البدعة ضوابطها وأثرها السيئ في الأمة
علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
الجامعة الإسلامية – الطبعة الثانية 1414 هـ
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ قد جاء الآيات، وتواترت الأحاديث الصحيحة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحثُ الأمة على التمسك بالكتاب والسنة، وتُحذِّر من أتباع الأهواء، والآراء، والابتداع في الدين، ذلك أن الله سبحانه أكمل هذا الدين، ولم يكتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً منه، وكُلُّ مُبتدعٍ فلازم فعله وقوله يقول: إن هذا الدين لم يكتمل، أو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أُمر بتبليغه!.
والأول يردُّه قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
والثاني يردُّه حديث عائشة في الصحيح، قالت: (من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من مما أنزله الله عليه فقد أعظم على الله الفرية).
فإن قيل: ما الدليل على أنَّ الرسول قد بلَّغ رسالته ؟
فالجواب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67).
ما حكم من اعتقد أن الشريعة لم تكتمل وأن ثمَّة نقصٌ في الدين ؟
ومن اعتقد أن الشريعة لم تكمل، أو أنَّ مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً، فهو ضالٌ مُضل، وقد كفر باعتقاده ذلك، وخرج عن ملة الإسلام، وكان أضلُّ من حمارِ أهله.
ما هو خطر البدع على وحدة الأمة وتماسكها ؟
ولا شكَّ أن هذه المحدثات في الاعتقاد، والأفعال، والأقوال، والمناهج، تجرُّ الأمة إلى الشقاق والنزاع المؤدي إلى الاختلاف والفرقة؛ فما لم يكن ديناً في عصر النبوَّة الأول فإنه لا يكون اليوم ديناً.
ما هي البدعة ؟
1- البدعة في اللغة: الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أى: مخترعهما من غير مثال سابق,.
2- والبدعة في الشرع: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
محترزات التعريف:
1- قوله (طريقةٌ في الدين) يشمل العبادات والمعاملات والأخلاق، فيخرج منه الأمور الدنيوية التي لا تتعلق بها أحكام الشارع، كالصناعات والتجارات، والمخترعات.
2- (مخترعة) أي لا أصل لها من كتاب أو سُنَّةٍ أو إجماع. فيخرج من البدعة ما كان له أصلٌ من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وإن أطلق عليه لفظ البدعة فالمقصود به البدعة اللغوية.
تقسيم البدعة إلى بدعة حقيقية، وبدعة إضافية ؟
أ- البدعة الحقيقة:
هى التي لا أصل لها من كتاب أو سنة أو إجماع.
ومثال ذلك: التعبد لله بالصمت طوال اليوم، أو صلاة الظهر ركعتين، أو الصلاة بغير طهارة، أو إنكار الاحتجاج بالسنة، أو تقديم العقل على النقل، أو القول بارتفاع التكاليف عند الطرق الصوفية، فيكون الدين على حسب الهوى والرغبات، وإشباع الشهوات.
ب- البدعة الإضافية:
وهي إدخال صفةٍ أو كيفيةٍ ليست بمشروعة على أمرٍ أصله مشروع. وأكثر البدع المنتشرة عند الناس من هذا النوع.
ومن أمثلتها: الصوم حالة كونه قائماً في الشمس، ولا يستظل.
أو ذكر الله بكيفيات وهيئات لم يجعلها الشارع طريقةً للذكر، كالاجتماع على الذكر بصوتٍ واحد.
أو الاحتفال بمولد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بطرق وأشياء غير مشروعة، فأصل مولده ليس بدعة، وكذلك محبته في ذلك اليوم ليس بدعة، ولكن الاحتفاء والاحتفال بمولده لا يكون بتخصيص يوم ميلاده بالاحتفاء والاحتفال.
القسم الثاني وهو: تقسيم البدعة إلى: قولية- عملية- اعتقادية:
1- فالبدعة في العمل: تكون في العمل الظاهر ابتداءً أو إضافةً، وهي داخلةٌ كلها تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
2- والبدعة في الاعتقاد: إذا كان اعتقادًا للشيء على خلاف ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم، كاعتقاد الخوارج، والمشبهة، والمعطلة، والمؤولة.
3- والبدعة القولية: إذا كانت تُخالف لما جاء في كتاب الله عز وجل، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المضاهاة.
النهي عن مجالسة أهل البدع:
وقد جاء عن عدد من علماء التابعين، النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وذلك خوفا من أن يؤثر صاحب البدعة في جليسه؛ وصاحب البدعة:
1- إما أن يقذف في قلبك بدعته بتحسينه إياها.
2- وإما أن يمرض قلبك ويؤلمه، لما تشاهد من أعماله، وتسمع من أقواله من الأمور المخالفة للشرع.
قال الحسن: (لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك، أو تخالفه فيمرض قلبك).
وعن أبي قلابة قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون).
وعن أبي قلابة قال: (إن أهل الأهواء أهل ضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار).
وعن أيوب السختياني أنه كان يقول: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد بُعدًا من الله)، وكان يسمي أهل البدع خوارج.
وعن يحيى بن كثير قال: (إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر) .
ذمُّ المبتدع:
يقول الإمام الشاطبي في كتابه القيم (الاعتصام 1/ 49):
"إن المبتدع (معاند للشرع)، و(مشاق له)؛ لأن الشارع، قد عيّن لمطَالب العبد طُرقا خاصة، على وجوه خاصة، وقصرَ الخلق عليها، بالأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تعديها؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.
فالمبتدع رادٌّ لهذا كله، فإنه (يزعم أن ثَمَّ طرقا أٌخَر)، وأن ما حصره الشارع ليس بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأنّ الشارع يعلم، ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من (استدراكه الطرق على الشارع)، أنه علم مالم يعلمه الشارع".
وهذا العمل من المبتدع، إن كان مقصودًا، فهو كفر.
وإن كان غير مقصود فهو ضلال".
"ثم إن المبتدع بعمله هذا (قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع)؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حَكَمَ بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون.
فالشرع ليس من مدركات العقول، حتى يضع كل إنسان تشريعاً من عند نفسه، ولو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى بعثة الرسل إلى البشرية، فكأن هذا المبتدع في دين الله قد صيّر نفسه نظيرًا ومضاهياً للشارع، حيث عمل تشريعا مثله، وفتح باب الاختلاف والفرقة".
"ثم إن هذا العمل من المبتدع أيضا، (مُتَّبعٌ للهوى، والشهوات)، والله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}، فمن لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضلُّ منه".
توبة المبتدع :
يرى بعض علماء التابعين أن المبتدع من أبعد الناس عن التوبة، وأن المبتدع لا ينتقل من بدعة إلا إلى شر منها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} .
فعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال: "كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة توبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها".
وقال أكثر العلماء: إن تاب المبتدع قُبلت توبته، كسائر الذنوب والمعاصي.
حكم المبتدع:
المبتدع: هو الذي يحدث البدعة، ويدعو إليها، ويوالي ويعادي عليها.
والبدعة: قد تكون مكفّرة، وغير مكفّرة.
فمن اعتقد أن شيخه ينصره ويرزقه ويُغيثه ويُعينه من دون الله، أو أنه يستغني بشيخه عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقا، أو مقيدًا في شيء من الفضل، فهذه البدع كلها مكفرة، وإن أظهروا ذلك فهم كفار، وإن أبطنوه فهم منافقون.
أما البدع العملية، فإنها لا تصل إلى درجة الكفر، وإنما ارتكابها مُحرَّمٌ أو مكروه بحسبها.
وضابط البدعة المكفرة:
إنكار أمرٍ مُجمعٍ عليه، أو متواترٍ من الشرع، أو معلوم من الدين بالضرورة، من جحود مفروض، أو فرض ما لم يفرض، أو إحلال محرم، أو تحريم حلال، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه عنه.
والبدعة غير المكفرة:
هي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب، ولا بشيء من مما أرسل به رسله.
ومثال ذلك: تأخير بعض الصلوات عن وقتها، وتقديم الخطبة قبل صلاة العيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق