كتاب الأربعين على مذهب المتحققين من الصُّوفية
تأليف الإمام أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (336 -430 ه)
تحقيق بدر بن عبد الله البدر
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا جزءٌ حديثي، جمع فيه الإمام أبو نُعيم أربعين أصلاً من أصول المتصوفة التي بنى عليها (المحققين من المتصوفة) مذهبهم في السلوك والاعتقاد، وتضمنت هذه الأصول ستين حديثاً، واستثنى بذلك الأصول التي وضعها الفُسَّاق وأهل الزيغ والإلحاد ممن ينتسب إلى الصوفية، وكثيراً ما كان يُشنِّع عليهم، والفائدة من وضع هذه الأصول هو التمييز بين التصوُّف الحقيقي والبدعي، وهذه الأصول وإن كان في بعضها شطط، وتكلُّف إلا أن جملتها قريبةً من زهد أهل السُّنة، لذا نرى كثيراً منها يخالف النهج العقيم الذي ارتضاه كثيرون من المنتسبين إلى التصوُّف، ممن لابس الفسق والفجور والإلحاد.
وجعل أبو نُعيم هذه الأصول كالعمدة لمن أراد أن يقتفي آثارهم، وينتحل أخلاقهم، ويعلم أنهم كانوا من أقول الناس بالحق، وآخذهم بالكتاب والسُّنة، وقد رتبها بطريقة جيدة، وعبَّر عنها بالسَّجع القصير المتضمن لبعض التكلف، أو ذكر معاني غير ظاهرة في الحديث، وبالجملة فهو في كل أصل يُعبر عن كل حالة من حالاتهم، سواءً ظهر وجه ذلك في الحديث أو لم يظهر.
وقد تضمن هذا الجزء الكثير من الأحاديث الضعيفة التي لا تصلح للاعتضاد، وبنى أبو نُعيم عليها أصول تصوف المتحققين، فجملة الأحاديث الضعيفة ثلاثين حديثاً، وأما الضعيف جداً، والوهي بمرة فهي خمسة أحاديث، وبالتالي فإن ما لا يحتجُّ به من هذه الأحاديث خمسة وثلاثين حديثاً من أصل ستين.
وهنا أذكر الباب، وأردفه بتعليق أو تعقُّب أو انتقاد:
١ - باب البيان عن علو مراتبهم وترفيع منازلهم.
التعليق: في إيراد أبي نُعيم لحديث فضالة في أهل الصُّفة، إشارةٌ إلى أمرين: الأول اختيار الفقر للمتصوف، والثاني: نسبة التصوف إلى أهل الصُّفة، ويُجاب على هذين الأمرين، بأن الصحابة لم يختاروا الفقر مع وجود الغنى، وإنما هي حالةٌ سجلها التاريخ في مرحلة من المراحل، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم له ميأتي على وجه التثبيت، وبيان فضلهم وأجرهم عند الله، وأما بالنسبة لنسبة التصوف إلى أهل الصُّفة؛ فهو غلط من الناحية الصرفية، لأن المنسوب إلى الصُّفَّةِ هو الصُّفيُّ وليس الصُّوفيّ، وإنما التصوُّف هو لبس الصُّوف، وكان أوائلهم مختصون بلبسه.
٢- باب البيان عن ذكر أوصاف المتحققين بالفقر
التعليق: إن اختيار الفقر كطريقة للتقرب إلى الله عز وجل أمرٌ خاطئ تماماً، وليس فيه تحقيقٌ كما يقول أبو نُعيم، وقد اشتهر المتصوفة الأوائل بذلك في البصرة، حتى أنهم سموا الجوعية أو الفقراء، وامتهن بعضهم التسوُّل، وتخلى بعضهم عن أملاكه، وتركوا الكسب، واتجه كثيرون منهم إلى التسوُّل، ولكبار الصُّوفيَّة قصص مأساوية تتحدث عن فقرهم المدقع والشديد، والصواب: أن المال الصالح مطيَّةٌ حسنة للعبد الصالح في طريقه إلى الله عز وجل، وخير عمل المرء ما كان من حلال.
٣- ومن أصولهم: السكون إلى ضمانه، والتعري من الإعراض وطغيانه
التعليق: يقصد أبو نعيم بهذا الأصل: دوام الإنفاق في سبيل الله ثقةً بما عند الله، وألا يتخلى عنها بحال، أو إيثار جمعه لطغيان حُبِّه في القلب. وهي حالةٌ حسنة لمن وُفِّق لها.
