الحديث حُجَّة بنفسه في العقائد والأحكام
تأليف الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني
تقديم: محمد عيد عباسي
اعتنى به: محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذه رسالة صغيرة في حجمها، كبيرةٌ في مضمونها؛ للعلامة مُحدث العصر محمد ناصر الدين الألباني بعنوان: "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام"، وهي محاضرة كان ألقاها الشيخ الألباني في مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين الذي انعقد في مدينة غرناطة ببلاد أسبانيا (الأندلس الإسلامية سابقاً)، وذلك في شهر رجب، عام (1392 هـ الموافق 1972 م)، وقد تحدث فيها المؤلف عن موقف المسلم الصحيح من السنة، ومكانتها في الشريعة، وحجيتها، وهي مقسمة على أربعة فصول.
تحدث في (الفصل الأول) عن منزلة السنة في الإسلام، وواجب المسلمين في الرجوع إليها، واتباعها، والتحذير من مخالفتها من خلال سوق الأحاديث والآيات الدالة على ذلك، وذكر لذلك (16) آية، و(6) أحاديث، وذكر من دلالاتها التي هي محل الشاهد (19) وجهاً.
وتحدث في (الفصل الثاني) عن بطلان محاولات الخلف لمخالفتها، وفساد ما تذرعوا به لذلك من القياس، ونقد بعض القواعد الأصولية التي اصطنعوها وضربوا بالسنة عرض الحائط من أجلها.
وأما (الفصل الثالث)؛ فقد جاء للتدليل على بطلان القاعدة التي وضعها بعض علماء الكلام قديماً وأشاعها بعض العلماء والدعاة حديثاً، وهي دعواهم "أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة"، وبيَّن خطأ واضعي هذه القاعدة من أربع وجوه، حيث أن هؤلاء المتكلمين فرقوا بسببها بين أحاديث العقائد وأحاديث الأحكام دون دليل صحيح ظاهر وإنما لمجرد التوهم والتخيل، بناءً على قياسهم كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم على كلام الناس، متناسين أن الله حفظ السنة كما حفظ القرآن.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هذا الموضوع قد تعرض له الشيخ الألباني هنا بشيء من الاختصار، وقد بحث ذلك موسعاً واستقصى فيه أهم ما يمكن ذكره من الأدلة على بطلان ذاك الرأي في رسالة خاصة عنوانها "حديث الآحاد والعقيدة"، وقد يسر الله نشرها بعنوان "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة".
وأما (الفصل الرابع) والأخير من هذه الرسالة؛ فقد عرض فيه المؤلف إلى الأمر الذي أدى إلى إضعاف مكانة السنة عند الناس وتعطيل العمل بها وذلك هو التقليد الذي عمَّ وطم جميع نواحي الفكر والحياة في العالم الإسلامي لعدة قرون من الزمان، والذي أناخ بكلكله على العقول والنفوس.
هذا التقليد الذي قتل في الأمة مادة الابتكار، ومواهب الابداع والاجتهاد، ودفن فيها المواهب، وحرم الناس فيما حرم من هدى ربهم سبحانه، وصدهم عن الانتفاع بالخير الذي جاءهم عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم ركوناً إلى اجتهادات علماء لم يرضوا لتلاميذهم أن يقلدوهم فيها من غير بصيرة، ومن الأسباب التي جعلتهم يُقدمون القياس والآراء على السُّنن:
1- نظرتهم إلى السنة أنها في مرتبة دون مرتبة القرآن.
2-.حصول الشك لديهم في ثبوت أكثرها.
وقد أهاب الأستاذ الألباني رحمه الله في ختام هذه الرسالة بالشباب المسلم أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة في كل ما يبلغهم منهما وأن يعملوا لتحقيق مرتبة الاتباع في نفوسهم حسب استطاعتهم وإمكانياتهم
هذا وقد نالت هذه المحاضرة استحسانا كبيراً من جماهير الطلبة المثقفين المسلمين الذين استمعوا إليها لما رأوا فيها من المناقشة العلمية الموضوعية والرأي الصائب القويم وأرسلوا عدة رسائل إلى المؤلف يطلبون منه طبعها ونشرها ليعم النفع بها كل مسلم مخلص غيور يبحث عن الحق ويتمسك به.
أهمية هذا الكتاب:
1- بيان منزلة السنة في الإسلام، وأن التمسُّك بها كفيلٌ بتحقيق الوحدة الشعورية بين أبناء الأمة الواحدة.
2-بيان أن السُّنة محفوظة بحفظ الله تعالى لها، وأن كل حديث مكذوب أو موضوع فإن الله تعالى يُقيض له من يكشف حقيقته، ويُبين زيفه.
3- إبطال محاولات الخلف من الحداثيين والعلمانيين وبعض المبتدعة والجهال في ردِّ السُّنة بقواعد مصطنعة ومُحدثة سواءً سُميت علمية أو منطقية.
3-إبطال قواعد علماء الكلام في ردَّ السنة لا سيما ما يتعلق بالعقل المجرد، أو دعوى مخالفته للأصول، أو بتقديم القياس عليها، وكذلك كشف زيف قولهم بأن أحاديث الآحاد لا تثبت به عقيدة.
4-الرد على محاولة إشاعة التقليد الأعمى، وجعل المذاهب أدياناً قائماً بذاتها، والذي قضى على العقول بالجمود في فترة سابقة من تاريخنا الإسلامي، وقد حكمت هذه المذهبية المتعصبة على النفوس بالضلال والتخبط والاختلاط، بل والتنازع.
وقد قام بطباعة هذه الرسالة الأخ محمد عيد عباسي بإشراف الشيخ الألباني رحمه الله، وقد وضع مجموعة من التعريفات لبعض المصطلحات الحديثية التي لها صلة بالموضوع و فوائد هامة يحسن بيانها، وهي كما يلي:
تعريفات حديثية
السُّنة والحديث، والخبر، والأثر
السُّنة: في اللغة الطريقة المسلوكة والمعتادة في الحياة، ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) /متفق عليه/، و (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء… ) /رواه الترمذي/.
وفي الاصطلاح: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، مما يُرا به التشريع للأمة؛ فيخرج بذلك ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأمور الدنيوية، والجبلية التي لا دخل لها بالأمور الدينية، ولا صلة لها بالوحي. والسُّنة بمعناها العام عند المحديثن: تشمل الواجب، والمندوب. وفي اصطلاح الفقهاء: تختص بالمندوب وما دون الواجب.
وأما الحديث: فهو في اللغة الكلام الذي يُتحدث به، ويُنقل بالصوت والكتابة. وفي الاصطلاح: مرادفٌ للسنة عند جمهور العلماء، وذهب قومٌ إلى اختصاصه بما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قولٍ دون الفعل والتقرير، والحقُّ أن الأصل في الوضع اللغوي للسُّنة: الفعل والتقرير. وللحديث: القول.
ولكن كما أن كليهما هنا يرجع إلى ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك مال أكثر المحدثين إلى تناسي أصليهما اللغويين، والاصطلاح بهما على شيء واحد، والقول إنهما مترادفان، كما مالوا إلى اختصاص الحديث بالمرفوع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُطلق على الصَّادر عن غيره صلى الله عليه وسلم إلا مُقيَّداً.
وأما الخبر: فهو في اللغة مرادفٌ للحديث، فهما يدلان على شيء واحد، ولكن شاع بين كثيرٍ من العلماء تخصيص الحديث بما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجعلُ ذلك الخبر أعمَّ منه، بأن يشمل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، وما صدر عن غيره؛ بينهما عموم وخصوص، فكل حديثٍ خبر، وليس كُلُّ خبرٍ حديثاً، ولذلك سُمي المشتغل بالسنة مُحدثاً، والمشتغل بالتاريخ وأخبار الناس: أخبارياً، وذهب بعضهم إلى جعل الخبر مُرادفاً للحديث والسُّنة، والأفضلُ الرأي الأول.
والأثر: هو الشيء المنقول عن السابقين، فيكون كالخبر يشمل في أصله ما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما صدر عن غيره، وبعضهم اصطلح على تخصيصه بما صدر عن السَّلف من الصحابة والتابعين، وأتباعهم، وهذا هو الأفضل والأحسن في الاستعمال، لأن فيه تمييز الموقوف من الحديث عن المرفوع منه.
السند والمتن:
يتألف الحديث النبوي المروي في كتب السنة من قسمين أساسيين، أولهما: السند، وثانيهما: المتن.
فأما السند أو الإسناد: فهو الطريق الموصلة إلى المتن، أي الرواة الذين نقلوا المتن وأدوه، ابتداءً من الراوي المتأخر مُصنِّف كتاب الحديث، وانتهاءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما المتن: فهو ألفاظ الحديث التي تقوم بها المعاني، وقد امتنع العلماء عن قبول أي حديثٍ ما لم يكن له إسناد، وذلك بسبب انتشار الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال التابعيُّ الجليل محمد بن سيرين رحمه الله: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
ثم يدرس العلماء بعد ذلك كل إسناد يُنقل إليهم؛ فإن توافرت فيه شروط الصحة -وهي أن يتصف رجاله بالضبط والعدالة والاتصال، ولا يكون فيه شذوذ أو عله قبلوه، وإلا ردُّوه، وصار بذلك "الإسناد من الدين"، ولولاه لقال من شاء ما شاء، كما قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله (مقدمة مسلم).
وقد وضع علماء الحديث قواعد وأصولاً خاصة لكل من السند والمتن حتى يُقبلا، وهذه القواعد والأصول هي علم خاص، اسمه (علم مصطلح الحديث)، فمن شاء رجع إلى بعض المؤلفات فيه، ومن أفضلها كتاب (اختصار علوم الحديث) للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى -وأحسن طبعاته طبعة مصرية، بتحقيق المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر وتعليقه، وعنوانها (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث).
أقسام السُّنة بحسب وصولها إلينا: المتواتر والآحاد:
تنقسم السُّنة باعتبار طريقة وصولها إلينا إلى: متواتر وآحاد، وزاد الحنفيَّة قسماً ثالثاً هو المستفيض أو المشهور.
فأما المتواتر: فهو في اللغة: مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، وهو مأخوذ من الوتر. وفي الاصطلاح: خبرُ جمعٍ يستحيل عادةً وعقلاً تواطئهم على الكذب -لكثرتهم أو ثقتهم -عن أمرْ محسوس، أو عن جمعٍ مثلهم إلى أن ينتهي إلى محسوس من مشاهدةٍ أو سماع، وهنا ينتهي الخبر إلى السماع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومشاهدة أفعاله أو إقراره.
ويتضح من هذا التعريف أن هناك شروطاً أربعة لا بُد من تحققها في الحديث المتواتر:
أولها: أن يكون رواتها عالمين بما أخبروا به، وجازمين، غير مجازفين ولا ظانِّين.
وثايها: أن يكون علمهم مُستنداً إلى شيءٍ محسوس؛ كمشاهدةٍ أو سماع.
وثالثها: أن يبلُغَ عددهم إلى مبلغٍ تمنع العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يُقيَّد ذلك بعددٍ مُعيَّن على الصحيح، بل يختلف ذلك باختلاف نسبة ثقة الرواة وضبطهم وإتقانهم.
ورابعها: أن يستمرَّ العدد المعتبر في كل الطبقات، أي: في أوله وأوسطه وآخره (عن إرشاد الفحول للشوطاني، ص 41 -42، بتصرف).
والتواتر قد يكون باللفظ، وقد يكون بالمعنى، وهو بنوعيه يُفيد القطع واليقين بصدق الخبر وصحته، ولا خلاف بين العلماء في ذلك.
وأما حديث الآحاد: فهو كل حديث لم يجمع شروط التواتر السابقة، وقد يتفرَّد به واحد؛ فيُسمَّى غريباً، ولذا يرويه اثنان فأكثر؛ فيُسمى عزيزاً، وقد يستفيض بأن يرويه جماعة، فيكون مشهوراً أو مستفيضاً، وعلى هذا لا يُفيد وصف الحديث بأنه حديث آحادٍ، أنه مرويٌّ عن واحدٍ دائماً.
وأما المشهور والمستفيض: فهو قسمٌ من خبر الآحاد على الصحيح، خلافاً للحنفية الذين جعلوه قسماً قائماً بنفسه، ورتبوا عليه أحكاماً خاصة، وقالوا: إنه يُفيد من الطمأنينة ما لا يفيده خبر الواحد، بنوا على ذلك أنه يُقيِّد مطلق الكتاب كالمتواتر (أصول الفقه للخضري، ص 212).
صحيحٌ أنه يُلاحظ في التعدد في رواته، والشهرة والاستفاضة بتناقله على الألسنة، ولكن الحق كما يرى الجمهور أن ذلك كله لا يُخرجه عن صفة الآحادية، ولا يبلغ به درجة الجمع المشروط في التواتر، وهو أولاً وآخراً حديث آحاد مهما اختلفت الأسماء والألقاب، وهو لذلك ينقسم مثله إلى صحيح وحسن وضعيف.
هذا؛ وقد اختلف العلماء في إفادة حديث الآحاد الصحيح: العلمَ واليقين، فبعضهم كالإمام النووي في "التقريب" ذهب إلى أنه يُفيد الظن الراجح، وذهب آخرون إلى أن ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من الأحاديث المُسندة يُفيد العلم والقطع، ورأى الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى -في (الإحكام 1/ 119 -137) أن خبر الواحد عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُوجب العلم والعمل معاً.
والحق الذي نراه ونعتقده أن كل حديث آحادي صحيحٌ، تلقته الأمة بالقبول، من غير نكيرٍ منها عليه، أو طعنٍ فيه؛ فإنه يُفيد العلم واليقين، سواءٌ كان في أحد الصحيحين، أو في غيرهما (وقد جزم بذلك الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، ص 96).
وأما ما تنازعت الأمة فيه؛ فصحَّحه بعض العلماء وضعَّفه آخرون، فإنما يُفيد عند من صحَّحه الظن الغالب فحسب. والله تعالى أعلم.
السُّنة من الذكر وهي محفوظةٌ إلى يوم القيامة:
وهذه مسألةٌ أحببتُ التنبيه عليها؛ لأهميتها وغفلة الكثيرين عنها، وهي أن السنة من الذكر، وأنها محفوظةٌ من الضياع، ومأمونةٌ من الاختلاط بغيرها، بحيثُ يستحيل تمييزها أو فصلها عما ليس منها، خلافاً لما يظنه أهل بعض الفرق المارقة الضالة القاديانية، والقرآنيين الذين يقولون: إنه قد اختلط المكذوب المختلق من الحديث في الصحيح الثابت منه، وليس في وسع إنسان التفريق بينهما، وأن المسلمن بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد التبس عليهم حديث نبيهم وضاع، ولم يعودوا قادرين على الاستفادة منه والرجوع إليه؛ لأنه لا يُمكن الوثوق بشيءٍ منه أبداً !.
وهكذا ضرب هؤلاء عرض الحائظ بالمصدر الثاني للدين الإسلامي، وأطاحوا به وهدموه، وهو المصدر الذي يتوقف عليه أيضاً؛ فهم المصدر الأول نفسه (أي القرآن) والاستفادة منه، وهذا هدفٌ عظيم، ومطمحٌ كبير للكفار وأعداء الإسلام، يبذلون من أجله كل ما يملكون.
وبعضهم قال: إن من الواقع الثابت اختلاط الحديث الصحيح بالموضوع، ولكن هناك طريقةٌ لتمييز بعضها من بعض، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (سيفشو الكذب عليَّ؛ فما سمعتم عني فاعرضوه على القرآن، فما وافقه فأنا قلته، وما لم يُوافقه فأنا بريء منه)، وهذا الحديث من الأحاديث الموضوعة المختلقة عند جميع أهل العلم بالحديث، وقال أحد العلماء الأذكياء: لقد فعلنا بهذا الحديث ما طلبه منا؛ فعرضناه على القرآن؛ فوجدناه يُخالفه في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7)، وغيره فحكما بوضعه وبراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم منه (عن إرشاد الفحول للشوكاني، ص 29، بتصرف).
ومن الأدلة على حفظ السنة قوله تبارك وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9)؛ ففي هذه الآية الكريمة، وعدٌ قاطعٌ من الله تعالى بحفظ الذكر. فما هو الذكر؟ لا شك أنه يشمل أول ما يشمل القرآن الكريم، ولكنه عند التأمُّل والتدقيق يشمل أيضاً السُّنة النبوية الشريفة، وإلى هذا ذهب عددٌ من العلماء المحققين، منهم الإمام أبو محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى؛ فقد عقد فصلاً طويلاً في (الإحكام، 1/ 109 -122)، وساق فيه أدلة قوية، وبراهين مُفحمة؛ للتدليل على أن السنة من الذكر، وأنها محفوظة كالقرآن، وأن خبر الآحاد يُفيد العلم، ومما قاله (ص 109 -110): "قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحى} (النجم: 3 -4)، وقال تعالى آمراً لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: {إن أتبع إلا ما يُوحى إليَّ} (الأحقاف: 9)، وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44)؛ فصحَّ أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحيٌ من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحدٍ من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحيٍ نزل من عند الله تعالى فهو ذكرٌ مُنزَّل؛ فالوحي كله محفوظٌ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمونٌ أن لا يضيع منه، وأن لا يُحرّف منه شيءٌ أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه؛ إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً، وضمانه خائساً (أي فاسداً وناقصاً)، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقلٍ؛ فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بتولي الله تعالى حفظه، مُبلَّغٌ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى: {لأنذركم به ومن بَلَغ} (الأنعام: 19).
فإذا كان ذلك كذلك؛ فبالضرورة ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيءٍ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطلٌ موضوعٌ اختلاطاً لا يتميز عن أحدٍ من الناس بيقين، إذ لو جاز لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} كذباً، ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلمٌ.
ومن الأدلة أيضاً: أن الله جل شأنه جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم أنبيائه ورسله، وجعل شريعته الشريعة الخاتمة، وكلَّف الناس بالإيمان به واتباع شريعته إلى يوم القيامة
فإن قال قائل: إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده؛ فهو الذي ضمن تعالى حفظه، لا سائر الوحي الذي ليس قرآناً، قلنا به: هذه دعوى كاذبة مُجردة عن البرهان، وتخصيصٌ للذكر بلا دليل، وما كان هكذا؛ فهو باطلٌ؛ لقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل: 64)؛ فصحَّ أنَّ من لا بُرهان له على دعواه فليس بصادقٍ فيها، والذكر اسمٌ واقعٌ على ل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآنٍ أو من سنة وحيٍ يبين بها القرآن، وأيضاً فإن الله تعالى يقول: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نُزل إليهم}، فصحَّ أنه عليه السلام مأمورٌ ببيان القرآن للناس، وفي القرآ مُجملٌ كثيرٌ؛ كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المُجمل غير محفوظ، ولا مضمونٌ سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاعُ بنصِّ القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذن لم ندر صحيح مُراد الله تعالى منها مما أخطأ فيه المخطئ، أو تعمَّد فيه الكذب الكاذبُ، ومعاذ الله من هذا …".
قلتُ: وقد نقل كلام ابن حزمٍ وغيره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "مختصر الصواعق المرسلة (ص 487 -493)، وأقرَّه واستحسنه، وقال عقبه: "وهذا الذي قال أبو محمد -يعني ابن حزم -حقٌّ في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول عملاً واعتقاداً، دون الغريب الذي لم يُعرف تلقي الأمة له بالقبول".
وممن ذهب إلى ذلك أيضاً الإمام عبد الله بن المبارك؛ فقد سئل رحمه الله عن هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (تدريب الراوي؛ للسيوطي، ص 102، والباعث الحثيث؛ لأحمد شاكر، ص 95)، وقد نُقل مثل ذلك عن الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله.
ومنهم العلامة محمد بن إبراهيم الوزير؛ فقد قال بعد ذكر الآية السابقة: "وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تزال محفوظة، وسُنَّته لا تبرح محروسة … " (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، ص 33).
وألغى كل شريعة تخالفها، فمما تقتضيه إقامة حجة الله تعالى على عباده أن يُبقي دينه صلى الله عليه وسلم، ويحفظ شرعه، إذ من المحال أن يُكلف الله عباده بأن يتبعوا شريعةً مُعرَّضةً للزوال أو الضياع، ومعلومٌ أن المرجعين الأساسيين للشريعة الإسلامية، هما القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (النساء: 59)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيتُ القرآن، ومثله معه -أي السنة)/رواه أبوادود وغيره بإسناد صحيح/.
والقرآن محفوظٌ لكونه منقولاً إلينا بالتواتر، وهو أعلى درجةً من درجات ثبوت الأخبار، وبما أن السنة هي المُبيِّنة للقرآن والشارحة له، والمُخصِّصة لعمومه، والمُقيِّدة لمطلقه، ولا يُمكن فهم القرآن، ولا العمل به إلا بواسطتها، كما قال تبارك وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلَّهم يتفكرون} (النحل: 44).
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم بسنته هو الذي يُبين ويشرح للناس ما نُزِّل إليهم من كلام الله تبارك وتعالى؛ فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه السُّنة، ويتعهَّد بقاءها، وعلى هذا تنطبق القاعدة الأصولية الصحيحة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فحجة الله تعالى على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، وهذا الحفظ لا يتمُّ إلا بحفظ السُّنة؛ فلزم من ذلك حفظ السُّنة وهو المطلوب.
أخي القارئ هذه أمورٌ أحببتُ أن أعرض لها في هذه المُقدِّمة، والآن ما يسعني إلا أن أدع زمام الحديث لأستاذنا المفضال العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ليُحدثنا ببيانه العذب وأسلوبه العلمي، فلنستمع إليه بانتباه تام، ولنتابع حديثه بقلوبنا وعقولنا.