أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 13 ديسمبر 2020

أحكام الهديَّة في الإسلام -تأليف الشيخ إبراهيم بن عبد الله المزروعي

أحكام الهديَّة في الإسلام

تأليف الشيخ إبراهيم بن عبد الله المزروعي

شبكة بينونة للعلوم الشرعية


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة


تمهيد/ الهديَّة تُثمر المحبَّة، وتورثُ المودَّة، وتذهب بالغوائل، وتزيل السخيمة، وتسر العين، وتزيد من بهجة اللقاء، مع تأثيرها البالغ في إمتاع النفس، وغمر شعور المرء بالسرور الظاهر والباطن. ولذلك فقد حثَّ نبينا الكريم على التهادي؛ فقال: (تهادوا تحابُّوا)، وكان عليه الصلاة والسلام: (يقبل الهديَّة، ويُثيب عليها، ويكره ردَّها)، وكان السلف يصطحبون معهم هدية إلى من يقدمون عليه، ولو عودا من أراك؛ فطوبى لمن: يزرعون السعادة، ويحملون للناس الإفادة، وطوبى لمن ينشرون المحبة، ويزرعون السلام، وطوبى لمن يخفون المآسي والأحزان، ويصمدون أمام الأحداث كالجبال الرواسي، وطوبى لمن سهر ليله ليرتاح الآخرون، وطوبى لمن يحملون للناس الهداية، وكان رضى الرحمن لهم أنبل غاية، وطوبى لمن يزرعون الأمل، ويُداوون الألم ولو ببسمة ترتسم على الشفاه، ولو بنظرة رحمة تتسرب إلى القلب فتُحدث فيه العجائب والخيرات.

وهذا كتابٌ نفيس، طرق فيه مؤلفه أهم مباحث الهدية والتهادي في الإسلام، فذكر تعريفها لغةً، واصطلاحاً، ومشروعيتها، وحكمها وحكم قبولها، وردها، وما هي الهدايا التي تُقبل؟ ومتى تُرد الهدايا؟ والمكافأة على الهدية، وحكم الرجوع فيها، والهدية من المجهول، والمنُّ في الهدية، وإذا مات المُهدى إليه إلى من تصير الهدية، والهدية للأقارب، وأنواع الهدايا وأحكامها.

  • أهم مسائل هذا البحث:

  1. تعريف الهدية:

وهي تبرُّع بعينٍ من إنسان بقصد تحصيل الألفة والثواب من غير طلب ولا شرط، وقد يقصد بها إكرام الموهوب، أو إصلاح ذات البين، وزيادة المودة.

  1. الهدية في الكتاب والسنة وأثرها في النفوس:

ورد ذكر الهدية في قصة بلقيس وسليمان عليه السلام، يقول الله عز وجل: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل: 35)، فأرادت بهديتها أن تستميل قلب سليمان إليها وإلى قومها، ليتركهم وما يعبدون، فكان ردُّ سليمان عليه السلام: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ} (النمل: 36، 37)، وهكذا الدعاة إلى الله أصحاب الهمم العالية لا تثنيهم الهدايا عن مبادئهم وأخلاقهم.

أما في السنة فقد مرت معنا الأحاديث؛ ولذلك أجمعت الأمة على جواز أخذ الهدية إذا لم يكن هناك مانع شرعي يمنع أخذها.

  1. حكم الهدية:

الهدية جائزة بإجماع الأمة إذا لم يكن هناك مانع شرعي، وتكون مستحبة مندوباً إليها إذا كانت للصلة والمودة والمحبة، وتكون مشروعة إذا كانت من باب رد الجميل والمكافأة، 

  1. حكم قبول الهدية:

يُستحبُّ قبول الهديَّة ممن أهداها، إلا إذا كانت الهدية في نفسها محرمة أو كانت ذريعة إلى الحرام، مثل الهدية التي تكون من باب الرشوة وما يأخذ حكمها.

  1. حكم رد الهدية وموانع الإهداء ومتى لا تقبل الهدية:

الأصل في ردِّ الهديَّة أنه مكروه، إلا لعذر شرعي، مثل كون الهدية تحرم عليه: كإهداء الصيد المقصود للمُحرِم، وكون الهدية رشوة عن الدين؛ كما في قصَّة سليمان عليه السلام، وكذلك إذا كانت الهدية فيها تشبه بالمشركين في نوع الهدية وصفتها، أو كانت الهدية شيئاً مسروقاً، أو شيئاً مُحرماً؛ كأن أهدى إليه خمراً، أو لحم خنزيرٍ، أو تكون الهدية وسيلةً من أجل إبطال حق وإثبات باطل فلا تقبل، أو يقصد بها معاونته على الإثم والعدوان، كما يفعل كثيرٌ من الناس مع الأمراء والوزراء والقضاة والمسؤولين؛ فيُقدمون لهم الهدايا كي يعطوا صاحبها شيئاً ليس من حقه أو يتجاوزوا له عن شيء لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا عنه، أو يكون المُهدى إليه يتقذر منها كردِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للضَّبِّ، ويتوقف أيضاً في قبول الهدية إن كان صاحبها يُهديها ليأخذ أكثر منها، أو أن المهدي يعتبر هديته بمثابة الدين عليك، أو ما كان في أخذها فتنةً له وللآخذ، أو كانت فيها مذلة للمُهدى إليه، كأن يكون المُهدي منَّاناً يمنُّ بهديته، فلا تُقبل منه، 

  1. ما لا يرد من الهدايا:

روى الترمذيُّ بإسنادٍ صحيح، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاثٌ لا تُرَدُّ: الوسائِدُ، والدُّهنُ، واللَّبَنُ).

قال الطيبيُّ: "وهذه الهدايا قليلة المنة، فلا ينبغي أن ترد"

وروى مسلمٌ في صحيحه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (مَن عُرِضَ عليه رَيْحانٌ فلا يَرُدُّهُ، فإنَّه خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ).

قال ابن الأثير: "الريحان: كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم".

وروى البخاريُّ عن أنس، قال: (كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَرُدُّ الطِّيبَ).

  1. المكافأة على الهدية.

يستحب المكافأة على الهدية بمثلها أو أفضل منها، فإن لم يستطع أن يكافئِ عليها، فليثن على صاحبها ويدع له بقوله: (جزاك الله خيراً)، أو بغيره من الدعاء.

  1. حكم الرجوع في الهدية:

لا يجوز الرجوع في الهدية إلا للوالد على ولده، وأما غير الوالد فقال جمهور أهل العلم يحرم عليه العود في هديته؛ لحديث: (العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه)، فالرجوع في الهبة والهدية صفة ذميمة، والراجع فيها يُشبَّه  بأخس الحيوانات في أخس أحوالها. 

ودليل جواز رجوع الوالد ما رواه أبو داود والترمذي، وغيرهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ لرجُلٍ أن يُعطِيَ عَطيَّةً، أو يهَبَ هِبَةً، فيرجِعَ فيها، إلّا الوالدَ فيما يُعطِي وَلَدَهُ، ومثَلُ الَّذي يُعطِي العَطيَّةَ ثمَّ يرجِعُ فيها كمثَلِ الكَلْبِ يأكُلُ، فإذا شبِع قاء ثمَّ عاد في قَيْئِهِ).

وقال ابن حجر في "الفتح": «قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والداً والموهوب ولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك".  


  1. حكم المن في الهدية:

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 264).

وروى مسلم، وأبو داود، عن النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ، ولا يَنْظُرُ إليهِم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: لمُسْبِلُ، والْمَنّانُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذِبِ).

وفي روايةٍ لمسلم: (المَنّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ)؛ فتبين لنا أن المن في الهدية من كبائر الذنوب.

  1. حكم الهدية المجهول صاحبها:

الهدية التي تأتي من طرفٍ مجهولٍ لا يُعرف يجوزُ قبولها، إلا أن يغلب على الظن أن صاحبها أو القاصد بها أخطأ بها من هي له.

  1. الحكم إذا مات المهدي إليه قبل وصول الهدية:

ذهب جمهور العلماء إلى أن الهدية لا تنتقل إلى المهدي إليه إلا بأن يقبضها هو بنفسه، أو يقبضها وكيله الذي عيَّنه لقبضها، وإذا وصلت إلى الورثة فإنها تكون لهم. 

  1. الهدية للأقرب أفضل:

ولا شكَّ أن الهدية للقريبأفضل، سواءً كانت القرابة متعلقة بالنسب أو قرابة بالجوار.

روى البخاريُّ ومسلم، عن  ميمونةَ قالت: كانت لي جاريةٌ فأعتقتُها فدخل عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فأخبرتُه بعِتقِها، فقال: (آجرك اللهُ، أما إنَّك لو أعطيتِها أخوالَك لكان أعظمَ لأجرِك).

روى البخاريُّ، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: يا رسولَ اللهِ إِنَّ لي جارَيْنِ فَإِلى أَيِّهِما أُهْدِي؟ قال: (إلى أَقْرَبِهما مِنْكِ بابًا)

فيستفاد من الحديثين أن القريب يقدم على الغريب وأن الأقارب إذا استووا في درجة القرابة قدم الأقرب باباً، وهذا كله إذا كان هؤلاء محل احتياج، والله أعلم  

  1. أنواع الهدية، وحكم كُلٍّ منها  

(1) هدية الأعلى والنظير للأدنى: 

مثل هدية المسؤول والمدير إلى الموظف أو العامل، أو من المعلم أو الشيخ للطالب وهكذا، ويكون فيها نوع إكرام وتحبب وتشجيع؛ فهذه مُستحبَّةٌ شرعاً. 

(2) هدية الوالدين لأولادهم: 

مستحبَّةٌ أيضاً، ولكن لا بد من العدل بين الأبناء الذكور والإناث استحباباً إلا إذا كان هناك داع أو مقتضى للتفضيل والتخصيص لبعض الأبناء على الآخرين فلا بأس، ويجوز للآباء  الرجوع في عن هديتهم للأبناء.

(3) هدايا الخطوبة والزواج: 

وهي ما يقدمه أحد الزوجين للآخر بعد عقد القران وقبل الدخول، فإن كانت الهدية مستهلكة فلا رجعة فيها، ولا يطالب بقيمتها أو بدلها حال التفرقة بينهما. وأما إذا كانت الهدية هي الشَّبكة أو أشياء ثمينة، فإنها تردها مع المهر كاملاً للزوج في حال عدم إتمام الزواج من قبل الزوجة أو وليها، وهذا للعُرف، ولزوال سبب الهدية.

(4) الهدية لقضاء الحاجة المباحة (الشفاعة): 

والشفاعة هنا معناها الوساطة والتدخل بالجاه ابتغاء وجه الله تعالى، فيكره قبول الهدية لأجل الشفاعة إلا ما كان قبوله يُعينه في قضاء تلك الحاجة، أما إذا اشترط الشافع الهدية فيحرم ذلك لأنه عوض عن الجاه، وأما إذا لم يشترط؛ وأُهدي إليه فالأفضل ألا يأخذها، فإذا أخذها جاز له ذلك.

(5) الهدية للانتفاع بالجاه: 

وهي تقديم الهدية لذوي الجاه والسلطان لأجل أن ينتفع بجاهه وسلطانه ومنزلته عند الآخرين، فيتوصل بذلك إلى أغراضه، وهذا الهدية شبيهة بالرشوة، ويحرم أخذها.

(6) الهدية لنيل حق أو دفع ظلم: 

وذلك بأن يتعذر على المسلم الوصول إلى حقه أو أن يدفع الشر الذي يلحق به، فيدفع الهدية لمن يملك ذلك لتحقيق هدفه؛ فتحرم الهدية على الآخذ، ويجوز للمُهدي إعطاؤها للضرورة عند الجمهور.

(7) الهدية لإحقاق باطل أو إبطال حق: 

وذلك بأن يدفع الهدية ليقلب الحقائق ويغير الأمور، ويظلم الناس، فهذه الهدية محرمة على الجانبين: الآخذ والمُعطي أيضاً، وهي الرشوة بعينها. 

(8) هدية القاضي، وهي على التفصيل:

أ- هدية تعطي للقاضي ممن له خصومة أو قضية:

فهذه الهدية محرمة سواء كانت بينهما هدايا من قبل أو بينهما قرابة أو صداقة أو غير ذلك، ويردُّها إلى صاحبها، أو إلى بيت المال.  

ب- هدية تعطي للقاضي من شخص لا خصومة له قائمة أو منتظرة:

فإذا كانت بينهما مهاداة وجاءت الهدية بسبب المكافأة على الهدية فجائزةٌ أيضاً، وتدخل في هذا القسم الهدايا من الوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والأصدقاء إذا لم تكن للمعطي منهم خصومة أو قضية أو مصلحة.  

(9) هدية الوالي أو مفوض الحاكم "نائبه":

 ومن في حكمهم كالوزراء والمدراء، فهؤلاء يحرم عليهم قبول الهديَّة وأخذها، لأنها بسبب الولاية؛ فهي رشوة والرشوة خيانة، وكل من خان في شيء فقد غل؛ وفي الحديث: (هدايا العمال غلول)، ولحديث ابن اللَّتبيَّة المشهور، وإذا أخذ شيئاً وضعه في بيت المال.

(10) هدية المفتي:

والمفتي يعتبر موظفاً عاماً، لا سيما في هذا العصر.

 - فإذا كانت هدية المفتي نظراً لعلمه وصلاحه وتقواه، بقصد التحبب إليه في الله، فجائزة. - أما إذا كان للهدية تأثير على الفتوى فلا شك أنها محرمة على الطرفين، لأن فيها شرط الإعانة على الإثم. وتأخذ الهدية حكم الرشوة أيضاً إذا كانت الفتوى حسبما يريد المهدي.  

(11) هدية المدرس: 

وشأن المـدرس في عـدم جـواز قبـول الهديـة مقابـل القيام بواجبه شأن سائر الموظفيـن، فـإذا كانـت الهديـة مـن بـاب المحبـة والمـودة والتقـرب إليـه؛ لعلمه وصلاحه فيجـوز قبولهـا. أما إذا كانت الهدية من تلاميذ المدارس التي يُدرس  فيها أو من أولياء أمورهم فغير جائزة لما يترتب عليها من محاباة للطالب ومساعدة له في الامتحان أو زيادة الدرجات، وهذه هي الرشوة بعينها.

(12) هدية الموظف العام:

والموظف: هو كل من كلف بمهمة أو خدمة عامة وما في حكمها، بصفة دائمة أو مؤقتة في الحكومة أو المصالح التابعة لها أو الهيئات العامة، أو الشركات والمؤسسات العامة والخاصة. ويطلق لفظ الموظف العام على العامل بالمصطلح الفقهي، فالعامل هو كل من تولى أمرا من أمور المسلمين، وقد حرم الإسلام هدايا العمال ومن في حكمهم وسماها رشوة تارة وغلولاً تارة أخرى. 

(13) الهدية لغير المسلمين (للمشركين):

الأصل جواز قبول الهدية من المشركين المُسالمين وجواز الإهداء لهم: إذا لم تكن رشوة عن الدين أو للإقرار على باطل أو إعانةً لهم على شركهم، فقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشاة المسمومة من اليهودية، وقبل من ملك أيلة بغلةً بيضاء وبرداً، وقبل من المقوقس ماريَّة القبطية التي أهداها إليه، وبوب البخاري في صحيحه بقوله: (باب قبول الهدية من المشركين)  

  والخلاصة: 

أن كل هدية كانت بسبب الوظيفة بحيث لو تجرد الموظف منها ما أهدي إليه فهو رشوة لا تجوز، ولو كانت دعوة على طعام أو تملقا له. 

أما إذا كانت الهدية للموظف ممن يعتاد المهاداة معهم كالأقارب والأصدقاء والزملاء ويقصد بها التقرب إلى الله تعالى ولتقوية المحبة والمودة فهي جائزة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق