السترة بين الوجوب والاستحباب
"دراسة فقهية حديثية"
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
غزَّة -فلسطين
1- اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، على استحباب السترة بين يدي المُصلي إذا كان إمامًا أو منفرِدًا، وأنها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، لا واجبة.
2- وذهب الإمام أحمد في رواية، والإمام ابن خزيمة، والإمام يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، وابن حبيب المالكي، وابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله: إلى وجوب اتخاذ السُّترة، ولو في الصحراء أو في البيت؛ ومن المتأخرين: الإمام الشوكاني، ومحمود السُّبكي، والإمام الألباني رحمه الله، وهو ظاهر مذهب ابن حزم، ومذهب بعض المُعاصرين.
1-ما رواه أبو داود، وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدنُ منها).
وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، فهو عنده صالح، وصحح إسناده النوويُّ في "الخلاصة"، وحسّنه مغلطاي في "شرح ابن ماجه"، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": في إسناده محمد بن عجلان، قال فيه ابن حجر في "نتائج الأفكار": صدوق لكن في حفظه شيء وخصوصًا في روايته عن المقبري -عن أبي هريرة؛ فالذي ينفرد به من قبيل الحسن، وقال الذهبيُّ: وثقه أحمد وابن معين، وقال غيرهما: سيىء الحفظ. وكذلك وثقه أبو حاتم، والنسائي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، وابن باز في "فتاويه".
قال الموجبون: اللام في قوله (فليُصلِّ إلى سترة) هي لام الأمر؛ وهذا ظاهرٌ في الوجوب.
2-واستدلوا بما رواه أحمد في "مسنده"، وابن خزيمة في صحيحه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصل إلا إلى سترة).
وهذا الحديث صححه ابن حبان، وابن خزيمة، وقال الألباني: إسناده جّيد. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
قال الموجبون: وهذا نهيٌ يقتضي تحريم الصلاة إلى غير سترة.
3-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم، عن أبي معبد الجهني؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استتروا في صلاتكم، ولو بسهم).
وهذا الحديث حسَّنه البغويُّ في "شرح السُّنة"، وصححه ابن الملقن في "تحفة المحتاج"، والسيوطي في "الجامع الصغير"، والألباني في "الصحيحة".
قال الموجبون: وهذا أمرٌ ظاهرٌ في الوجوب؛ لقوله (استتروا)، وقوله (ولو بسهم) دليلٌ على عدم العذر بترك السترة.
4-واستدلوا بما رواه الشيخان، عن أنس بن مالك؛ قال: (كُنّا بالمَدِينَةِ فَإِذا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ لِصَلاةِ المَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوارِيَ، فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حتّى إنَّ الرَّجُلَ الغَرِيبَ لَيَدْخُلُ المَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أنَّ الصَّلاةَ قدْ صُلِّيَتْ مِن كَثْرَةِ مَن يُصَلِّيهِما).
قال الموجبون: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتدرون السواري، ولو جازت الصلاة إلى غير سترةٍ لما ابتدروها.
5- واستدلوا بما رواه البخاريُّ تعليقاً بصيغة الجزم، وابن أبي شيبة في "المصنف"، عن قرة بن إياس قال : (رآني عمر وأنا أصلى بين اسطوانتين فأخذ بقفائي إلى سترة فقال: صلِّ إليها).
6- واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة، عن نافع؛ قال: (كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: ولني ظهرك).
7-واستدل بعضهم من النظر؛ فقالوا: قد علمنا من الشرع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ السُّترة لئلا يمُرَّ الشيطانُ من أمام المُصلي؛ ولئلا يقطع عليه صلاته؛ وعليه فإن هذا الباب الذي يؤدي إلى قطع الصلاة أو ضررها أو نقصها يجب إغلاقه، وهذا يؤيد القول بالوجوب.
((وأجاب جماهير الفقهاء على أدلة القائلين بالوجوب، أن الأمر في هذه الأحاديث محمولٌ على الاستحباب، والذي صرفها عن الوجوب، هو ما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يُصلي إلى غير سُترة؛ فجمعوا بين الأحاديث؛ بأن السُّترة مستحبَّةٌ وليست واجبة)).
1- عمدتهم في ذلك ما رواه البُخاريُّ ومسلمٌ في "صحيحيهما": عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: (أقبَلْتُ راكبًا على حمارٍ أتَانٍ، وأنا يومَئذٍ قد ناهَزْتُ الاحتلامَ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي بمِنًى إلى غيِر جِدارٍ، فمرَرْتُ بين يدَيْ بعضِ الصَّفِّ، وأرسَلْتُ الأتَان ترتَعُ، فدخَلْتُ في الصَّفِّ، فلم يُنكَرْ ذلك علَيَّ).
قالوا: قول ابن عباس (يُصلِّي بمِنًى إلى غيِر جِدارٍ) يدلُّ على أنه جوز له أن يُصلي إلى غير سُترة.
وأجاب الموجبون: بأن ثبوت هذه اللفظة فيها بعض النظر؛ ذلك أنه اختلف فيه على رواة الزُّهري في ذكر (منى) أو (عرفة)، وفي إثبات لفظة (إلى غير جدار) أو حذفها.
وبيان ذلك أنه: رواه عن الزُّهريِّ خمسة، وهم:
مالك، وسفيان بن عُيينة، ويونس بن يزيد، وابن أخي الزُّهريِّ، ومعمر.
وقد ختلف الرواة في هذا الحديث عن الزُّهريِّ أيضاً في كون الحديث وقع في منى، أو في عرفات، وكلا الروايتين في الصحيح:
أ- فعن مالكٍ ثلاثة أوجهٍ: روايةٌ أنها (بمنى وإلى غير جدار) وهي عند البخاري والبيهقي. وعن مالكٍ أيضاً: (أنها بمنى من غير هذه الزيادة)، وقد أخرجه: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، ومالك، وأبو عوانة، وابن خزيمة، وابن حبان، والبغوي، والبيهقي. وعن مالكٍ رواية: (ولم يذكر فيها شيء) أخرجه أحمد، عن ابن مهدي عن مالك.
ب- وعن ابن عُيينة ثلاثة أوجهٍ: روايةٌ؛ قال: (بعرفة)، أخرجها أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وأبو عوانة، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والحُميدي، وابن الجارود، وابن خزيمة، وأبو بعلى. وفي رواية عن ابن عُيينة (لم يذكر شيئاً) أخرجها ابن أبي شيبة. وفي روايةٍ عن ابن عُيينة: (وقع فيه الشك بمنى أو بعرفة) أخرجها الدارمي. قالوا: وقد أكد سفيان روايته (بعرفة)، بقوله: وحفظته منه.
ج-وعن ابن أخي الزُّهريِّ، على وجهين: روايةٌ أنه (بمنى) أخرجها البُخاري، وروايةٌ (لم يذكر فيها شيء)، أخرجها أحمد.
د-وعن معمر وجهين: روايةٌ أنه (بمنى) عند أحمد، والترمذي، وابن خزيمة. وروايةٌ (لم يذكر شيء، وشك هل هو في حجة الوداع أو يوم الفتح) أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، ومسلم، وأبو عوانة.
هـ-وعن يونس بن يزيد وجهاً واحداً أنها وقعت (بمنى) في حجة الوداع، أخرجها مسلم.
ومما سبق نجد أنه جاءت هذه الزيادة أنها "بمنى"، عن: (يونس، ومعمر، وابن أخي الزهري) عن الزُّهريِّ، وأما (سفيان بن عُيينة)؛ فقال "بعرفة" على خلاف. وأما مالك عن الزُّهريِّ؛ فاختُلف عليه فيها؛ فروى هذه الزيادة عنه: ابن بُكير، وإسماعيل بن أبي أويس، والتنيسي أنها "بمنى"، بينما لم يروها عنه: القعنبيُّ، ويحيى الليثي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو مُصعب الزُّهري، ويحيى بن قزعة، وأبو مصعب.
ويُجيبنا على هذا الاشكال كُلاً من الإمام المنذري، والإمام النووي:
-الإمام المُنذري في "مختصر أبي داود"؛ بقوله: "لفظ النسائي وابن ماجة "بعرفة". وأخرج مسلم اللفظين (بمنى، وعرفة). والمشهور: أن هذه القصة كانت في حجة الوداع. وقد ذكر مسلم حديث مَعْمر عن الزهري، وفيه: "وقال: في حجة الوداع، أو يوم الفتح" فلعلها كانت مرتين. واللَّه أعلم.
-وقال الإمام النوويُّ في "شرح مُسلم": "قوله (يصلي بمنى) وفي رواية بعرفة محمول على أنهما قضيتان".
وهكذا حملا القصة على أنهما قضيتان مختلفتان، إلا أن الحافظ ابن حجر في "الفتح" خالفهما، وجزم بأنها في حجة الوداع، وفي "منى"، وما عدا ذلك من الروايات فهو شاذٌّ لا يُعوَّل عليه؛ فقال: "قوله (يصلي بالناس بمنى)، كذا قال مالك، وأكثر أصحاب الزهري، ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة (بعرفة)، قال النوويُّ: يحمل ذلك على أنهما قضيتان، وتُعقب بأن الأصل عدم التعدد ولا سيما مع اتحاد مخرج الحديث فالحق أن قول ابن عيينة بعرفة شاذٌّ، ووقع عند مسلم أيضاً من رواية معمر عن الزهري وذلك في حجة الوداع أو الفتح وهذا الشك من معمر لا يُعَوَّلُ عليه والحق أن ذلك كان في حجة الوداع".
وأجاب الموجبون: بأنه ليس في الحديث نفيٌ للسترة، لأن نفي الجدار لا يستلزم نفي غيره من الخطِّ ونحوه.
ولأن لفظ (غير) يقع دائماً صفةً، وتقديره إلى شيءٍ غير جدار، ولذا ترجم له البخاريُّ في "صحيحه" بقوله: "باب سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه"، وترجم له ابن حبان بقوله: "ذكر البيان بأن صلاة المصطفى بمنى كانت السترة قُدامه حيثُ كانت الأتان ترتع قُدام المصطفى!".
قالوا: دلَّ ذلك على وجود السُّترة، وهو أعمُّ من أن يكون عصاً أو عنزةٍ، أو نحو ذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى خارج العمران يأمر بالعنزة فتوضع بين يديه فيصلي إليها.
وأجاب الفقهاء: بأن هذا الكلام فيه نظرٌ من وجوه:
الأول: أن ابن عبَّاس لو مرَّ من وراء السُّترة لما قال: (إلى غير جدار)؛ لأن هذا معلومٌ جوازه، ولكن لما لم تكن هناك سترةٌ حكى ابن عباس ذلك؛ لأنه غير معهودٍ أن يُصلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى غير سترة، مع قوله (فلم يُنكر ذلك عليَّ).
الثاني: إذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستتر بشيء في صلاته؛ فأيُّ فائدةٍ تُرجى من قول ابن عباس (صلى إلى غير جدار)؛ فأصبح هذا الإخبار لا فائدة فيه.
الثالث: أن الجدار كان سترته في المسجد، وفي الفضاء ليس هناك جدار، وإطلاق نفي الجدار هنا لأجل نفي السترة؛ ولذلك قال الشَّافعيُّ في "اختلاف الحديث": يُصلي إلى غير جدار: يعني إلى غير سترة؛ فاللفظ هنا محمولٌ على العموم؛ وستأتي رواية أبي يعلى، وفيها: سئل ابن عباسٍ ( أكان بين يديه عنزةٌ؛ قال: لا).
وترجم الإمام البيهقيُّ للحديث في "السنن": (باب من صلَّى إلى غير سترة)، ثُم نقل قول الشَّافعيِّ هذا، وقال بعده: "وذلك يدلُّ على خطأ من زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى سترة (يعني في هذا الحديث)، فلذلك لم يقطع مرور الحمار بين أيديهم صلاتهم".
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": (إلى غير جدار) أي إلى غير سترة، قاله الشافعي، وسياق الكلام يدلُّ على ذلك؛ لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المُصلي لا يقطع صلاته.
ويؤيده رواية البزّار، عن ابن عباس بلفظ: (والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلي المكتوبة ليس شيءٌ يستره)، وقال ابن الملقن: رجاله رجال الصحيح.
2- واستدلوا بما رواه أحمد، وأبو داود، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، من طريق عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني جدي، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن عباس عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا، ومعه عباسٌ، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة؛ وحمارةٌ لنا، وكلبةٌ تعبثان بين يديه فما بالى ذلك).
وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وحسَّن إسناده النوويُّ في "المجموع، والخلاصة"، والعراقيُّ في "طرح التثريب"، وابن حجر في "تخريج المشكاة"، وقال الرباعي في "فتح الغفار": إسناده لا بأس به، وضعفه الخطابيُّ في "معالم السُّنن"، وقال: في إسناده مقال، وقال ابن قُدامة: في إسناده مقال، وهو أن عباس بن عُبيد الله بن عباس لم يلق عمه الفضل بن العباس -الذي روى عنه، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"، وأحمد شاكر في "شرح المُسند"، وشعيب الأرناؤوط في "تخريج أبي داود". وأعله عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الكبرى": بجهالة محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب؛ ولكن الحافظ قال في "التقريب": مقبول، والمقبول عنده لينُ الحديث ما لم يُتابع، والراجح أنه ضعيفٌ يقبل التحسين، بما يأتي من الروايات.
ولكن الموجبون يمنعون من تحسين هذا الحديث؛ فيقولون: إن هذه رواية عبد الملك بن شعيب شاذة؛ لأنه قد رُوي من طريق عبد الله ين سعيد بن الجمال، ثنا علي بن الحسن النيسابوري، ثنا مُعاذ بن فضالة، عن يحيى بن أيوب به، بدوون نفي السُّترة. أخرجها الدارقطنيُّ في "سننه"، ولفظها (وبين يديه كليبةٌ وحمارٌ؛ فما نهانا وما ردهما)، وأخرج الإمام أحمد والدارقطني والطحاوي والبيهقيّ من طريق ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن عمر بن علي .. به، ولفظه فصلى العصر وهما -أي الكليبة والحمارة -بين يديه؛ فلم يزجرا، ولم يؤخرا)؛ قالوا: فلم يرد فيه ذكر للسُّترة لا نفياً ولا إثباتاً.
وأجاب الفقهاء: بأن ظاهر هذه الروايات التي ذكرتموها يؤيد ما ذهبنا إليه من عدم وجود السُّترة؛ لأن عدم ذكر السُّترة يؤكد عدم وجودها؛ ويؤيد ذلك -أيضاً -ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"، وعنه أحمد في "مسنده"، من طريق ابن جريج، حدثني محمد بن عمر بن علي، عن الفضل بن العباس… فذكره، وفيه (ليس بينه وبينهما شيءٌ يحول بينه وبينهما)، وهذا صريحٌ جداً، وعليه فلا معنى لما ذكرتموه من الشذوذ.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى وليس بين يديه سُترة؛ فدل ذلك على استحبابها وعدم وجوبها.
3-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والطبرانيُّ، من طريق الحجاج بن أرطأة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى الجزار، عن ابن عباس؛ قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء).
قال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه الحجاج بن أرطأة، وفيه ضعف. وقال البيهقيُّ في "الكبرى": له شاهد بإسناد أصح من هذا. وصححه ابن باز في "حاشية بلوغ المرام"، وقال الأرناؤوط: حسنٌ لغيره، وقال أحمد شاكر في "شرح المسند": إسناده صحيح، وقال العثيمين في "الشرح الممتع": فيه مقالٌ قريب، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"؛ قال: فيه الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف مدلس، وقد عنعنه؛ وفيه عنعنة الحكم بن عتيبة وربما دلس، وهو كما قال، ولكن يشهد له حديث (صلى بمنى إلى غير جدار)؛ فيرتقي إلى لحسن لغيره.
4-واستدلوا بما رواه، عن ابن عباسٍ: (أنه مرَّ هو والفضل على أتان لهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وليس شيءٌ يستره يحول بينهم وبينه).
وهذا حديثٌ ضعيف سنداً ومتناً، وقد حكم عليه الحافظ في "الفتح" بالشذوذ؛ لأنه حصل ذلك بمنى، ويؤيد ضعف ما جاء في الحديث الآخر عن ابن عباسٍ من طريق عكرمة -بإسنادٍ حسن - أنه قال: (رُكزت العنزة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، وصلى إليها، والحمار من وراء العَنَزة)؛ فهذه قضيَّةٌ أخرى كما رجحه النوويُّ، وغيره.
5-واستدلوا بما رواه أبو يعلى في "مسنده"، من طريق علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مُرة، قال سمعتُ عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس، قال: (جئت وأنا غلامٌ من بني هاشم على حمارٍ؛ فمررنا بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُصلي؛ فنزلنا عنه وتركنا الحمار يأكل من بقل الأرض -أو قال من نبات الأرض؛ فدخلنا معه في الصلاة؛ فقال رجلٌ: أكان بين يديه عنزةٌ؛ قال: لا). وقال محقق مسند أبي يعلى: رجاله رجال صحيح.
وأجيب بأن هذا الحديث ضعيفٌ سنداً ومتناً، أما سنداً؛ فهو معلولٌ بالانقطاع؛ فالحديث لم يسمعه يحيى بن الجزار من ابن عباس، بدليل أنه جاء عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم: من طريق الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء البكري البصري، عن ابن عباس.
ومما يُضعفه الطريقان الآتيان، وهما:
ما أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق عفان بن مسلم: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرة.. به، وليس فيه ذكرٌ للسؤال ولا الجواب.
وأخرجه ابن ماجه من طريق الحكم بن عتبة الموصولة عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء، عن ابن عباس، وليس فيها ذكر السؤال والجواب.
ولكن هذا الخبر قد جاء عند أحمد في "المسند" -بإسنادٍ ضعيف يحتمل التحسين -من طريق أبي المعلى العطار، عن الحسن العدني؛ قال: (ذُكر عند ابن عباس ما يقطع الصلاة؟ فذكر الكلب والحمار والمرأة؛ فقال: بئسما عدلتم بامرأةٍ مُسلمةٍ كلباً وحماراً؛ لقد رأيتني أقبلتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بالناسِ، حتى إذا كنتُ قريبًا منه مُستقبِلَه نزَلتُ عنه، وخلَّيتُ عنه، ودخَلتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في صلاتِه، فما أعاد رسولُ اللهِ صلاتَه، ولا نهاني عما صنَعتُ، ولقد كان رسولُ اللهِ يُصلِّي بالناسِ، فجاءَتْ وليدةٌ تخَلَّلُ الصُّفوفَ، حتى عاذَتْ برسولِ اللهِ، فما أعاد رسولُ اللهِ صلاتَه، ولا نَهاها عما صنَعتْ)، وقد حسنه شُعيب الأرناؤوط، وضعفه أحمد شاكر.
6- واستدلوا بما رواه أبو داود والبزار، عن سهل بن أبي حثمة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها).
وهذا الحديث: أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قالوا: وهذا يدل على أن المصلي قد يصلي إلى شيء يستره وقد لا يصلي؛ لأن هذه الصيغة تدلُّ على جواز الأمرين.
وأجاب الموجبون: بأن دلالة قوله: (إذا صلى أحدكم إلى سترة) مُقيَّدٌ بحديث أبي سعيد (فليُصلِّ إلى سترة)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وأما استدلالكم يا معشر الجمهور إنما هو بدلالة مفهوم، بينما الأحاديث التي سقناها في أول كلامنا وجاء فيها الأمر بالسترة والنهي عن الصلاة بدونها دلالتها دلالة منطوق، وإذا اختلفت دلالة المنطوق مع دلالة المفهوم قدمت دلالة المنطوق على المفهوم.
والجمهور يُجيبون: إن ظاهر كلامكم صحيح، ولكن الصارف للأمر من الوجوب إلى الاستحباب كونه -عليه الصلاة والسلام- صلى إلى غير جدار.
8- واستدلوا من النظر؛ فقالوا: المقصود من السُّترة كف بصر المصلي عما وراءها، وجمع الخاطر بربط خياله كي لا ينتشر، ومنع المار كي لا يرتكب الإثم بالمرور بين يديه؛ وهذا قد يحصل بدون سُترة، ولكن مع السُّترة أفضل.
-الدرر السنية.
-إتحاف الإخوة بأحكام الصلاة إلى السترة؛ فريح البهلال.
-أحكام السترة في مكة وغيرها، محمد طرهوني.
-توضيح الأحكام من بلوغ المرام؛ للبسام.