أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 سبتمبر 2020

شرح أصول في التفسير -بقلم: محمد ناهض عبد السلام حنونة

شرح أصول في التفسير

لفضيلة الشَّيخ محمد بن صالح العُثيمين

بقلم: محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ هذا الكتاب هو كلماتٌ جامعة في علم أصول  التفسير، اشتمل على مسائل كثيرة، وقواعد مهمة في التفسير وطرقه وعلومه، بيَّن فيه الشيخ رحمه الله- أهم الضوابط التي تُعين القارئ والمتدبِّر على فهم كتاب الله عز وجل، وهو علمٌ يحتاج إليه الفقيه والمُحدث، والمُفتي، والقاضي، والمُدرِّس، والخطيبُ، والواعظ، ولا شك أن رتبة التفسير أعلى رتبة من شرح الحديث؛ باعتبار متعلقه الذي هو كلام الله عز وجل.

وأصل هذا الكتاب هو مذكرة كتبها الشيخ العثيمين لطلاب المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد طلب منه بعض أهل العلم أن يُقرِّر لهم مادةً في أصول التفسير يجعلها في رسالة مستقلة؛ فأجابهم إلى ذلك، فكانت بمثابة المتن، وهي مُستمدَّةٌ من مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد تناول العلماء والطلبة هذا المتن المبارك بالشرح والتحليل والحفظ والعناية، وكان من جملة هذه الشروح شرح الشيخ العثيمين لها -وهو الشرح الذي بين أيدينا، وقد شرحها أيضاً شرحاً مُلخصاً الشيخ مُساعد الطيار، والشيخ عبد الرحمن العقل، وغيرهم من الشيوخ المباركين.

وقد لخص الشيخ العثيمين مطالب هذا الكتاب في بداياته على صورة أسئلة؛ فكانت بمثابة الفهرس العام له، وبمثابة التقويم النهائي لمن قرأ هذا الكتاب؛ فيتمكن من الإجابة عليها؛ وهي كما يلي:

* القرآن الكريم:

أولاً: نزول القرآن الكريم:

- متى نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم؟ 

- ومن نزل به عليه من الملائكة؟

- أول ما نزل من القرآن ؟

-  نزول القرآن على نوعين: سببي وابتدائي.

ثانياً: المكي والمدني:

- القرآن مكي ومدني، وبيان الحكمة من نزوله مفرقاً. وترتيب القرآن.

ثالثاً: كتابة القرآن وجمعه:

- كتابة القرآن وحفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

- جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما.

رابعاً: التفسير:

-معنى التفسير لغة واصطلاحاً، وبيان حكمه، والغرض منه.

- الواجب على المسلم في تفسير القرآن.

- المرجع في التفسير إلى ما يأتي:

أ-كلام الله تعالى بحيث يفسر القرآن بالقرآن.

ب- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلّغ عن الله تعالى، وهو أعلم الناس بمراد الله تعالى في كتاب الله.

ج. كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم.

د. كلام كبار التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم.

هـ. ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق، فإن اختلف الشرعي واللغوي، أخذ بالمعنى الشرعي إلا بدليل يرجح اللغوي.

-أنواع الاختلاف الوارد في التفسير المأثور.

خامساً: ترجمة القرآن:

- ترجمة القرآن: تعريفها - أنواعها - حكم كل نوع.

سادساً: الصحابة والتابعين الذين اشتهروا بتفسير القرآن:

- خمس تراجم مختصرة للمشهورين بالتفسير ثلاث للصحابة واثنتان للتابعين (عليُّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة).

سابعاً: المحكم والمتشابه في القرآن:

- أقسام القرآن من حيث الإحكام والتشابه.

- موقف الراسخين في العلم، والزائغين من المتشابه.

- التشابه: حقيقي ونسبي.

- الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه.

- موهم التعارض من القرآن والجواب عنه وأمثلة من ذلك.

ثامناً: القسم في القرآن:

- الْقَسَم: تعريفه - أداته- فائدته

تاسعاً: القصص في القرآن:

- القصص: تعريفها - الغرض منها 

- الحكمة من تكرارها واختلافها في الطول والقصر والأسلوب.

- الإسرائيليات التي أقحمت في التفسير وموقف العلماء منها.

عاشراً: الضمير في القرآن:

- الضمير: تعريفه - مرجعه

- الإظهار في موضع الإضمار وفائدته 

- الالتفات وفائدته - ضمير الفصل وفائدته.

  • ومن الفوائد المُهمَّة التي أخصُّ بها طلبة العلم (والتي ذكرها الشيخ أثناء شرحه في الكتاب) ما يلي:

1-كل مثلٍ في القرآن فهو إثباتٌ لدليل القياس.

2-إذا جاءت (ما) بعد (إذا)؛ فهي زائدة/ مثال: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ..) أي: وإذا أنزلت سورة.

3-إذا دار الكلام بين الحذف وعدمه؛ فحمل الكلام على عدم الحذف أولى.

4-خصوص السبب إذا كان عينياً؛ فإنه لا يُخصص العموم، أما إذا كان خصوص السبب وصفياً فإنه يُخصص العموم؛ ويُمكن التعبير عنها بقولنا (الحكم العام الوارد على سبب خاص لا يُخصصه إلا بقرينةٍ وصفية).

5-ترك بعض المشروع: مشروع درءاً للفتنة (وهذا في باب المستحبات والسنن).

6-النهي عن الشيء لا يلزم منه وقوع الشيء، ولا جواز وقوعه أيضاً.

7- الضمائر إذا تتابعت؛ فمرجعها واحدٌ إلا بدليلٍ يصرفها؛ فيكون مرجع كل ضميرٍ إلى ما يُناسبه.



الاثنين، 28 سبتمبر 2020

الرحلة في طلب الحديث -الخطيب البغدادي -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الرحلة في طلب الحديث

تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت

الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ الرحلة في طلب العلم والحديث سُنَةٌ ذكرها الله عز وجل في كتابه في قصة موسى والخضر عليهما السلام، وذكرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سُّنته، وقد رحل أكابر الصَّحابة لسماع حديثٍ بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت القبائل تفد إليه صلى الله عليه وسلم فتسمع منه القرآن، وتحفظ عنه أمور الإسلام، وقد قال الله عز وجل: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) /التوبة 122/، فكان أعظم مقاصد طلب العلم: حفظ هذه الشريعة، ثُم تبليغها للناس، وقد نبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك  بقوله: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سلَك اللهُ به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ والملائكةُ تضَعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ) /صحيح ابن حبان/

وقد جمع الإمام الخطيب البغدادي في كتابه هذا (الرحلة في طلب الحديث) مُلحاً رائقة من أخبار بعض الأئمة الحفاظ من الطبقة الثانية والثالثة، الذين رحلوا في طلب العلم، ولم تشتهر أخبارهم، جمعها من متفرقات كتبه، وأودعها في هذا الجزء اللطيف، وهو أول من أفرد (الرحلة) بتصنيفٍ مستقل.

