أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

الصارم المنكي في الرد على السُّبكي - محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة (ت 744 هـ)

الصارم المنكي في الرد على السُّبكي

تأليف الإمام العلامة المُحقق

 محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة (ت 744 هـ)

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب هو ردٌّ على السبكي الذي ردَّ على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة (شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور)، وذكر أنه سماه (شنِّ الغارة على من أنكر سفر الزيارة)، ثم زعم أنه اختار أن يُسميه (شفاء السُّقام في زيارة خير الأنام)، وهو كتابٌ اشتمل على تصحيح الأحاديث الموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة، وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة؛ بالإضافة إلى خلط الأقوال، وتزوير المقالات وعدم ضبط محال النزاع. 

ومع ذلك كله نجد أن "ابن السُّبكي" لا يفرق بين السفر لزيارة القبور، وبين زيارتها بلا سفر، وهو محور هذا الكتاب، ورحاه التي يدور حولها، وفرقٌ بين الزيارة المشروعة التي يُسنُّ فيها السَّلام على الميِّتِ، والدعاء له، وبين الزيارة البدعية التي تتتضمن الشرك بالله عز وجل، وسؤال الأموات، والإقسام بهم، أو الدعاء عندهم فهذه بدعٌ ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يكن شيءٌ من هذايفعله أحد من سلف الأمة لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك.

وذكر ابن عبد الهادي أن الداعي لهذا التأليف، هو الذبُّ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنه لم ينهى عن السفر إلى مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، أو زيارة القبر الشريف تبعاً.

 وفيه بيان ما انطوى عليه ابن السُّبكي من الهوى والتعصُّب، والتدليس وسوء الأدب في الأجوبة والرد، والاحتجاج بما ليس بحجة، وتكثير الكلام بالظلم والعدوان، والجور في الأحكام حين تأليفه ذلك الكتاب، وذكر شواهد تثبت ذلك، منها تغليط بعض الأئمة الكبار من الشافعية، وافترائه الكذب على ابن تيمية، والخطأ والخبط، والتخليط، والغلو، والتشنيع، والتلبيس.

فإن أصل الزيارة لم ينكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وإنما أنكر الزيارة المبتدعة المتضمنة لترك المأمور وفعل المحظور، وأما الزيارة الشرعية فلم ينكرها، بل ندب إليها بل حض عليها، ودعا إليها، ويأبى الله عز وجل إلا أن يُعلي منار التوحيد، ويدحض شُبه الباطل، فلله الحمد أولاًَ وآخراً.

 يظهر في هذا الكتاب كيف أن المعترض (المستأخر) ابن السُّبكي يتمسك بالأمور المتشابهة الخفية، ويعرض عن الأشياء المحكمة الصريحة الواضحة، كما يظهر اعتماده على الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، وتحريف كلام الأئمة، ومعلومٌ أن الخبر المتشابه لا يدل على المطلوب، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاع الدين وإرشاد المسلمين.

ويذكر ابن عبد الهادي أن سبب تأليف ابن السُّبكي لهذا الكتاب هو التزلُّف إلى أحد قضاة مصر وكان أحد أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية المشهورين؛ فيقول: "ولقد أخبرني الثقة أنه ألف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة؛ ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب، ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين".

ولا شك أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنةٌ مجمع عليها بين المسلمين وفضيلة مرغب فيها، وهذا الإجماع حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى، كما حكاه شيخ الإسلام أيضاً، في غير موضعٍ من كتبه، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين أهل العلم،  وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار -رحمه الله -المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وهو الذي اختاره القاضي عياض مع حكايته هذا الإجماع.

وكذلك؛ فإن الإنسان إذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم استحب له أن يفعل فيه ما يشرع له: من الصلاة فيه، والصلاة على الرسول والتسليم والثناء عليه، ونشر فضائله ومناقبه وسننه، وما يوجب محبته وتعظيمه والإيمان به وطاعته، وهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية والسفر إلى مسجده للصلاة فيه، لا أن يقصد بزيارته أن يدعو مخلوقاً من دون الله، أو يعتقد أن الدعاء عندها أو بها أفضل من غيرها من البقاع؛ لأن هذا من الشرك المُحرَّم.

فكل زيارةٍ تتضمن فعل ما نهى عنه، وترك ما أمر به؛ كالتي تتضمن الجزع وقول الهجرة، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك أو دعاء وترك إخلاص الدين لله فهي منهيٌّ عنها، وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى، ولا يجوز أن يصلي إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) رواه مسلم في صحيحه.

فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية التي بيَّنت زيارة القبور وما يُشرع فعله عندها، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجتمع عليه من المتنازع فيه.

وقد تضمن هذا الكتاب خمسة أبواب، وهي كما يلي:

الباب الأول: الجواب على خمسة عشر استدلَّ بها ابن السُّبكي في كتابه "شفاء السُّقام"، وفيه بيان أنها أحاديث ضعيفةٌ واهية، أو موضوعةٌ مكذوبة، وأنها لا تدلُّ على مراد ابن السُّبكي، وكانت مناقشات هذا الباب حديثية محضة.

أما الباب الثاني: ففيه ذكر الأخبار والأحاديث التي تدل على فضل الزيارة وإن لم يكن فيها فيها ذكر لفظ زيارة القبر.

وأما الباب الثالث؛ ففيه ذكر ما ورد في السفر إلى زيارته صلى الله عليه وسلم صريحاً، وبيان ضعف هذه الآثار، وهي:

أولاً: قصة بلال بن رباح في سفره لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: قصة إرسال عمر بن عبد العزيز البُرُد للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: قصة ذهاب عمر بن الخطاب وكعب الأحبار لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: قصة زيارة زياد بن أبيه لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: في قصة العتبيِّ، والجواب عليها.

وفي الباب الرابع: بيان ما جاء في نصوص العلماء من استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين.

أما الباب الخامس ففيه ردُّ بعض الشبهات الركيكة التي ذكرها (ابن السُّبكي) مما يلبس به الفهم على القارئ، وينسب الأقوال إلى غير أصاحبها على طريقة التدليس والتمويه، والغلو في التكفير والتفسيق، ومن يطلع على هذا الفصل من كلام ابن السُّبكي، وما أورده ابن عبد الهادي من اعتراضات ذلك المستأخر بتبين له عظيم فرية ابن السُّبكي، وقلة إنصافه وضعف تحقيقه، وقد فضح نفسه باتباعه للهوى في هذه القضية، وقد كفانا مؤنة الرد عليه.

ولذلك قال ابن عبد الهادي في إحدى أجوبته عليه: وأعلم أن هذا المعترض من أكثر الناس تلبيساً وخلطاً للحق بالباطل، ولهذا قد يروج كلامه على كثير من العوام والمبتدعة. وقال أيضاً: ولو نوقش هذا المعترض على جميع ما يقع في كلامه من الدعاوي والخلل واللفظ المجمل لطال الخطاب، ولكن التنبيه على بعض ذلك كاف لمن له أدنى فهم وعنده أدنى علم.

وقال ابن عبد الهادي رداً على ابن السُّبكي الذي زعم أن ابن تيمية يُحرم زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "وليعلم: قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها، ولم يكرها بل استحبها، وحض عليها. ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور"، ونقل بعض ألفاظ ابن تيمية وعباراته في بعض كتبه التي تؤيد كلامه.

بعض الجمل التي ذكرها ابن عبد الهادي

في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية

 1- قال ابن عبد الهادي رحمه الله: "وإنما تكلم (يعني شيخ الإسلام) عن مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين؛ وهما القول بالإباحة كما عند بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والقول بالمنع وهو قول جمهور الفقهاء، واتفق عليه الأئمة الأربعة".

2-وقال في التفريق بين مسألة الزيارة ومسألة السفر للزيارة: "والسفر إلى زيارة القبور مسألةٌ، وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة جعلها مسألة واحدة وحكم عليهما بحكم واحدٍ، وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما"، وهو ما فعله ابن السُّبكي في كتابه (شفاء السُّقام).

3-واستدل شيخ الإسلام رحمه الله في تحريم شدِّ الرحال إلى زيارة القبور عموماً؛ بحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)/متفق عليه/ وهذا خبرٌ يُفيد النهي، ويؤيد ذلك حديث ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)؛ فرواه بصيغة النهي.

ثم قال ابن عبد الهادي: "هذا هو الذي فعل الشيخ (يعني ابن تيمية): حكى الخلاف في مسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته، فأي عتب عليه في ذلك؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى"

4- وبيَّن رحمه الله أن السفر لقصد القبور لم يكن معروفاً عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقال: "فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة، بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبل الخليل صلى الله عليه وسلم: وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس، ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سفر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره؛ كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربه للغرباء فهو قربة لأهل المدينة كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع، وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن قربة لغيرهم كاتخاذ بيته عيداً، واتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهي عنه الغرباء، كما ينهىلا عنه أهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين".

قال: "وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الداروردي، عن سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فناداني فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام مثل معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل، ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع".

5- وشرع ابن عبد الهادي بذكر مقالة ابن السُّبكي في كتابه "شفاء السُّقام" والتي شنَّع فيها على شيخ الإسلام ابن تيمية، وتحامل عليه فيها بغير وجه حق؛ كأنه لم يقرأ ولم يبحث في كلام الأئمة من قبله في بيان ضعف ونكارة أحاديث الزيارة؛ وردِّ ابن عبد الهادي عليها، ومن ذلك قول ابن السُّبكيّ: "أما استحي من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المقالة (وهي تضعيف أحاديث الزيارة) التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث، ولا من غيرهم…" إلى أن قال:"فكيف يستجيز مسلم؟! أن يطلق على كل الأحاديث التي هو واحد منها أنها موضوعة، ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله، ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً فكيف وهو حسن، أو صحيح".

6- وردَّ عليه ابن عبد الهادي مقالته تلك؛ فقال: "هذا كله كلام المعترض، وهو متضمن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم… وحديث (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وهو أمثل حديثٍ ذكره في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم…".

7-وقال ابن عبد الهادي مؤكداً صحة مقالة شيخ الإسلام ابن تيمية، والتي استنكرها ابن السُّبكي: "وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم إنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع، كما أشار إليه شيخ الإسلام…".

8- وتنزَّل ابن عبد الهادي بفرض صحة هذا الحديث الذي أورده في مطلع رسالته (شفاء السُّقام) وبيَّن له أنه لا يصحُّ دليلاً له: "ولو فرض أن هذا الحديث المذكور صحيح ثابت لم يكن فيه دليل على مقصود هذا المعترض، ولا حجة على مراده… فكيف وهو حديث منكر ضعيف الإسناد واهي الطريق، لا يصلح الاحتجاج بمثله، ولم يصححه أحد من الحفاظ المشهورين ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين".

وقال في موضعٍ آخر: "وقدِّر أن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة المشهورة المتلقاة بالقبول، لم يكن فيه دليل إلا على الزيارة الشرعية؛ وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام ولا يكرهها بل يندب إليها ويحض عليها ويستحبها، وقد نصَّ على ذلك في الجواب الباهر في زيارة المقابر".

9- وبين ابن عبد الهادي ضعف مسلك ابن السُّبكي في الاحتجاج بالأحاديث التي أوردها في هذا المقام؛ ومثال ذلك الحديث الذي جاء من رواية عبد الله بن عمر العمري، فادعي ابن السُّبكي أنه من رواية أخيه عُبيد الله؛ وأوضح أن أكثر الحفاظ يُضعفونه من قبل حفظه، ويذكرون أنه يروي المناكير، وكذلك الراوي عنه موسى بن هلال المنكر الحديث، مع ذكر تفرده به عنه؛ ثم قال: "فهل يشك من له أدى علم في ضعف ما تفرد به ورده وهل يجوز أن يقال فيما روياه من حديث منفردين به أنه حسن أو صحيح؟ وهل يقول هذا إلا رجل لا يدري ما يقول".

10- ثُمَّ قال ابن عبد الهادي مُشنِّعاً على ابن السُّبكي تفرُّده بتحسين هذا الحديث دون من سبقه من الأئمة الجبال، الذي لم يبلغ شأوهم ولا علمهم، وهذا يدلُّ على قلة بضاعته في هذا الشأن: "وقد تفرد هذا المعترض على شيخ الإسلام بتحسينه أو تصحيحه وأخذ في التشنيع والكلام بما لا يليق الذي بقدر آحاد الناس على مقابلته بمثله وبما هو أبلغ منه، وجميع ما تفرد به هذا المعترض من الكلام على الحديث وغيره خطأ فاعلم ذلك".

وأجاب على المعترض بأن هذا الحديث رواه أحمد في المسند، وهو لا يروي إلا عن الثقات، وبيَّن أن ذلك غالب الأمر، وقد يروي عن الضُّعفاء، وهذا منه.

11- ثُمَّ نقل كلام ابن تيمية في "الزيارة المشروعة"، وبيَّن أن المساجد الأخرى غير الثلاثة لا يُستحبُّ شدُّ الرحال إليها، ولا مشروعاً باتفاق الأئمة الفقهاء، وأشار إلى خلافٍ شاذ لليث بن سعد في المساجد، وخلافٌ آخر لابن مسلمة من المالكية في شد الرحال لزيارة قباء، وبين أنهم اختلفوا في نذر الذهاب إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة، فكيف بشدِّ الرحال إلى قبرٍ من القبور ابتداءً؛ يقول رحمه الله فيما نقله عنه ابن عبد الهادي: 

"ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي، أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذر باتفاقهم" أي باتفاق الأئمة، ونقل التصريح بذلك عن الإمام مالك، ولم يُخالفه أحدٌ من أئمة الفقهاء، ولا أحدٌ من أئمة المسلمين، بل ولم يفعله أحدٌ من الصحابة الكرام.

12- وأوضح أن الخلاف إنما نشأ عند أصحاب هؤلاء الأئمة؛ فاختلفوا في زيارة القبور بين الإباحة التي لا أجر فيها، وبين التحريم الذي يأثم صاحبه، وأظهر قوليهم عند التحقيق هو التحريم؛ لأن السفر إلى القبور إنما يُقصد به العبادة من تذكر الآخرة والدعاء للأموات.

والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب؛ وليس الأمر متعلقاً بمجرد الزيارة، بل الحكم مُتعلقٌ بشدِّ الرحال، وإعمال المطي بالسفر.

قال ابن تيمية: "وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر، ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا سلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر، ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته، وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له".

13- وقال أيضاً مُبيناً وجه الإنكار الذي توجَّه إليه التحريم: "وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتى القبر، ثم رجع، فهذا هو الذي أنكر الأئمة؛ كمالك وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع (يعني عند المتأخرين من الفقهاء): هل هو حرام أو مباح، وما علمنا أحد من علماء المسلمين استحب مثل هذا". 

قال رحمه الله: "والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد، وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين، قد ذكرت هذا في (المناسك) وفي (الفتيا)".

14-ثم قال الإمام ابن عبد الهادي مذهب شيخ الإسلام في الزيارة: "ولو فرض أن هذا الحديث المروي عن عبد الرحمن بن زيد في الزيارة من الأحاديث الصحيحة المشهورة: لم يكن فيه دليل على غير الزيارة على الوجه المشروع، وقد علم أن الزيارة نوعان: شرعية، وغير شرعية، فالشرعية لم يمنع منها شيخ الإسلام ولم ينه عنها في شيء من فتاويه ومؤلفاته ومناسكه، بل كتبه مشحونة بذكرها، ومن نسب إليه أنه منع منها أو نهى عنها، أو قال هي معصية بالإجماع مقطوع بها فقد كذب عليه وافترى وقال عنه ما لم يقله قط".

15- وقال أيضاً، نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة القبر. أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل يذكرون المدينة وفضائلها، وأنها حَرم ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك نحو ذلك من المسائل، ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره، فليس في الصحيحين وأمثالها شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي، وأحمد وإسحاق ونحوهم من الأئمة.

ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه لم يقدر أحد منهم على أن يستدل في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف بل موضوع مكذوب، وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين.

فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال: يستحب السفر إلى مجرد زيادة القبور ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا السفر لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بدون الصلاة في مسجده.

بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه، وهي الأمهات كالصحيحين ومسانيد الأئمة وغيرها وفيما ذكر السلام عند الحجرة كما جاء عن ابن عمر، وكما فهموه من قوله، وفيها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده، وفيها ما يطلق فيه زيادة قبره ويفسر ذلك بإتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه.

وأما التصريح بالسفر لاستحباب زيارة قبره دون مسجده، فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين ولا رأيت أحداً من علمائهم صرح به.

وإنما غاية الذي يدعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين، مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرّح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة، أو أن السفر إلى غيرها منهي عنه، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد.

17-وقال ابن تيمية في جواب المعترض على إيراد بعض الفقهاء للفظ (الزيارة) في متونهم الفقهية؛ فيقول: "ولكن قد يقال إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة فيُقال، هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور، ولم يكن أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك، لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه… ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح فتركب من إجمال اللفظ"، ثم أشار إلى مذهب أهل التحقيق في ذلك: "ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له، وثناء عليه في مسجده، سواء كان القبر هنالك أولم يكن".

18-وقال في معرض بيان تلبيس وكذب ابن السُّبكي على شيخ الإسلام: "وإني لأتعجب من هذا الرجل المعترض كيف يرتكب مثل هذا التخليط في الكلام والتلبيس في القول بعد التعب العظيم والكدح الكثير، ثم يزعم مع هذا أن كلام شيخ الإسلام مشتمل على التخليط وعدم البيان وتبعيد المعنى عن الأفهام… وقد علم الخاص والعام أن كلام شيخ الإسلام في سائر أنواع علوم الإسلام فيه من التحرير والتحقيق وغاية البيان والإيضاح وتقريب المعاني إلى الأفهام وحسن التعليم والإرشاد إلى الطريق القويم ما يضيق هذا الموضع من ذكره.ويمكن الإنسان أن يقابل هذا المعترض على ما في كلامه من الكذب وسوء الأدب بأضعاف ما قاله ويكون صادقاً في قوله مصيباً في عمله، وليس المقصود هنا مقابلته على ما في كلامه هذا من الجور والعدوان والظلم، وإنما المراد تبين خطئه في الكلام على حديث حفص بن سليمان المذكور، وما وقع منه من التخليط والتلبيس وقد حصل ذلك ولله الحمد".

وقال أيضاً في وصف طريقة ابن السُّبكي عند كلامه على الحديث الخامس: "انتهى كلام المعترض على هذا الحديث وهو كما ترى ملفق مزوق غير محقق ولا مصدق، بل فيه من الوهم والإبهام والتلبيس والخبط والتخليط ودفع الحق وقبول الباطل ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى".





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق