من عاش بعد الموت
للإمام الحافظ الزاهد
أبي بكر عبيد الله بن أبي الدنيا (ت 281 هـ)
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن البعث بعد الموت ركن من أركان الإيمان، لا يتمُّ إيمانُ عبدٍ إلا به، وقد ضرب الله تبارك وتعالى أمثالاً كثيرة في القرآن، تدلُّ على قدرته سبحانه على البعث بعد الموت؛ فقال: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} /الإسراء: 49 -51/
وقصَّ علينا القرآن أحداثاً واقعية؛ مثل قصة البقرة مع قتيل بني إسرائيل: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } /البقرة: 73/، وقصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} /البقرة: 259/.
وسؤال إبراهيم ربه كيف يحيي الموتى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} /البقرة: 260/، وكما في إحياء عيسى للموتى في الدنيا بإذن الله، وغيرها مما ورد في القرآن والسنة الصحيحة.
وهذا كتاب عجيب غريب، يذكر فيه ابن أبى الدنيا قصص من مات، ثم عاد إلى الحياة مرة أخرى، وبعض من تكلم بعد موته. ويسوق في ذلك الكثير من القصص الدالة على هذا المعنى، وهي قصص تشبه الاقتراب من الموت، أو فقدان الوعي ومغادرة الروح للجسد بصورة حقيقية، ثم عودتها إليه مرةً أخرى لأن الأجل لم يأتي بعد.
ويؤكد هذا ما ذكره عشرات الأشخاص الذين كانوا على وشك الموت، وعادوا مرةً أخرى إلى الدنيا؛ ليُخبرونا بحياة أخرى غير التي نحيا، وهي حياة البرزخ التي لم يحن لهم دخولها بعد، وقد أثبتت الدراسات أن كثيراً من هؤلاء يدخلون في هذه الحالة وأدمغتهم تعمل بشكلٍ جيد، وهذا يعني أنها تجارب حقيقية تحدث في حالة وعيٍ كامل لأصحابها.
ومع اختلاف الروايات التي يذكرها هؤلاء الموتى العائدون إلا أنها تتفق بشكل كلي أو جزئي في بعض التفاصيل، وهو ما يثريه كتاب ابن أبي الدنيا، وقد يرى بعض هؤلاء مصيرهم، والأشخاص الذين غادروا قبلهم في ذلك العالم البرزخي الغامض، وأكثر هذه التفاصيل تكراراً، هو انطلاقهم بسرعة هائلة في نفق طويل ضيق مظلم، ليجد الشخص نفسه فجأة خارج جسده ولكن بإدراك تام لمحيطه.. بعدها تبدأ مرحلة تأقلم بطيئة لفهم واستيعاب الوضعية الجديدة مع الوعي بامتلاك جسد، لكنه مختلف عن الجسد المادي.
وأكثر العائدون من الموت يحكون اقترابهم من "حاجز رمزي" أو نقطة حرجة، تفصل بين الحياة والموت، مع العلم أن اجتياز هذه النقطة يعني اللاعودة، وهذه حقيقة نؤمن ونصدق بها.
ومع إيماني بأن بعض هذه القصص التي ذكرها ابن أبي الدنيا حقيقية وواقعية لا سيما ما جرى لأنبياء الله من المعجزات، ولكن كثيراً منها لا حقيقة لها، لأن ابن أبي الدنيا لم يلتزم الصحة فيما يورده من آثار، بل أورد الضعيف والواهي، والموضوع، وخلط بين المرفوع والموقوف والمقطوع.
وقد بلغت عدد الآثار الواردة في الكتاب (63) أثراً مُسنداً، وألحق المحقق ما ذكره ابن الجوزي في كتابه "النطق المفهوم من الصمت المعلوم"، وفيه الكثير من الروايات الباطلة والمبالغ فيها، والتي لا تمتُّ إلى الواقع ولا إلى الحقيقة بصلة، وعدتها (60) أثراً؛ فيكون مجموع الآثار المذكورة في هذا الكتاب (123) أثراً.
وبالجملة فالكتاب هو كتاب وعظ واعتبار وتذكير، ولا يُعتمد عليه في باب الاعتقاد والتشريع، وأسانيده ليست نظيفة، وأكثر قصصه إنما هي عن بني إسرائيل وأنبيائهم وما جرى لهم من وقائع وأحداث عجيبة، والغرض الرئيس منه الحثُّ على الزهد في الدنيا، وعدم الاغترار بها، والصبر على لأوائها، وترك الحرص والطمع، والرضا بقسمة الله تعالى.
حديث: (يتكلمُ رجلٌ من أمتي بعد الموتِ من خيرِ التابعينَ)
قال ابن أبي الدُّنيا: حدثنا سريج بن يونس، قال: حدثنا خالد بن نافع، قال: حدثنا علي بن عبيد الله الغطفاني، وحفص بن يزيد، قالا: بلغنا أن ابن حراش. قال: فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: صدق أخو بني عبس رحمه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يتكلم رجل من أمتي بعد الموت من خيار التابعين». ومن طريقه البيهقي في "الدلائل".
وفيه خالد بن نافع الأشعري: قال أبو داود: متروك الحديث، وقال النسائي: ضعيف، وعلي بن عبيد الله الغطفاني، ذكره الفسويُّ في "المعرفة والتاريخ"، ولم يذكر فيه شيء، وحفص بن يزيد لا نعرفه، وقد رواه بلاغاً عن ربعي بن حراش.
وأخرجه البيهقي في "الدلائل"، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش. عن عائشة، قالت: «قد بلغنا أنه سيكون في هذه الأمة رجل يتكلم بعد موته».
موقوفٌ على عائشة، وهو الأصح، وأما رفعه فلا يصح.
وأخرجه البيهقيُّ أيضاً في "الدلائل"، قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن السراج، حدثنا مطين، حدثنا إبراهيم بن الحسن التغلبي، حدثنا شريك، عن منصور، عن ربعي، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أمتي من يتكلم بعد الموت».
وإبراهيم بن الحسن التغلبي، قال فيه أبو حاتم: شيخ، وشربك بن عبد الله: ضدوقٌ يخطئ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الذهبيُّ: لا بأس به.
وأخرجه أبو نُعيم في "الحلية"، و"دلائل النبوة" قال حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم، ثنا علي بن العباس البجلي، ثنا جعفر بن محمد بن رباح الأشجعي، حدثني أبي، عن عبيدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش. (ح) وحدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن قال: ثنا محمد بن يحيى بن سليمان، قال: ثنا عاصم بن علي، قال: ثنا المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش.
ثم قال أبو نُعيم: هذا حديث مشهور؛ رواه عن عبد الملك بن عُمير جماعة منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وزيد بن أبي أنيسة، والثوري، وابن عيينة، وحفص بن عمر، والمسعودي، ولم يرفعه أحدٌ إلا عبيدة بن حميد، عن عبد الملك، ورواه المسعودي نحوه في الرفع.
قال السيوطيُّ في "الخصائص": له طرق، وقال شعيب الأرناؤوط في "تخريج سير أعلام النبلاء" (٤/٣٦١): رجال إسناده ثقات لكن ليس فيه المرفوع، وهو الأصح؛ فقد رواه عن عبد الملك غير واحد فما رفعه.
ولا شكَّ أن هذا الأمر قد يحصل لبعض الناس؛ ليكون عظةً وعبرةً لغيره، فيرى مقعده من الجنة أو النار، فيُحدث به أصحابه ثُمَّ يعود إلى حالته الأولى من الموت والسكون.
والذين ذكرهم ابن أبي الدنيا في كتابه قسمان:
القسم الأول: من عاش بعد وفاته: ممن لم يحن أجلهم بعد، ولكنهم شاهدوا بعض الأمور التي تكون بعد الموت، وبعد عوتهم استمروا في الحياة مدة، وفيهم الرجال والنساء، وقد أخبروا عن بعض ما رأوه ووجدوه من ثواب أعمالهم.
القسم الثاني: من تكلم بعد وفاته: ولعل هذا يكون وهو في سكرات الموت، قبل خروج الروح؛ لأن غالب ما يُخبر به هؤلاء المتكلمون هو عن مشاهد غيبية، فيُخبرون عن الجنة والنار وأحوال الشهداء، وفيه أن بعض الرافضة يرون العذاب الأليم ويخبرون به عند احتضارهم،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق