التبرك أنواعه وأحكامه
د. ناصر بن عبد الله الجديع
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
المبحث الثاني: التبرك بقبور الصالحين، وحكم الزيارة
● حكم زيارة قبور الصالحين:
تقدم في أول الفصل السابق بيان مشروعية زيارة القبور، وأن المقصود بهذه الزيارة لقبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين شيئان:
أحدهما: الاعتبار والاتعاظ، وتذكر الموت والأخرة.
والثاني: الإحسان إلى الأموات بالسلام عليهم والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية .
○ حكم شد الرحل للزيارة:
إذا كانت زيارة قبور الأنبياء والصالحين مستحبة كما تقدم... - فهل يجوز شد الرحل لزيارتها ؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا خلاف العلماء في هذه المسألة: اختلف أصحابنا - أي الحنابلة - وغيرهم، هل يجوز السفر لزيارتها ؟ على قولين:
أحدهما: لا يجوز ، والمسافرة لزيارتها معصية ، ولا يجوز قصر الصلاة فيها، لأن هذا السفر بدعة، لم يكن في عصر السلف، ولما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (تقدم تخريجه)
/٣٨٨/
وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب.
الثاني: يجوز السفر إليها، قاله طائفة من المتأخرين، وما علمته منقولا عن أحد من المتقدمين، بناء على أن الحديث لم يتناول النهي عن ذلك، كما أن الحديث لم يتناول النهي عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الوالدان، والعلماء، أو بعض المقاصد ، من امور الدنيوية المباحة (١).
والذي يظهر لي صواب القول الأول --كما يرجحه ابن تيمية رحمه الله، وغيره من العلماء (٢) ، لما يأتي:
١-عموم حديث «النهي عن شد الرحال» لسائر المساجد والمشاهد والمواضع المقصودة للزيارة تقربا وتعبدا (٣) ، ومنها زيارة القبور .
وهذا هو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من هذا الحديث، حيث أنكر الصحابي بصرة بن أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة رضي الله عنه لما رآه راجعاً من الطور الذي كلم الله عليه موسى قائلا: « لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله يقول: لا يعمل المطي (٥) إلا إلى ثلاثة مساجد (٦)
_____________________________
(١) اقتضاء الصراط المستقيم ٦٦٥/٢ ، ٦٦٦ باختصار.
(٢) انظر كتاب الدين الخالص لمحمد صديق حسن ٣/ ٥٩٠، فما بعدها .
(٣) انظر اقتضاء الصراط المستقيم ٦٦٥/٢، ٦٦٦ ، ولقد أفاض الشيخ الألباني حفظه الله في بيان دلالة ذلك الحديث على عموم النهي مناقشا الروايات والاحتمالات الواردة. انظر كتابه أحكام الجنائز وبدعها ص ٢٢٤ - ٢٣١.
(٤) هو بصرة بن أبي بصرة الغفاري، له ولأبيه صحبة، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه، وهما معدودان فيمن نزل مصر من الصحابة. انظر أسد الغابة ٢٣٧/١ ، الإصابة ١٦٦/١ ، تهذيب التهذيب ٤٧٣/١ .
(٥) المطي بفتح الميم: جمع مطية، وهى الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها، وقيل: يمطى بها في السير: أي يمد ، من كتاب النهاية لابن الأثير ٤/.٣٤ .
(1) جاء ذلك ضمن حديث طويل أخرجه الإمام مالك في الموطأ ١٠٨/١ - ١١٠. كتاب الجمعة ، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة، والنسائي في سته ١١٣/٣ - ١١٦ كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، وقال ابن حجر : إسناده صحيح ( الإصابة ١٦٦/١)، قال الألباني : إسناده صحيح على شرط الشيخين . انظر إرواء الغليل ١٤٢/٤ .
/٣٨٩/
٢- أن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين لم يكن موجودا في الإسلام وقت القرون الثلاثة - قرن الصحابة والتابعين وأتباعهم - التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا السفر جائزا فلا بد أن يقع من أحدهم، ولم يحدث هذا السفر إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة (١).
٣- لم يرد أمر من الرسول بالسفر إلى مشاهد الموتى الخالية، ومقابرهم البالية، ولكن السفر لأغراض أخرى ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيه ثبوتا لا شك فيه (٢).
٤ - أن شد الرحال إلى مقابر الأنبياء والصالحين يؤدي إلى اتخاذها أعيادا واجتماعات عظيمة، كما هو مشاهد ، وهو يشابه شد الرحال لزيارة بيت الله الحرام (٣)، وفي هذا مخالفة للشرع، مع ما يجره من المفاسد الأخرى.
٥- تقدم في الفصل الماضي ترجيح عدم جواز شد الرحال لمجرد زيارة قبر الرسول ، فعدم جواز ذلك بالنسبة لقبور غيره من الأنبياء والصالحين أولى وأحرى.
وأحب أن أنبه أخيراً إلى ثبوت النهي عن شد الرحال إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين حتى لو كانت الزيارة على الوجه المشروع، فكيف إذا اشتملت على الكثير من المنكرات والمفاسد - كما سيأتي بيانه قريباً.
فالحاصل في هذه المسألة استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين على الوجه المشروع، بدون شد رحل وإنشاء سفر ، والله تعالى أعلم .
_____________________________
(١) الجواب الباهر في زوار المقابر لابن تيمية ص ٦٦ .
(٢) من كتاب الدين الخالص ٣/ ٥٨٧.
(٢) الإبداع لعلي محفوظ ص ٨٥ .
/٣٩٠/
○ أشهر القبور التي يتبرك بها:
إن من أعظم الفتن والبلايا التي وقعت عند المسلمين بعد القرون الثلاثة المفضلة تعظيم قبور الأنبياء والأولياء والصالحين، واتخاذها مزارات ومشاهد، والتبرك بها على اختلاف مظاهر التبرك وأشكاله المبتدعة.
وأول من أدخل هذه البدع عند المسلمين هم الشيعة الروافض قبحهم الله، على يد الدولة العبيدية في أواخر المائة الثانية. حين ضعفت خلافة بني العباس (١)، ثم تبعهم في ذلك أصحاب الطرق الصوفية فأشاعوها بين المسلمين (٢).
وقد انتشرت مشاهد ومزارات القبور في كثير من أنحاء العالم الإسلامي للأسف الشديد .
ومن أشهرها في مصر: مشهد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالقاهرة.
وقد دفن جسد الحسين بكربلاء في العراق باتفاق المؤرخين أما مقر رأسه فقد تعددت أسماء المدن التي يقال بوجود الرأس فيها (٤).
وهذه المدن هي: المدينة ، القاهرة ، دمشق ، كربلاء ، حلب ، عسقلان (٥)، مرو (٦)، الرقة (٧) .
ولقد تعددت المشاهد المنسوبة للحسين رضي الله عنه .
_____________________________
(١) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ١٦٧/٣٧، ٤٦٦ .
(٢) راجع كتاب الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق ص ٤٠٣ ، ٤٠٤
(٣) انظر مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية ٤٩٣/٣٧، والبداية والنهاية ٢٠٣/٨ .
(٤) انظر البداية والنهاية ٤/٨ ٢٠، وكتاب المسجد النبوي الشريف ومزارات أهل البيت لاسماعيل أحمد والنبوي سراج ص ٥٧ فما بعدها .
(٥) عسقلان : مدينة بفلسطين، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كان يقال لها عروس الشام.
انظر معجم البلدان ١٢٢/٤، آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني ص ٢٢٢.
(٦) مرو : أشهر مدن خراسان ، تسمى ( مرو الفاهيجان ) أي نفس السلطان ، سميت بهذا لجلالتها عند أهلها. أخرجت مرو علماء أجلاء منهم أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك . ( انظر معجم البلدان ١١٢/٥، وهي الآن تابعة لروسيا.
(٧) الرقة بفتح الراء : مدينة مشهورة بالعراق على الجانب الشرقي من نهر الفرات. انظر معجم البلدان ٣ /٥ .
/٣٩٢/
وقد حقق شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك، ورجح أن رأس الحسين رضي الله عنه دفن بالمدينة (١).
ومن المشاهد المشهورة في مصر أيضا: مشهد السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٢) بالقاهرة (٣). ومشهد ( السيد ) البدوي (٤) بطنطا .
ومن أشهرها في الشام: مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه بحمص، ومشهد صلاح الدين الأيوبي بدمشق بجوار الجامع الأموي ، ومشهد محيي الدين ابن عربي بدمشق أيضا (٥).
ومن أشهرها في العراق : مشهد الحسين بن علي بكربلا،
_____________________________
(١) راجع إجابته المبسوطة على أسئلة حول مكان رأس الحسين في مجموع الفتاوى ٢٧/ ٤٥٠ -٤٨٩.
(٢) هي زينب بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ولدت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة عاقلة لبيبة، كانت مع أخيها الحسن رضي الله عنه لما قتل فحملت إلى دمشق .
انظر أسد الغابة ٦/ ١٣٢، الاصابة ٣١٤/٤ .
(٣) لقد قال المؤرخ المصري علي باشا مبارك - المتوفى سنة ١٣١١ هـ - في كتابه : الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ٩/٥ عند ذكر مشهد السيدة زينب بالقاهرة: "لم أر في كتب التواريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما جاءت إلى مصر في الحياة وبعد الممات".
(٤) هو أحمد بن علي، أبو العباس البدوي الصوفي المشهور، عرف بالبدوي للزومه اللثام، وأصله من المغرب ، ودخل مصر أيام الملك الظاهر بيبرس . وقد قدسه أتباعه ونسبواله مناقب كثيرة مليئة بالخرافات والأباطيل. توفي بطنطا سنة ٦٧٥ هـ .
انظر شذرات الذهب ٣٤٥/٥ ، الأعلام ١٧٥/١ ، كتاب ( السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة) للدكتور أحمد صبحي منصور .
(٥) هو محمد بن علي بن محمد الطائي الأندلسي نزيل دمشق ، المعروف بمحيي الدين ابن عربي ، ويقال ابن العربي . صاحب التصانيف في تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة قال فيها أشياء منكرة . قال الذهبى: من أردأ تواليفه كتاب فصوص الحكم وقال : قد عظمه جماعة وتكلفوا لما صدر منه ببعض الاحتمالات . توفي بدمشق سنة ٦٣٨ هـ .
انظر سير أعلام النبلاء ٤٨ /٢٣ ، ميزان الاعتدال ٣/ ٦٥٩ ، شذرات الذهب ٥/ ١٩٠، الأعلام ٦/ ٢٨١.
(٦) قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله عن هذا المشهد : (اتخذه الرافضة وثنا ، بل ربا مدبرا وخالقا مسيرا ، وأعادوا به المجوسية ، وأحيوا به معاهد اللات والعزى وما كان عليه أهل الجاهلية ) انظر الرسائل المفيدة ص ٣٩٢ .
/٣٩٣/
ومشاهد أبي حنيفة، وموسى الكاظم (١) ، ومعروف الكرخي (٢) وعبد القادر الجيلاني ببغداد .
وفي تركيا مشهد أي أيوب الأنصاري رضي الله عنه باستانبول .
ومن أشهرها في السودان مشهد محمد عثمان الميرغني (٣) في كسلا .
وفي المغرب مشهد أحمد التجاني (٤) بفاس. إلى غير ذلك من المشاهد والمزارات الأخرى .
على أن بعض المشاهد والقبور مكذوبة أيضا ، وليس لها أصل ، أو مشكوك فيها (٥) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن غالب ما يستند إليه القبوريون في تعيين القبور : الرؤيا المحضة ، أو شم رائحة طيبة، أو توهم خرق عادة (٦) أو نقل لا يوثق به (٧)
_____________________________
(١) هو موسى بن جعفر بمن محمد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب ، كان كثير العبادة والمروءة ، توفي ببغداد سنة ١٨٣ هـ . انظر تاريخ بغداد ٢٧/٣ ، وفيات الأعيان ٥/٣٠٨، والبداية والنهاية ١٨٣/١٠ .
(٢) هو معروف بن فيروز الكرخي أبو محفوظ ، كان أحد المشهورين بالعبادة والزهد والعزوف عن الدنيا ، وأن يوصف بأنه مجاب الدعوة ، وحكى عنه كرامات ، وقد افتتن به بعض أهل بغداد فكانوا يستسقون بقبره ، توفي ببغداد سئة ٢٠٠ هـ . انظر تاريخ بغداد ١٩٩/١٣ ، طبقات الحنابلة ١/ ٣٨١ ، وفيات الأعيان ٢٣١/٥ .
(٣) هو محمد عثمان الميرغني ، صاحب طريقة في التصوف مستقلة ، وله أتباع كثيرون ، ينسبون له كرامات عديدة ، وقد ولد بالطائف وانتقل إلى مصر ثم إلى السودان فاستتقر في ( الخاتمية ) جنوب كسلا ، ومات فيا سنة ١٢٦٨ هـ .
انظر جامع كرامات الأولياء للنبهاني ٣٦٥/١ ، الأعلام ٦/ ٢٦٢ ، الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ حمود عبد الرؤوف القاسم ص ٣٦٦.
(٤) هو أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد التيجاني أبو الياس الصوفي . مؤسس الطريقة التجانية بالمغرب ، توفي بفاس سنة ١٢٣٠ هـ انظر شجرة النور الزكية لمحمد بن محمد مخلوف ص ٣٧٨ ، الأعلام ٢٤٥/١ ، معجم المؤلفين ص ٢٤٢.
(٥) انظر أمثلة على ذلك في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٢٧/ ١٧٠.
(٦) انظر مناقشة ابن تيمية لهذه الدعاوى في مجموع الفتاوى ٤٥٧/٢٧ - ٤٥٩. وانظر إن شئت نماذج لكيفية معرفة بعض القبور المشهورة في مكة المكرمة أوردها المؤرخ حمد الجاسر في مجلة العرب (ج ٣، ٤ - رمضان وشوال ١٤٠٢ هـ) ص ١٦٩، ١٧٠ ضمن كلمة له بعنوان ( الآثار الإسلامية في مكة المشرفة).
(٧) مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٧/ ١٧٠ .
/٣٩٤/
○ مظاهر التبرك بقبور الصالحين :
لم يقف أصحاب بدع القبور عند حد السنة فيما يتعلق بالقبور وزيارة أصحابها ، بل تجاوزوا ذلك وأحدثوا بدعا كثيرة وخطيرة ، خاصة عند قبور الأولياء والصالحين ، أو من يسمون بذلك .
يفعلون هذا كله باسم التبرك بالصالحين، واعتقاد منفعتهم، وتعظيمهم وتقديس أضرحتهم، مدعين أن ذلك من شرائع الدين .
وسأذكر الآن أبرز مظاهر التبرك بقبور الصالحين فيما يأتي:
١ - دعاء أصحاب القبور وطلب الحوائج منهم.
هذا من أعظم ما ابتدع عند القبور حيث إن من أصحاب البدع من يستغيث بالأموات ، ويطلب منهم الحاجات الدينية أو الدنيوية.
يسأل أحدهم المقبور الميت كما يسأل الحي الذي لا يموت ، يقول : يا سيدي فلان اغفر لي وارحمني وتب علي ، أو يقول: اقض عني الدين، اشف مريضي، وانصرني على فلان، ونحو ذلك (١).
ولا شك أن هذه الأعمال ونحوها شرك أكبر ، يخرج من الملة الاسلامية ، وموجب للخلود في النار لمن مات عليه .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله مبينا عظم مخالفة هؤلاء لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور : "وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت ، من الدعاء والترحم ، والاستغفار ، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به ، والاقسام على الله به ، وسؤاله الحوائج ، والاستعانة به ، والتوجه إليه.
_______________________________
(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ٨٤٢/٢ بتصرف .
/٣٩٥/
بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه توحيد وإحسان إلى الميت ، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم ، وإلى الميت" (١).
ومن البدع المستحدثة أيضا التوسل بصاحب القبر ليدعو الله تعالى له .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حكم هذا الفعل : «وهذا بدعة باتفاق أئمة المسلمين » (٢).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: « وأما التوسل بالأموات إلى الله سبحانه، وجعلهم واسطة بينهم وبين الله، فهذا من أكبر المحرمات ، بل هو عين ما يفعله المشركون ، فإن المشركين ما كانوا يعتقدون أن اللات والعزى ونحوها تخلق وترزق، وإنما كانوا يتوسلون بها إلى الله (٣)، كما قال تعالى حاكياً عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (٤).
٢- أداء بعض العبادات عند قبورهم:
أ - أشهر هذه العبادات قصد الدعاء عند قبور الصالحين ، لاعتقاد بركة هذه المواضع ، وأن الدعاء عندها يستجاب .
وأما إذا حصل هذا الدعاء اتفاقاً، ودون قصد ولا اعتقاد فيها فلا بأس في ذلك .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية موضحا حكم هذه المسألة : "الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين:
_______________________________
(١) زاد العاد في هدي خير العباد ١/ ٥٢٦، ٥٢٧.
(٢) الرد على البكري لابن تيمية ص ٥٦.
(٣) فتاوى ابن إبراهيم ١٢٤/١، ١٢٥.
(٤) سورة الزمر (٣) .
/٣٩٦/
أحدهما : أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق ، لا لقصد الدعاء فيها كمن يدعو الله في طريقه ، ويتفق أن يمر بالقبور ، أو كمن يزورها فيسلم عليها ، وسأل الله العافية له وللمتوفى ، كما جاءت به السنة ، فهذا ونحوه لا بأس به .
الثاني : أن يتحرى الدعاء عندها ، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا النوع منهي عنه ، إما نهي تحريم أو تنزيه ، وهو إلى التحريم أقرب" (١).
ب - ومن العبادات الموجودة إقامة الصلاة عند قبور الصالحين ، أو إليها ، تبركا بها ، وتحريا للقبول وتعظيم الأجر .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية بعد أن أشار إلى نهي النبي عن الصلاة في المقبرة مطلقا (٢) ، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته ، كما يقصد بركة المساجد الثلاثة ونحوها ، سدا لذريعة الشرك .
قال رحمه الله مبينا عظم مخالفة من يصلي قاصدا التبرك : «فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين ، متبركا بالصلاة في تلك البقعة ، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله ، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله ، من أن الصلاة عند القبر - أي قبر كان - لا فضل فيها لذلك ، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً، بل مزية شر» (٣).
ج - ومن العبادات المشهورة أيضا : الطواف حول قبور الصالحين ، قياسا على الطواف حول الكعبة (٤) .
ولا شك أن الطواف بغير الكعبة من أعظم البدع المحرمة (٥)
_______________________________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ٦٧٦/٢ ، ٦٧٧
(٢)الأحاديث في ذلك سترد قريبا ص ٤٠١ فما بعدما
(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ٦٧٤/٢ ، ٦٧٥ .
(٤) فتاوى ابن ابراهيم ١٢٢/١ .
(٥) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ١٢١/٢٦ .
/٣٩٧/
د - ومنها التقرب إلى أصحاب القبور بالذبح ، أو النذر لهم .
ولا يخفى أن ذلك من الشرك ، فإن الذبح والنذر من أنواع العبادات أيضا ، فصرف شيء منهما لغير الله شرك .
قال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله -واصفاً كيفية الذبح عند القبوريين: إنهم إذا نابهم أمر، أو طلبوا حاجة ، من شفاء مريض أو رد غائب ، أو نحو ذلك ، نحروا في أفنية القبور النحائر من الإبل والبقر والغنم ، وأكثرهم يسميها (١) للقبر من حين تولد، ويربيها له إلى أن تصلح للقربة في عرفهم ، ولا يجوز عندهم تبديلها ، ولا خصيها ، إذ ذلك عندهم نقص فيها وبخس (٢).
ه - وهكذا فإن قصد القبور لأداء سائر أنواع العبادات الأخرى ، كذكر الله تعالى ، وقراءة القران الكريم ، والصيام ، والصدقة ، والذبح عند القبور ، كل ذلك ونحوه من البدع المذمومة ، وليس في فعل شيء منها عند القبور فضل على غيرها من البقاع (٣).
ولقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد بابا بعنوان ( باب ماجاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ، فكيف إذا عبده ؟ ) (٤) وكان من النتائج السيئة لتعظم قبور الصالحين ، واعتقاد بركة العبادة عندها : بناء المساجد على بعض قبور الأولياء والصالحين ، أو من يسمون بهذا . وهذا العمل محدث في الاسلام ، فلم يكن شيء منه في القرون الثلاثة المفضلة (٥)
_______________________________
(١) الوسم : أثر الكي ، يقال : وسم الشيء يسمه وسما وسمة : كواه ، فأثر فيه بعلامة .
انظر القاموس المحيط ٦١٢/٤ ، المعجم الوسيط ١٠٤٤/٢ .
(٢) معارج القبول ٤٠٧/١ باختصار .
(٣) انظر اقتضاء الصراط المستقيم ٧٣٣/٢ ، ٧٣٧ ، ٧٣٨.
(٤) راجع كتاب التوحيد ص ٦٠ ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، القسم الأول ( العقيدة والآداب الإسلامية ) .
(٥) الرد على البكري لابن تيمية ص ٢٣ ، وأول من بنى المساجد على القبور الروافض . انظر كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص ٦٢ .
/٣٩٨/
ولا ريب أن بناء المساجد على القبور محرم باتفاق العلماء ، لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك (١)، وهذا يستلزم النهي عن الصلاة فيها . ولهذا فإن الصلاة في المساجد التى على القبور إما محرمة ، وإما مكروهة (٢).
وإذا قصد الشخص الصلاة في تلك المساجد معتقدا بركة الصلاة فيها ، فإن النهب يكون أعظم (٣) كما سبق .
٣- التمسح بالقبور وتقبيلها ونحو ذلك:
إن من العادات الشائعة لدى بعض القبوريين التمسح بقبور الصالحين وما قد وضع عليها من الجدران والأبواب ، وتقبيلها ، أو الاستشفاء بتربتها، ونقل شيء منها لإهدائه للاخريين.
يقول العلامة حافظ الحكمي مبيناً طرق الاستشفاء بتربة القبور عندهم: "استعمالهم لها على أنواع : فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده ، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة ، ومنهم من يغتسل بها مع الماء ، ومنهم من يشربها ، وغير ذلك".
ثم قال رحمه الله موضحا سبب ذلك : «وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر، حتى غلوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته ، فزعموا أنها فيها شفاء وبركة لدفنه فيها ، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم يدفن فيها ذلك الولي بزعمه ، بل قيل له إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان ، وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه العصور ، زيادة على ما تلاعب بمن قبلهم ، نسأل الله العافية (٤).
_______________________________
(١) من مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص ١٩٠ ، والاقتضاء لابن تيمية ٤٦٦٧/٢، وانظر تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني ص ٣٣ - ٤١ .
(٢) الرسائل الكبرى لابن تيمية ٠٩/٢ ، وانظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية ١٣٧/١،
والاقتضاء لابن تيمية ٦٦٩/٢ ، وزاد المعاد لابن القيم ٥٧٣/٣ ، وقد نص ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله على عدم صحة الصلاة في تلك المساجد .
(٣) انظر تفصيل هذه المسألة الهامة في كتاب تحذير الساجد للألباني ص ١٢١ - ١٣٨.
(٤) معارج القبول ٣٧٣/١ ، وانظر كتاب الإبداع لعلي محفوظ ص ٢٩٩ حيث ساق مزاعم القبوريين في اعتقاد الشفاء عند بعض أضرحة الأولياء ، وأن كل ضريح ينفع في مرض معين .
/٣٩٩/
ومن العادات التي تقوم بها النساء خاصة: مسح ضريح الولي بالمناديل والملابس ، ثم يمسحن على رؤوسهن، ورؤوس أبنائهن، وقد يحتفظ بهذه المناديل دون غسلها، لمسح بها بقية أفراد الأسرة ، ممن لم يتمكنوا من الزيارة ، لأن الاعتقاد السائد عند هؤلاء أن البركة تسري من الولي إلى ضريحه ، إلى المناديل والملابس التي مسحت بها. والأغرب من ذلك ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح: حيث يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة للتبرك (١).
وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا حكم المسح بالقبور وتقبيلها ونحو ذلك : «وأما المسح بالقبر - أي قبر كان - وتقبيله ، وتمريغ الخد عليه فمنهي عنه باتفاق المسلمين ، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء ، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها ، بل هذا من الشرك ... لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به (٢).
٤ - من المظاهر الأخرى للتبرك : العكوف عند قبور الصالحين ، والمجاورة عندها ، وسدانتها ، وتعليق الستور عليها ، كأنها بيت الله الكعبة ، وإيقاد الشموع والقناديل عليها ، وبناء المساجد والقباب عليها ، وزخرفتها وتشييدها (٣).
وقد تقدم لنا بيان تحريم بناء المساجد على القبور ، فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد، والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام ، بل إن العكوف فيه عند بعضهم أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام (٤).
_______________________________
(١) من مقال بعنوان ( موالد الأولياء في مصر) لهيام فتحي، كتب في المجلة العربية عدد ١٣١ شهر ذي الحجة ١٤٠٨ هـ ص ٤٣ بتصرف يسير .
(٢) مجموع الفتاوى ٩١/٢٧ ، ٩٢ ، وانظر تجريد التوحيد للمقريزي ص ١٣ .
(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ٧٣٩/٢ ، ومعارج القبول ١/ ٤٠٣، ٤٠٥. بتصرف.
(٤) اقتضاء الصراط المستقيم ٢ /٧٣٩ بتصرف .
/٤٠٠/
إلى غير ذلك من المظاهر المبتدعة العديدة للتبرك بقبور الصالحين. ولعل من المناسب أن أختم بيان تلك المظاهر بنقل وصف دقيق بليغ للامام ابن القيم لتبرك المبتدعة بالقبور ، متضمنا المفاسد المترتبة على ذلك .
قال رحمه الله تعالى ما نصه: « فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا ، وقد نزلوا عن الأكوار (١) والدواب إذا رأوها من مكان بعيد ، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج ، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج ، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجداً، يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله ، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ، ويرتفع من الأصوات ، ويطلب من الميت من الحاجات ، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ؟ ممن عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق ، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق ، وقربوا لذلك الوثن القرابين ، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا، ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا ، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام ، فيقول : لا ، ولو بحجك كل عام » (٢).
_______________________________
(١) الاكوار جمع كور بالضم ، وهو رحل الناقة بأداته ، وهو كالسرج وآلته للفرس، ( لسان العرب ٥/ ١٥٥).
(٢) إغاثة اللهفان ١٩٤/١ .
/٤٠٠/
● أدلة عدم شرعية التبرك بقبور الصالحين :
إن ما عدا الزيارة الشرعية لقبور الصالحين أو غيرهم ممنوع من قبل الشرع .
فالتبرك بقبور الصالحين - الذي ذكرنا مظاهره المتعددة - لا يجوز ، كما تقدم ، وكما سيأتي من الأوجه التالية :
الوجه الأول : ليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على مشروعية التبرك بالقبور على أي صورة من صور التبرك المبتدع ، أو مظهر من مظاهره المتقدمة ونحوها. وقد قال الله تبارك وتعالى {أم لهم شر شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله} (١). وقال النبي عليه الصلاة والسلام : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فكل ما أحدث في دين الله تعالى فهو من البدع المردودة المذمومة، كهذا التبرك .
الوجه الثاني: تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة عند القبور مطلقاً، واتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، ونحو ذلك . وقد اشتد نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ونحوه من صور التبرك بالقبور ، وأن فيه مشابهة لليهود والنصارى .
والأحاديث في هذا كثيرة جداً منها ما يأتي :
١- في صحيح مسلم من حديث جندب رضي الله عنه (٣) أنه قال: سمعت النبي، قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك» (٤).
____________________________
(١) سورة الشورى (٢١) .
(٢) تقدم تخريجه، ص ٣١٦ .
(٣) هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، سكن الكوفة، ثم البصرة، وله عدة أحاديث ، يقال له جندب الخير، بقي إلى حدود سة ٧٠ ه
انظر أسد الغابة ١/ ٣٦٠، سير أعلام النبلاء ٣/ ١٧٤، والإصابة ١/ ٢٥٠.
(٤) صحيح مسلم ٣٧٧/١ ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور ، واتخاذ الصور فيها ، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.
/٤٠٢/
٢ - وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (١).
٣ - وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي (٢) رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: « لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» (٣) .
٤ - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج» (٤).
ه - وعن بريدة (٥) رضي الله عنه أن النبي قال: « نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها، ولا تقولوا هجرا » (٦).
____________________________
(١) صحيح البخاري ١/ ١١٠ كتاب الصلاة ، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد ... الخ، ٩٣/٢ كتاب الجنائز ، باب بناء المساجد على القبر ، وصحيح مسلم ٣٧٥/١ كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور ، واتخاذ الصور فيها ، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد .
(٢) هو أبو مرثد كناز بن الحصين بن يربوع الغنوي.
وقيل: حصين بن كناز . شهد هو وابنه بدراً. انظر أسد الغابة ٢٨٢/٥ ، الإصابة ١٧٧/٤، تهذيب التهذيب ٨/ ٤٤٨.
(٣) صحيح مسلم ٦٦٨/٢ كتاب الجنائز ، باب النهي عن الجلوس على القير والصلاة عليه.
(٤) أخرجه أبو داود في سننه ٥٥٨/٣ كتاب الجنائز ، باب في زيارة النساء القبور ، والترمذي في سننه ١٣٦/٢ كتاب الصلاة ، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ القبر مسجدا ، وقال الترمذي ( حديث حسن ) وأخرجه النسائي في سننه ٩٥/٤ أبواب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور ، والإمام أحمد في مسنده ٢٢٩/١، وابن حبان في صحيحه ٧٢/٥ أبواب الجنائز ، والسرج جمع سراج وهو المصباح.
(٥) هو بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي أبو عبد الله، أسلم عام الهجرة حين مر به الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجرا ، شهد الحديبية وبيعة الرضوان ، كان من سكان المدينة ثم تحول إلى البصرة ثم خرج منها غازيا إلى خراسان، فأقام بمرو حتى مات بها سنة ٩٣ ه .
انظر أسد الغابة ١/ ٢٠٩، سير أعلام النبلاء ٤٦٩/٢ ، الإصابة ١/ ١٥٠.
(٦) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ٤٥/٢ كتاب الضحايا ، باب ادخار لحوم الأضاحي، والنسائي في سننه ٤/ ٨٩ أبواب الجنائز، باب زيارة القبور ، والإمام أحمد في مسنده ٣٦١/٥، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣٧٦/١ كتاب الجنائز، عن أنس بن مالك رضي الله عنه . وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم ( راجع ص ٣١٨) .
/٤٠٣/
والهجر بالضم : ما لا ينبغي من الكلام ، فإنه ينافي المطلوب ، الذي هو التذكير (١).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : « أن رسول الله قد نهى عن زيارة القبور سداً للذريعة ، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرا ، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر : الشرك عندها قولا وفعلا» (٢).
٦- وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الاسدي (٣) قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : « ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته»(٤)
فتعلية القبور والبناء عليها بدعة مستحدثة مذمومة ، مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه رضي الله عنهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور ، ولا بناؤها بآجر ، ولا بحجر ولبن ، ولا تشييدها ، ولا تطيينها ، ولا بناء القباب عليها ، فكل هذا بدعة مكروهة ، مخالفة لهديه ... وكانت قبور أصحابه لا مشرفة ، ولا لائطة (٥)، وهكذا كان قبره الكريم، وقبر صاحبيه، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم (٦)، مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء (٧)، لا مبني ولا مطين ، وهكذا كان قبر صاحبيه" (٨).
____________________________
(١) من حاشية الإمام السندي على سنن النسائي ٨٩/٤، ٩٠ .
(٢) إغاثة اللهفان ٢٠٠/١ .
(٣) هو حيان بن حصين أبو الهياج الأسدي الكوفي التابعي الثقة .
(٣) انظر الجرح والتعديل ٢٤٣/٣ ، تهذيب التهذيب ٦٧/٣ .
(٤) صحيح مسلم ٩٩٦/٢ كتاب الجنائز ، باب الأمر بتسوية القبر .
(٥) أي لازقة بالأرض . جاء في لسان العرب ١٥٢/١ ( اللطء: لزوق الشيء بالشيء . لطأت بالأرض ولطئت أي لزقت ... ).
(٦) انظر دليل ذلك في صحيح البخاري ١.٧/٢ كتاب الجنائز باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
(٧) انظر دليل ذلك في سنن أبي داود ٤٩/٣ه كتاب الجنائز ، باب في تسوية القبر .
(٨) زاد المعاد لابن القيم ٥٢٤/١ .
/٤٠٤/
إلى غير ذلك من الأحاديث الأخرى (١).
الوجه الثالث: أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم لم يفعلوا ذلك التبرك المبتدع بالقبور .
فإن الصلاة والدعاء - ونحو ذلك - عند هذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها ، وهذا لم يفعله أحد من الصحابة ، ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ، ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين ، بل كانوا جميعا ينهون عن ذلك ، كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أسبابه ودواعيه ، وإن لم يقصدوا دعاء القبر ، فكيف إذا قصدوه ؟ (٢).
وقد جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر ؛فقال : «القبر، القبر »(٣).
قال ابن القيم رحمه الله تعليقا عن هذا الأثر : « وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور ».
ثم قال: «وفعل أنس رضي الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه ، فإنه لعله لم يره ، أو لم يعلم أنه قبر ، أو ذهل عنه ، فلما نبهه عمر رضي الله تعالى عنه تنبه» (٤).
____________________________
(١) راجع الفصل الماضي ص ٣٢٩ فما بعدها، وراجع أيضا معارج الألباب في مناهج الحق والصواب للنعمي ص ١٠٥ - ١١٤ ، وتحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني ص ٩ -٢٠.
(٢) مجموع فتاوى ابن تيمية ١٣٨/٢٧، ١٣٩ ، اقتضاء الصراط المستقيم ٦٧٨/٢ بتصرف.
(٣) أورده البخاري في صحيحه معلقا ( انظر صحيح البخاري ١١٠/١ كتاب الصلاة باب هل تنبش قبور الجاهلية ... الخ) وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه موصولا ( المصنف ٤٠٤/١، باب الصلاة على القبور ) .
(٤) إغاثة اللهفان ١٨٦/١ .
/٤٠٥/
وقال في موضع آخر مؤكدا منهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذا الباب : «هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع : أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها ، فضلا أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها ، أو يسألوهم حوائجهم ، فليوقفونا على أثر واحد ، أو حرف واحد في ذلك ؟ بلى يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير» (١) .
وقال أيضاً: « فلو كان الدعاء عند القبور ، والصلاة عندها ، والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحاً، لفعل ذلك المهاجرون والأنصار ، وسنوا ذلك لمن بعدهم ، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم ، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل ، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله في الأمصار عدد كثير ، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ، ولا دعاه ، ولا دعا به ، ولا دعا عنده ، ولا استشفى به ، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم عل نقله، بل عل نقل ما دونه » (٢).
وقد تقدم مراراً بيان أن بناء المساجد أو القباب ونحو ذلك ، على القبور ، من الأعمال المحدثة بعد القرون الثلاثة المفضلة، وأنها مخالفة هدي الرسول وهدي أصحابه رضي الله عنهم ، والتابعين وأتباعهم رحمهم الله تعالى .
الوجه الرابع : ليس الغرض من الزيارة الشرعية للقبور انتفاع الحي بالميت ولا مسألته ، ولا التوسل به - كفعل أصحاب الزيارة البدعية - بل الغرض منها منفعة الحي للميت، كالصلاة على جنازته ، وكما أن المقصود بالصلاة عل الميت الدعاء له ، فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له (٣)؛ وذلك أن الميت قد انقطع عمله ، فهو محتاج إلى من يدعو له ، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا واستحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي (٤).
____________________________
(١) المرجع السابق ٢٠٢/١ .
(٢) المرجع السابق ٢٠٤/١ بتصرف يسير، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم ٢/ ٦٨١.
(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ٧٦١/٢ ، ومختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص ١٩٢ بتصرف .
(٤) إغاثة اللهفان ٢٠١/١ .
/٤٠٦/
إن الميت لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، فضلا عن من استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها .
الوجه الخامس: ما تتضمنه مظاهر التبرك المبتدع بالقبور من المفاسد والمنكرات والقبائح ، ومنها ما يأتي:-
١- باب الفتنة بالقبور والشرك مع الله تعالى:
فإن تحري الدعاء أو الصلاة مثلا عند قبور الصالحين من أقرب الوسائل إلى الإشراك بهم ، وهذا أخطر المفاسد والمنكرات المترتبة على ذلك التبرك. بل إن بعض المظاهر شرك بذاتها، كما تقدم إيضاحه.
وقد وصل الأمر إلى اعتقاد المشركين بالقبور أن بها يكشف البلاء ، وينصر على الأعداء ، ويستنزل غيث السماء ، وتفرج الكروب ، وتقضى الحوائج ، وينصر المظلوم ويجار الخائف (٢)، ولهذا قالوا : إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الاقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين (٣) !!
٢ - السفر إلى القبور، ولو من أماكن بعيدة ، ومشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، حتى أن عبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد ، ومشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها، والدخول في لعنة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك (٤).
٣ - صرف النفقات الباهظة المحرمة على بناء القباب والمزارات، وكسوتها بالأقمشة، والفرش والمصابيح والزخرفة ، وتحبيس الأوقاف للإنفاق على ذلك وكذا إضاعة الأموال عن طريق النذور التى تقدم للأموات ، ويأخذها السدنة، أليس الواجب أن تصرف هذه الأموال الطائلة في سبيل مصالح المسلمين ؟ (٥)
____________________________
(١) مدارج السالكين لابن القيم ٣٤٦/١ .
(٢) إغاثة اللهفان ١٩٧/١ .
(٣) انظر أمثلتهم على ذلك في كتاب الجواب الباهر في زوار المقابر لابن تيمية ص ١٠٣.
(٤) إغاثة اللهفان ١٩٧/١ ، ١٩٨ بتصرف .
(٥) السنن والمبتدعات للشقيري ص ١١١، ١١٣ ، معارج القبول للحكمي ٤٠٤/١، ٤٠٥ ، منهاج الفرقة الناجية لمحمد بن جميل زينو ص ٧٧ بتصرف .
/٤٠٧/
٤- اتخاذ الأضرحة مزارات وأعياداً متكررة ، وما يتضمنه ذلك من المفاسد والأضرار العظيمة .
الوجه السادس : تقدم لنا الاستدلال على عدم شرعية التبرك بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم مع عظم قدره وفضله ، فالتبرك بقبر غيره من الأنبياء والصالحين وغيرهم أولى بالمنع من ذلك والنهي عنه.
وأخيراً: سأذكر ما أورده ابن القيم موضحا أن النهي عن هذا التبرك ليس فيه غض من شأن أصحاب القبور كما قد يظن ، بل إن هذا من كرامهم واحترامهم .
قال رحمه الله : « لا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته - أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعياداً وأنصاباً، والنهي عن اتخاذها مساجد، أو بناء المساجد عليها ، وإيقاد السرج عليها ، والسفر إليها ، والنذر لها ، واستلامها ، وتقبيلها ، وتعفير الجباه في عرصاتها: غض من أصحابها ، ولا تنقيص لهم ، ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال، بل ذلك من إكرامهم، وتعظيمهم، واحترامهم، ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه، فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم ، وهؤلاء المشركون أعمى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم » (٢) الخ.
وبهذا ينتهي عرض أوجه عدم شرعية التبرك بقبور الصالحين، راجيا أن يكون فيها كفاية وإقناع لطالب الحق ومبتغيه، والله الموفق .
____________________________
(١) إغاثة اللهفان ٢١٣/١، وانظر الرد على الأخنائي لابن تيمية ص ٥٠ فما بعدها .
● شبه المخالفين والرد عليها:
ذكرنا في الفقرة الماضية الأدلة - من عدة أوجه - على عدم شرعية التبرك بقبور الصالحين وغيرهم، ومع قوة تلك الأدلة ، وتنوعها، إلا أن المبتدعة خالفوا في ذلك ، متعلقين ببعض الشبه الواهية .
وساورد - العادة - أبرز تلك الشبه، ثم أرد عليها بعون الله تعالى .
• الشبهة الأولى: أن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم (١)، فمن كانت له حاجة فليتوسل بهم إلى الله تعالى لقضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، فهم الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه .
الرد عليها: يرد عل هذه الشبهة من وجهين:
أحدها : أن التوسل إلى الله تعالى بدعاء أو استغفار المؤمن الصالح لا يشرع إلا في حال حياتهم فقط، وأما بعد وفاتهم فممنوع ، وذلك لاختلاف الحالين (٢).
فبوفاتهم ينقطع هذا التوسل، وكذا كل عمل كانوا يستطيعون فعله حال حياتهم، لهم أو لغيرهم، كقضاء الحوائج، وهم مرتهنون بأعمالهم.
الثاني: تقدم الاستدلال على نفي ذلك الانتفاع في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه أفضل الخلق وأكرمهم عند الله تعالى، فكيف غيره إذا ؟.
ومع ذلك فهم يدعون الأموات، من الأنبياء والصالحين وغيرهم، ليتوسطوا لهم عند الله تعالى، بل إن بعضهم يطلب منهم أمورا لا يستطيع الأموات تحقيقها حال حياتهم .
وقد يحتج القبوريون بهذا الحديث المكذوب: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بالقبور !" (٣).
وهو حديث مفترى على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يروه أحد من أهل الحديث، مع مناقضة معناه لعقيدة التوحيد، قال الله تبارك وتعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} (٤) الآيات
_____________________________
(١) المدخل لابن الحاج ٥/١ه٢ .
(٢) العلامة نعمان الآلوسي كتاب بعنوان ( الآيات البينات ، في عدم سماع الأموات ، عند الحنفية السادات ) حقق فيه أن المتوفى لا يسمعون نداء الأحياء، وأنهم لو فرض سماعهم فإنهم لا يستجيبون. وقد قام بتحقيق هذا الكتاب محمد ناصر الدين الألباني ، وقدم له بمقدمة طويلة .
(٣) راجع إن شفت كتاب التوصل إلى حقيقة التوسل لمحمد نسيب الرفاعي ص ٢٥٢ - ٢٥٥ فقد ناقش المؤلف المحتجين بهذا الأمر مظهرا بطلانه سندا ومتنا. وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على بطلانه في كتابه ( منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ٤٨٣/١ ) وكذا تلميذه ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان ٢١٥/١)
(٤) سورة النمل (٦٢)
/٤٠٩/
• الشبهة الثانية : نقل عن بعض العلماء وغيرهم أنهم يتبركون بالدعاء عند قبور الصالحين فاستجيب لهم ، وعلى هذا عمل كثير من الناس (١)
الرد عليها : يجاب على هذه الشبهة من عدة أوجه:
أحدها : لم ينقل عن أهل القرون الثلاثة المفضلة شيء ثابت في الدعاء عند القبور - كما تقدم - مع شدة المقتضى فيهم لذلك لو كان فيه فضيلة (٢).
ولم ينقل ذلك إلا عن بعض المتأخرين ، مع أن هذا النقل إما كذب ، أو غلط ، أو ليس حجة (٣).
الوجه الثاني: أن ما حكي - من فعل هذا الدعاء - عن الإمام الشافعي مثلاً رحمه الله أنه كان يقول: ( إني إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب) أو نحو ذلك (٤)، فقد قرر العلماء المحققون أن ذلك مكذوب عليه (٥) لما يأتي : -
١ - أن الشافعي لما قدم بغداد - التي كان بها قبر أي حنيفة رحمه الله - لم يكن بها قبر ينتاب للدعاء عنده ألبتة .
_____________________________
(١) انظر المدخل لابن الحاج ٢٥٥/١ ، اقتضاء الصراط المستقيم ٦٨٣/٣ ، إغاثة اللهفان ٢١٥/١ .
(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ٦٨٥/٢ .
(٣) المرجع السابق ٢/ ٦٨٨ .
(٤) انظر مثلا كتاب عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان؛ لمحمد بن يوسف الصالحي ص ٣٦٣ .
(٥) من هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قال رحمه، الله: وهذا معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل . وقال : إنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه ( انظر اقتضاء الصراط المستقيم ٢/ ٦٨٥، ٦٨٦،. ومنهم ابن القيم رحمه الله (انظر إغاثة اللهفان ١/ ٢١٨) .
/٤١٠/
٢ - أن الشافعي رحمه الله قد رأى بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء ، فلماذا لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة ؟ .
٣- أن الشافعي رحمه الله قد نص في أحد كتبه (١) على كراهة تعظيم قبور المخلوقين، خشية الفتنة (٢) والضلال، ومراده بتعظيمها الصلاة بحضرتها والدعاء عندها ، فضلا عن السجود لها أو دعائها (٣).
الوجه الثالث : لقد صنف العلماء في الدعاء ، وأوقاته، وأمكنته، وذكروا الآثار في ذلك ، فما ذكر واحد منهم فضل الدعاء عند شيء من القبور (٤).
الوجه الرابع : أن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور إما يستجاب لهم في النادر (٥)، وأما إجابة الدعاء؛ فقد يكون سببه: اضطرار الداعي، وصدق التجائه ، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له ، وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه عند القبر، وقد يكون له أسباب أخرى ، وإن كانت الاجابة فتنة في حق الداعي (٦).
قال ابن القيم رحمه الله : "ليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه ، ولا محبا له ، ولا راضيا بفعله ، فإنه يجيب البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدي فيه ، أو يشترط في دعائه ، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل ، فيحصل له ذلك أو بعضه ، فيظن أن عمله صالح مرضي لله ، ويكون بمنزلة من أمل له وامد بالمال والبنين، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات"، إلى أن قال: "فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي ، وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ، ويكون مضرة عليه ، إما أن يعاقب بما يحصل له ، أو تنقص به درجته ، فيقضي حاجته ، ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه ، واعتداء حدوده" (٧).
_____________________________
(١) انظر كتاب الأم للشافعي ١/ ٢٨٧ .
(٢) نقلت هذه الفقرات الثلاث من كتاب الصراط المستقيم لابن تيمية ٦١٦/٢ بتصرف .
(٣) من كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق المنسوب لسليمان بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ص ٢٤٦ .
(٤) اقتضاء الصراط المستقيم ٧٣١/٢ .
(٥) المرجع السابق ٢/ ٦٨٩.
(٦) المرجع السابق ٦٥٣/٢ بتصرف، وانظر إن شئت التفصيل - هذا المرجع ٦٨٩/٢ - ٧٣٢ .
(٧) إغاثة اللهفان ٢١٥/١ ، ٢١٦ .
/٤١١/
الوجه الخامس : لا عبرة بالكثرة إذا كانت مخالفة للحق ، والحق هو ما قام عليه الدليل (٢)، فلا يغتر بكثرة العادات الفاسدة (٣)، كمظاهر التبرك بالقبور المنتشرة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي اليوم ، ومتى كانت الكثرة فقط حجة في أحكام الدين ؟ .
• الشبهة الثالثة : جاء في قصة أصحاب الكهف قوله تعالى : {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} (٣) فاتخاذ المساجد على القبور جائز في شرع من قبلنا، وهو شرع لنا ما لم ينسخ .
الرد عليها : يجاب على هذه الشبهة من عدة أوجه :
الأول : اختلف العلماء في القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف ، الذين قالوا هذه المقالة ، هل هم المسلمون أم الكفار (٤).
الثاني : على قول أنهم مسلمون ، فمن أين لنا أن شىعهم يبيح لهم ذلك ، ألا يجوز أنهم اجتهدوا فأخطأوا (٥) ؟
وليس في الآية أكثر من حكاية قول طائفة من الناس، وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم ، والحض على التأسي بهم، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة،
_____________________________
(١) انظر رسالة ( تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد ) لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ص٣٣.
(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ٧٣٢/٢.
(٣) سورة الكهف (٢١) .
(٤) انظر تفسير الطبري ٢٢٥/١٥ .
(٥) من بحث أعده مقبل بن هادي الوادعي بعنوان ( حول القبة المبنية على قبر الرسول) ص ٢٥ وطبعه مع كتابه ( رياض الجنة في الرد على أعداء السنة ) .
/٤١٢/
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (١) كما تقدم .
الثالث: لو سلمنا أن ذلك شرع لمن قبلنا؛ فهو منسوخ بشرعنا ، فقد تواترت الأحاديث عن رسول الله، بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد ، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله ، كما تقدم.
• الشبهة الرابعة : وجود قبر الرسول في مسجده ، وبقاء القبة على قبره عليه الصلاة والسلام ، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وهذا يدل على جواز اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأنبياء والصالحين.
الرد عليها : يجاب على هذه الشبهة بما يأتي :-
١- من المعلوم أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها ، وكانت هي وحجر نسائه شرق المسجد النبوي وقبليه ، ولم يكن شيء من ذلك داخلا في المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى انقراض عصر الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة ، ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان - أي في عصر التابعين - وسع المسجد سنة ٨٨ هـ (٤).
وأدخلت فيه الحجرة للضرورة ، مع كراهة من كره ذلك من السلف؛ وقد «بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصل إليه العوام، ويودي إلى المحذور ، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا ، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر » (٥).
وبناء على ما تقدم فإن وجود القبر النبوي الشريف داخل المسجد لا يجوز أن يتخذ حجة لمن يريد أن يجعل القبور في المساجد ، ولا يجوز أن تدخل القبور في المساجد من أجل ذلك أو غيره ،كما سبق .
_____________________________
(١) روح المعاني للألوسي ٧٣٩/١٥ باختصار ، وانظر تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني ص ٤٩ فما بعدها .
(٢) من بحث الوادعي ( حول القبة ... ) ص ٢٨٥ ، وانظر كتاب الرد على البكري لابن تيمية ص ٥٦.
(٣) انظر مثلا فيض الوهاب للقليوبي ٤/ ١٤٨.
(٤) الجواب الباهر لابن تيمية ص ٢٠، ٩٤، وانظر البداية والنهاية لابن كثير ٩/ ٧٤، ٧٥، ووفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي ٢/ ٥١٣ فما بعدها .
(٥) شرح النووي لصحيح مسلم ١٤/٥ ، والنظر الجواب الباهر ص ٢٣.
/٤١٣/
٢- ينبغي أن يعلم أن المسجد النبوي قد أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، وأنه قد محض بالفضيلة قبل وجود القبر ، فلا يجوز أن يظن أن المسجد بعد وجود القبر، أو إدخال الحجرة فيه صار أفضل مما كان (١).
٣- ليس بناء القبة منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ، ولا من تابعيهم ، ولا أتباعهم ، لا من علماء الأمة ، بل إن القبة المعمولة على قبره لم تحدث إلا سنة ٩٧٨ هـ في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي (٢) ، أحد ملوك مصر (٣) ، وقد أنكر هذا الفعل من كرهه من العلماء (٤).
٤- أنه لا عبرة ولا حجة بما خالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم .
قال العلامة حسين بن مهدي النعمي (٥) ردا على بعض المفتين حينما أحتج بوجود قبة الرسول ، وأنها تزار يعتقد فيها البركة .
_____________________________
(١) انظر الجواب الباهر لابن تيمية ص ٩٤، ١٠٢ .
(٢) هو السلطان الملك المنصور قلاوون بن عبد الله التركي الصالحي أول ملوك الدولة القلاوونية بمصر والشام ، كان من المماليك ، أعتقه الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وكان شجاعا كثير الفتوحات ، وكانت مدة ملكه اثتي عشرة سنة . توفي سنة ٦٨٩ هـ . انظر البداية والنهاية ٣١٧/١٣ ، الأعلام ٣/٥.
(٣) انظر كتاب وفاء الوفاء للسمهودي ٦٠٨/٢ ، ورسالة تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد للصنعاني ص ٣٩.
وقد جددت تلك القبة بعد ذلك أكثر من مرة.
وكان آخر من جددها السلطان محمود بن عبد الحميد العثماني ٩٦٣ م. انظر فصول من تاريخ المدينة المنورة لعلي حافظ ص ١١٥، ١١٦ .
(ه) هو حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني ، العلامة المفتي، تعلم وأقام في صنعاء يقرىء كتب السنة في مسجد القبة إلى أن توفي سنة ١١٨٧ هـ . انظر الأعلام ١/.٢٦ ، مقدمة كتاب ( معارج الألباب ) .
/٤١٤/
قال رحمه الله تعالى : أقول « الأمر كذلك ، فكان ماذا ؟ بعد أن حذر صلى الله عليه وسلم وأنذر، وبرأ جانبه المقدس الأطهر، فصنعتم له عين ما نهى عنه، أفلا كان هذا كافيا لكم عن أن تجعلوا أيضا مخالفتكم عن أمره حجة عليه ، وتقدما بين يديه، فهل أشار بشيء من هذا ، أو رضيه ، أو لم ينه عنه ؟ وأما اعتقاد حلول البركة : فمن عندك لا من عند الله تعالى» (١).
٤ - أن ترك القبة على حالها الآن وعدم إزالتها لا يعني إقرار جميع المسلمين بذلك ، إنما السبب هو خشية قيام فتنة عظيمة بعد إزالتها ، من قبل القبوريين ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة (٢).
وإن من شواهد ذلك قول الرسول لعائشة رضي الله عنها : «لولا حداثة عهد قومك بالكفر ، لنقضت الكعبة ، ولجعلتها على أساس إبراهيم ... » (٣) الخ.
قال النووي رحمه الله : «إذا تعارضت مصلحة ومفسدة ، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة ، بدئ بالأهم ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم مصلحة ، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه ، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا ، وذلك لما انوا يعتقدونه من فضل الكعبة ، فيرون تغييرها عظيما ، فتركها» (٤).
ثم ذكر من فوائد هذا الحديث أن على ولي الأمر أن يفكر في مصالح رعيته ، واجتناب ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا إلا الأمور الشرعية ، كأخذ الزكاة ، وإقامة الحدود ، ونحو ذلك (٤) . اهـ .
_____________________________
(١) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب للنعمي ص ١٤٧ بتصرف يسير .
(٢) انظر ما كتب الوادعي ص ٢٧٣ - من بحثه ( حول القبة المبنية على قبر الرسول) .
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه ١٥٦/٢ كتاب الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، ومسلم في صحيحه ٩٦٨/٢ كتاب الحج ، باب نقض الكعبة وبنائها .
(٤) شرح النووي لصحيح مسلم ٨٩/٩ .
/٤١٥/
وبناء على ما تقدم : فعلى ولي الأمر إزالة القبة المبنية على قبره صلى الله عليه وسلم متى أمنت الفتنة ، لعدم شرعية وجودها - كما سلف -ولئلا تتخذ ذريعة لبناء غيرها من القباب على قبور الصالحين ، والله الموفق والمعين .
وبهذا ينتهي الكلام في هذا المبحث المهم ، سائلا الله تعالى التوفيق والسداد
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق