أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 23 يوليو 2021

ما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين عبد الجليل عيسى أبو النصر

ما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين

عبد الجليل عيسى أبو النصر

شيخ كليتي أصول الدين وكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف سابقاً

وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف

أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لم يكن الخلل ليتطرق إلى المتقدمين الذين سلكوا سبيل الجادة، وكان شعارهم حال الاختلاف أن الرجوع إلى الحق من أمهات الفضائل، وكان أثر ذلك في ظهور التسامح فيما بينهم، والتعاون على رضا الله سبحانه وتعالى، وطلب العلم لأجل العمل به لا للمراء ولا للجدل، هذا ولم يقصد أحدٌ من الأئمة من تدوين أقواله أن تكون هي الشرع أو كالشرع تُتبع لذاته، ويُقصد التعصُّب لها، ولا أن تفترق الطوائف المقلدة لكلٍّ منهم أو تتعادى، بل قد يُخالف الأئمة آراءهم أحياناً حرصاً على اجتماع كلمة المسلمين.

وإنما الخلل جُلُّه من المتأخرين، الذين استسهلوا الاختصار والإيجاز المخل، وعنوا بذكر المسائل الفقهية مجردةً عن أدلتها، وتوسعوا في تفريع المسائل وتوليدها قبل أن تقع، ولا سيما فيما يقل أو يندر وقوعه جداً، مباهاةً بالذكاء، وغزارة الخيال؛ حتى بلغ الأمر بهم إلى أن جعلوا لكل مذهبٍ إمام يُصلي بأتباعه في جماعة خاصة حول الكعبة، وأثر ذلك واضحٌ على المتفقهة، الذين أغلقوا على أنفسهم باباً عظيماً من أبواب حسن الفهم.

وقد تشابه الأمر على من قصر اطلاعه على كتب المتقدمين، وظهر في هذا الخَلَف من قدَّسوا آراء الرجال، وظهرت بينهم النَّعرة المذهبية، وبالغوا في التعصُّب لها، والطعن فيما سواها، فتشعبت بهم الطرق، وتفرقت بهم السُّبل، وأبعدتهم عن الأصل الأول "الكتاب والسنة"؛ حتى أهملوا النظر فيهما، وتخاصموا وتعادوا كما يتعادى أتباع الأديان المختلفة، بسبب ما حشاه المتأخرون من المسائل التي نُزعت منها سعة الخلاف، والذي جعل هذا الجرم يستفحل بين أتباع المذاهب الإسلامية هو مشاهدة العلماء له، وسكوتهم عليه!.

وانقسم الناس في خضم هذا الخلاف إلى ثلاثة أصناف:

الأول: من أرخى عنان خياله، وجرى وراء تصوراته، ووقف في طريق النص الصريح، وأعمل فيه معاول التأويل والتصريف حتى ينسفه من طريقه.

والثاني: من جمد على ظاهر النص وألغى عقله، وجهل نص الخطاب وفحواه.

والثالث: من فهم النص وفقه روح التشريع؛ فكان أمةً وسطاً؛ فهدى إلى الصراط المستقيم.

ويعرض هذا الكتاب صوراً ومسائل اختلف فيها الفقهاء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة، منها ما كان الخلاف فيه سائغاً وهو تردد الحكم ما بين الوجوب والندب، أو الكراهة والتحريم، أو يندرج تحت اختلاف التنوع لا التضاد، ومنها ما يكون الخلاف فيه غير سائغ مثل تردد الحكم بين الوجوب والحرمة، أو الندب والكراهة، وهذا أخطر أنواع الخلاف، ومثل ذلك اختلافهم في كون بعض الأمور مشروعةٌ لا تبطل العبادة بها، أو كونها غير مشروعة أو تبطل بها العبادة، ولعل غرضه الذي قصد إليه هو: لفت نظر وتحفيز همم أولي الرشاد من قادة المسلمين وفقهائهم إلى القضاء على عناصر هذا الخلاف المُضر، والذي لا يمكن استمراره على هذه الحالة.

ومن الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف:

١. غفلة كثير من المتأخرين عن تحذير النبيِّ صلى الله عليه وسلم من التشدُّد في الدين، وعن حثِّه على التيسير على الناس.

٢. عدم عناية المتأخرين بالتحري عن ظروف كثيرٍ من أوامره صلى الله عليه وسلم وإرشاداته، هل المراد أن تكون تشريعاً عاماً دائماً، أو خاصاً ببعض الناس دون بعض، أو بعض الظروف دون بعض، وقد يكون لها قيود وملابسات لا يُعمل بها عند عدمها.

٣. غفلة كثيرٍ من العلماء عن أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يُجيب السائل، أو يأمر الرجل بما يناسب حاله هو، وقد لا يُناسب غيره.

٤. اغترار كثيرٍ من المتأخرين بما نُقل إليهم عمّن سبقهم من دعوى الإجماع في مسائل ليست في الواقع -عند التحري -محل إجماع، وكان اغترارهم هذا سبباً في تعصُّب كلٌ لما نقل إليه، وفي تسهيل العيب فيمن خالفه، بل ربما طعن فيه بدون حق.

٥. تشديد بعض العلماء في المندوبات، والمواظبة عليها، حتى اعتقد بعض العامة أنها واجبة يأثم الإنسان بتركها، وكثيراً ما ثاروا على من يتركها، وربما ألحقوا به أذىً بدون حق.

٦. أن يكون العمل الذي حصل من النبيِّ صلى الله عليه وسلم حضره جمعٌ من أصحابه، ولما تفرقوا في البلاد، روى كل واحدٍ جانباً مما حصل، وأغفل غيره، أو نسيه، ولم ينتبه له، فيكون كل واحدٍ منهم، روى ما أغفله غيره، وأغفل ما رواه.

١٠. أنه قد يخفى على العالم المجتهد حال راوي الحديث؛ فيروي عنه مع أنه ليس أهلاً للرواية عنه، وبذلك يكون الحكم الذي أخذ من الحديث غير صحيح؛ فيخالفه فيه غيره ممن يعلم حقيقة حال الراوي.

ذكر المؤلف عن الغزالي -رحمه الله -قوله: يُطلب من العلماء عند بحث مسألة، أمورٌ (ص ٨٣ -):

الأول: أن تكون من المسائل التي يكثر حدوثها، وتكون واقعة أو قريبةً من الوقوع، كما كان يفعل كبار الصحابة، والإمام مالك وغيره من الفقهاء.

الثاني: أن تكون المناظرة فيها وماكن بحثها في خلوة، لأنها أجمع للفهم، وأقرب لصفاء الذهن، ولأن في حضور الجمع الكثير ما يُحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل.

الثالث: أن يكون كل طرف من طرفي المناظرة في طلب الحق كناشد الضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على د من يعاونه؛ فهو يرى في رفيقه مُعيناً ومساعداً في الوصول للحق لا خضماً، فلذلك يشكره إذا نبهه لموضع الخطأ، وأظهر له الحق.

وهذا الكتاب كما سترى في فصوله يبحث في أسباب الخلاف المعقول وغير المعقول، والخلاف السائغ وغير السائغ، والقواعد العامة التي ينبغي للمسلم أن يضبط نفسه بها، حرصاً على اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتعاون على الخير.

الفصل الأول: الخلاف المعقول وغير المعقول.

الفصل الثاني: ما يسوغ فيه الخلاف بشرط عدم التعصب للرأي

الفصل الثالث: ما لا يسوغ فيه الخلاف.

الفصل الرابع: ما يبطل العبادة عند قومٍ ولا يُبطلها عند غيرهم.

الفصل الخامس: أخطر أنواع الخلاف

الفصل السادس: بعض الخلافات التي تستلفت النظر

الفصل السابع: بيان بعض أسباب الخلاف.

الفصل الثامن: بعض آثار هذه الخلافات المحزنة

الفصل التاسع: من كلام المرحوم الشيخ محمد عبده في تفسير "المنار"

الفصل العاشر: ما قاله الغزالي (ت ٥٠٥ هـ) في كتابه "الإحياء".

الفصل الحادي عشر: ما جاء في كلام الحافظ ابن حجر (ت ٨٥٢ هـ) في شرحه على البخاري

الفصل الثاني عشر: ما جاء في مقدمة المغني لابن قدامة (ت ٦٢٠ هـ).

الفصل الثالث عشر: من مجموعة الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس بن تيمية (ت ٧٢٨ هـ).

الفصل الرابع عشر: ما جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 

الفصل الخامس عشر: نبذة جاءت متفرقة في الكتب تؤيد سعة صدر علماء السلف ونفورهم من التعصب للرأي

الفصل السادس عشر: ما لا يجوز أن يكفر المسلم أخاه المسلم لأجله

الفصل السابع عشر: حاصل كلام الغزالي في كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة".

وختاماً: فإنه من الأمور المستحسنة أن تتألف جمعية من علماء المذاهب الإسلامية، وتضع كتاباً عاماً للأمة في العبادات والمعاملات، يعول فيه على أخذ الأحكام من الكتاب والسنة، ومن اجتهاد المجتهدين، يُراعى فيه اليسر ورفع الحرج وجلب المصالح ودرء المفاسد وجمع الكلمة واعتبار العرف الصالح وغير ذلك من القواعد العامة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق