أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 يوليو 2021

تعقُّبات لإمام محمد أبوزهرة على ما جاء في سيرة الإمام مالك إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تعقُّبات لإمام محمد أبوزهرة
على ما جاء في سيرة الإمام مالك

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

● أولاً- طول مُدَّة الحمل بالإمام مالك:
تُعدُّ تطويل مدة الحمل، مادةً للذين يريدون أن يقرنوا حياة الأئمَّة بالعجائب والغرائب؛ لبيان أنَّهم من الصنف الممتاز!، حيث اقترن مولدهم بميزات تختلف عن الآخرين؛ إذ أنه حملٌ بمدة ثلاث سنين، أو أربع! وليس لمدة تسعة أشهر كالذين يولدون كل يوم..!.
ويُقال إن أم مالكٍ حملت به لثلاث سنين، وقيل لسنتين، وكذلك قيل: إن أمَّ هرم بن حيان حملت به لسنتين، والضحاك أربع سنين، وقيل فيه: إنه ولد وأسنانه نابتة؛ فسمي الضحاك،
ولذا فإن الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، بنوا على قصة حمل الإمام مالك وغيره أن أقصر مدة الحمل أربع سنوات، وأقلها ستة أشهر، وروى مالك عن جارية "أنها حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، كل بطنٍ في أربع سنين"،
ومن الفقهاء من لم يجاوز مدة الحمل عنده أكثر من سنة واحدة، وهو ما أصر عليه ابن حزم، وهذا ما ينبغي أن يثبت ويُقرَّر، ومنهم من توسط، فجعل أكثر الحمل سنتين، وهو ما عليه المذهب الحنفي (ص 24).
يقول أبو زُهرة: "يقرر الطبَّ أنَّ الحملَ لا يمكنُ أن يمكث في بطن أمه أكثر من سنة، والاستقراء مع المراقبة الدقيقة يجعلنا نؤمن بأن الحمل لا يمكث  في بطن أمه أكثر من تسعة أشهر،
وإذا كان لمالكٍ رأيٌ فقهيٌّ، وهو جواز بقاء الحمل في بطن أمه ثلاث سنين، بناءً على أخبار استقاها من بعض الأمهات، أو أقوالٍ نُسبت إلى بعض النساء، فإننا لا نستطيع الأخذ به، لمخالفته حكم الطب، والعقل، ومجرى العادة، والواقع !
بل من الواجب علينا أن نرفضها، وأن نقرر أن أمهاتهم حملت بهم كسائر الأمهات، وليس في ذلك غضٌّ من مقامهم، ولا نقصٌ من إمامتهم ، ولا نقضٌ لأمرٍ مبرمٍ في التاريخ! بل هي الحقيقة المقررة الواقعية"..
(مالك، لأبي زهرة،  ص 21).

● ثانياً- جلوسه للإفتاء وهو في سنِّ السابعة عشرة:
لم تذكر الروايات الصحيحة سنَّ مالك عندما جلس لإفتاء الناس في أمور دينهم، وإن المنطق يُوجب علينا أن نقول إنها سنُّ الرجولة، وما كان غلامٍ حَدَث مهما يكن تَوقُّرُه، ومهما يكنُن عقْلُه وذكاؤه أن يجلس مجلس التحديث والإفتاء في مسجد رسول الله ﷺ، وسط شيوخه الذين تلقى العلم عليهم، ونهل من مناهلهم.
ولكنَّ المتعصبين من المالكية اللذين كتبوا في المناقب يأبون إلا أن يقولوا إنه جلس للدرس والإفتاء في سِنِّ السابعة عشرة، ويعتمدون في ذلك على رواية سفيان بن عيينة أنه ذكر "أنه كان في مجلس ربيعة، فدارت مسألة، فسأله مالكٌ عنها، فقال ربيعة كلاماً فيه لوم! فانصرف مالكٌ غاضباً، وجلس في الظهر وحده، فجلسَ إليه قومٌ، فلما صلَّى المغرب اجتمع إليه خمسون، أو أكثر.. فلما كان من الغد، اجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ، قال: فجلس للناس وهو ابن سبع عشرة" (انظر: الديباج المُذهَّب، والمدارك).

يقول أبو زهرة: "ونحن لا نستسيغ ذلك الخبر، بل إنا لنضرس عند سماعه؛ لأنه لا يتسق مع ما كان عليه الشأن للفتيا بالمدينة، وما كان لها من القدر والخطر، ومن الغريب أن يترك النَّاس الجُلَّة كابن شهاب، ونافع وغيرهم من أساطين العلم، ثُم يجلسوا إلى مالك!".
وعلى هذه القصة مطاعن منها:

- أن ربيعة كان ممن أجاز مالكاً بالفُتيا قبل أن يُغادره، فمن أين لهؤلاء الرواة أن مالكاً قام مُغضباً من عند ربيعة، ثم انفرد بحلقة خاصَّة لنفسه.

- ثم إن مالكاً لزم ابن هرمز سبع سنين على أقل تقدير، وقد بدأ الطلب في سنِّ العاشرة، فيكون سِنُّه عندما فارق ابن هرمز سبعة عشر سنة على الأقل، ففي أيِّ وقتٍ تلقى عن غيره،
والواقع شاهدٌ بأنه لم يتصدر الفُتيا إلا بعد أن أخذ عن أولئك الأفاضل، الذين كان يقول برأيهم، وواصل دراسته على أيديهم، وهذا ينقض أكذوبة الجلوس للفتيا في سن السابعة عشرة.

- كذلك فإن الروايات الصحيحة تذكر أنه لم يجلس للإفتاء إلا بعد أن استشار سبعين من شيوخه، وهل يرى المنصف أن سبعين من الشيوخ يجمعون على إجازة الإفتاء لغلامٍ حَدَث في السابعة عشرة من عمره، اللهمَّ إلا إذا كان ذلك الغلام في حال خارقة تشبه المعجزات، ولا ندري عن مالك سوى أنه بشرٌ من البشر، ولدته أمه كما تلد الأمهات أطفالها، هذا وإن كان ضابطاً متقناً حافظاً!.
وخلاصة القول أن مالكاً جلس للإفتاء في مسجد رسول الله ﷺ، بعد أن اكتمل عقله، ونضج فكره، وفي حياة بعض شيوخه، اللذين عاشوا إلى أن نضج واكتمل، وإن لم تقم لنا بيِّنات على السِّن التي جلس فيها بالتعيين الذي لا شكَّ فيه.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 27- 30).

● ثالثاً: ادِّعاء خروج الإمام مالك في فتنة محمد بن الحسن النفس الزكية:
روى ابن جرير الطبري بأن مالكاً أفتى الناس بمبايعة محمد بن عبد الله بن حسن (النفس الزكيَّة)، وأنه أفتى بأن بيعتهم لأبي جعفر كانت بالإكراه، ولا بيعة لمكره، ولابن جرير مكانته في التاريخ.

يقول أبو زهرة: وإنا نرى أن ابن جرير قد فهم من هذا الخبر أن كل بيعةٍ تكون بالإكراه باطلة، وكان مالكٌ يُحدِّث بخبر ابن عباس أنه طلاق المُكره لا يقع! ولا شك أن التحديث بهذا الحديث في ذلك الوقت يؤدي إلى ذلك الفهم، وهذه الفتيا.

والحقُّ أن مالكاً لم يكن يُحرِّض على الخروج، ولا هو ممن أمر به، بدليل قول ابن جرير: "ولزم مالكٌ بيته"، فهو قد انقطع عن النَّاس لكي لا يخوض في الفتنة.

والخلاصة: أن سبب المحنة هو ذكره للحديث في وقت خروج محمد بن الحسن، بن عبد الله، واستغلال الخارجين لشهرة مالك في الترويج لمثل هذه الفتيا، بالإضافة إلى سعي الكائدين له، لذلك كانت المحنة بعد مقتل محمد سنة 146هـ، إذ مقتله كان سنة 145هـ.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 59- 60).

● رابعاً: حديث أبي هُريرة: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم - وفي روايةٍ: أفقه- من أهل المدينة" (ضعيف، رواه الترمذي في سننه: 5/ 74، برقم: 2680).
يقول محمد أبو زهرة: وهذا حديثٌ صحيح، يسوقه المالكية على تقدُّمِ مالكٍ رضي الله عنه، إذ أنه هو المقصود في الحديث في نظرهم، وأن ذلك شاهدٌ له بالفضلِ والعلمِ دونَ غيره! ولمذهبه بالترجيح على غيره، واعتباره أكثر من اعتبار سواه!.
قال: ونحن نسوقه لغير هذا الغرض، نسوقه لبيان فضلِ العلم في المدينة، واستبحار علمائها، وامتيازها بكثرة العلماء، وامتياز فقهائها بعلم الآثار، وأنه لا يوجد أعلم بسنة رسول الله ﷺ من علمائها، وأن عالم المدينة في عصر الصحابة لا يوجد أعلم منه، وكذلك في عصر التابعين، وكذلك في عصر تابعي التابعين، وقد نتدرج في ذلك إلى عصر الاجتهاد.
نسوق الحديث لأجل هذا، لا للغرض الذي يسوقه له المالكية، من أنه شهادةٌ لشخص مالكٍ ولمذهبه بالفضل والاعتبار دون سواه،

ونقول: إن الحديث يدلُّ على عدم زيادة غيره عنهم، لا على نقصِ غيرهم.
يقول: ونحن نشير إلى كثرة العلماء بالمدينة في عصر مالك وما قبله؛ فقد كانت المدينة في عصر الخلفاء الراشدين عُشُّ الصحابة، وخصوصاً ذوي السَّبقِ في الإسلام، استبقاهم عمر رضي الله عنه حوله، لفضل إخلاصهم لدينهم، ولغزير علمهم؛ كأنَّه يضنُّ بهم أن يُقتلوا، وهم حملة العلم النبويِّ الشريف، فأبقاهم بجواره ليستشيرهم فيما يجدُّ في شئون الدولة من أحداث، ولقد رأى ذلك من حُسن السياسة، فإنه خشي أيضاً أن ينقدوا سياسته عند العامة، أو يُكوِّنوا من أنفسهم طائفةً ممتازة على سائر النَّاس، أو يرفعهم النَّاسُ مراتب عالية (غلواً)؛ فيؤثِّرُ ذلك في نفوسهم، فاستبقاهم لكلِّ هذه الأسباب.
فكان له بهم الاسترشاد بآرائهم، ومشاركتهم في أمره؛ ليحملوا العبء، وهم خير من يحملون ويرشدون، لذلك بقي علم هؤلاء بالمدينة، حتَّى تفرَّق بعضهم في الأمصار، وكان لهم بها تلاميذ وتابعون.
فلما جاء العصر الأموي، أرز العلماء إلى المدينة؛ لكثرة الفتن بغيرها، ولأنها مهبط الوحي، ومكان الجثمان الكريم، وبها آثار الصحابة والسابقين، ولذلك كان أكثر التابعين بالمدينة ومكة، وقليلٌ منهم كان بالعراق، والشام، وأقل من ذلك كانوا بمصر وغيرها من سائر البلدان.
فلما جاء آخر العصر الأموي، وقد اشتدت المحن بالبيت الأموي، وتشنَّعت الإحن عليهم، كان العلماء يجيئون إلى الحجاز فارن بعلمهم من الفتن، حتى رأينا أبا حنيفة -شيخ الفهاء بالعراق- يفرُّ ناجياً بنفسه إلى مكة، مجاوراً بيت الله، واستمر بها إلى أن سقط حكم الأمويين، واستقرَّ الأمر للعباسيين، فعاد إلى الكوفة مستقرَّه ومقامه.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 84- 85).

● خامساً: موقف الإمام مالك من أهل البيت النَّبويِّ الشريف:
يقول أبو زُهرة: إن مالكاً لم يأنف أن يستفيد ممن شهر بالعلم والديانة، ورُوي أنه أخذ عن جعفر الصادق بن محمد الباقر، مع ما علمت من أنه لم يكن في منهجه ما يُرضي العلويين، بل يكادُ يُناقض طريقهم، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يأخذ عن جعفر، وأن يتأثَّر طريقه، وأن يذكره بأحسن ما يذكر طالبٌ شيخه المُقتدى به؛ فقد قال: "لقد كنتُ آتي جعفر بن محمد، وكان كثير المزاح والتبسُّم، فإذا ذُكر عنده النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، اخضرَّ واصفرَّ! ولقد اختلفتُ إليه زماناً، فما كنتُ أراه إلا على ثلاث خِصالٍ: إما مُصلِّياً، وإما صائماً، وإما يقرأ القرآن، وما رأيتُه يُحدِّث عن رسول الله ﷺ إلا على طهارة، ولا يتكلم إلا فيما يُعنيه، وكان من العلماء العباد الزُّهاد، الذين يخشون الله، وما رأيته قط إلا يخرج الوسادة من تحته، ويجعلها تحتي، وجعل يُعدد فضائله، وما رآه من فضائل غيره من أشياخه في خبرٍ طويل" (ص 86، وما بعدها). (انظر الزواوي).

● سادساً: اعتراض أبو زهرة على أن ربيعة الرأي أخذ الفقه عن أبي حنيفة:
وربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن، المعروف بـ"ربيعة الرأي"، ادَّعى ابن النديم أنه أخذ الرأي عن أبي حنيفة؛ فقال: "وعن أبي حنيفة أخذ، ولكنَّه تقدَّمه في الوفاة" (الفهرست، ص 285)،

يقول أبو زهرة: ونحن نستبعد ذلك؛ لأنا لم نر فيما بين أيدينا من المصادر أنه أخذ عن أبي حنيفة رضي الله عنهما، بل المعروف أنه لم يخرج من المدينة إلا بعد أن عُرفَ واشتُهر بالرأي،
ودُعي إلى الهاشمية (الأنبار) التي بناها أبو عبد الله السفاح ليتولى فيها القضاء، وبها كانت منيَّتُه، فهو خرج إلى العراق ناضج العقل، قد تكونت طريقته الفقهية، واستقامت، بل في الغالب الأعم أنه جلس للدرس والإفتاء قبل أن يجلس أبو حنيفة،
فالظاهر أنه تولى التدريس في العشرة الأولى من المائة الثانية، وأبو حنيفة لم يجلس للدرس والإفتاء قبل 120هـ، أي: قبل وفاة شيخه حماد بن أبي سليمان؛ إذ أنه لازمه حتَّى مات، ثم جلس مجلسه من بعده، وقد مات سنة 120هـ، ولهذا نرى أن ما ذكره ابن النديم غريباً، ويُقوِّي ذلك أن ربيعة كان لا يحمد فقه العراق كسائر فقهاء عصره، ويرى أن المدينة معدن الفقه، والعراق موضع الفتن،
ولذا قال عندما انتقل إليه: "كأنَّ النَّبيَّ الذي بُعث إلينا غير النَّبيِّ الذي بُعث إليهم"، وقال لمالكٍ عندما استدعاه أبو العباس السفاح إلى الهاشمية: "إن بلغك أنِّي أفتيتُ بفتوى، أو حدَّثتُ بحديث، ما كُنتُ بالعراق، فاعلم أنِّي مجنون"، وبهذا نرى أنه لا يُقدِّم فقه واحدةٍ من الأمصار على فقه المدينة، ويرى استحسانها مهما تكن مخالفتها للمشهور.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 94- 95).

● سابعاً: المبالغة في أعداد الآخذين والرواة عن مالك:
يقول الشيخ مُحمَّد أبو زُهرة: على الرغم من كثرة تلاميذ الإمام مالك، وكونهم من أقطار متباعدة، فقد كان له تلاميذ من خراسان، ومن العراق، ومن الشام، وأكثرهم من المدينة، ومصر، وشمال إفريقية، وبلاد المغرب..
إلا أن كُتَّاب المناقب لم يكتفوا بتلك الكثرة الكاثرة حتَّى بالغوا، وأضافوا إليهم من ليسوا منهم، وأخذوا يعدُّون في ضمن التلاميذ أحياناً من هم أكبرُ منه سِنَّاً، ومن تقدَّم بهم الزَّمنُ عليه، ويعدُّون أحياناً أخرى من رواته شيوخه الذين تلقَّى عليهم، وروى عنهم.
ولا غرابة في أن يروي الشيخ عن تلميذه، ولكن إذا كان لذلك حقيقة واقعة، فلا غضاضة في قبولها، وإن كان لمجرد المبالغة في التقدير والتوثيق؛ فليس من العلم قبوله، بل يجبُ ردُّه.
لقد ادَّعوا أمرين لم يُصدقهما المُحقِّقون من العلماء:
أحدهما: أن ابن شهاب الزهري قد روى عنه، وقد يذكر ذلك القاضي عياض في مداركه (ص 342)، فيذكر أن من التابعين الذين رووا عنه: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وقد وافق السيوطي على ذلك، وقرَّر أن ابن شهاب روى عن مالك.
ولكن ابن عبد البّر، قد قرر ما يُناقض ذلك الكلام، ونفى هذا الإدِّعاء في الانتقاء (ص 13)، وكلامه جديرٌ بالإتِّباع؛ فقال: "قيل إنه روى عنه ابن شهاب، ولا يصح. وإنما روى ابن شهاب عن عمِّه أبي سُهيل نافع بن مالك".
وثاني الأمرين: أن أبا حنيفة تتلمذ لمالكٍ رضي الله عنهما:
حتى لقد جاء في طبقات الحُفَّاظ للذهبي أن سعيد بن أبي مريم، روى عن أشهب، أن قال: رأيتُ أبا حنيفة بين يدي مالك كالصبي بين يدي أبيه، وحتَّى لقد جاء في تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: أنا أبا حنيفة كان يطَّلِعُ على كتب مالك رضي الله عنهما.
وكلا الخبرين غير مقبول؛ لمنافاته للحقائق المقرَّرة؛ إذ أن أبا حنيفة كان أسنَّ من مالك، فليس من المعقول أن يجلس بين يديه كما يجلس الصبيُّ بين يدي أبيه، ولأن أشهب لم يكن عند وفاة أبي حنيفة في سنِّ من يَحضُرُ مجالس العلم؛ إذ هو أكبرُ من الشافعيِّ بقليل، والشافعيُّ ولد سنة 150هـ، وهي السنة التي تُوفي فيها أبو حنيفة؛ ولأن أبا حنيفة ومالكاً كلاهما كان يعرف مكان صاحبه من العلم، فلا يرضى مالكٌ الذي قال في أبي حنيفة، كما جاء في المدارك: "إنه لفقيه" أن يجلس منه ذلك المجلس، وله المكانة من الفقه، وله عليه من فضل السِّن، وللسِّن جلالٌ عند ذوي الدِّين!.
هذه بيناتٌ تشهد بعدم صدق الخبر الأول من الخبرين، أما الخبر الثاني، وهو: أن أبا حنيفة كان يقرأ كتب مالك؛ فيشهد لبطلانه أن مالكاً لم تُعرف له كُتبٌ في حياة أبي حنيفة؛ إذ أن الموطأ لم يظهر إلا بعد موتِ أبي جعفر (أي: بعد سنة 158هـ)، وأبو حنيفة توفي سنة 150هـ؛ فليسمن المعقول ن يكون أبو حنيفة اطَّلع على كُتب مالك رضي الله عنهما.
نحنُ ننفي أن يكون أبو حنيفة تلميذاً لمالك، ولكن هل روى عنه؟
إن العلماء كان يروي يعضهم عن بعض من غير أن يغُضَّ ذلك من مقام الراوي، وإن كان يدلُّ على فضل المروي عنه، كلما كان الراوي من أهل العلم والتحقيق.
لقد ذكر بعض علماء أهل السُّنَّة أنَّ أبا حنيفة روى عن مالك، وقد ذكروا بعض هذه الأحاديث، منها حديث: "الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبِكرُ تُستأمر، وصمتُها إقرارُها"، فقالوا: إن سياق السند هكذا عن حماد بن أبي حنيفة، عن أبي حنيفة، عن مالك.. ولكن بعض العلماء يقول: إن الراوي عن مالك هو حماد بن أبي حنيفة من غير توسُّطِ أبيه..
ولقد قال السيوطي في هذا المقام: "قال الحنفيَّة أجلُّ من روى عن مالك: أبو حنيفة!"، وهذه العبارة تدلُّ على أنَّه روى عن مالك عدَّة أحاديث، والذي وقفتُ أنا عليه حديثان فقط، أحدهما في مسند أبي حنيفة لابن خسرو، والآخر في الرواة عن مالك للخطيب البغدادي"(المناقب للسيوطي ص 59).
وهذا يدلُّ على أمرين: أحدهما أن أبا حنيفة روى عن مالك، وكان يراه الثبت الثقة. وثانيهما: أن ما رواه كان قليلاً إلى درجة أنه يبحثُ عنه، فيعثُرُ عليه بعد طول الجَهد.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 206- 208).

● ثامناً: الرَّدُ على من بخس مالكاً حظَّه من العلم والفقه والاجتهاد:
ذهب جماعةٌ من الأوربيين الذين ينظرون إلى الفقه الإسلامي بغير نظرنا، ويرمون من الكتابة فيه غير ما نرمي إليه، فقد قالوا هم ومن لف لفهم، وسلك سبيلهم من الشرقيين: إن مالكاً لم يُنشئ مدرسةً فقهيَّةً جديدة، بل كان يتجه إلى أمرين لا ثالث لهما:
(أحدهما) تنظيم ما هو مبعثر من المسائل الفقهية، ولم يكن الوحيد في هذا الميدان، ولا يمكن معرفة قيمة عمله إلا بعد الاطلاع على عمل معاصريه في ذلك!.
والجواب: أنه ليس بين هؤلاء الذين قالوا ذلك القول تنظيم أولئك المعاصرين لمالكٍ، حتى يوازنوا بين تنظيم مالك وتنظيم غيره؛ فيُعرف مقدار كليهما.
وإن زعمهم أن عمل مالك كان التنظيم فقط يتنافى مع الفقه المأثور عنه، وحياته، ومجالسه العلميَّة، فإن المأثور عنه تجدُ فيه الكثير من الآراء التي اجتهد فيها، وسلك مسلكاً مستقلاً في استنباطها؛ إذ لم يسبِق أن بحثها أحدٌ ممَّن سَبَقه؛ لأنها لم تعرض له، ولم يستفتَ أحدٌ فيها.
(ثانيهما) أن مالكاً كان يتجه إلى العادات القانونية التي كانت معروفة عند أهل المدينة، فيضفي عليها بمسوح دينية، وإن تلك العادات هي صورة للعادات العربية القديمة، التي لم تتفق بعد مع الدين تماماً، ولكنها نشأت من محيط المعاملات، وقد ظهر بعضها لماك كأنه السُّنَّة! أو حمل اسمه السُّنَّة! وليس ذلك إلا صبغاً لعادات قانونية عربية بصبغة الدين، وإزالة لما عساه يكون مُخالفاً للدين من هذه العادات!..
والجواب: أن نظرتهم هذه إلى فقه مالك هي نظرة قاصرة، فصلوا فيها مذهبه عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتبروا أن فقه مالك هي عادات عربية ألبسها لباس الدين! وأنه نظَّم ما بُعثر ولا يتجاوز ذلك! وتلك نظرة باخسة، عاشية، لم تبصر الأمور كما هي في ذاتها، بل أدركتها عكس ما ينطبع في نفوس الناظرين..
إن الناظر في فقه مالك يجده واضح المنهاج، بيِّنَ الطريقة، روى الأحاديث بسندٍ مُتَّصل، أو مُرسل، أو مُنقطع، واستخرج الأحكام من نصوصها، ووضحها وجلّاها، وما وجده منها يُعارض كتاب الله ردَّه، وأنكر نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما في حديث ولوغ الكلب).. فإن لم يجد حديثاً، نظر في المأثور من فتوى وقضاء أصحاب النَّبيِّ الله صلى الله عليه وسلم.. وأين هذا النظر من اعتبار العادات المصدر الأول!! وان عمله كان محاولة وضعها في وضعٍ ديني!!؟..
وإن سلكوا طريقاً آخر في الطعن عليه من خلال اعتباره لعمل أهل المدينة حُجَّةً، فقد نسوا أنه جعله حجة في الأمر الذي يغلب على الظن أنهم كانوا تابعين لأقوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو آخذين فيه بهديه، لا في كُلِّ الأمور؛ كمعرفة مُدِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وصاعه!!.
كذلك فإن المسائل التي أخذ فيها بعمل أهل المدينة معروفة، نستطيع أن نُحصيها، ولو فعل المنصف ذلك؛ لوجد أنه ما أخذ بها إلا لأنه رأى فيها أثراً نبويَّاً أقوى من الحديث الذي يرويه واحد، ولذا قال شيخه ربيعة: ألفٌ عن ألف، أحبُّ إليَّ من واحدٍ عن واحد!!.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 226- 229).

●تاسعاً: أحصى السُّبكي في الطبقات أصول المذهب المالكي، فزادها على خمسمائة!
يقول أبو زهرة: ولعله قصد القواعد الضابطة للفروع، وفرقٌ بينها وبين أصول المذهب، فإن أصول المذهب هي مصادر الاستنباط فيه، وطرائق الاستنباط، وقوة الأدلة الفقهية، ومراتبها، وكيف يكون الترجيح بينها عند تعارضها.
أما القواعد؛ فهي ضوابط كلية، توضح المنهاج الذي انتهى إليه الاجتهاد في ذلك المذهب، والروابط التي تربط بين مسائله الجزئية، فالقواعد متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع، لأنها جمعٌ لأشتاتها، وربطٌ بينها، وجمعٌ لمعانيها.
أما الأصول، فالفرض الذهني يقتضي وجودها قبل الفروع؛ لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند استنباطه؛ ككون ما في القرآن مُقدَّماً على ما جاءت به السُّنَّة، وأنَّ نصَّ القرآن أقوى من ظاهره..
وغير ذلك من مسالك الاجتهاد، وهذه مُقدَّمة في وجودها على استنباط أحكام الفروع بالفعل! وكون هذه الأصول كشفت عنها الفروع، ليس دليلاً على أن الفروع متقدمة عليها، بل هي في الوجود سابقة، والفروع لها دالةٌ كاشفة، كما يدلُّ المولد على والده، وكما تدلُّ الثمرة على الغراس، وكما يدلُّ الزرع على نوع البذر..
وإذا كان هذا هو الفرق بين أصول المذهب وقواعده، فإننا لا نوافق السبكي على عدِّه أصول المذهب المالكي أكثر من خمسمائة؛ لأنه يقصد القواعد، وهي غير الأصول كما بيَّنا.
وأدقُّ إحصاء لأصول المذهب المالكي هو ما ذكره القرافي كتابه (تنقيح الأصول) أن أصول المذهب هي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، والعرف، والعادات، وسد الذرائع.
(مالك، لأبي زهرة، ص 232- 233).

●عاشراً:  الرّد على ابن خلدون في اتهامه لمذهب مالك بالجمود؛ فبعد أن ذكر أتباع أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بالمشرق/ المقدمة، ص 245- ط الخيرية/:
"وأما مالك رحمه الله تعالى، فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذٍ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق،
ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم يومئذٍ وإمامهم مالك، وشيوخه من قبله، وتلميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس، وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته، وأيضاً فالبداوة كانت غالبةً على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق؛ فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة؛ ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضَّاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب،
ولما صار مذهب كل إمامٍ علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيلٌ إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المُقرَّرة، من مذهب إمامهم، وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير، أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيها ما استطاعوا، وهذه الملكة هي علم الفقه، وأهل المغرب جميعاً مُقلِّدون لمالك رحمه الله".

والجواب على هذ الكلام من وجوه:
(أ)  أن مذهب مالك لم ينتشر فقط من خلال الحج والالتقاء بمالك وشيوخه وتلامذته فقط، بل لأنَّ سلطان الدولة في الأندلس والمغرب كان سبباً رئيسياً في ذيوعه وانتشاره، وقد قرَّر ابن حزمٍ أن مذهبين انتشرا بقوة السلطان: مذهب أبي حنيفة بالمشرق، ومذهب مالك بالأندلس، أو في الأعم بالمغرب.

(ب) يذكر ابن خلدون أن من أسباب قبول أهل المغرب والأندلس لمذهب مالك، هو المشاكلة في البداوة بين أهل الحجاز، وبين أهل المغرب والأندلس،
وهذا السبب فيه نظر؛ لأن مدن الحجاز لم يعد سكانها من البدو، وخصوصاً في العصر الأموي، فإنها كانت تموج بما يفيض به عليهم الأمويون من خبرات، وظهر فيهم الترف والنعيم، وأسباب الاستقرار والحضارة.. وإن سلمنا جدلاً أن مدن الحجاز يسكنها البدو، فلا نُسلِّم له قط في أن الأندلس وأهلها كانوا ذوي حضارة في قديمهم وحديثهم، قبل الفتح الإسلامي وبعده، وما كان لمثل ابن خلدون أن يعُمِّمَ حكمه إليهم، وإذا لم يصح أن أهل المدينة كانوا بدواً، ولم صح أن أهل الأندلس كانوا بدواً، وليس أهل مصر بدواً بالاتفاق (وقد ذاع فيهم المذهب)، يكون من الحق أن نُبعدَ ذلك السبب، وأن نُبعد ما انبنى عليه.

(ج) إن حكم ابن خلدون على المذهب المالكي بأنَّه مذهب أهل البدو لا أهل الحضارة، لا يتفق بحال من الأحوال مع قواعد ذلك المذهب وأصوله من (المصالح المرسلة، ومراعة العرف، والقياس) وقوة الأخذ بها،
بل وتخصيص بعض النصوص بها، يجعلها من الاتساع، والمرونة، والنفاذ إلى إصلاح الجماعات، وتنظيم شئونهم ما يجعلها تصلح لتنظيم الحضارات المختلفة، مهما تتسع آفاقها، وتتنوع وسائل العمران فيها، وتختلف طرائق الحياة.

(د) ولقد ادَّعى ابن خلدون أن بداوة أهل الغرب، جعلت المذهب غضَّاً، لم يدخله التنقيح، وهذه قضيةٌ ليست صحيحة، لا في المقدمة ولا في النتيجة؛ لأنه لم يصح أن المغاربة وحدهم هم الذين اعتنقوه،

ولو سلم له أنهم جميعاً أهل بدو، ما ساغ لنا قط أن نُسلِّم له أن أهل مصر كانوا بدواً في ماضيهم السحيق، أو ماضيهم القريب، بل لمم تكن طبيعة بلادهم لتسمح أن يكونوا بدواً، وإذا كان ذلك فالمقدمة غير صحيحة؛ لأن المغاربة ليسوا جميعاً بدواً، وأهل الأندلس ليسوا بدواً، وأهل مصر لا يسوغ لمؤرخ أن يحكم عليهم بأنهم بدو.
وإذا كان الذين اعتنقوه ليسوا بدواً، فما سوغ لأحدٍ أن يحكم على المذهب الذي اعتنقوه أنه بقي غضَّاً طريَّاً لم يُنقَّح،

والواقع أنَّ هذا المذهب نُقِّح، وخُرِّجت مسائله، واستنبطت أصوله، وأهم ما يُميِّز أصول مالك في نقاط هو:

١) أن أصول الإمام مالك تتميز بالمرونة، وقد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فأكثر من المخصصات التي تتعلق بالنَّص، ما يجعل هناك مرونة تتسع للاستنباط، فلا يجمد الفقيه عند عبارةٍ لا يعدوها، بل يربط الأصول بعضها ببعض.

٢) اتجاهها نحو تحقيق المصلحة من أقرب طريق، وطرقها عند مالكٍ كثيرة، كالاستحسان، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، واعتباره للعرف، وكلها تصبُّ في اتجاه دفع المشقة، وتحقيق المصلحة، وسد الحاجة، وجعل العقود تحقق حاجات الناس البريئة من الآثام، وتقضي حاجاتهم، وتسير على مقتضى المشهور عندهم.

٣) أن أصول الاستنباط عنده مترابطة، يكمل بعضها بعضا، ويستقي جميعها من مَعينٍ واحد، ويهتدي بهدى واحد، وهي النَّص الإسلامي، وروحه، ومعناه، وتطبيق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة له، وبذلك التقى فقهه في غاية واحدة، وهي مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وسلك طريق الاتباع دون ابتداع.

وخلاصة القول: أن إمام المؤرخين قد تجنَّى على قومه البربر، وتجنَّى على مذهب إمام المدينة، فعفا الله عنه، وجزاه عن العلم خيراً.
(مالك؛ لأبي زهرة، ص 396- 401)
-----------------
مختصر الإمام مالك للشيخ محمد أبو زهرة
اختصره: ا. محمد حنونة
#الحقوق_محفوظة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق