضع لبرنامج لم يشرعوا في إعداده بعد. فتش عن برنامج للإخوان من أيام حسن البنا وسيد قطب إلى ولاية البيطري محمد بديع، ولن تجد مهما يطل بك البحث إلا السيف يشرعون في إغماده لقتل خصومهم. أما القرآن الكريم فيرفعونه فوق أسنة الرماح حتى تكتمل قدرتهم على التأثير في البسطاء من الناس.
__________________________________
المسلمون والمغول
د. عواطف محمد نواب
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذا الكتاب هو تأريخ وجيز لقبائل المغول، التي انبثقوا عنها، وبيان مناطق سكناهم، ولغاتهم التي تحدثوا بها، والعوامل البيئية والمناخية التي ساهمت في تقويتهم وتشكيل بنيتهم الجسدية والعقلية، والأديان التي كانت منتشرة عندهم، وتأثرهم بالثقافات والحضارات السائدة في تلك الحقبة، ونظام عيشهم، وحالة الفوضى السياسية والاجتماعية، وأهم أعمالهم التي اشتغلوا بها، وصفاتهم الجسدية، وقبائلهم التي ينتمون إليها، وصراعاتهم فيما بينهم، وكثرة ترحالهم وتنقلاتهم في الأقاليم الخاضعة لهم.
ثم تغلب المغول على جنس التتر، والصراعات التي دارت بين هذه القبائل وبين الحضارات الآسيوية في الصين وإيران وتركستان وغيرها، ما اضطر الصين إلى بناء سورها العظيم، وإخضاعهم لسيطرتهم، وكل هذه الأمور كانت عاملاً في إيجاد شخصية قوية توحد شتات هذه القبائل وتكون لهم دولة واحدة.
وبالفعل تمثلت هذه الشخصية في شاب مغولي اسمه تموجين (جنكيز خان) الذي هز بغزواته أركان الدول فيما بين الصين شرقاً والبحر الإدرياتي غرباً في النصف الأول من القرن. (وجنكيز خان)، باللغة المنغولية، يعني: قاهر العالم، او ملك ملوك العالم، او القوي.
ويعرض الكتاب جانباً من حياة قائد التتر جنكيز خان؛ فيذكر اسمه، واسم أبيه وأمه، وسنة ولادته، والبيئة التي نشأ فيها، وظروف الحياة القاسية والبائسة التي صقلته وجعلت منه محارباً قوياً، ثم رحلته في إخضاع قبائل الترك لسلطته الجديدة، وتوحيدهم تحت قيادته، وطرفاً من خططه الحربية لإنشاء المملكة الجديدة.
وقد كان الشرق الإسلامي في حالة شديدة من الضعف والتخاذل يسود فيه الفتن والدسائس والعديد من المذاهب ويسيطر عليه حكام متنازعون يؤثرون مصالحهم الشخصية على مصالح أوطانهم وأهم هذه الدول: إيران – العراق – الشام – مصر.
أما إيران؛ فقد كانت خاضعة للدولة الخوارزمية ومؤسسها (نوشتكين) الذي تقلب في المناصب في عهد السلاجقة إلى أن أصبح حاكم إقليم ُخراسان، وتلقب بلقب خوارزم شاه سنة 197هـ وعمل خلفاء نوشتكين من بعده على الاستقلال عن الدولة السلجوقية عندما شعروا بضعفها، مع ضعف الخلافة العباسية في بغداد، بل سعوا في القضاء عليها.
وبعد وفاة السلطان سنجر السلجوقي سنة 112هـ دخلت ممتلكات السلاجقة في فارس وخراسان في حكم الخوارزميين، وفي هذه الحقبة ظهر الإسماعيليون في الشمال الغربي من دولة إيران، ثم الفاطميون التي ظهرت في مناطق شمال إفريقيا، وكانت وطيدة الصلة بالإسماعيلية.
واتسعت أملاك الخوارزميين على حساب المجاورين، وبلغت أقصى اتساعها في عهد السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه. ومحمد هذا هو الذي عاصر جنكيز خان وكان شخصاً طموحاً شرهاً تقوم سياسته مع الأمم الإسلامية المجاورة على الشقاق والنزاع ومحاولة ضمها، وقد قرر خوارزم شاه المواجهة مع التتر.
وبعد أن تحولت قيادة التتر إلى هولاكو، حدثت المجازر المروعة، التي تعجز الكلمات عن وصفها، حتى نظمت في ذلك المراثي التي تثير الأسى في النفوس ونعي الخلافة، ودخل التتر بلاد المسلمين وأسقطوها الواحدة تلو الأخرى، وذبح في ذلك مئات الألوف من الشهداء المسلمين.