وقد كتب الأئمة قبله في الرحلة وجمعوا فيها بعض الأخبار، وضمنوها كتبهم، فقد بوَّب الإمام البخاريُّ في صحيحه: "باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله"، وكذلك ابن أبي شيبة قال في "المصنف": "باب في الرحلة في طلب العلم"، ولكن الخطيب هو أول من أفرد الرحلة في التصنيف.

أما صفة الرحلة؛ فيقول الحافظ ابن حجر في كتابه "النزهة": وصفةِ الرحلة فيه، حيث يبتدئ بحديثِ أهل بلدِهِ، فيستوعبه، ثم يرحل، فيحصِّل في الرحلة ما ليس عنده، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع أَوْلى من اعتنائه بتكثير الشيوخ.

  ومن جميل ما يُذكر أن كلمة الرحلة وردت في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه (لإيلاف قريشٍ إيلافهم، رحلة الشتاء والصَّيف)، وكذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الرِّحلةُ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: إلى المسجِدِ الحرامِ ومسجِدِكم هذا وإِيلِياءَ)/صحيح ابن حبان/؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا المعنى في كلامه كما هو ظاهرٌ من الحديث.

وقد قسَّم الخطيب البغدادي كتابه إلى خمس فصول، وبدأه بذكر (الرحلة في طلب الحديث والأمر بها والحثُّ عليها، وبيان فضلها) وذكر فيه ثمانيةً وعشرين أثراً. وأعقبه بذكر (رحلة نبي الله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفتاه في طلب العلم) وما اشتملت عليه من الآداب وقوانين الطلب، وفيها أنه كلما طالت الرحلة عظمت الفائدة. وأتبع ذلك بذكر (من رحل في حديث واحد من الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين)، وذكر فيه رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنيس، ورحلة أبي أيوب الأنصاري إلى عُقبة بن عامر، ورحلة رجلٍ من الصحابة إلى فَضالة بن عُبيد،  ثم ذكر (الرواية عن التابعين والخالفين في مثل ذلك) يعني في طلب العلم، والرحلة فيه، وذكر فيه أخبار سعيد بن المسيب وغيره، وبيَّن فيه مقاصد الطلب؛ فمنهم من رحل في طلب أصل الحديث؛ كالأوزاعي إلى الحسن البصري، وابن سيرين، ومنهم من رحل لأجل التثبُّت من الحديث؛ مثل رحلة شعبة في حديث: "من توضأ فأحسن الوضوء؛ ثم صلى ركعتين فاستغفر الله إلا غفر له"، ومنهم من رحل لطلب علو الإسناد، مثل رحلة زيد بن الحُباب، وختم كتابه بذكر (ذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده)، ونذكر هنا بعض الفوائد التي يستفيد منها القارئ بين يدي الكتاب.

  • أولاً: ومن أعظم الفوائد التي يجنيها طالب العلم من رحلته:

1- حفظ الشريعة التي هي الكتاب والسنة؛ وهذا عملٌ دينيٌّ محض؛ فيحتاج إلى إخلاص اليَّة لله عز وجل.

2- الاستزادة من العلم، والظفر بعلوم جديدة لم يكن يُتقنها؛ لأنك ستلقى في رحلتك من هو واسع العلم، ومن هو متوسط العلم، ومن هو أقل علماً، وتجد عند كل صنفٍ من هؤلاء ما لا تجده عند غيره، فيؤثر فيك الأعلى في فهم علوم الشريعة، وسعة الفهم، ويؤثر فيك الأدنى بحسن سمته، وهديه ودلِّه، وتطلع على شروحات جديدة، قد لا تكون متوفرة في بلدك الأصل.

3-حسن الفهم عن الله في كتابه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، لأن من يرحل يرى من طبائع الناس وعاداتهم وثقافاتهم ما تُوسع عنده مدارك الفتوى، وطرق الاستدلال، وتنزيل الأحكام على الواقع، والتعرف على معاني آيات الله في الكون والآفاق والنفس، فيتفتق ذهنه، ويتسع أفقه، ولا يكون نسخةً مطابقةً عن شيوخ بلده.

رابعاً: زيادة الخبرة في طرق التعليم والتدريس، وتعلم الحكمة، وسعة الصدر، والدقة في النظر والاستدلال، وفهم اختلافات الفقهاء، ورؤية آثار السلف وجهادهم، ومنازلهم، ومدى صبرهم في الرحلة، والالتقاء بالإخوان الصالحين، والتعاون معهم على نشر الخير، وبذل العلم، والاستفادة منهم، وترسيخ الإيمان في القلب بما يراه من النوازل والأحداث والعجائب والأمور في سفره.

خامساً: نشر العلم في المناطق التي يغلب عليها الجهل في طريق سفره، ونشر الخير والتوحيد، وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ونصح الناس بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وهذه هبةٌ وكرامةٌ لك في طريق التحصيل والطلب.

سادساً: زيادة الإيمان والخلوة بالله، ومعرفة حقيقة صدق اللجوء إلى الله، وزيادة الأنس به سبحانه، فترى أن الإيمان يزيد زيادةً مُضاعفة عما أنت عليه في الحضر، بما تراه من كفاية الله، وإعانته، وكرامته، لا سيما إذا خرجت تقصد وجه الكريم سبحانه، وخرجت من محبوبك إلى محبوبه.

سابعاً: التثبت في العلم والمسائل، ومعرفة وجه الحقِّ فيها من خلال سؤال العلماء والرحلة إليهم، وطلب العلوم غير المتوفرة في بلدك مثل علوم القراءات، أو علوم اللغة، أو علوم الصرف والبلاغة، أو علوم أصول الفقه والحديث، وطلب الإسناد العالي، وجمع الطرق والأسانيد.

ثامناً: الرحلة هي وسيلة تربوية يحصل الإنسان خلالها شيم الصبر، والتفاني، والجد، والبذل، والسخاء، وسعة الصدر، والاحتساب، وتعظيم الله، وحسن الخلق، ولين النفس والطبيعة.

  • ثانياً: قواعد الرحلة في طلب العلم وقوانينها:

1- الصدق مع الله عز وجل في طلب العلم، لا التباهي بكثرة المسموعات، والتفاخر بعدد الإجازات، وتقوى الله عز وجل بامتثال ما أمر، واجتناب ما نهى عنه من المعاصي والذنوب.

2-الاشتغال بصغار العلم قبل كباره، فلا يهجم على المسائل الكبيرة، وإرادة تحريرها قبل النضوج، واكتمال العقل وعلوم الآلة، ولذا ترى كثيراً من طلبة العلم يعتنون بترجيح الشذوذات؛ لأجل هوى النفس، وأكثر ما تجد ذلك عند أهل الأهواء والبدع.

3-البداءة بالأهم فالأهم من كتب أهل العلم؛ فيبدأ بقراءة كتب أهل السنة من أصحاب الاعتقاد السَّلفيِّ الصحيح، والحرص على استغلال الوقت، والنوم مبكراً، والاستيقاظ مبكراً، وعلى قدر انفاق الوقت في طلب العلم تكون بركة العلم، والاستفادة منه، وكان السلف يتواصون بالإكثار من المسموعات والمقروءات على المشايخ، مع تقليل المحفوظ، وتكثير زمن المراجعة، وكذلك ضبط ألفاظ الكتب والمسموعات.

4- الحرص على طلب العلم عند العلماء الثقات الأثبات، حتَّى كان السَّلف يتفقدون صلاة من يطلبون عندهم العلم، هل هي موافقةٌ للسُّنة أم لا ؟ ورأينا كثيراً من طلبة العلم من انحرفوا أثناء طلبهم بسبب سوء اختيار شيوخهم الذين أخذوا عنهم، وتساهلهم في ذلك.

5- مراعاة العادات العامة والأعراف في البلدان المختلفة التي تطلب فيها العلم؛ وألا يفخر طالب العلم بما منَّ الله به عليه من حسن الفهم، وسرعة الحفظ أو يُبدي ذلك أمام شيخه أو أقرانه، وتجنُّب آفات الرحلة والطلب من الحسد، والبغضاء، والمشاحنة، وسوء الأدب، والكذب، والرياء، وغيرها من الأخلاق الذميمة.






لا تبطل الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة - أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

لا تبطل الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة

[دراسة حديثية فقهية]

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

وردت أحاديث صحيحة في أن مرور المرأة البالغة، والكلب الأسود، والحمار بين يدي المُصلي إلى غير سُترة يقطع صلاته؛ فما حقيقة ذلك القطع؛ وهل المُرد به بطلان الصَّلاة بالكلية أم نُقصان ثواباها وذهاب خشوعها ؟!


أولاً: اختلاف الصحابة في قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء:

1- وقد ورد عن ثمانيةٍ من الصحابة أن الصلاة لا يقطعها شيء؛ وهم: عثمان، وعلي، وحذيفة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم.

وثبت ذلك بأسانيد صحيحة عن خمسةٍ فقط، وهم: الثمانية كلهم إلا أبا سعيد، وجابر، وحُذيفة، ومن الخمسة الذين صحَّ عنهم ذلك: ثلاثةٌ اختلفت الروايةُ عنهم في القطع وعدمه؛ فلم يبقَ إلا صحابيان على هذا القول، وهما عليٌّ وعثمان رضي الله عنهما.


2- بينما ورد عن تسعةٍ من الصحابة بأسانيد صحيحة: القول بالقطع بمرور هذه الثلاث؛ وهم أنس بن مالك وأبو هريرة، وابن مسعود، والحكم بن عمرو الغفاري وأبو ذر، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وابن عمر، وعائشة؛ وعند استثناء الثلاثة الذين اختلفت عنهم الرواية، يتبقى لنا ستَّةٌ من الصحابة صحَّ عنهم القول بالقطع.


ثانياً: اختلاف الفقهاء في قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء:

1- واختلف الفقهاء والعلماء في هذا؛ فقال بعضهم: يقطع الصلاة مرور هذه الثلاثة؛ وقال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، عنه: يقطعها الكلب الأسود، قال: وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء!. وفي الرواية الأخرى عنه: تقطعها هذه الثلاثة، وهو ما اختاره المجد ابن تيمية ورجحه، ومال إليه عبد الغني في "المغني"، واختاره الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية، وهو مشهور مذهب الحنابلة، ومذهب الظاهرية، واختاره ابن حزم، وأبو بكر بن المنذر من الشافعية، وذهب إليه الحسن البصري، وأبو الأحوص -صاحب ابن مسعود من التابعين، ومن المتأخرين الإمام الألباني رحمه الله.


2- وذهب الإمام مالك، وأبو حنيفة، والشّافعي، وجمهور العلماء من السلف والخلف، لا تبطل الصلاة بمرور شيءٍ من هؤلاء ولا من غيرهم، وتأول هؤلاء حديث القطع على المراد نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، وهو جواب الشَّافعيِّ والخطابي، والمحققين من الفقهاء والمحدثين، وهو أن المراد بالقطع: قطع الخشوع والذكر في الصلاة، وهو قول طاووس، وعبد الله بن الزبير، ذكر ذلك النوويُّ، وابن عبد البرِّ، وغيرهم.

  • واستدلَّ القائلون ببطلان الصلاة بمرور هذه الأشياء، بأدلةٍ منها:


1-روى الإمام أحمد، ومسلم، والأربعة، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرجل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود).

قالوا: وهذا ظاهرٌ في إبطال الصلاة بمرور هذه الأشياء

2-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل).

قالوا: قد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن مرور هذه الثلاثة من أمام المُصلي الذي لم يتخذ سُترةً تقطع عليه صلاته: أي تُبطلها، وأن الذي يمنع بطلانها اتخاذ سُترةٍ له في صلاته.

3-واستدلوا بما رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة). 

وصحح إسناده ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"، وقال العيني في "نخب الأفكار": إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في "تخريج ابن حبان": رجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن عنعنه، وصححه الألباني.

4-وروى البزار في "مسنده"، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: (يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة).

وقال الهيثميُّ في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح، وقال العراقيُّ: رجاله ثقات، قاله المباركفوري في "تحفة الأحوذي".

5-وروى أحمد، وأصحاب السنن، من طريق شعبة عن قتادة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة الحائض). ولفظ ابن ماجه (الكلب الأسود).

وقال أبو داود في "سننه": وقفه سعيدٌ، وهشام، وهمام عن قتادة، عن جابر بن زيد، على ابن عباس. ولكن هذا الحديث جاء من طرق عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. قال النوويُّ في "المجموع": رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني.

6- وروى أحمد في "مسنده"، عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة)؛ فقالت عائشة: يا رسول الله، لقد قرنا بدواب سوء!. 

قال الهيثمي في "المجمع": رجاله موثقون، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": رجاله موثقون، وقال المباركفوري، عن العراقي، قال: رجاله ثقات؛ وفي لفظ (الكافر) غرابة، وضعفه الألباني في "الضعيفة"، وقال: منكرٌ بذكر الكافر، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة.

7-واستدلوا بما رواه مسلم وابن حبان، وابن خزيمة؛ عن أبي ذر الغفاري، قال: (تُعادُ الصَّلاةُ مِن ممرِّ الحمارِ المرأة والكلبِ الأسودِ) قُلْتُ: ما بالُ الأسودِ مِن الأصفرِ مِن الأحمرِ؟ فقال: فسأَلْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما سأَلْتَني فقال: (الكلبُ الأسودُ شيطانٌ).

8- وروى ابن أبي شيبة وغيره -بأسانيد صحيحه، عن: أنس بن مالك، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة في إحدى الروايتين عنهم، وعبد الله بن أبي عياش، وابن حزم في "المحلى" عن أبي هريرة، موقوفاً عليهم: (يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب).

  • واستدلَّ القائلون بعدم القطع، بما يلي:

1-بما رواه الدارقطني، والبيهقي، من طريق صخر بن عبد الله بن حرملة، أنه سمع عمر بن عبد العزيز، يقول: عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلى بالناس فمرَّ بين أيديهم حمار؛ فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله! سبحان الله!؛ فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: من المسبح آنفًا؟ سبحان الله وبحمده؟! قال (يعني عياش): أنا يا رسول الله، إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: (لا يقطع الصلاة شيء).

وهذا الحديث ضعف إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح، والشوكاني في "نيل الأوطار"، والزرقاني، وقال الحافظ مرة في "الدراية تخريج أحاديث الهداية": إسناده حسن. وقال أحمد شاكر في"تخريج المحلى": إسناده صحيح إلا أن عمر بن عبد العزيز لم يسمع من عياش ولكنه محمول على الرواية الأخرى عن أنس وكأن عمر لما سمعه من عياش صار يرويه مرة عنه ومرة يرسله عن عياش،  وقال الذهبيُّ في "المهذب": صخر بن عبد الله بن حرملة المدلجي، اتهم بالوضع! وهذا خبر منكر جداً، وقال فيه النسائيُّ: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليُّ: ثقة، وقال بشار عواد: ذكره ابن خلفون في الثقات. وخالفهم آخرون؛ فضعفوه؛ فقال ابن القطان: مجهول الحال لا يُعرف، وسكت عنه أبو حاتم في "الجرح والتعديل"، وقال الحافظ في "التقريب": أنه مقبول. وقد نصَّ في "مقدمة التقريب" أن المقبول عنده ليِّنُ الحديث ما لم يُتابع، ولم يُتابعه أحدن فثبت فيه اللين عل قاعدته.

قال جمهور الفقهاء: فهذا الحمار مرَّ من بين يديِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال: (لا يقطع الصلاة شيء).

وأجاب القائلون بالقطع؛ بأن مرور الحمار يحتمل أن يكون من وراء السترة، أو من أمامها؛ ومع توارد الاحتمال يضعف به الاستدلال.

ورُدَّ عليهم؛ بأنه لو مرَّ ذلك الحمار من أمام السُّترة، لما كان في قول عياش: (إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة) فائدة، وعليه فهذا دليلٌ ظاهر الدلالة؛ ولكنه كما رأينا أن هذا الحديث ضعيف الإسناد.

2- واستدلوا بما رواه أبو داود، والدارقطني، والبغويُّ من طريق مُجالد بن سعيد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع الصلاة شيء؛ وادرءوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان).

قال الحافظ في "البلوغ": وفي سنده ضعف. وضعفه المنذري في "مختصر السنن"، والنووي في "المجموع"، وأبو الطيب شمس الحق آبادي في "حاشية الدارقطني"، وعلته في أحد رواته، وهو مجالد بن سعيد فإنه ضعيف وقد تغيَّر بأخرة، قال فيه ابن معين: لا يُحجت به، وقال أحمد: يرفع كثيراً مما لا يرفعه الناس، ليس بشيء، وقال النسائيُّ: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ضعيف، وفي سنده أبو الوداك جبر بن نوف؛ ضعفه ابن حزم، وقال الحافظ في "التقريب": صدوق يهم، ثم هو قد اضطرب في الحديث فمرة رفعه ومرة أوقفه؛ فرواه مرَّةً، وكذلك هو مُعارضٌ لما رُوي عن أبي سعيدٍ موقوفاً: (يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع".


3-واستدلوا بما رواه الدارقطني، والطبراني، من طريق عفير بن معدان، عن سليم بن عامر؛ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (لا يقطع الصلاة شيء).

قال الهيثميُّ في "المجمع": إسناده حسن"، بل إسناده ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه عُفير بن معدان الحمصي، قال الذهبيُّ في "الميزان": قال أحمد والبخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: يُكثر عن سليم بن أبي أمامة بما لا أصل له، وقال يحيى بن سعيد: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة.

4-واستدلوا بما رواه الدارقطني وابن حبان، من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع صلاة المرء امرأة، ولا كلب، ولا حمار، وادرأ من بين يديك ما استطعت).

قال ابن حبان في "المجروحين": إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قلب إسناد هذا الخبر ومتنه جميعاً، وإنما هو عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم يُصلي؛ فلا يدعنَّ أحداً يمرُّ بين يديه، فإن أبى فليُقاته؛ فإنما هو شيطان). قال: فجعل مكان أبي سعيد أبا هريرة، وقلب متنه؛ وجاء بشيءٍ ليس فيه اختراعاً من عنده؛ فضمَّه إلى كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو قوله (لا يقطع الصلاة امرأة ولا كلب ولا حمار)، والأخبار الصحيحة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بإعادة الصلاة إذا مرَّ بين يديه الحمار والكلب والمرأة. وقال ابن حبان -أيضاً: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل.

وقال الذهبيُّ في "ميزان الاعتدال": قال البخاريُّ في إسحاق بن أبي فروة: تركوه، وقال الجوزجاني: سمعتُ أحمد يقول: لا تحلُّ الرواية عندي عن إسحاق بن أبي فروة. وقال أبو زُرعة وغيره: متروك. وقال الذهبيُّ: لم أرَ أحداً مشّاه. وقال ابن معين، وغيره: لا يُكتب حديثه، وأورد له ابن عديٍّ مناكير، منها لإسماعيل بن عياس عن أبي فروة.. عنه عن زيد بن أسلم عن عطاء، عن أبي هريرة مرفوعاً، وذكر هذا الحديث.

وقد جاءت أحاديثُ أُخر: عن ابن عمر، وجابر، وغيرها وكلها مُتكلَّمٌ فيها، وضعفها شديد، وفي أسانيدها متروكين ونحوهم، إلا حديث أنس، فهو ضعيف، ولكن ضعف ليس شديد.

وقد حكم جهابذة الأئمة على هذه الأحاديث التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكرها بالضعف؛ منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والنووي في "شرح مسلم"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، والشوكاني في "نيل الأوطار"، وابن حزم في "المُحلى"، وأبو حفص الموصلي في "جنة المرتاب"، والفيروز آبادي في "التنكيت والإفادة"، والأمير الصنعاني في "سبل السلام"، والإمام الألباني في "تمام المنة".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء)، أو بما روي عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة أو برأي  ضعيف.

وقال ابن القيِّم في "زاد المعاد": "وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة حصول القطع؛ ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح وصريح غير صحيح فلا يترك لمعارض هذا شأنه.." (بمعناه).

5-واستدلوا بما رواه أن أبي شيبة، وغيره بأسانيد مقبولة (صحيحة، وحسنة): عن عائشة، وعلي، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه؛ موقوفاً عليهم: (لا يقطع الصلاة شيء إلا الكلب الأسود).

وهذه الآثار أخرجها عبد الرزاق، والطبراني، والطحاوي والبيهقي، وأسانيدها صحيحة أو حسنة، ووردت موقوفةً عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وبعض الروايات عن عائشة، وابن عباس بأسانيد ضعيفة.


  • مناقشة الأقوال والترجيح بينها:

أولاً: لا يصحُّ أن يُقال بأن أحاديث القطع منسوخة بهذه الأحاديث الضعيفة التي جاءت بعدم القطع؛ لأنه إذا ثبت ضعف هذه الأحاديث لم يجز الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، فضلاً عن القول بالنسخ.

ثانياً: وأما من قال: إن حديث القطع (منسوخ) بحديث ابن عباس في حجة الوداع: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى بمنى إلى غير جدار)؛ فهذا أيضاً ضعيف غير مقبول، إذ لا دليل عليه، ومن الممكن أن تكون أحاديث القطع بعده؛ وممن قال بالنسخ: الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، واختاره أحمد شاكر في "حاشيته على سنن الترمذي"، وهو قولٌ ضعيف كما ذكرنا.

ثالثاً:أن القطع في الحديث هنا هو قطعٌ للخشوع؛ ودليل ذلك ما جاء في الصحيحبن، عن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى بمنى إلى غير جدار، ولم يُعد الصلاة، ولم يأمر أحداً من أصحابه بالإعادة. 

فأجاب القائلون بالقطع: إذا سلَّمنا لكم بحديث ابن عباس، فإن القاعدة الأصولية: إذا تعارض قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فإننا نُقدم القول على الفعل.

ورُدَّ عليهم الجمهور: بأن الأخذ بالأحاديث والجمع بينها، أولى من طرح بعضها والأخذ بالبعض الآخر.

فأجاب القائلين بالقطع، قالوا: نحن لم نطرح الأدلة كلها، بل بإمكاننا الجمع بينها أيضاً، وهو أن يُقال: إن الصلاة لا يقطعها شيء إلا ما خصَّه الدليل بالقطع، وهو مرور المرأة، والحمار، والكلب الأسود، والخاص يُقدم على العام.

ويُجيب الجمهور: بأن الحمار الأتان مرَّت من بين يدي رسول الله ولم تقطع عليه صلاته، ولم تكن بين يديه سترة؛ فخروج بعض أفراد الخاص من اللفظ العام دليلٌ على أن ظاهر اللفظ غير مُراد، وأن المراد بالقطع أمرٌ آخر غير البطلان، وهو نقصان أجرها وثوابها.

وقال الجمهور: وأنتم يا معشر الحنابلة والظاهرية تقولون: إن الكلب الذي يقطع الصلاة هو الكلب الأسود كما جاء تقييده في حديث أبي ذر، وقد جاء تعليل ذلك في الحديث بكونه شيطان: (الكلب الأسود شيطان)، وأنتم تقولون: إن غير هذه الأشياء الثلاثة لا تقطع الصلاة، وقد جاء في حديث ابن عمر: إذا أراد أحدهم أن يمُرَّ (فليُقاتله فإن معه القرين)؛ أي من الجن، وفي رواية (فليُقاتله فإنه شيطان) فسماه شيطاناً؛ فلم تبطلوا صلاة هذا مع مرور الشيطان معه، وأبطلتم صلاته مع مرور الكلب لقوله (الكلب الأسود شيطان)، والغرض المقصود: أنه يُقال في الكلب ما يُقال هناك من عدم القطع بمرور الرجل، ومثله يُقال في مرور المرأة والحمار. 

وكذلك فأنتم -يا معشر الحنابلة -تُقيدون الحمار بكونه أهلياً لا وحشياً، وهذا يُضعف قولكم؛ لأنه لم يأتِ بذلك تفريقٌ في الحديث؛ حيثُ أطلق في الحمار، وخصَّص في الكلب.

وقال الجمهور: وأنتم يا معشر الحنابلة تقولون باستحباب السُّترة على المشهور من مذهبكم، وقد جاء في تعليل اتخاذ السُّترة (لا يقطع الشيطان عليه صلاته)، والشيطان يُطلق على الجنِّ حقيقةً، وعلى الإنس مجازاً، وأنتم لا تقولون بقطع شيطان الجنِّ للصلاة في إحدى الروايتين عندكم؛ فما الفرق بين مرور الشيطان وحده، وبين مرور الكلب الأسود وحده، وبين مرور الإنسان الذي معه القرين، وفي روايةٍ: (فليقاتِلْهُ -يعني هذا الذي يمرُّ -فإنَّهُ شيطانٌ).

وقال الجمهور -أيضاً: وأنتم يا معشر الحنابلة: تُفرقون في مرور المرأة في مكة فتجيزونه لأجل الازدحام، وقضاء النُّسك، وعدم التضييق على الناس، مع أن الظاهر أنه لا يوجد فرق حقيقي في نفس الأمر، بينما يمنع الظاهرية ذلك التفريق، ولا يُخصصونه بشيء، وهذا دليلٌ آخر على ضعف هذا المذهب.

كذلك: صحَّ عدم القطع عن خمسةٍ من الصحابة الأجلاء، ولبعضهم روايتان في القطع وعدمه كابن عمر، وعائشة، وابن عباس، فلم يبق على هذا القول إلا عليٌّ وعثمان رضي الله عنهما.


  • والخلاصة: أن القطع محمولٌ في الحديث على نقصانٌ الأجر والثواب: هو الأقرب للصواب، والله أعلم.


مصادر البحث:

  • المجموع شرح المهذب.

  • شرح النووي على مسلم.

  • أحكام السترة في مكة وغيرها؛لمحمد بن رزق طرهوني.

  • التمهيد لابن عبد البر.

  • الدرر السنية.



الأحد، 27 سبتمبر 2020

السترة بين الوجوب والاستحباب -دراسة فقهية حديثية"

السترة بين الوجوب والاستحباب

"دراسة فقهية حديثية"

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

غزَّة -فلسطين


1- اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، على استحباب السترة بين يدي المُصلي إذا كان إمامًا أو منفرِدًا، وأنها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، لا واجبة.


2- وذهب الإمام أحمد في رواية، والإمام ابن خزيمة، والإمام يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، وابن حبيب المالكي، وابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله: إلى وجوب اتخاذ السُّترة، ولو في الصحراء أو في البيت؛ ومن المتأخرين: الإمام الشوكاني، ومحمود السُّبكي، والإمام الألباني رحمه الله، وهو ظاهر مذهب ابن حزم، ومذهب بعض المُعاصرين.

  • واستدلَّ القائلون بوجوب السُّترة؛ بأدلَّةٍ، منها:

1-ما رواه أبو داود، وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدنُ منها).

وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، فهو عنده صالح، وصحح إسناده النوويُّ في "الخلاصة"، وحسّنه مغلطاي في "شرح ابن ماجه"، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": في إسناده محمد بن عجلان، قال فيه ابن حجر في "نتائج الأفكار": صدوق لكن في حفظه شيء وخصوصًا في روايته عن المقبري -عن أبي هريرة؛ فالذي ينفرد به من قبيل الحسن، وقال الذهبيُّ: وثقه أحمد وابن معين، وقال غيرهما: سيىء الحفظ. وكذلك وثقه أبو حاتم، والنسائي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، وابن باز في "فتاويه".

قال الموجبون: اللام في قوله (فليُصلِّ إلى سترة) هي لام الأمر؛ وهذا ظاهرٌ في الوجوب.

2-واستدلوا بما رواه أحمد في "مسنده"، وابن خزيمة في صحيحه، عن  ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصل إلا إلى سترة).

وهذا الحديث صححه ابن حبان، وابن خزيمة، وقال الألباني: إسناده جّيد. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

قال الموجبون: وهذا نهيٌ يقتضي تحريم الصلاة إلى غير سترة.

3-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم، عن أبي معبد الجهني؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استتروا في صلاتكم، ولو بسهم). 

وهذا الحديث حسَّنه البغويُّ في "شرح السُّنة"، وصححه ابن الملقن في "تحفة المحتاج"، والسيوطي في "الجامع الصغير"، والألباني في "الصحيحة".

قال الموجبون: وهذا أمرٌ ظاهرٌ في الوجوب؛ لقوله (استتروا)، وقوله (ولو بسهم) دليلٌ على عدم العذر بترك السترة.

4-واستدلوا بما رواه الشيخان، عن أنس بن مالك؛ قال: (كُنّا بالمَدِينَةِ فَإِذا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ لِصَلاةِ المَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوارِيَ، فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حتّى إنَّ الرَّجُلَ الغَرِيبَ لَيَدْخُلُ المَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أنَّ الصَّلاةَ قدْ صُلِّيَتْ مِن كَثْرَةِ مَن يُصَلِّيهِما).

قال الموجبون: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتدرون السواري، ولو جازت الصلاة إلى غير سترةٍ لما ابتدروها.

5- واستدلوا بما رواه البخاريُّ تعليقاً بصيغة الجزم، وابن أبي شيبة في "المصنف"، عن قرة بن إياس قال : (رآني عمر وأنا أصلى بين اسطوانتين فأخذ بقفائي إلى سترة فقال: صلِّ إليها).

6- واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة، عن نافع؛ قال: (كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: ولني ظهرك).

7-واستدل بعضهم من النظر؛ فقالوا: قد علمنا من الشرع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ السُّترة لئلا يمُرَّ الشيطانُ من أمام المُصلي؛ ولئلا يقطع عليه صلاته؛ وعليه فإن هذا الباب الذي يؤدي إلى قطع الصلاة أو ضررها أو نقصها يجب إغلاقه، وهذا يؤيد القول بالوجوب.


((وأجاب جماهير الفقهاء على أدلة القائلين بالوجوب، أن الأمر في هذه الأحاديث محمولٌ على الاستحباب، والذي صرفها عن الوجوب، هو ما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يُصلي إلى غير سُترة؛ فجمعوا بين الأحاديث؛ بأن السُّترة مستحبَّةٌ وليست واجبة)).

  • واستدلَّ القائلون باستحباب السُّترة؛ بأدلَّةٍ، منها:

1- عمدتهم في ذلك ما رواه البُخاريُّ ومسلمٌ في "صحيحيهما": عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: (أقبَلْتُ راكبًا على حمارٍ أتَانٍ، وأنا يومَئذٍ قد ناهَزْتُ الاحتلامَ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي بمِنًى إلى غيِر جِدارٍ، فمرَرْتُ بين يدَيْ بعضِ الصَّفِّ، وأرسَلْتُ الأتَان  ترتَعُ، فدخَلْتُ في الصَّفِّ، فلم يُنكَرْ ذلك علَيَّ).

قالوا: قول ابن عباس (يُصلِّي بمِنًى إلى غيِر جِدارٍ) يدلُّ على أنه جوز له أن يُصلي إلى غير سُترة.

وأجاب الموجبون: بأن ثبوت هذه اللفظة فيها بعض النظر؛ ذلك أنه اختلف فيه على رواة الزُّهري في ذكر (منى) أو (عرفة)، وفي إثبات لفظة (إلى غير جدار) أو حذفها. 

وبيان ذلك أنه: رواه عن الزُّهريِّ خمسة، وهم:

مالك، وسفيان بن عُيينة، ويونس بن يزيد، وابن أخي الزُّهريِّ، ومعمر. 

وقد ختلف الرواة في هذا الحديث عن الزُّهريِّ أيضاً في كون الحديث وقع في منى، أو في عرفات، وكلا الروايتين في الصحيح:

أ- فعن مالكٍ ثلاثة أوجهٍ: روايةٌ أنها (بمنى وإلى غير جدار) وهي عند البخاري والبيهقي. وعن مالكٍ أيضاً: (أنها بمنى من غير هذه الزيادة)، وقد أخرجه: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، ومالك، وأبو عوانة، وابن خزيمة، وابن حبان، والبغوي، والبيهقي. وعن مالكٍ رواية: (ولم يذكر فيها شيء) أخرجه أحمد، عن ابن مهدي عن مالك.

ب- وعن ابن عُيينة ثلاثة أوجهٍ: روايةٌ؛ قال: (بعرفة)، أخرجها أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وأبو عوانة، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والحُميدي، وابن الجارود، وابن خزيمة، وأبو بعلى. وفي رواية عن ابن عُيينة (لم يذكر شيئاً) أخرجها ابن أبي شيبة. وفي روايةٍ عن ابن عُيينة: (وقع فيه الشك بمنى أو بعرفة) أخرجها الدارمي. قالوا: وقد أكد سفيان روايته (بعرفة)، بقوله: وحفظته منه. 

ج-وعن ابن أخي الزُّهريِّ، على وجهين: روايةٌ أنه (بمنى) أخرجها البُخاري، وروايةٌ (لم يذكر فيها شيء)، أخرجها أحمد.

د-وعن معمر وجهين: روايةٌ أنه (بمنى) عند أحمد، والترمذي، وابن خزيمة. وروايةٌ (لم يذكر شيء، وشك  هل هو في حجة الوداع أو يوم الفتح) أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، ومسلم، وأبو عوانة.

هـ-وعن يونس بن يزيد وجهاً واحداً أنها وقعت (بمنى) في حجة الوداع، أخرجها مسلم.

ومما سبق نجد أنه جاءت هذه الزيادة أنها "بمنى"، عن: (يونس، ومعمر، وابن أخي الزهري) عن الزُّهريِّ، وأما (سفيان بن عُيينة)؛ فقال "بعرفة" على خلاف. وأما مالك عن الزُّهريِّ؛ فاختُلف عليه فيها؛ فروى هذه الزيادة عنه: ابن بُكير، وإسماعيل بن أبي أويس، والتنيسي أنها "بمنى"، بينما لم يروها عنه: القعنبيُّ، ويحيى الليثي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو مُصعب الزُّهري، ويحيى بن قزعة، وأبو مصعب.

ويُجيبنا على هذا الاشكال كُلاً من الإمام المنذري، والإمام النووي: 

-الإمام المُنذري في "مختصر أبي داود"؛ بقوله: "لفظ النسائي وابن ماجة "بعرفة". وأخرج مسلم اللفظين (بمنى، وعرفة). والمشهور: أن هذه القصة كانت في حجة الوداع. وقد ذكر مسلم حديث مَعْمر عن الزهري، وفيه: "وقال: في حجة الوداع، أو يوم الفتح" فلعلها كانت مرتين. واللَّه أعلم.

-وقال الإمام النوويُّ في "شرح مُسلم": "قوله (يصلي بمنى) وفي رواية بعرفة محمول على أنهما قضيتان".

وهكذا حملا القصة على أنهما قضيتان مختلفتان، إلا أن الحافظ ابن حجر في "الفتح" خالفهما، وجزم بأنها في حجة الوداع، وفي "منى"، وما عدا ذلك من الروايات فهو شاذٌّ لا يُعوَّل عليه؛ فقال: "قوله (يصلي بالناس بمنى)، كذا قال مالك، وأكثر أصحاب الزهري، ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة (بعرفة)، قال النوويُّ: يحمل ذلك على أنهما قضيتان، وتُعقب بأن الأصل عدم التعدد ولا سيما مع اتحاد مخرج الحديث فالحق أن قول ابن عيينة بعرفة شاذٌّ، ووقع عند مسلم أيضاً من رواية معمر عن الزهري وذلك في حجة الوداع أو الفتح وهذا الشك من معمر لا يُعَوَّلُ عليه والحق أن ذلك كان في حجة الوداع".

وأجاب الموجبون: بأنه ليس في الحديث نفيٌ للسترة، لأن نفي الجدار لا يستلزم نفي غيره من الخطِّ ونحوه.

ولأن لفظ (غير) يقع دائماً صفةً، وتقديره إلى شيءٍ غير جدار، ولذا ترجم له البخاريُّ في "صحيحه" بقوله: "باب سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه"، وترجم له ابن حبان بقوله: "ذكر البيان بأن صلاة المصطفى بمنى كانت السترة قُدامه حيثُ كانت الأتان ترتع قُدام المصطفى!".

قالوا: دلَّ ذلك على وجود السُّترة، وهو أعمُّ من أن يكون عصاً أو عنزةٍ، أو نحو ذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى خارج العمران يأمر بالعنزة فتوضع بين يديه فيصلي إليها.

وأجاب الفقهاء: بأن هذا الكلام فيه نظرٌ من وجوه:

الأول: أن ابن عبَّاس لو مرَّ من وراء السُّترة لما قال: (إلى غير جدار)؛ لأن هذا معلومٌ جوازه، ولكن لما لم تكن هناك سترةٌ حكى ابن عباس ذلك؛ لأنه غير معهودٍ أن يُصلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى غير سترة، مع قوله (فلم يُنكر ذلك عليَّ).

الثاني: إذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستتر بشيء في صلاته؛ فأيُّ فائدةٍ تُرجى من قول ابن عباس (صلى إلى غير جدار)؛ فأصبح هذا الإخبار لا فائدة فيه.

الثالث: أن الجدار كان سترته في المسجد، وفي الفضاء ليس هناك جدار، وإطلاق نفي الجدار هنا لأجل نفي السترة؛ ولذلك قال الشَّافعيُّ في "اختلاف الحديث": يُصلي إلى غير جدار: يعني إلى غير سترة؛ فاللفظ هنا محمولٌ على العموم؛ وستأتي رواية أبي يعلى، وفيها: سئل ابن عباسٍ ( أكان بين يديه عنزةٌ؛ قال: لا).

وترجم الإمام البيهقيُّ للحديث في "السنن": (باب من صلَّى إلى غير سترة)، ثُم نقل قول الشَّافعيِّ هذا، وقال بعده: "وذلك يدلُّ على خطأ من زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى سترة (يعني في هذا الحديث)، فلذلك لم يقطع مرور الحمار بين أيديهم صلاتهم".

وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": (إلى غير جدار) أي إلى غير سترة، قاله الشافعي، وسياق الكلام يدلُّ على ذلك؛ لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المُصلي لا يقطع صلاته.

ويؤيده رواية البزّار، عن ابن عباس بلفظ: (والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلي المكتوبة ليس شيءٌ يستره)، وقال ابن الملقن: رجاله رجال الصحيح.

2- واستدلوا بما رواه أحمد، وأبو داود، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، من طريق عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني جدي، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن عباس عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا، ومعه عباسٌ، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة؛ وحمارةٌ لنا، وكلبةٌ تعبثان بين يديه فما بالى ذلك).

وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وحسَّن إسناده النوويُّ في "المجموع، والخلاصة"، والعراقيُّ في "طرح التثريب"، وابن حجر في "تخريج المشكاة"، وقال الرباعي في "فتح الغفار": إسناده لا بأس به، وضعفه الخطابيُّ في "معالم السُّنن"، وقال: في إسناده مقال، وقال ابن قُدامة: في إسناده مقال، وهو أن عباس بن عُبيد الله بن عباس لم يلق عمه الفضل بن العباس -الذي روى عنه، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"، وأحمد شاكر في "شرح المُسند"، وشعيب الأرناؤوط في "تخريج أبي داود". وأعله عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الكبرى": بجهالة محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب؛ ولكن الحافظ قال في "التقريب": مقبول، والمقبول عنده لينُ الحديث ما لم يُتابع، والراجح أنه ضعيفٌ يقبل التحسين، بما يأتي من الروايات. 

ولكن الموجبون يمنعون من تحسين هذا الحديث؛ فيقولون: إن هذه رواية عبد الملك بن شعيب شاذة؛ لأنه قد رُوي من طريق عبد الله ين سعيد بن الجمال، ثنا علي بن الحسن النيسابوري، ثنا مُعاذ بن فضالة، عن يحيى بن أيوب به، بدوون نفي السُّترة. أخرجها الدارقطنيُّ في "سننه"، ولفظها (وبين يديه كليبةٌ وحمارٌ؛ فما نهانا وما ردهما)، وأخرج الإمام أحمد والدارقطني والطحاوي والبيهقيّ من طريق ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن عمر بن علي .. به، ولفظه فصلى العصر وهما -أي الكليبة والحمارة -بين يديه؛ فلم يزجرا، ولم يؤخرا)؛ قالوا: فلم يرد فيه ذكر للسُّترة لا نفياً ولا إثباتاً.

وأجاب الفقهاء: بأن ظاهر هذه الروايات التي ذكرتموها يؤيد ما ذهبنا إليه من عدم وجود السُّترة؛ لأن عدم ذكر السُّترة يؤكد عدم وجودها؛ ويؤيد ذلك -أيضاً -ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"، وعنه أحمد في "مسنده"، من طريق ابن جريج، حدثني محمد بن عمر بن علي، عن الفضل بن العباس… فذكره، وفيه (ليس بينه وبينهما شيءٌ يحول بينه وبينهما)، وهذا صريحٌ جداً، وعليه فلا معنى لما ذكرتموه من الشذوذ.

وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى وليس بين يديه سُترة؛ فدل ذلك على استحبابها وعدم وجوبها.

3-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والطبرانيُّ، من طريق الحجاج بن أرطأة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى الجزار، عن ابن عباس؛ قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء).

قال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه الحجاج بن أرطأة، وفيه ضعف. وقال البيهقيُّ في "الكبرى": له شاهد بإسناد أصح من هذا. وصححه ابن باز في "حاشية بلوغ المرام"، وقال الأرناؤوط: حسنٌ لغيره، وقال أحمد شاكر في "شرح المسند": إسناده صحيح، وقال العثيمين في "الشرح الممتع": فيه مقالٌ قريب، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"؛ قال: فيه الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف مدلس، وقد عنعنه؛ وفيه عنعنة الحكم بن عتيبة وربما دلس، وهو كما قال، ولكن يشهد له حديث (صلى بمنى إلى غير جدار)؛ فيرتقي إلى لحسن لغيره.

4-واستدلوا بما رواه، عن ابن عباسٍ: (أنه مرَّ هو والفضل على أتان لهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وليس شيءٌ يستره يحول بينهم وبينه).

وهذا حديثٌ ضعيف سنداً ومتناً، وقد حكم عليه الحافظ في "الفتح" بالشذوذ؛ لأنه حصل ذلك بمنى، ويؤيد ضعف ما جاء في الحديث الآخر عن ابن عباسٍ من طريق عكرمة -بإسنادٍ حسن - أنه قال: (رُكزت العنزة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، وصلى إليها، والحمار من وراء العَنَزة)؛ فهذه قضيَّةٌ أخرى كما رجحه النوويُّ، وغيره.

5-واستدلوا بما رواه أبو يعلى في "مسنده"، من طريق علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مُرة، قال سمعتُ عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس، قال: (جئت وأنا غلامٌ من بني هاشم على حمارٍ؛ فمررنا بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُصلي؛ فنزلنا عنه وتركنا الحمار يأكل من بقل الأرض -أو قال من نبات الأرض؛ فدخلنا معه في الصلاة؛ فقال رجلٌ: أكان بين يديه عنزةٌ؛ قال: لا). وقال محقق مسند أبي يعلى: رجاله رجال صحيح.

وأجيب بأن هذا الحديث ضعيفٌ سنداً ومتناً، أما سنداً؛ فهو معلولٌ بالانقطاع؛ فالحديث لم يسمعه يحيى بن الجزار من ابن عباس، بدليل أنه جاء عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم: من طريق الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء البكري البصري، عن ابن عباس.

ومما يُضعفه الطريقان الآتيان، وهما: 

ما أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق عفان بن مسلم: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرة.. به، وليس فيه ذكرٌ للسؤال ولا الجواب. 

وأخرجه ابن ماجه من طريق الحكم بن عتبة الموصولة عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء، عن ابن عباس، وليس فيها ذكر السؤال والجواب.

ولكن هذا الخبر قد جاء عند أحمد في "المسند" -بإسنادٍ ضعيف يحتمل التحسين -من طريق أبي المعلى العطار، عن الحسن العدني؛ قال: (ذُكر عند ابن عباس ما يقطع الصلاة؟ فذكر الكلب والحمار والمرأة؛ فقال: بئسما عدلتم بامرأةٍ مُسلمةٍ كلباً وحماراً؛ لقد رأيتني أقبلتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بالناسِ، حتى إذا كنتُ قريبًا منه مُستقبِلَه نزَلتُ عنه، وخلَّيتُ عنه، ودخَلتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في صلاتِه، فما أعاد رسولُ اللهِ صلاتَه، ولا نهاني عما صنَعتُ، ولقد كان رسولُ اللهِ يُصلِّي بالناسِ، فجاءَتْ وليدةٌ تخَلَّلُ الصُّفوفَ، حتى عاذَتْ برسولِ اللهِ، فما أعاد رسولُ اللهِ صلاتَه، ولا نَهاها عما صنَعتْ)، وقد حسنه شُعيب الأرناؤوط، وضعفه أحمد شاكر. 

6- واستدلوا بما رواه أبو داود والبزار، عن سهل بن أبي حثمة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها).

وهذا الحديث: أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

قالوا: وهذا يدل على أن المصلي قد يصلي إلى شيء يستره وقد لا يصلي؛ لأن هذه الصيغة تدلُّ على جواز الأمرين.

وأجاب الموجبون: بأن دلالة قوله: (إذا صلى أحدكم إلى سترة) مُقيَّدٌ بحديث أبي سعيد (فليُصلِّ إلى سترة)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وأما استدلالكم يا معشر الجمهور إنما هو بدلالة مفهوم، بينما الأحاديث التي سقناها في أول كلامنا وجاء فيها الأمر بالسترة والنهي عن الصلاة بدونها دلالتها دلالة منطوق، وإذا اختلفت دلالة المنطوق مع دلالة المفهوم قدمت دلالة المنطوق على المفهوم.

والجمهور يُجيبون: إن ظاهر كلامكم صحيح، ولكن الصارف للأمر من الوجوب إلى الاستحباب كونه -عليه الصلاة والسلام- صلى إلى غير جدار.

8- واستدلوا من النظر؛ فقالوا: المقصود من السُّترة كف بصر المصلي عما وراءها، وجمع الخاطر بربط خياله كي لا ينتشر، ومنع المار كي لا يرتكب الإثم بالمرور بين يديه؛ وهذا قد يحصل بدون سُترة، ولكن مع السُّترة أفضل.


  • الخلاصة: أن السُّترة مُستحبَّةٌ وليست واجبة.


  • المصادر والمراجع:

-الدرر السنية.

-إتحاف الإخوة بأحكام الصلاة إلى السترة؛ فريح البهلال.

-أحكام السترة في مكة وغيرها، محمد طرهوني.

-توضيح الأحكام من بلوغ المرام؛ للبسام.