أيام من حياتي
زينب الغزالي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: ليس هذا الكتاب رواية أدبية تستدر العواطف، ولا قصة خيالية من وحي التفكير، وليست ذكريات عابرة عن ماضٍ حزين، لكنه تأريخٌ للمأساة، ورسمٌ دقيق لما جرى لجماعة الإخوان إبان حكم الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر –رحمه الله تعالى –وقد روت فيه الحاجة زينب الغزالي الجبيلي رحلة الألم، وقصة المعاناة، والعذابات التي ذاقها أبناء الجماعة في سبيل الغايات التي رسمتها جماعتهم، وذلك في السجن الحربي الذي أمضت فيه ما يربو على العام، وهي تتنقل بين أزقة الغرف وممرات الزنازين.
ولعل هذه الحملة الكبيرة التي شنها عبد الناصر –رحمه الله –على الجماعة؛ لأنه نمت إليه أخبار تُفيد بنية الجماعة الانقلاب على نظام الحكم، وتداول أفراد الجماعة لهذا الأمر في اجتماعاتهم السرية، التي ربما كانت تخطط لاغتيال عبد الناصر –رحمه الله –وربما يكون ذلك حقيقة، وبما يكون مجرد وشاية وصلت لأجهزة المخابرات المصرية آنذاك.
وليس بمستغرب أن تفكر الجماعة المصرية في تلك الحقبة هذا التفكير، في الوقت الذي كان الحزب الحاكم يحوز على أغلبية أصوات الشعب المصري، وكونه رمزاً للفداء والتضحية والبسالة، فقد كانت الجماعة حديثة النشأة، وتريد أن تجد مكانها في بيوت وشوارع المجتمع المصري، فكان لا بُد من فرقعة صادمة تشقُّ الصفوف، وتثر الانتباه.
لقد كفرت الجماعة المصرية الحزب الحاكم صراحةً ودون مواربة، بل وكل العاملين في السلك الحكومي، معتبرةً أن الشيوعية التي تُظلهم منبراً كفرياً لا ينجو منه أحد، هذا مع أن الإسلام أو شعائره العامة والخاصة لم يحاربها أحد، وكان اقتباس النظام للشيوعية يسري في جوانب معينة لا علاقة لها بالدين، فكان يسري في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لإدارة الدولة، الأمر الذي اعتبره الإخوان كفراً بمبادئ الإسلام وبمبادئه وقيمه!
لقد كانت زينب الغزالي تؤمن بكفر عبد الناصر شخصياً، وتعلنها بصراحة تامة، وبعبارات خطابية قوية، ولعلك تقرأ ذلك بوضوح في الصحيفة (183) من كتابها حيث تنفي أن يكون عبد الناصر من أهل القبلة، وتعليلها لذلك بأنه يُعطل الحكم بكتاب الله تعالى! ولا شك أن مثل هذه الإطلاقات هو جناية من الجماعة المصرية على المجتمع بأسره، الأمر الذي يفسر كل تلك الأحداث التي قد يفهمها البعض أنها بطولة وتحدي ورفع لراية القرآن.
لقد حصدت الجماعة ثمار كلماتها وشعاراتها المغلوطة في تلك السجون، وإذا كان هدفهم هو التغيير فدونهم أساليب شرعية شتى، وسيما وأن الناس لم ينسلخوا عن دينهم، وهي جماعة تنتمي إلى حاضنة الإسلام، وأما الوصول إلى سدة الحكم بخلع الغير بعد تكفيره وتخوينه واستحلال دمه، ووضع قائمة طويلة تعجُّ بسيئاته، سعياً إلى الانقلاب باسم الدين، فهذه جريمة كُبرى لا تضاهيها جريمة.
سطرت زينب الغزالي موقفها بكل جرأة إزاء الرئيس عبد الناصر –رحمه الله- وإزاء عادات وأخلاقيات المجتمع المصري الطيب، والتي كانت الجماعة المصرية تصفه بالمجتمع الجاهلي! وأسجل هنا أن هذه المحنة كان يمكنها أن تنقضي وتتبدد لو غلّب الإخوان داعية العقل، لكنه الانجرار وراء العواطف، والفهم المغلوط للدين والحياة، رأيناه بصورة عملية في بدايات التأسيس، ولا يزال مستمراً حتى اليوم.
لم نجد في حسابات الخلايا الأولى للجماعة التدرج في فقه التغيير، لكنهم نصبوا أنفسهم أعداءً للأنظمة، في إصرار عجيب، وعناد منقطع النظير، وتضحيات أظنها في غير محلها، وقد جمدت عقولهم في قوالب المعارضة، وصاروا نُسخاً ملتهبة تسير وسط الناس، كل من لا يروقهم أو يخالف فكرتهم فهو كافر، الأمر الذي رسخته الجماعة في ندواتها وكتاباتها واجتماعتها،
ومن يقرأ هذا الكتاب يأسف لأمرين: الأول فقدان عنصر الحكمة في دعوة الإخوان، والثاني: تحمل كل هذا العذاب دون نتيجة تُذكر، لقد كانت حقبة سوداء بالنسبة لهم، امتزجت فيها الأهواء بالمطامع، والدين بالدنيا، وأصبح العناد هو منتهى الرغبة وأسمى الأهداف، وأُغلقت العبون وصُمت الآذان وسُدت المنافذ أمام هذا التيبُّس والمشاققة.
ومع ذلك ترى الكاتبة وهي ترسم صوراً عن الافتخار بتضحياتها وصمودها مستغلة في ذلك العواطف الدينية، ومن العجيب أن تقرر زينب كتابة هذه المذكرات باعتبارها حقُّ التاريخ، وحقُّ أبناء الجماعة الذين يسرون في نفس الطريق.
بدأت الكاتبة رحلتها في الكتاب من قصة الحادث المُدبر من قبل أجهزة أمن عبد الناصر التي حاولت اغتيالها في أوائل فبراير عام 1964 م، وجعلت ذلك تحت عنوان (عبد الناصر يكرهني شخصياً)! ثم دعوة الخزب الاشتراكي العربي لها للانضمام إليه والعمل تحت مظلته (مع الاحتفاظ بعمل جمعية الشابات المسلمات التي تديرها) ورفضها لذلك، ثم تروي قصة بيعتها للجماعة وانضمامها إليها على يد حسن البنا في العام 1937م، واتصالها بكبار شخصيات الإخوان كالهضيبي، وعبد الفتاح عبده إسماعيل وغيرهم.
ثم مرور ما يُسمى بنكبة الإخوان في العام 1954م، وصدور الإعدام بحق عدد من قيادات الإخوان منهم: عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، وحسن الهضيبي، لكنه لم يُنفذ في الأخير، نظراً لحالته الصحية، ثم صدور قرار بحل الجماعة ورفض الإخوان لهذا القرار، تحت عنوان: عبد الناصر ليس له أي ولاء علينا، ولا تجب له طاعة على المسلمين! لأنه بزعمهم يُحارب المسلمين، ولا يحكم بكتاب الله تعالى! (ص 238).
ثم تطرقت إلى جانب من حياتها الشخصية، وعلاقتها بزوجها الذي يبدو أنه كان لا يملك من أمره شيئاً، كونها اشترطت عليه في بداية زواجها ألا يتدخل في حياتها الدعوية، وأنه لا علاقة له بمن تلفتيه وتستضيفه في بيته الذي سمته (بدار الأرقم) فيما تزعم! مع ما نلمسه من تفضيلها عمل الإخوان على إدارة شؤون بيتها (ص 40) ثم عرّجت إلى صلتها بالشهيد سيد قطب، ودفاعها المستميت عنه؛ حتى قالت: (اقرأوا المعالم لتعرفوا لماذا حُكم عليه بالإعدام) (ص 215)، فماذا كتب سيد في المعالم يا ترى!
وضع سيد قطب ملامح المنهج الأولي لجماعة الإخوان والذي يتمثل ببعض كتب التفسير والحديث، وأجزاء من كتاب (المعالم)، بالإضافة إلى المنهج الخفي الذي يتلقونه في تكفير الأنظمة والحكام، باعتباره الجزء الأهم في مشروع الإخوان للوصول إلى الحكم، فيلقنون ذلك لشبابهم مع كل سورة يحفظها، وكل حديث يدرسه، فيمتزج هذا التكفير والمنابذة بلحمه ودمه، حتى يظن ذلك آية في المصحف، أو حديثاً في الصحيح.
ومن يحمل هذا الفكر لا بد وأن يصطدم بالمجتمع بكل ثقافاته وعاداته وتقاليده وطرائقه؛ فيظن المسكين أنه قطب الحق، وعليه يدور دين الإسلام، وغيره على الباطل الصرف، ولعل الله يقذف في قلب هذا المسكين قبسة من نوره فيستفيق من هذه الأحلام، إذا تيسر له الخوض في تاريخ الجماعة، وفهم حقيقة الإسلام.
ولعلك تتساءل: كيف سيحكم الإخوان مصر؟ تجيب على ذلك الحاجة زينب في كتابها في موضعين، تقول: نعتمد تدريس مناهج الإخوان مدة ثلاثة عشر عاماً (مدة الدعوة المكية)، ثم يقومون بحص شامل في الدولة على مستوى الجمهورية، فإذا وجدوا أن الحصاد من أتباعهم والمقتنعين بفكرتهم تبلغ 75 % رجالاً ونساءاً، نادوا حينها بقيام الدولة الإسلامية، وطالبوا بقيام حكم إسلامي. وإذا وجدوا الحصاد 25% جددوا تربيتهم ودراستهم ثلاثة عشر عاماً أخرى! وهلم جرا، حتى يجدوا الناس مقتنعين بفكرتهم.
ولكن يبقى تساؤل هنا: لماذا لا يلجأ الإخوان إلى نظام الاقتراع، والمشاركة النيابية في تلك الحقبة؟ والجواب أنهم يرون هذا من الكفر، والحكم بغير كتاب الله! لكن سبحان الله تغير كل هذا مع مجيء محمد مرسي –رحمه الله –ليثبت أن الإخوان فكرة صحيحة يحملها مُنظّرٌ فاشل، لم يفهموا مبادئ الإسلام بعد، ولم يستفيقوا من أحلامهم الوردية التي لم تتعامل مع الواقع، ولم يتخلصوا من فهمهم المغلوط للدين، وطريقتهم المعهودة: نُجرب فإذا فشلنا نُغير. ما يسمح لهم بتكرار الفشل دون اعتبار، أو الاعتبار بعد فوات الأوان.
ثم انتقلت الكاتبة لتحدثنا عن المؤامرة في القضاء على الجماعة، بوصاية من المخابرات لعالمية على حد زعمها، حيث صدر أمر باعتقالها في 20/ 8 /1965 م. وبدأت تسرد تنقلاتها في السجن الحربي بين الغرف والزنازين الضيقة والقاتمة، وتعرضها لشتى أنواع التعذيب، بالإضافة إلى المساومات للتخلي عن الجماعة، ثم الرؤى التي رأتها في السجن والتي تربو على السبعة في هذا الكتاب (انظر الصفحات: 59، 115، 200، 216، 217، 219، 220).
وسجلت زينب الغزالي ما جرى لها على يد ضباط السجن الحربي، ذاكرة أسماءهم، مثل: شمس بدران، وصفوت الروبي، وحمزة بسيوني وغيرهم، ثم عرضها على المحكمة بعد عام كامل قضته في السجن، وذلك بتاريخ 17 /5 /1966م وحكم عليها بالسجن 25 سنة مع الأشغال الشاقة، نقلت على إثرها إلى سجن "القناطر"، حتى أفرج عنها بعد موت عبد الناصر بقرار رئاسي من أنور السادات في 9/ 8/ 1971م.
وفي الكتاب أعاجيب تكشف عوار هذا الفكر المغلف بالعناد، وهو قولها في جاسوسة يهودية تعمل لصالح الكيان، وقد سًجنت إبان حرب النكسة، وقد رافقتها في السجن وسمحت لها باستخدام المرحاض الخاص بها: " رأينا من ألد أعداء الإسلام إنسانية" وتقول أيضاً: "وليس لنا حيلة إلا أن نتعايش مع الإنسانية أينما وجدت، طالما ذلك في دائرة الإسلام، قهي الخلاصة التي لم يسنح للإخوان العمل بها".
وقالت تصف مسيحية كانت معها في السجن –بع أن قدمت لها بعض الطعام: "وعجبنا لهذا الطبع الإنساني النادر وجوده في مثل هذه الظروف"!