٤- ومن أصولهم: العدول عن الإدخار، والتبرؤ من الاختيار
التعليق: وهذا يشبه الأصل الذي قبله، ولعله تفصيلٌ له، وأن النفقة والبذل أولى من حالة الادخار والإمساك، وكما أن الرزق لا يأتي بالاختيار، كذلك نفقته لا تكون بالاختيار، وإنما بالموافقة لأمر الله فيه، وهذه حالٌ حسنةٌ أيضاً.
٥- ومن أصولهم: خروجهم من التبييت حذراً من التعبير والتبكيت
التعليق: لم يظهر لي وجه هذا الأصل من الحديث، ولا أجد لها معنىً حاضرٌ في ذهني، ويبدو أن أبا نُعيم كان يكتب بمشاعره لا بما يُعبر الحديث عنه، وادِّعاء تناسق ذلك مع الحديث تكلُّفٌ ظاهرٌ، لا ينبغي لعاقل أن يفعله.
٦- ومن أصولهم: التجزي بالكفاف تزييناً للعفاف
التعليق: وهذا أصلٌ جيِّد، وهو أن يقتصر الإنسان في طلب قوته على ما يكفيه، وإن كان لديه ما يفيض عن حاجته فإنه يتصدق به سداً لما نقص من كفاية غيره، وأن حالة صاحب الكفاف ينبغي أن تكون العفَّة، فيترك سؤال ما زاد عن الحاجة، وهذه زينةٌ ظاهرة وباطنة، وحالةٌ محمودة.
٨- ومن أصولهم: الإعراض عما يُلهي رعايةً لما يُدني
التعليق: وهذا أصلٌ جيدٌ أيضاً، وهو إيثار ما يُقرب من الله عز وجل، وترك كل ما يُلهي عنه، لأن في القرب تعرُّضٌ لما يُدني إلى الله وما يُحبُّه الله سبحانه، وفي التلهي بُعدٌ وإعراض عن الله، وهي حالةٌ مذمومة، ولو كان ذلك في أيسر الأشياء.
٩- ومن أصولهم: التبرُّم بما ينقضي ويبلى حنيناً إلى ما يدوم ويبقى
التعليق: وهذا أصلٌ جديرٌ بالعناية، وهو الملل والضجر بكل ما فناؤه متحققٌ ولو مآلاً، ومنها هذه الدنيا الفانية بمتاعها ومُتعها، ويدخل في ذلك المُتع المحرمة التي تنقضي بسرعة وتبقى عواقبها وندامتها في الآخرة، وهذا التبرُّم المحمود يقتضي إفراغ القلب مما يشغله من هذه الملهيات، وشغله بالحنين إلى ما يدوم ويبقى، وهو الله والدار الآخرة، فيعمل لما عساه يوفيه حسابه، ويزيده من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
١٠- ومن أصولهم: اعتمادهم على حميد كفاية الله في الانقطاع إليه، واحترازهم من عرض الدُّنيا خوفاً من الركون إليه
التعليق: الانقطاع إلى الله عز وجل محمودٌ إذا كان المُراد به الانقطاع القلبي المقرون باعتقاد أن كمال قدرة الله، والثقة بموعوده، واللجوء إلى رحابه، وكذلك يكون محموداً إذا كان فيه احترازٌ عن كل ما يقطع عنه من أمور الدنيا، ففرق بين الانقطاع عنه والانقطاع منه، وبالطبع لا يُقصد بذلك العزلة عن الناس الناتجة عن الألم والمرارة والحسرة؛ فهذه حالة مذمومة، أو غيرها أكمل منها.
١١- ومن أصولهم: إدمانهم المراقبة في الإعلان والمخافتة
التعليق: وهذا أصل الأصول، وهو إحسان العبادة إليه، وإحسان الشكر له، وإحسان الصبر على قدره، فيراقب الله في خواطره وجوارحه، وظاهره وباطنه، وعلانيته وسره، ولا يقصد بذلك غير الله، ومن أدمن مراقبة الله عز وجل في الباطن لا بُدَّ وأن يُشرق ظاهره بالكملات التي أولها اتِّباع السُّنة، وترك البدع، وترك الحظوظ النفسانية.
١٢- ومن أصولهم: الجدُّ والمواظبة على جهاد النفس والمخالفة
التعليق: ويدخل في هذا المعنى كل مجاهدةٍ للنفس، وينبغي التفريق بين المجاهدة والكبت والحرمان؛ وإنما تظهر المجاهدة إذا اجتمع حقان أحدهما لله، وحقيقة ذلك إيثار ما يُحبُّه الله على محابِّ العبد ومرغوباته، ومن المحمود مخالفة النفس في غالب الأحيان؛ لأنها كثيراً ما تتصف بالرغبة إشباعاً للهوى واستجابةً لوساوس الشيطان، وإليه يُشير قول البوصيري في بردته:
وخالف النفس والشيطان واعصهما … وإن هما محّضاك النُّصح فاتَّهمِ
١٣- ومن أصولهم: تنفيرهم أبناء الدنيا عن ارتضاعها والاستهانة بمؤثرها واتضاعها
التعليق: يُشير بهذا الأصل إلى حقيقة أن هذه الدُّنيا كالأمِّ الرؤوم التي لا تفتأ تُرضع أبناءها، ولا يشبعون من هذا الرّضاع، لأن درَّها لذيذ، وهي حانيةٌ على كل من تعلق بها، وكلمازاد درُّها ازداد تعلُّق الطفل بها، فإن استمر العبد على هذه الحال، أخرج من الدنيا وهو لم يشبع منها بعد، كذلك لا ينبغي للعبد الصالح أن يفرح بها ويزهى إذا أقبلت بزينتها وجمالها، ولا يحزن عليها إذا أدبرت بمنغصاتها وآلامها.
١٤- ومن أصولهم: أنهم الرُّعاة لكل حق، والحُماة لكل حد
التعليق: يُشير بذلك إلى ما ينبغي عليه أن يكون المؤمن الصالح، وهو رعاية حقوق الله، وحقوق النفس والأهل، وحقوق العباد، فيردون المظالم إلى أهلها، ويعرفون لكل ذي حقٍّ حقَّه؛ فلا يغشون ولا يكذبون ولا يمتهنون عباد الله، ولا يسخرون من الناس، كما أنهم الحماة لكل حدٍّ من حدود الله؛ بصفتهم آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، حافظون لحدود الله، فيكون حرصهم على عدم ارتكاب أسباب الفسق الظاهرة، ولا يتلبسوا بخوارم المروءة المذهبة للعدالة، وهم ليسوا معصومين قطعاً، وحفظهم جارٍ قدراً ولا يمنع ذلك ارتكاب صغيرةٍ أو تلبُّسٍ بكبيرة، ولكن إذا أذنبوا تابوا، وإذا عصوا لم يُجاهروا، ومن ليس هذه حاله، فإنه منافقٌ كبير، وزنديقٌ خطير؛ فليُحذر منه أشدَّ الحذر.
١٥- ومن أصولهم: تحسين المخالفة وتمهيد العذر للموافقة
التعليق: وهذا من أصول الصُّحبة والاجتماع على الخير، وهو الارتفاق بالأصحاب والإحسان إليهم، وأن المخالفة في الرأي لا تُفسد الود، وفي هذا ردٌّ عن الثرثارون المتشدقون الذين يزعمون أنهم يكشفون ستر الله عن عباده، ويطلعون على أحوالهم وأسرارهم، ويتخلقون بأخلاق العتاة والمتكبرين، كذلك من الأصول تمهيد العذر بجعله أصلاً وركيزةً لكل من يظهر منه تكاسلٌ وتخلُّف وتقاعس، لأجل دوام الموالفة والمحبة والود، ويشترط أن لا تكون الموالفة في معصية أو بدعة عملية كانت أو اعتقادية، فإن كانت الموالفة في بدعة أو شرك أو معصية؛ فبئس الجليس جليسهم.
١٦- ومن أصولهم: رعاية حقوق المجاورة وصيانة النفس عن المحاورة
التعليق: فيرعى كل واحدٍ حق صاحبه المجاور له في طريقه إلى الله عز وجل، ويدخل فيه أدب المسلم مع أخيه المسلم، بل أدب المسلم مع جيرانه ولو كانوا غير مسلمين، كذلك ينبغي صيانة النفس عن الجدل العقيم الذي يثير مكامن الأحقاد ويظهر أسوأ ما في النفوس، إذا كان للدُّنيا، وأما الجدل لإظهار السُّنة وإبطال البدعة، ومحو الشرك ونشر التوحيد الذي جاء به السَّلف؛ فهذا أمرٌ محمود.
١٧- ومن أصولهم: إيثار الفقراء والغرباء على النفس والأهل والقرباء
التعليق: وهذا ليس على إطلاقه، فلكلِّ واحدٍ ممن ذكرهم حقٌّ ينبغي مراعاته، وإنما ذلك بحسب الأولى والأصلح؛ حتى لا يضيع الحقوق الواجبة بالحقوق المندوبة، فلكل مقام مقال.
١٨- ومن أصولهم: اختيار البذل والإنفاق والسلو عن خوف العوز والإملاق
التعليق: وهذا الأصل يشبه الأصل الرابع والخامس، فلا معنى للإعادة، ولا اعتراض على التكرار؛ فإن في الإعادة إفادة.
١٩- ومن أصولهم: اغتنامهم خدمة الشيوخ والفقراء استناناً بسيد النبيين والسفراء.
التعليق: يُستحب خدمة الصالحين والعلماء وأهل الفضل من أصحاب السُّنة والاستقامة، خلافاً للمبتدع وصاحب الخرافة، فإنه تكره خدمته، أو حضور مجلسه، أو التسليم عليه بالسيادة، أو تقبيل يده، فإن في ذلك إعانةً على هدم الدين، وترك السُّنة، وخدمة الصالحين والعلماء سُنَّة السَّلف رضوان الله عليهم؛ لإظهار فضلهم، وإعلاءً لمكانة حملة الشريعة والسُّنن، وهم ورثة الأنبياء حقاً وصدقاً، ودعك من أصحاب الدعاوي، فما أكثرهم في الطرق المبتدعة، ولا تغتر بأصحاب المظاهر أو عمائم الجهال؛ فكم سار فيها من الرمائم وذميمي الخصال.
٢٠- ومن أصولهم: نصبهم الموائد لاغتنامهم الفوائد.
التعليق: المراد بالفوائد أي الأجور والثواب عند الله سبحانه، فيطعمون الفقراء وجوعى المسلمين احتساباً لا يطلبون على ذلك مدحاً ولا ثناءاً ولا شكوراً، وهذا خُلقٌ حميد ينبغي لكل مسلم الاتصاف به، ومانراه اليوم من بعض المتصوفة من ينصب الموائد فخراً ورياءاً وسُمعةً وطلباً للثناء الحسن والجميل، ومنهم من ينصب الموائد لأصحاب المراكز والرتب ابتغاء الرفعة والعلو في الأرض، والظهور في الناس، غير البدع والأهواء التي تملأ أركانهم وقلوبهم، نسأل الله تعالى أن يُريح البلاد والعباد منهم.
٢١- ومن أصولهم: الرعاية للتزاور والتآخي طلباً للتحابب والتباهي
التعليق: المراد أنهم يحرصون على زيارة إخوانهم في الله طلباً لرضوان الله، وطلباً لمباهاة الله جل وعلا بهم في الملأ الأعلى؛ فنعم الجليس الصالح للجليس الصالح، وبئس الجليس السوء للجليس السوء، .
٢٢- ومن أصولهم: المثابرة على مصاحبة الأولياء والمسارعة إلى مؤاكلة الأنقياء
التعليق: الأولياء هم الأتقياء، وذكر الترادف من باب التنويع، فالمسلم الصادق يسعى لصحبة أولياء الله عز وجل من المؤمنين والصالحين والعلماء، لأنه ينال بصحبتهم كل خير، وفي المقابل ينفر عن أدعياء الولاية الذين يُظهرون التمسُّك بالسُّنن وهم أبعد الناس عنها، ويتشبثون بالبدع وقد أشربت قلوبهم حُبَّها، فعليك بصحبة أهل السُّنة، أصحاب الاعتقاد الخالص، والعمل الصحيح، كذلك مؤاكلتهم، فإن المؤاكلة تورث المشاكلة أو المجانسة.
٢٢- ومن أصولهم: الاجتماع على الأكل والإطعام والالتماس للبركة والإكرام.
التعليق: ومعلومٌ أن الاجتماع على الأكل والطعام سُنَّة، وكذلك الاجتماع فيه رجاء البركة والخير، شرط أن يكون الاجتماع على خيرٍ وسُنَّة، أما إذا كان الاجتماع على بدعةٍ عملية أو انحرافٍ عقدي، أو معصيةٍ ظاهرة؛ فهذا يورث الشرَّ والفساد في القلوب والأبدان.
٢٣- ومن أصولهم: رفضهم للتصنع والتكلف صيانةً للتكرم والتعفف
التعليق: وهذا ظاهرٌ جداً، فعلى المسلم ألا يتكلف إحضار ما لا يجده، بأن يستدين أو يكلف نفسه فوق طاقته لأجل الإطعام أو الضيافة، وخير الضيافة مما حضر.
٢٤- ومن أصولهم: عدولهم عن الترفُّه والتنعم، احترازاً من التولي والتصرم
التعليق: لا ينبغي لعباد الله سبحانه أن يُنسيهم ما هم فيه من النعيم حلاوة مناجاة المُنعم، ولذة القرب منه، وإلا كانت العقوبة العاجلة إعراض الله عنه، وقسوة قلوبهم لأنها لم تعد مطالع لإشراق الذكر والعبادة والمعرفة.
٢٥- ومن أصولهم: أنهم هجروا المراقد واستوطنوا المساجد
التعليق: والمراد باستيطان المساجد، أي: تعلُّق القلب بها، لا دوام المكوث فيها، وإنما يأتيها الفينة بعد الفينة، والصلاة بعد الصلاة، وإذا مكث لا يُطيل مكوثه؛ لئلا تتعطل مصالحه الدنيوية التي هي حقوقٌ أوجبها الله عليه، كذلك يستوطنون المساجد في الليل، وهي مساجد البيوت التي هي سُنَّةٌ هجرها كثيرٌ من الناس، فيقيمون الليل، ويقفون بين يدي الله سبحانه لمناجاته، ويلتمسون الأوقات الفاضلة، لا سيما الثلث الأخير من الليل؛ حيث النزول الإلهي.
٢٦- ومن أصولهم: توطين النفس على القناعة توقياً من الملامة والشفاعة
التعليق: أي تعويد النفس على القناعة بما أفاضه الله عليك من خزائن جوده، وسحائب عطفه وإحسانه، لئلا تخرج النفس عن طور العبودية بالرضا إلى الملامة والخُسران، في هذا الأصل تكلُّفٌ في الألفاظ.
٢٧- ومن أصولهم: التحرز من مخالطة الأغنياء، والتشمير في ملاحقة الأصفياء
التعليق: ولم يكن أبا نُعيمٍ موفقاً حينما ابنتى كثيراً من أصوله على الأحاديث الضعيفة، التي في الصحيح غُنيةٌ عنها، وهي أرشدُ من غيرها، والتحرز من مخالطة الأغنياء ليس على إطلاقه، بل التحرز من مخالطة عموم البشر مُقيَّدٌ بمجالس الغفلة واللهو، وأما المجالس التي يجتمع فيها الأغنياء والفقراء على طاعة الله وتعلم أحكام دينه، فلا يحترز منها، كذلك لا بُد من المسارعة في صحبة الأتقياء وأهل الفضل والسُّنة.
٢٨- ومن أصولهم: الاستقامة في التوحيد مع الملازمة للتجريد
التعليق: الاستقامة هي اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلزم سنته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وأعلى ذلك الاستقامة في توحيد الله عز وجل، برف جميع العبادات الباطنة والظاهره له وحده، فلا يتخذ من دون الله أنداداً يدعوهم أو يستغيث بهم أو يشركهم في الدعاء والعبادة، فكل ذلك كفرٌ لا ينبغي لمن يدعي الزهد والصلاح أن يقترفه، بل ولا أن يخطر بباله وهذه هي حقيقة الملازمة للاستقامة في التوحيد، لكي يكون القلب دائماً متجرداً مما سوى الله سبحانه، فيهدم كل تلك التعلقات بغيره سبحانه.
٢٩- ومن أصولهم: الظفر بالخصال التي ظفر بها العمال
التعليق: لا ينبغي للعبد الصالح أن تفوته الخصال الحسنة والأخلاق الكريمة، والمرأة الصالحة التي تُعينه على خيري الدنيا والآخرة، ولا يُلتفت لأولئك المتصنعون الذين يزعمون الزهد بالرهبنة وتحريم ما أحلَّه الله من المآكل والمشارب، فأولئك هم الضلال فاحذرهم.
٣٠- ومن أصولهم: التحقق بالإيمان الجامع، والتمكن من العلم النافع
التعليق: وهذا الأصل ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان، والعلم النافع: هو كل ما يُقربك إلى الله، وشرطه أن يكون مبناه على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الخروج عن شريعته قيد أنملة.
٣١- ومن أصولهم: لوامع اليقين للمتحققين يدافع دعاوى المدعين
التعليق: أن اليقين إذا وقر في قلوب الصادقين من عباد الله، فإنه يُدافع كل ما يُناقضه أو يُحاول أن يُنقصه أو يُنغصه، فكلما عرضت فترة أو كسل أو تراجع، اشتعل ذلك اليقين في القلب ليعود به إلى حالته الأولى؛ حيث يتعافى مما اجترحه من الآثام والسيئات.
٣٢- ومن أصولهم: القلبُ المُعمَّر بالنور والمحبَّة سالٍ عما يعقب المذبة والسبَّة
التعليق: لا شكَّ أن المحبة لله عز وجل ولنبيه صلى الله عليه وسلم توجب للعبد أن لا يلتفت لكل أولئك الذين ينتقدون في سبيل التزامها والتقيُّد بأحكامها، فلا عليك من لوم اللائمين، ولا مسبَّة الشامتين، لأن النهاية حتماً ستكون مشرقة وسعيدة، نسأل الله سبحانه أن يتولانا برحمته، ويرزقنا حسن الخاتمة.
٣٣- ومن أصولهم: التقرُّب بالنوافل يوجب أشرف المنازل
التعليق: وهذا أصلٌ لا شكَّ فيه، فكثرة الطاعة على هدى، يورث العبد أعلى المنازل وأرفعها وأشرفها.
٣٤- ومن أصولهم: إخفاء محن الأسرار من ذخائر الأبرار
التعليق: ويقصد بذلك ما يتعرض له القلب من الإحن والآلام وما يعانيه من الغربة التي يحتاج معها إلى الشكوى والعتاب والبوح، ولكن كتمان ذلك ابتغاء رضوان الله من أجل العبادات، وذخيرةٌ يدخرها الله للصالحين من عباده.
٣٥- ومن أصولهم: القلب الفارغ التقي، ترده المعارف الخفي
التعليق: وفي هذا الأصل تكلُّفٌ ظاهر في السجع، والمعنى واضح.
٣٦- ومن أصولهم: تقديم مقام المعارفين على مقامات المريدين
التعليق: وينبغي ترك هذه التقسيمات، فإنه لا طائل تحتها، فكلنا عباد الله، وقد أقرَّ المتصوفة بأن أقصى مقامات العارف الجهل، ونحن إنما نريد المؤمن اليقظ الذي يُديم المراقبة لأوامر الله ونواهيه، ودع عنك هذه التكلفات والدعاوى التي لا يصلح بها حال، ولا يرتفع منها عمل.
٣٧- ومن أصولهم: العارف مصون عن .. والتطيش، مأمورٌ خلاف النفس والتفتش
التعليق: التكلف في ألفاظ هذا الأصل ظاهر، وهو من السجع المكروه، فليته ترك كثيراً من هذه الألفاظ، ويزيد الطين بِلَّةً الأحاديث الواهية والضعيفة جداً التي يُعلق عليها مثل هذه الأصول، فيالله الثبات.
٣٨- ومن أصولهم: من راعى من نفسه التحفُّظ والتحرُّس صحَّ منه الاعتبار والتفرُّس
التعليق: وهذا واضح؛ فمن حفظ سمعه وبصره وقلبه من خواطر السوء ونظر السوء؛ فإن فراسته ونظره في العواقب صحيحة، وليس معنى ذلك أن الغيوب تتكشَّف له أو أن الله سبحانه يهتك له ستر أخيه؛ فيطلع على خاصة أحواله، فمن زعم ذلك فهو على ضلال، فاحذره.
٣٩- ومن أصولهم: إباحة التنسُّم بشجى الأغاني، عند فتور النفس والتواني
٤٠- ومن أصولهم:مما يستحب سماعه من الغنا ما يصفو عن اللغو والخنا
التعليق: والذي أريد الإشارة إليه في هذين الأصلين إلى أن سماع القصائد والأناشيد الزهديات مُباحٌ، شرط ألا يشتمل هذا السّماع على موسيقى مُحرَّمة، أو خمور ودخان وطبول، أو رقص وخلاعة ومجون، ويحرم الانشاد بالكلمات الشركية؛ كالاستغاثات بغير الله تعالى، ودعاء غيره مما هو كفرٌ معلوم لدى العامة والخاصة، والأولى ترك هذه السماعات التي تورث القلب النفاق والقسوة بما تحويه من الكذب والمبالغات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق