بذل المجهود في ختم السُّنن لأبي داود
الحافظ محمد شمس الدين بن عبد الرحمن السَّخاوي (ت ٩٠٢ هـ)
تحقيق: عبد اللطيف بن محمد الجيلاني الآسفي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ يعتبر كتاب الإمام أبي داود أحد دواوين السنة النبوية المعتبرة، وأحد الكتب الستة المعتمدة، والتي لها المكانة السامية، والمنزلة العالية بين مصنفات أهل الإسلام، وعدة أحاديثه أربعة آلاف وثمانمئة حديث، انتخبها من بين من خمسمائة ألف حديث، ورواها عن أكثر من ثلاثمائة شيخ، ويُعدُّ كتاب "السُّنن" من أشهر كتب الحديث المسندة التي يرجع إليها الفقهاء في أحاديث الأحكام، هذا فضلاً علـى جلالة مصنفه، وتقدمه في المعرفة والحفظ والإتقان، وما تضمنه سُننه من الترتيب المحكم، والترجمة الدقيقة للأبواب، وقد نال نصيبه من اهتمام العلماء بشرح غريبه، وبيان فقهه، والكلام علـى رجاله،
ومن أهم الكتب التي تناولت سيرة الإمام أبي داود، والتعريف بكتابه السنن هو الكتاب الذي بين أيدينا، والمعروف باسم: "بذل المجهود في ختم السنن لأبي داود"، للحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت ٩٠٢ هـ)، وهو كتاب جليل، شحنه الشمس السَّخاوي بالكثير من الفوائد، وأورد فيه جملة من الفرائد، وعقد فيه مباحث قيمة، وساق فيه نقولاً نادرة، وأحسن في عرض مادته، وتناول فقراته.
وكان تأليفه هذا الكتاب برسم الانتهاء من إقراء كتاب السنن لأبي داود؛ إذ جرت عادة العلماء المتأخرين أن يصنفوا ختوماً للكتب التي قاموا بإقرائها وتدريسها، ويُعتبر الإمام السَّخاوي هو الذي شهر هذا اللون من التصنيف بين المتأخرين، وتذكر بعض المصادر أنه أقرا كثيراً من كتب الحديث والسيرة وجملة من تصانيفه، لا سيما عند عند مجاورته للحرمين الشريفين مكة والمدينة.
والمصنفات في الختم عادة ما يتناول فيها المصنف سيرة مؤلف الكتـاب المختوم قراءته، ويعدد جملة من فضائله ومناقبه، ثم يتحدث عن كتابه، مبيناً خصائصه ومكانته بين المصنفات في فنه، وغالباً ما ينثر في غضون ذلك إفادات علمية متنوعة، واستطرادات مفيدة، وكثيرٌ من الختوم تشتمل على شرح آخر حديث في الكتاب، والكلام عليه سنداً ومتناً، لاسيما الكتب التي صُّنفت في ختم الصحيحين .
وأساس تصنيف كتب الختم هو مجلس ختم الكتاب المقرر إقراؤه، وكانت مجالس الختم من المجالس العلمية المشهودة، والمحافل المحمودة، لا يتخلف عن حضورها الأمراء والأعيان وكبراء الناس، بل تقترن كثير من تلك المجالس بتوزيع العطايا وإقامة المآدب، وإلقاء الشعراء قصائدهم في الإشادة بالشـيخ وعلمه وعمله.
وإذا أردنا التعبير عن مجالس الختوم في عصرنا، فإنها أشبه ما تكون بالحفلات الختامية التي تُعقد في المؤسسات التعليمية في نهاية كل عامٍ دراسي، ويتمُّ فيها إلقاء الكلمات، وتسليم الشهادات، وتكريم المتفوقين من الطلاب، بحضور الأساتذة وكبار المسؤولين.
وتعتبر كتب الختم مادةً دسمةً ومرجعاً مهماً في دراسة مناهج المصنفين في كتبهم، ومصدراً لتراجم العلماء ومعرفة أسانيدهم إلى الكتب، والحركة العلمية ونشاطها في ذلك العصر.
وربما كانت العناية بافتتاحيات المجالس لها أثرٌ كبير على نشأة مجالس الختميات، فقد صنف بعضهم في افتتاح بعض الكتب التي شرع في أقرائها، وكان أول من صنَّف فيها الإمام الحافظ أبو طاهر السّلفي (٥٧٦ هـ)؛ حيث أملى مقدمة على كتاب "معالم السُّنن" للخطابي. ومقدمة أخرى على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، ولم يشتهر التصنيف في الختم إلا مع مطلع القرن التاسع الهجري، فألف في ذلك العلامة ابن الجزري (ت ٨٣٣ هـ) كتابه "المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد"، ثم تلاه الإمام الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت ٨٤٢ هـ) فألف كتاباً في "ختم البخاري ومسلم" وفي "ختم السيرة النبوية لابن هشام"، و"الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض.
ثم أتي بعدهما مصنف هذا الختم الحافظ شمس الدين السخاوي (ت ٩٠٢ هـ)؛ فاعتنى بتصنيف الختم عنايةً كبرى، لا تجدها عند غيره، فألف ثلاثة عشر كتاباً في نفس الموضوع، سماها عندما ترجم لنفسه في كتابه "الضوء اللامع"، فيما يلي هذه الكتب مرتبة على حروف المعجم:
(١) الإلمام في ختم السيرة النبوية لابن هشام.
(٢) الانتهاض في ختم الشفا للقاضي عياض.
(٣) بذل المجهود في ختم سنن أبي داود.
(٤) بغية الراغب المتمني في ختم النسائي رواية ابن السُّني.
(٥) الجوهرة المزهرة في ختم التذكرة للقرطبي.
(٦) رفع الإلباس في ختم السيرة لابن سيد الناس.
(٧) الرياض في ختم الشفا للقاضي عياض.
(٨) عجالة الضرورة والحاجة عند ختم السنن لابن ماجه.
(٩) عمدة القاري والسامع في ختم الصحيح الجامع.
(١٠) غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج.
(١١) القول المرتقي في ختم دلائل النبوة للبيهقي.
(١٢) القول المعتبر في ختم سنن النسائي رواية ابن الأحمر.
(١٣) اللفظ النافع في ختم كتاب الترمذي الجامع.
وممن ألف أيضاً في موضوع هذا الكتاب العلامة المحدث محمد مرتضى بن محمد الزبيدي (ت 1205 هـ)، وسماه "تحفة الودود في ختم سنن أبي داود"، ولا نعرف أين هذا الكتاب؟.
وقد بيّن الحافظ السَّخاوي في مقدمته لهذا الكتاب أهمية العناية بالسُّنة النبوية، ثم بيَّن مكانة أبي داود من بين كتب السُّنن، وأشار إلى أنه قد أُطلق عليه وصف "الصحيح" من قبل بعض الحفاظ، وساتعرض جوانب من منهج أبي داود في "سننه" وبيّن اعتماد الفقهاء عليه لعنايته بجمع أحاديث الأحكام.
ثم عقد مقارنةً بينه وبين الصحيحين في بعض الجوانب المنهجية وما يتفق به معهما وما يفترق عنهما، وقد أبدع السخاوي في إجراء هذه المقارنة ما يدلُّ على سعة اطلاعه وجودة ذهنه، وقوة استحضاره، ثم نقل عبارات الأئمة الكبار في ضرورة العناية بكتاب "السنن" لأبي داود، ثم تطرق لذكر رواة السُّنن عن أبي داود، وقدَّم قائمةً بهؤلاء الرواة تصل إلى أحد عشر راوياً، ثم ساق السخاوي أسانيده إلى أصحاب تلك الروايات التي اتصل بها سماعه لسنن أبي داود، وهي: رواية اللؤلؤي، وابن داسة، وابن الأعرابي، وبيَّن ما ماتازت به تلك الروايات عن بعضها، وذكر أن رواية ابن العبد فيها زيادة كثير من الكلام على الأحاديث.
ثم ذكر أنه لا ينبغي نسبة السكوت لأبي داود إلا بعد الوقوف على جميع رواياته للحديث. ثم ختم كلامه بالحديث عن عناية العلماء كتاب "السنن" لأبي داود، فذكر قائمة مطولة بما أُلِّف عليه من الشروح والحواشي والمستخرجات وغيرها من الكتب. ثم تحدث عن سيرة الإمام أبي داود واسمه ونسبه وبلده ومولده ووفاته ورحلاته ومذهبه الذي رجَّح أنه كان حنبلي المذهب، ثم ساق طائفة من النقول في ثناء الأئمة على أبي داود والإشادة بحفظه وفضله، ثم ذكر طائفة كبيرة من تصانيفه والتي ربت على الثلاثين كتاباً، ثم دلف إلى الحديث عن أبرز تلاميذه والآخذين عنه، وأشار إلى أن الإمام أحمد قد روى عنه حديث العتيرة، ونبَّه إلى أنه وقع لأبي داود في "سننه" حديثٌ ثلاثيٌّ واحد، ثم ساقه، ثم ختم كتابه برواية حديث "كفارة المجلس" وهو من الأحاديث التي رواها الإمام أبو داود في كتابه "السُّنن".
وقد استفاد الحافظ السخاوي من مراجع عديدة في تأليف هذا الكتاب أهمها: شروح أبي داود كشرح الخطابي، والنووي، والولي العراقي، واعتمد في ترجمة أبي داود كثيراً على كتاب الخطيب في "تاريخ بغداد"، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر، و"التقييد والإيضاح" لابن نقطة، و"السير" للذهبي، وغيرها.
**رواة كتاب السُّنن لأبي داود:
(١) أبو الطيب أحمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالأُشناني.
(٢) أبو عمرو أحمد بن علي البصري
(٣) أبو سعيد أحمد بن محمد ابن الأعرابي، ورواه السخاوي من طريقه (ص ٦٩).
(٤) أبو عيسى إسحاق بن موسى الرّملي، المعروف بـ"ابن الصّريع".
(٥) أبو الحسن علي بن الحسن الورّاق.
(٦) قاسم بن عاصم المُرادي.
(٧) أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، ورواه الحافظ السخاوي من طريقه (انظر: ص ٦٤ -٦٥)..
(٨) أبو بكر محمد بن بكر التمَّار، المعروف بـ"ابن داسة"، وهو آخرهم وفاةً، ورواه السخاوي من طريقه (انظر: ص ٦٦ -٦٩).
(٩) أبو سالم محمد بن سعيد الجلُّودي.
(١٠) أبو أمامة محمد بن عبد الملك الروّاس.
(١١) وليد بن عمر البزّار.
**شروح كتاب سنن أبي داود:
"معالم السُّنن" لأبي سليمان الخطابي.
"حاشية" لزكي الدين عبد العظيم المنذري.
تهذيب الشرحين السابقين مع زيادات لابن القيم الجوزية.
شرع في شرحه أبو زكريا النووي، وكتب منه كراريس.
"السُّنن" شرح السنن للعلاء مغلطاي.
شرح قطعة كبيرة سعد الدين مسعود الحارثي ولم يكمله.
شرح منه قطعة في مجلد لطيف أبو محمود المقدسي.
وكتب في شرحه عدة مجلدات أطال فيها النفس: الوليُّ العراقي.
وشرحه الشهاب ابن رسلان وأكمله.
وشرح زوائده على الصحيحين السراج ابن الملقن.
وعمل عليه مستخرجاً: محمد بن عبد الملك بن أيمن الأندلسي.
ومستخرج أبو بكر أحمد بن علي الأصبهاني.
ومستخرج قاسم بن أصبغ.
وأفرد رجاله بالتعريف: أبو علي الجياني، وغيره.
ومن الكتب التي اعتنت بشرح سنن أبي داود:
شرح السنن لقطب الدين القسطلاني (ت ٧٥٢ هـ).
حاشية برهان الدين ابن العجمي على سنن أبي داود (ت ٨٤٠ هـ).
شرح العلامة بدر الدين العيني (ت ٨٥٥هـ)، ولم يكمله.
حاشية الجلال السيوطي (مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود) (ت ٩١١هـ).
ودرجة مرقاة الصعود لعلي الباجعموي وهو مختصر حاشية السيوطي.
فتح الودود على سنن أبي داود؛ لشمس الحق آبادي (ت ١٩١١ هـ).
بذل المجهود في حل أبي داود؛ لخليل السهارنفوي (ت ١٣٤٦ هـ).
المنهل العذب المورود للشيخ محمود خطاب السبكي (ت ١٣٥٢ هـ) لكنه مات قبل أن يُكمله، ووصل فيه إلى كتاب الحج، ثم قام ابنه أمين محمود السبكي لمحاولة إكماله، وسماه (فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود).
** ومن مؤلفات الإمام أبي داود السجستاني:
الطهارة الكبير
الزوال
المواقيت
فضائل رجب وشعبان
فضائل النصف من شعبان
فضائل رمضان والست من شوال وعاشوراء
مناسك الحج الكبير
بناء الكعبة
القضاء الكبير
العلم الكبير
القراءات الكبير
نزول القرآن
التفسير
الإيمان قول وعمل
الزهد
الرد على أهل الأهواء والقدر
الفضائل
المولد النبوي
أعلام النبوة.
إسلام الصحابة
فضائل أبي ذر وإسلامه.
المبتدأ من أخبار بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام إلى سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
الملاحم
التاريخ
أجوبته لأبي عُبيد الآجري عن مسائله في الرجال.
الناسخ والمنسوخ.
التفرد (وهو ما تفرد به أهل كل مدينة من الحديث)
المراسيل.
رسالته إلى أهل مكة، وفيها وصف السُّنن وبيان شرطه فيها.
مسائله للإمام أحمد.
حديث الإمام مالك.
** وروى عنه من أصحاب الكتب الستة:
أبو عيسى الترمذي:
وأبو عبد الرحمن النسائي.
وآخر من روى حديثه عالياً عبد الرحمن بن الحاسب المعروف بسبط السِّلفي، وقع له كتاب الناسخ والمنسوخ بعلوٍّ جداً.
ووقع له في سننه حديثٌ ثُلاثي الإسناد؛ فقال في باب الحوض: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد السلام بن أبي حازم أبو طالوت، قال: شهدت أبا برزة دخل على عبيد الله بن زياد… فقال له عبيد الله: ...إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال له أبو برزة: نعم «لا مرة، ولا اثنتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، ولا خمساً، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضباً».
** ومن مناقب الإمام أبي داود:
(١) أنَّه يُشبه بالإمام أحمد بن حنبل.
(٢) تسويته بين الشريف والوضيع في العلم والتحديث.
(٣) عدم محاباته في التوثيق والتجريح.
(4) شدة تحريه في اتباع السُّنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق