أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 31 ديسمبر 2020

كيف نفهم التوحيد -بقلم: محمد أحمد باشميل

كيف نفهم التوحيد ؟

بقلم: محمد أحمد باشميل

 الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ إن الغاية العظمى التي خلق الله عز وجل الإنسان من أجلها هي توحيده وعبادته، كما قال سبحانه في كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، فمكث النَّاسُ مُدَّةً يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، حتَّى كان أول الشرك في قوم نوح عليه السلام، وكانوا يدفنون الصالحين ويقومون بتصوير حالهم بعد الموت ويقتدون بهم، وبعد مرور فترة من الزمن أصبحت هذه الأموات وصورهم عبارة عن أصنام يعبدونها من دون الله تعالى وذلك بعد أن اعترضتهم الشياطين، واجتالتهم عن دينهم، فزيَّنوا لهم أسباب الشرك وطرقه من دعاء الأموات، والتوسل بهم، فخصصوا القبور بالدعاء عندها، بل وبالتوجُّه بها وإليها، واستمرَّ ذلك في الأمم حتى يومنا هذا، وقد أصاب المغفلون من ذلك مفاسد عظيمة، وحماقاتٍ كبيرة، وأضحى كثيرٌ من العوام والدهماء ضحايا لسدنة القبور وتجار الأضرحة.

ونشأ في هذه الأجواء الجاهلية من لا يعرفون التوحيد، بل يسمون ما هم فيه من الشرك والكفر بالله توحيداً، فيعتقدون استجابة الأولياء لمن دعاهم ونجدتهم من يستغيث بهم، ونسوا الله ربهم وخالقهم، الذي يسمعهم ويراهم، وهو فوقهم، عالمٌ بأحوالهم، ومُطلعٌ عليهم.

وفي هذا الكتاب نعيٌ على بعض علماء السوء الذين اختاروا طريق الزوغان والمغالطة، وأخذوا بمنطق الكبر والعناد، ومضوا يُفشون الشرك الأكبر بين العوام بفتاويهم الباطلة، وهو زجرٌ وردعٌ لبعض فرق الضلال الذين يرتكبون الشرك، ويزينوه في قلوب العامة، لا سيما فيما ابتدعوه من الموالد والحواليات وغيرها.

وقد نهج المؤلف نهجاً حوارياً لطيفاً، تحت عناوين جذابة، تشدُّ القارئ بحسن صياغتها، وتُقنعه بأسلوبٍ جميل سلسٍ، وقد أجراه على طريقة الحوار الذي يدور بين المؤلف الذي يُقرر شرك من يدعو الأموات ويستغيث بهم، وبين شخصٍ آخر يعتقد أن التوسل بالأموات ودعائهم والاستغاثة بهم ليس شركاً.

وفي رأيي أن هذا الكتاب هو إعادة ضياغةٍ لكتاب "كشف الشبهات" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولكن بطريقةٍ جديدة تُخاطب العقل والوجدان، من خلال قصص واقعية جرت للمؤلف مع بعض القبوريين، ومن خلال المحاججة المنطقية في تقرير التوحيد وبيان الشرك، وعقد المقارنات بين مشركي الجاهلية ومشركي زماننا، وذلك بأبسط المفاهيم وتشرحها بأسلوب قريب من القارئ العادي.

والمطلوب من العبد المؤمن أن يُرضي ربَّه سبحانه، ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلتفت إلى هؤلاء الأئمة المضلين، ولا يهتمَّ لرضاهم أو سخطهم، وأن يوحد الله بالعبادة والإنابة والتذلل والخضوع، ولا يُشرك به شيئاً، لا ملكاً منزلاً، ولا نبياً مرسلاً، ولا ولياً صالحاً.

بيان أن الخلق مفطورون على التوحيد ونبذ الشرك

  في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول االله صلى االله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل فيها من جدعاء).

وأما قوله: (بهيمة جمعاء) فالجمعاء السليمة من العيوب، سميت بذلك لاجتماع سلامة أعضائها، لا جدع فيها ولا كي، كأنه صلى الله عليه وسلم شبه السلامة التي يولد عليها المولود من الاعتقادات الفاسدة بالبهيمة الجمعاء التي هي سليمة من العيوب ثم يطرأ عليها العيب بفعل يفعل فيها ، كما يطرأ إفساد الاعتقاد على المولود بالتربية التي ينشأ عليها.

قال القاضي عياض: وقوله: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحس فيها من جدعاء) أي تولد مجتمعة الخلق سالمة من النقص والتغيير، لم يلحقها جدع ، وهو قطع الأذن ولا غير ذلك، إلا بعد ولادتها.

ومعنى قوله (تحس) أي تجد، كما جاء في الرواية الأخرى (جدون)، يقال: حسست الشيء كذا و أحسسته: وجدته كذلك، يؤيد تأويل من تأول أن المراد بالفطرة ها هنا: ما فطر عليه العبد في أصل خلقه، وابتدائها قبل معرفته بشيء من قبل بني آدم، من التهيؤ لقبول الهداية والسلامة من ضد ذلك، حتى يدخل عليه من أبويه وقريبه، ما يغير من ذلك، ويحمله على ما سبق عليه في الكتاب، ويجعلانه يعمل بعمل أهل الشقاوة.

  • ومن الفوائد التربوية التي يمكن استنباطها من الحديث الشريف ما يلي :

- يولد كل مولود سليماً من الانحراف والنقص .

- وجود استعداد فطري في الإنسان لتقبل الإسلام، لذلك لا يجوز قتل أطفال الكفار بل ينبغي تربيتهم لإبقائهم على الفطرة .

- واجب على كل المربين المسلمين إحياء وتنمية الفطرة من خلال التربية الإسلامية الصحيحة.

- الأسرة لها دور عظيم في تشكيل شخصية الفرد .

- تعرض الفطرة للتغيير بسبب التربية الفاسدة .

إن فطرة الإنسان تقتضي استقامة سلوكه وفكره ومعتقده، لا سيما إذا تهيأت للإنسان بيئة صالحة تحافظ على سلامة الفطرة وتوجهها نحو طريق الخير وتكون الاستقامة في أصول الدين وفروعه ويتحقق ذلك بعبادة االله وحده لا شريك له، والتمسك بما جاء في كتابه لأن هذا الطريق المستقيم؛ قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} /النساء: 175/. والاستقامة بالتوجه إلى الله وحده، وبأداء العبادات مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج والبعد عن الشرك وأسبابه المؤدية إليه، والدعاء والتضرع إلى الله عزوجل وحده، وطلب الهداية منه وحده، قال تعالى{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} /الفاتحة: 6/

وهذه الهداية تقتضي: الاستقامة في السلوك ويكون ذلك بتهذيب النفس، وتوحيد العبادة، والتقوى، والتوكل على الله عز وجل، والثبات على الحق ونصرة دين االله والصبر على الشدائد ، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } /هود: 112/ 

قال الحافظ ابن رجب رحمه االله: " أصل الاستقامة: استقامة القلب على التوحيد"، فمتى استقام القلب على معرفة الله وتوحيده، وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فان القلب هو ملك الأعضاء ،وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح :اللسان فانه ترجمان القلب والمعبر عنه





الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

الصارم المنكي في الرد على السُّبكي - محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة (ت 744 هـ)

الصارم المنكي في الرد على السُّبكي

تأليف الإمام العلامة المُحقق

 محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة (ت 744 هـ)

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب هو ردٌّ على السبكي الذي ردَّ على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة (شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور)، وذكر أنه سماه (شنِّ الغارة على من أنكر سفر الزيارة)، ثم زعم أنه اختار أن يُسميه (شفاء السُّقام في زيارة خير الأنام)، وهو كتابٌ اشتمل على تصحيح الأحاديث الموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة، وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة؛ بالإضافة إلى خلط الأقوال، وتزوير المقالات وعدم ضبط محال النزاع. 

ومع ذلك كله نجد أن "ابن السُّبكي" لا يفرق بين السفر لزيارة القبور، وبين زيارتها بلا سفر، وهو محور هذا الكتاب، ورحاه التي يدور حولها، وفرقٌ بين الزيارة المشروعة التي يُسنُّ فيها السَّلام على الميِّتِ، والدعاء له، وبين الزيارة البدعية التي تتتضمن الشرك بالله عز وجل، وسؤال الأموات، والإقسام بهم، أو الدعاء عندهم فهذه بدعٌ ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يكن شيءٌ من هذايفعله أحد من سلف الأمة لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك.

وذكر ابن عبد الهادي أن الداعي لهذا التأليف، هو الذبُّ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنه لم ينهى عن السفر إلى مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، أو زيارة القبر الشريف تبعاً.

 وفيه بيان ما انطوى عليه ابن السُّبكي من الهوى والتعصُّب، والتدليس وسوء الأدب في الأجوبة والرد، والاحتجاج بما ليس بحجة، وتكثير الكلام بالظلم والعدوان، والجور في الأحكام حين تأليفه ذلك الكتاب، وذكر شواهد تثبت ذلك، منها تغليط بعض الأئمة الكبار من الشافعية، وافترائه الكذب على ابن تيمية، والخطأ والخبط، والتخليط، والغلو، والتشنيع، والتلبيس.

فإن أصل الزيارة لم ينكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وإنما أنكر الزيارة المبتدعة المتضمنة لترك المأمور وفعل المحظور، وأما الزيارة الشرعية فلم ينكرها، بل ندب إليها بل حض عليها، ودعا إليها، ويأبى الله عز وجل إلا أن يُعلي منار التوحيد، ويدحض شُبه الباطل، فلله الحمد أولاًَ وآخراً.

 يظهر في هذا الكتاب كيف أن المعترض (المستأخر) ابن السُّبكي يتمسك بالأمور المتشابهة الخفية، ويعرض عن الأشياء المحكمة الصريحة الواضحة، كما يظهر اعتماده على الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، وتحريف كلام الأئمة، ومعلومٌ أن الخبر المتشابه لا يدل على المطلوب، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاع الدين وإرشاد المسلمين.

ويذكر ابن عبد الهادي أن سبب تأليف ابن السُّبكي لهذا الكتاب هو التزلُّف إلى أحد قضاة مصر وكان أحد أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية المشهورين؛ فيقول: "ولقد أخبرني الثقة أنه ألف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة؛ ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب، ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين".

ولا شك أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنةٌ مجمع عليها بين المسلمين وفضيلة مرغب فيها، وهذا الإجماع حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى، كما حكاه شيخ الإسلام أيضاً، في غير موضعٍ من كتبه، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين أهل العلم،  وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار -رحمه الله -المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وهو الذي اختاره القاضي عياض مع حكايته هذا الإجماع.

وكذلك؛ فإن الإنسان إذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم استحب له أن يفعل فيه ما يشرع له: من الصلاة فيه، والصلاة على الرسول والتسليم والثناء عليه، ونشر فضائله ومناقبه وسننه، وما يوجب محبته وتعظيمه والإيمان به وطاعته، وهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية والسفر إلى مسجده للصلاة فيه، لا أن يقصد بزيارته أن يدعو مخلوقاً من دون الله، أو يعتقد أن الدعاء عندها أو بها أفضل من غيرها من البقاع؛ لأن هذا من الشرك المُحرَّم.

فكل زيارةٍ تتضمن فعل ما نهى عنه، وترك ما أمر به؛ كالتي تتضمن الجزع وقول الهجرة، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك أو دعاء وترك إخلاص الدين لله فهي منهيٌّ عنها، وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى، ولا يجوز أن يصلي إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) رواه مسلم في صحيحه.

فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية التي بيَّنت زيارة القبور وما يُشرع فعله عندها، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجتمع عليه من المتنازع فيه.

وقد تضمن هذا الكتاب خمسة أبواب، وهي كما يلي:

الباب الأول: الجواب على خمسة عشر استدلَّ بها ابن السُّبكي في كتابه "شفاء السُّقام"، وفيه بيان أنها أحاديث ضعيفةٌ واهية، أو موضوعةٌ مكذوبة، وأنها لا تدلُّ على مراد ابن السُّبكي، وكانت مناقشات هذا الباب حديثية محضة.

أما الباب الثاني: ففيه ذكر الأخبار والأحاديث التي تدل على فضل الزيارة وإن لم يكن فيها فيها ذكر لفظ زيارة القبر.

وأما الباب الثالث؛ ففيه ذكر ما ورد في السفر إلى زيارته صلى الله عليه وسلم صريحاً، وبيان ضعف هذه الآثار، وهي:

أولاً: قصة بلال بن رباح في سفره لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: قصة إرسال عمر بن عبد العزيز البُرُد للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: قصة ذهاب عمر بن الخطاب وكعب الأحبار لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: قصة زيارة زياد بن أبيه لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: في قصة العتبيِّ، والجواب عليها.

وفي الباب الرابع: بيان ما جاء في نصوص العلماء من استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين.

أما الباب الخامس ففيه ردُّ بعض الشبهات الركيكة التي ذكرها (ابن السُّبكي) مما يلبس به الفهم على القارئ، وينسب الأقوال إلى غير أصاحبها على طريقة التدليس والتمويه، والغلو في التكفير والتفسيق، ومن يطلع على هذا الفصل من كلام ابن السُّبكي، وما أورده ابن عبد الهادي من اعتراضات ذلك المستأخر بتبين له عظيم فرية ابن السُّبكي، وقلة إنصافه وضعف تحقيقه، وقد فضح نفسه باتباعه للهوى في هذه القضية، وقد كفانا مؤنة الرد عليه.

ولذلك قال ابن عبد الهادي في إحدى أجوبته عليه: وأعلم أن هذا المعترض من أكثر الناس تلبيساً وخلطاً للحق بالباطل، ولهذا قد يروج كلامه على كثير من العوام والمبتدعة. وقال أيضاً: ولو نوقش هذا المعترض على جميع ما يقع في كلامه من الدعاوي والخلل واللفظ المجمل لطال الخطاب، ولكن التنبيه على بعض ذلك كاف لمن له أدنى فهم وعنده أدنى علم.

وقال ابن عبد الهادي رداً على ابن السُّبكي الذي زعم أن ابن تيمية يُحرم زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "وليعلم: قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها، ولم يكرها بل استحبها، وحض عليها. ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور"، ونقل بعض ألفاظ ابن تيمية وعباراته في بعض كتبه التي تؤيد كلامه.

بعض الجمل التي ذكرها ابن عبد الهادي

في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية

 1- قال ابن عبد الهادي رحمه الله: "وإنما تكلم (يعني شيخ الإسلام) عن مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين؛ وهما القول بالإباحة كما عند بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والقول بالمنع وهو قول جمهور الفقهاء، واتفق عليه الأئمة الأربعة".

2-وقال في التفريق بين مسألة الزيارة ومسألة السفر للزيارة: "والسفر إلى زيارة القبور مسألةٌ، وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة جعلها مسألة واحدة وحكم عليهما بحكم واحدٍ، وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما"، وهو ما فعله ابن السُّبكي في كتابه (شفاء السُّقام).

3-واستدل شيخ الإسلام رحمه الله في تحريم شدِّ الرحال إلى زيارة القبور عموماً؛ بحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)/متفق عليه/ وهذا خبرٌ يُفيد النهي، ويؤيد ذلك حديث ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)؛ فرواه بصيغة النهي.

ثم قال ابن عبد الهادي: "هذا هو الذي فعل الشيخ (يعني ابن تيمية): حكى الخلاف في مسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته، فأي عتب عليه في ذلك؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى"

4- وبيَّن رحمه الله أن السفر لقصد القبور لم يكن معروفاً عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقال: "فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة، بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبل الخليل صلى الله عليه وسلم: وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس، ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سفر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره؛ كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربه للغرباء فهو قربة لأهل المدينة كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع، وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن قربة لغيرهم كاتخاذ بيته عيداً، واتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهي عنه الغرباء، كما ينهىلا عنه أهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين".

قال: "وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الداروردي، عن سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فناداني فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام مثل معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل، ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع".

5- وشرع ابن عبد الهادي بذكر مقالة ابن السُّبكي في كتابه "شفاء السُّقام" والتي شنَّع فيها على شيخ الإسلام ابن تيمية، وتحامل عليه فيها بغير وجه حق؛ كأنه لم يقرأ ولم يبحث في كلام الأئمة من قبله في بيان ضعف ونكارة أحاديث الزيارة؛ وردِّ ابن عبد الهادي عليها، ومن ذلك قول ابن السُّبكيّ: "أما استحي من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المقالة (وهي تضعيف أحاديث الزيارة) التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث، ولا من غيرهم…" إلى أن قال:"فكيف يستجيز مسلم؟! أن يطلق على كل الأحاديث التي هو واحد منها أنها موضوعة، ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله، ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً فكيف وهو حسن، أو صحيح".

6- وردَّ عليه ابن عبد الهادي مقالته تلك؛ فقال: "هذا كله كلام المعترض، وهو متضمن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم… وحديث (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وهو أمثل حديثٍ ذكره في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم…".

7-وقال ابن عبد الهادي مؤكداً صحة مقالة شيخ الإسلام ابن تيمية، والتي استنكرها ابن السُّبكي: "وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم إنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع، كما أشار إليه شيخ الإسلام…".

8- وتنزَّل ابن عبد الهادي بفرض صحة هذا الحديث الذي أورده في مطلع رسالته (شفاء السُّقام) وبيَّن له أنه لا يصحُّ دليلاً له: "ولو فرض أن هذا الحديث المذكور صحيح ثابت لم يكن فيه دليل على مقصود هذا المعترض، ولا حجة على مراده… فكيف وهو حديث منكر ضعيف الإسناد واهي الطريق، لا يصلح الاحتجاج بمثله، ولم يصححه أحد من الحفاظ المشهورين ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين".

وقال في موضعٍ آخر: "وقدِّر أن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة المشهورة المتلقاة بالقبول، لم يكن فيه دليل إلا على الزيارة الشرعية؛ وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام ولا يكرهها بل يندب إليها ويحض عليها ويستحبها، وقد نصَّ على ذلك في الجواب الباهر في زيارة المقابر".

9- وبين ابن عبد الهادي ضعف مسلك ابن السُّبكي في الاحتجاج بالأحاديث التي أوردها في هذا المقام؛ ومثال ذلك الحديث الذي جاء من رواية عبد الله بن عمر العمري، فادعي ابن السُّبكي أنه من رواية أخيه عُبيد الله؛ وأوضح أن أكثر الحفاظ يُضعفونه من قبل حفظه، ويذكرون أنه يروي المناكير، وكذلك الراوي عنه موسى بن هلال المنكر الحديث، مع ذكر تفرده به عنه؛ ثم قال: "فهل يشك من له أدى علم في ضعف ما تفرد به ورده وهل يجوز أن يقال فيما روياه من حديث منفردين به أنه حسن أو صحيح؟ وهل يقول هذا إلا رجل لا يدري ما يقول".

10- ثُمَّ قال ابن عبد الهادي مُشنِّعاً على ابن السُّبكي تفرُّده بتحسين هذا الحديث دون من سبقه من الأئمة الجبال، الذي لم يبلغ شأوهم ولا علمهم، وهذا يدلُّ على قلة بضاعته في هذا الشأن: "وقد تفرد هذا المعترض على شيخ الإسلام بتحسينه أو تصحيحه وأخذ في التشنيع والكلام بما لا يليق الذي بقدر آحاد الناس على مقابلته بمثله وبما هو أبلغ منه، وجميع ما تفرد به هذا المعترض من الكلام على الحديث وغيره خطأ فاعلم ذلك".

وأجاب على المعترض بأن هذا الحديث رواه أحمد في المسند، وهو لا يروي إلا عن الثقات، وبيَّن أن ذلك غالب الأمر، وقد يروي عن الضُّعفاء، وهذا منه.

11- ثُمَّ نقل كلام ابن تيمية في "الزيارة المشروعة"، وبيَّن أن المساجد الأخرى غير الثلاثة لا يُستحبُّ شدُّ الرحال إليها، ولا مشروعاً باتفاق الأئمة الفقهاء، وأشار إلى خلافٍ شاذ لليث بن سعد في المساجد، وخلافٌ آخر لابن مسلمة من المالكية في شد الرحال لزيارة قباء، وبين أنهم اختلفوا في نذر الذهاب إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة، فكيف بشدِّ الرحال إلى قبرٍ من القبور ابتداءً؛ يقول رحمه الله فيما نقله عنه ابن عبد الهادي: 

"ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي، أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذر باتفاقهم" أي باتفاق الأئمة، ونقل التصريح بذلك عن الإمام مالك، ولم يُخالفه أحدٌ من أئمة الفقهاء، ولا أحدٌ من أئمة المسلمين، بل ولم يفعله أحدٌ من الصحابة الكرام.

12- وأوضح أن الخلاف إنما نشأ عند أصحاب هؤلاء الأئمة؛ فاختلفوا في زيارة القبور بين الإباحة التي لا أجر فيها، وبين التحريم الذي يأثم صاحبه، وأظهر قوليهم عند التحقيق هو التحريم؛ لأن السفر إلى القبور إنما يُقصد به العبادة من تذكر الآخرة والدعاء للأموات.

والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب؛ وليس الأمر متعلقاً بمجرد الزيارة، بل الحكم مُتعلقٌ بشدِّ الرحال، وإعمال المطي بالسفر.

قال ابن تيمية: "وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر، ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا سلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر، ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته، وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له".

13- وقال أيضاً مُبيناً وجه الإنكار الذي توجَّه إليه التحريم: "وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتى القبر، ثم رجع، فهذا هو الذي أنكر الأئمة؛ كمالك وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع (يعني عند المتأخرين من الفقهاء): هل هو حرام أو مباح، وما علمنا أحد من علماء المسلمين استحب مثل هذا". 

قال رحمه الله: "والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد، وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين، قد ذكرت هذا في (المناسك) وفي (الفتيا)".

14-ثم قال الإمام ابن عبد الهادي مذهب شيخ الإسلام في الزيارة: "ولو فرض أن هذا الحديث المروي عن عبد الرحمن بن زيد في الزيارة من الأحاديث الصحيحة المشهورة: لم يكن فيه دليل على غير الزيارة على الوجه المشروع، وقد علم أن الزيارة نوعان: شرعية، وغير شرعية، فالشرعية لم يمنع منها شيخ الإسلام ولم ينه عنها في شيء من فتاويه ومؤلفاته ومناسكه، بل كتبه مشحونة بذكرها، ومن نسب إليه أنه منع منها أو نهى عنها، أو قال هي معصية بالإجماع مقطوع بها فقد كذب عليه وافترى وقال عنه ما لم يقله قط".

15- وقال أيضاً، نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة القبر. أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل يذكرون المدينة وفضائلها، وأنها حَرم ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك نحو ذلك من المسائل، ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره، فليس في الصحيحين وأمثالها شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي، وأحمد وإسحاق ونحوهم من الأئمة.

ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه لم يقدر أحد منهم على أن يستدل في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف بل موضوع مكذوب، وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين.

فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال: يستحب السفر إلى مجرد زيادة القبور ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا السفر لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بدون الصلاة في مسجده.

بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه، وهي الأمهات كالصحيحين ومسانيد الأئمة وغيرها وفيما ذكر السلام عند الحجرة كما جاء عن ابن عمر، وكما فهموه من قوله، وفيها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده، وفيها ما يطلق فيه زيادة قبره ويفسر ذلك بإتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه.

وأما التصريح بالسفر لاستحباب زيارة قبره دون مسجده، فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين ولا رأيت أحداً من علمائهم صرح به.

وإنما غاية الذي يدعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين، مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرّح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة، أو أن السفر إلى غيرها منهي عنه، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد.

17-وقال ابن تيمية في جواب المعترض على إيراد بعض الفقهاء للفظ (الزيارة) في متونهم الفقهية؛ فيقول: "ولكن قد يقال إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة فيُقال، هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور، ولم يكن أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك، لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه… ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح فتركب من إجمال اللفظ"، ثم أشار إلى مذهب أهل التحقيق في ذلك: "ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له، وثناء عليه في مسجده، سواء كان القبر هنالك أولم يكن".

18-وقال في معرض بيان تلبيس وكذب ابن السُّبكي على شيخ الإسلام: "وإني لأتعجب من هذا الرجل المعترض كيف يرتكب مثل هذا التخليط في الكلام والتلبيس في القول بعد التعب العظيم والكدح الكثير، ثم يزعم مع هذا أن كلام شيخ الإسلام مشتمل على التخليط وعدم البيان وتبعيد المعنى عن الأفهام… وقد علم الخاص والعام أن كلام شيخ الإسلام في سائر أنواع علوم الإسلام فيه من التحرير والتحقيق وغاية البيان والإيضاح وتقريب المعاني إلى الأفهام وحسن التعليم والإرشاد إلى الطريق القويم ما يضيق هذا الموضع من ذكره.ويمكن الإنسان أن يقابل هذا المعترض على ما في كلامه من الكذب وسوء الأدب بأضعاف ما قاله ويكون صادقاً في قوله مصيباً في عمله، وليس المقصود هنا مقابلته على ما في كلامه هذا من الجور والعدوان والظلم، وإنما المراد تبين خطئه في الكلام على حديث حفص بن سليمان المذكور، وما وقع منه من التخليط والتلبيس وقد حصل ذلك ولله الحمد".

وقال أيضاً في وصف طريقة ابن السُّبكي عند كلامه على الحديث الخامس: "انتهى كلام المعترض على هذا الحديث وهو كما ترى ملفق مزوق غير محقق ولا مصدق، بل فيه من الوهم والإبهام والتلبيس والخبط والتخليط ودفع الحق وقبول الباطل ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى".





الأحد، 27 ديسمبر 2020

من عاش بعد الموت -أبي بكر عبيد الله بن أبي الدنيا (ت 281 هـ)

من عاش بعد الموت

للإمام الحافظ الزاهد

أبي بكر عبيد الله بن أبي الدنيا (ت 281 هـ)

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ إن البعث بعد الموت ركن من أركان الإيمان، لا يتمُّ إيمانُ عبدٍ إلا به، وقد ضرب الله تبارك وتعالى أمثالاً كثيرة في القرآن، تدلُّ على قدرته سبحانه على البعث بعد الموت؛ فقال: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} /الإسراء: 49 -51/

 وقصَّ علينا القرآن أحداثاً واقعية؛ مثل قصة البقرة مع قتيل بني إسرائيل: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } /البقرة: 73/، وقصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} /البقرة: 259/.

وسؤال إبراهيم ربه كيف يحيي الموتى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} /البقرة: 260/، وكما في إحياء عيسى للموتى في الدنيا بإذن الله، وغيرها مما ورد في القرآن والسنة الصحيحة.

وهذا كتاب عجيب غريب، يذكر فيه ابن أبى الدنيا قصص من مات، ثم عاد إلى الحياة مرة أخرى، وبعض من تكلم بعد موته. ويسوق في ذلك الكثير من القصص الدالة على هذا المعنى، وهي قصص تشبه الاقتراب من الموت، أو فقدان الوعي ومغادرة الروح للجسد بصورة حقيقية، ثم عودتها إليه مرةً أخرى لأن الأجل لم يأتي بعد.

ويؤكد هذا ما ذكره عشرات الأشخاص الذين كانوا على وشك الموت، وعادوا مرةً أخرى إلى الدنيا؛ ليُخبرونا بحياة أخرى غير التي نحيا، وهي حياة البرزخ التي لم يحن لهم دخولها بعد، وقد أثبتت الدراسات أن كثيراً من هؤلاء يدخلون في هذه الحالة وأدمغتهم تعمل بشكلٍ جيد، وهذا يعني أنها تجارب حقيقية تحدث في حالة وعيٍ كامل لأصحابها.

ومع اختلاف الروايات التي يذكرها هؤلاء الموتى العائدون إلا أنها تتفق بشكل كلي أو جزئي في بعض التفاصيل، وهو ما يثريه كتاب ابن أبي الدنيا، وقد يرى بعض هؤلاء مصيرهم، والأشخاص الذين غادروا قبلهم في ذلك العالم البرزخي الغامض، وأكثر هذه التفاصيل تكراراً، هو انطلاقهم بسرعة هائلة في نفق طويل ضيق مظلم، ليجد الشخص نفسه فجأة خارج جسده ولكن بإدراك تام لمحيطه.. بعدها تبدأ مرحلة تأقلم بطيئة لفهم واستيعاب الوضعية الجديدة مع الوعي بامتلاك جسد، لكنه مختلف عن الجسد المادي.

 وأكثر العائدون من الموت يحكون اقترابهم من "حاجز رمزي" أو نقطة حرجة، تفصل بين الحياة والموت، مع العلم أن اجتياز هذه النقطة يعني اللاعودة، وهذه حقيقة نؤمن ونصدق بها.

 ومع إيماني بأن بعض هذه القصص التي ذكرها ابن أبي الدنيا حقيقية وواقعية لا سيما ما جرى لأنبياء الله من المعجزات، ولكن كثيراً منها لا حقيقة لها، لأن ابن أبي الدنيا لم يلتزم الصحة فيما يورده من آثار، بل أورد الضعيف والواهي، والموضوع، وخلط بين المرفوع والموقوف والمقطوع.

وقد بلغت عدد الآثار الواردة في الكتاب (63) أثراً مُسنداً، وألحق المحقق ما ذكره ابن الجوزي في كتابه "النطق المفهوم من الصمت المعلوم"، وفيه الكثير من الروايات الباطلة والمبالغ فيها، والتي لا تمتُّ إلى الواقع ولا إلى الحقيقة بصلة، وعدتها (60) أثراً؛ فيكون مجموع الآثار المذكورة في هذا الكتاب (123) أثراً.

وبالجملة فالكتاب هو كتاب وعظ واعتبار وتذكير، ولا يُعتمد عليه في باب الاعتقاد والتشريع، وأسانيده ليست نظيفة، وأكثر قصصه إنما هي عن بني إسرائيل وأنبيائهم وما جرى لهم من وقائع وأحداث عجيبة، والغرض الرئيس منه الحثُّ على الزهد في الدنيا، وعدم الاغترار بها، والصبر على لأوائها، وترك الحرص والطمع، والرضا بقسمة الله تعالى.

حديث: (يتكلمُ رجلٌ من أمتي بعد الموتِ من خيرِ التابعينَ)

قال ابن أبي الدُّنيا: حدثنا سريج بن يونس، قال: حدثنا خالد بن نافع، قال: حدثنا علي بن عبيد الله الغطفاني، وحفص بن يزيد، قالا: بلغنا أن ابن حراش.  قال: فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: صدق أخو بني عبس رحمه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يتكلم رجل من أمتي بعد الموت من خيار التابعين». ومن طريقه البيهقي في "الدلائل".

وفيه خالد بن نافع الأشعري: قال أبو داود: متروك الحديث، وقال النسائي: ضعيف، وعلي بن عبيد الله الغطفاني، ذكره الفسويُّ في "المعرفة والتاريخ"، ولم يذكر فيه شيء، وحفص بن يزيد لا نعرفه، وقد رواه بلاغاً عن ربعي بن حراش.

وأخرجه البيهقي في "الدلائل"، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش. عن عائشة، قالت: «قد بلغنا أنه سيكون في هذه الأمة رجل يتكلم بعد موته».

موقوفٌ على عائشة، وهو الأصح، وأما رفعه فلا يصح.

وأخرجه البيهقيُّ أيضاً في "الدلائل"، قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن السراج، حدثنا مطين، حدثنا إبراهيم بن الحسن التغلبي، حدثنا شريك، عن منصور، عن ربعي، عن عائشة قالت:  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أمتي من يتكلم بعد الموت».

وإبراهيم بن الحسن التغلبي، قال فيه أبو حاتم: شيخ، وشربك بن عبد الله: ضدوقٌ يخطئ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الذهبيُّ: لا بأس به.

وأخرجه أبو نُعيم في "الحلية"، و"دلائل النبوة" قال حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم، ثنا علي بن العباس البجلي، ثنا جعفر بن محمد بن رباح الأشجعي، حدثني أبي، عن عبيدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش. (ح) وحدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن قال: ثنا محمد بن يحيى بن سليمان، قال: ثنا عاصم بن علي، قال: ثنا المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش.

ثم قال أبو نُعيم: هذا حديث مشهور؛ رواه عن عبد الملك بن عُمير جماعة منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وزيد بن أبي أنيسة، والثوري، وابن عيينة، وحفص بن عمر، والمسعودي، ولم يرفعه أحدٌ إلا عبيدة بن حميد، عن عبد الملك، ورواه المسعودي نحوه في الرفع.

قال السيوطيُّ في "الخصائص": له طرق، وقال شعيب الأرناؤوط في "تخريج سير أعلام النبلاء" (٤‏/٣٦١): رجال إسناده ثقات لكن ليس فيه المرفوع، وهو الأصح؛ فقد رواه عن عبد الملك غير واحد فما رفعه.

ولا شكَّ أن هذا الأمر قد يحصل لبعض الناس؛ ليكون عظةً وعبرةً لغيره، فيرى مقعده من الجنة أو النار، فيُحدث به أصحابه ثُمَّ يعود إلى حالته الأولى من الموت والسكون.

والذين ذكرهم ابن أبي الدنيا في كتابه قسمان:

القسم الأول: من عاش بعد وفاته: ممن لم يحن أجلهم بعد، ولكنهم شاهدوا بعض الأمور التي تكون بعد الموت، وبعد عوتهم استمروا في الحياة مدة، وفيهم الرجال والنساء، وقد أخبروا عن بعض ما رأوه ووجدوه من ثواب أعمالهم.

القسم الثاني: من تكلم بعد وفاته: ولعل هذا يكون وهو في سكرات الموت، قبل خروج الروح؛ لأن غالب ما يُخبر به هؤلاء المتكلمون هو عن مشاهد غيبية، فيُخبرون عن الجنة والنار وأحوال الشهداء، وفيه أن بعض الرافضة يرون العذاب الأليم ويخبرون به عند احتضارهم، 



التحميل: اكتمل تحميل 337814 من 337814 بايت.


السبت، 26 ديسمبر 2020

عقائد الصُّوفية -محمود يوسف الشُّوبكي

عقائد الصُّوفية

محمود يوسف الشُّوبكي

قسم العقيدة والمذاهب الفكرية -كلية أصول الدين

الجامعة الإسلامية -غزة

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ أبى الله عز وجل أن يقبل من صاحب بدعةٍ عملاً حتَّى يدع بدعته، مهما كانت تلك البدعة صغيرة، ومهما حاول أصحابها تقليلها في أعين الناس، فإنها عند الله كبيرة من الكبائر، وما أحطَّ همة المتصوفة حينما يعترضون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُلقون كلامه وراء ظهورهم كأنهم لم يسمعوه، وإذا سمعوه ألقى إليهم الشيطان بحبال التأويل والتزييف، بل يستكثر غلاتهم أن يرد هذا الحديث فيهم، ويتعجبون إذا أنكرنا عليهم ضلالهم وبدعتهم، ويرون ذلك غيبةً لهم وأكلاً للحومهم، وما دروا أن افتراءهم على الله أعظم من هذا الطعام المباح، وإنما هذا القول منا نصيحةٌ لله أولاً، ولعباد الله ثانياً؛ لئلا يغتروا بهؤلاء المخانيث!!.

 وكيف يعجب هؤلاء الكذبة وغيرهم من قولنا فيهم، وتحذيرنا منهم، وهم مثار شرٍّ كبير سرى إلى الأمة؛ ففرق جمعها، ومزَّق كلمتها، وهم الذين يواصلون الليل بالنهار افتراءً على علماء أهل السنة الأكابر: قدحاً، وذماً، وتشنيعاً، وافتراءًا، وقد أساءوا الأدب مع الجناب النبويِّ الكريم، وهم الذين يُزهدون أتباعهم في طلب العلم، ويشغلونهم بالأناشيد الشركية، والسحر، والكفر بالله وبآياته، ويُضللون الأمة بالبدع العملية ويشغلونها فيما لا فائدة فيه من الرقص والاهتزاز والطرب؛ حتى زعم كهنوتهم أن الاشتغال بالعلم بطالةٌ وجهالة، وأن بإمكانهم الاستغناء عن وحي الأنبياء وعلوم الكتاب.

ولما تجرد هؤلاء الظالمين من العلوم الشرعية، حلَّت في قلوبهم العلوم الشيطانية، التي تأتيهم في حالة الغيبوبة والسُّكر إما كشفاً أو ذوقاً أو إلهاماً، وربما يجدونها في المنامات والأحلام، أو وجداً يتسلط به الشيطان على عقولهم، وكل ذلك بلا واسطة؛ فتوحي إليهم الشياطين بالأوهام والتخييلات حتى أخبر بعضهم أنهم يُخاطبون النجوم، ويصافحون الملائك، ويقطعون القفار، ويطوفون بالعرش، ويجتمعون بالخضر.. وهلم جرا. ولذلك كله فأنت ترى بضاعتهم القليلة في العلم، ونفاقهم الظاهر في الآفاق.

وأما علماء أهل السُّنة النبلاء، فلم يرتضوا لأنفسهم طريق هؤلاء الكسالى ولم يسكتوا على طريق أهل البطالة والجهالة، بل اشتغلوا بطلب العلم والدراسة والكتابة والحفظ، فحفظ الله بهم الدين والإسلام، وجعلهم سداً منيعاً في وجوه المبتدعة الذين يوالون اليهود والنصارى، ويُحاربون أهل السُّنة ودعاة التوحيد.

وإذا تأملنا أحوال هؤلاء الفجرة رأينا صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؛ ونقرأ قول الله عز وجل: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } /الزمر: 3، 4/ فما أبعدهم عن الحق، وما أحطَّ نفوسهم؛ إذ باعوها بأبخس ثمن في أبخس مطلوب.

وفي هذا الكتاب بيان عقيدة "وحدة الوجود" عند غلاة المتصوفة والتي تعني أن الخالق والمخلوق شيءٌ واحد، وأن الله حل في المخلوقات، واعتقادهم أن الله والطبيعة حقيقة واحدة أو شيءٌ واحد، وأنه سبحانه- تعالى عما يقولون علواً كبيراً- صورة هذا العالم المخلوق، وهذه العقيدة هي أعلى درجات المعرفة عندهم، وهي الحقيقة المكتومة، وسرُّ الأسرار الذي ينطق به أربابهم وأصنامهم، وزورها معتقداً لأهل الإسلام، والإسلام منهم ومنها براء. وقد راعى الباحث الترتيب الزمني لظهور هؤلاء الغلاة، وطريقتهم في نشر اعتقاداتهم الفاسدة.

ولكن أهل السُّنة والجماعة يقولون: الله عز وجل فوق عرشه بائنٌ من خلقه، وهو الخالق الرازق المُدبر، وما سواه مخلوق مربوب، فليس في الله شيءٌ من خلقه، ولا في خلقه شيءٌ منه، وذلك معلومٌ من دين الله بالضرورة، وكل من قال بالحلول والاتحاد؛ فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ وقد أكفر الله من اعتقد حلوله في عيسى عليه السلام، وهو نبيٌّ كريم، فكيف بمن يعتقد حلول الله في ذاته، أو في آحاد الناس، أو في الحيوانات أو في الأرجاس.. لا شكَّ أن كفر هذا أعظم وأكبر عند الله.

وحيث أن هؤلاء الأغرار يزعمون أنهم على الكتاب والسُّنة، ويرون فضيلة ما هم عليه من الضلال والخسران، قلنا لهم: من ادَّعى ما ليس فيه كذبته شهود الحال، ويكفي اللبيب ما يراه من أحوالهم وضلالهم وخصالهم الذميمة من الغدر والفجور والخيانة،

وأما حكم هؤلاء الذين يقولون بوحدة الوجود؛ فقد أجمع العلماء على كفر من اعتقد بهذه العقائد، ومن ذلك ما قاله القاضي عياض في كتابه "الشفاء": "أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول، ومن ادّعى حلول الباري سبحانه في أحدٍ من الأشخاص كقول بعض الصوفية، والباطنية، والنصارى، والقرامطة".

  • وهذا الحديث يتناول أربع قضايا مهمة، وهي:

1. عقيدة الحلول والاتحاد عند الصُّوفية.

2. الكشف عند الصُّوفية.

3. عقيدة الصوفيين في الرسول (الحقيقة المُحمدية).

4. الفناء عند الصُّوفية.

مباحث الدراسة

* المبحث الأول: وحدة الوجود، ونماذج القائلين بها، والرد عليهم، والمحاذير المترتبة على قولهم.

* المبحث الثاني: عقيدة الحلول والاتحاد، والقائلين بها، والرد عليهم.

* المبحث الثالث: المعرفة (الكشف) عند الصوفية، والرد على القائلين بها.

* المبحث الرابع: عقيدة الصوفية في (الرسول)، والرد عليهم.

* المبحث الخامس: عقيدة (الفناء) عند الصوفية، وأنواعه، وحقيقته.

عقيدة وحدة الوجود والحلول

وهذه العقيدة الوثنية ظهرت عند الهنود القدماء من الهندوس والمانوية، والزرادشتية؛ حيث ورد في كتابهم المقدس "ريج فيدا"، والذي يرجع إلى (3100 سنة)، وقد ظهر أيضاً عند فلاسفة اليونان، والنصارى، وبه قال الرواقيون، في العام (200 ق. م)، وكذلك قال به أفلوطين اليوناني الذي عاش بين عامي (205 -270 م)،  وقبله سقراط الذي توفي سنة ( 399 ق. م)، وفي المتأخرين الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (ت 1677 م)، وبذلك تكون هذه العقيدة معروفة في البشرية زمن فلاسفة اليونان القدماء، وظهرت كذلك عند قدماء المصريين.

والحلول أخو الاتحاد ويتضمن المعنى العام لوحدة الوجود، ويُقصد بالحلول: حلول الإله في بعض أفراد البشر، وأول القائلين به هم النصارى النسطورية، الذين زعموا أن اللاهوت حلَّ في الناسوت، ويقصدون بذلك أن الله تعالى حلَّ في عيسى عليه السلام كحلول الماء في الإناء. وكذلك الملكانية من فرق النصارى الذين قالوا: إن الله مازج جسد المسيح كما يمازج الخمر اللبن، وبذلك قال غلاة الشيعة والمتصوفة.

أما الحلوليون وأهل وحدة الوجود؛ فكان أول انتشارهم في هذه الأمة في زمن المأمون، ومن السابقين الذين قالوا به غلاة الشيعة كالسبئية الذين زعموا أن علي بن أبي طالب هو الله! وكذلك من جاء بعدهم من الباطنية النصيرية، وكذلك الفاطميين الذين زعموا أن الله حل في الحاكم بأمر الله الفاطمي، وزعم غلاة الصوفية أن الله حل في أوليائهم ومشائخهم.

 ومع أن كثيراً من الصوفية القدماء صرحوا بعبارات إلحادية تنم عن القول بوحدة الوجود، والاتحاد كأبي يزيد طيفور بن عيسى البسطامي (ت 261 هـ)، والحسين بن منصور الحلاج المقتول بالزندقة سنة (309 هـ)، والذي صرَّح ببراءته من دين الله، وكفره به في كثيرٍ من عباراته وأقواله، لا سيما كتابه "الطواسين"، وكذلك أبو حمزة محمد بن إسماعيل الفرغاني الحلواني (ت 331 هـ) كان يُصرح بذلك؛ حتى أن الحارث المحاسبي أراد ذبحه.

 وانتشر القول بوحدة الوجود على يد الساحر الصوفي ابن عربي (ت 638 هـ)، وعبد الحق بن سبعين (669 هـ)، وقد أفاضوا في الحديث عنها، وجاءوا بالعجائب والبدع من الكلام الذي لا يشك معه عاقل في كفرهما.

ومن الذين قالوا بوحدة الوجود أبو حامد الغزالي (505 هـ)، كما في كتابه "مشكاة الأنوار"، ثم تاب من ذلك وأقبل على القرآن والحديث في آخر عمره، وعمر بن الفارض (632 هـ)، وقد أقرَّ قبل موته بأن ما كان يُنشده من أشعار في "الوحدة"، و"الاتحاد" إنما كانت أضغاث أحلام، وهباءٌ لا حقيقة له.

أما قطب الصُّوفية الاتحادية وختم الولاية ابن عربي (ت 638 هـ)؛ فهو الذي أعلن عن عقيدته في وحدة الوجود، وتابعه في ذلك محمد بن إسحاق القونوي (ت 673 هـ)، وكذلك سليمان بن علي، المعروف بعفيف التلمساني (ت 690 هـ)، وحكاياتهم في الزندقة مشهورة، وكذلك عبد الكريم الجيلي (ت 832 هـ) في كتابه "الإنسان الكامل".

 ومما قاله ابن عربي، الأبيات الشهيرة:

الربُّ حقٌّ، والعبدُ حقٌّ… يا ليت شعري من المُكلَّف

إن قلتُ: عبدٌ؛ فذاك ميتٌ … أو قلتُ ربٌّ أنَّى يُكلف

وهذا هو ابن عربي الذي قال عنه من حضر جنازته: رأيتُ جنازته كأنَّما ذُرَّ عليها الرماد، فرأيتها لا تُشبه جنائز الأولياء /ذكره ابن تيمية في "الفتاوى"، سبب ذلك أنه شاع صيته بين الناس بأقواله الدالة على عقيدته، وأبرز معتقداته القول بوحدة الوجود، فزهد الناس في تشييعه.

الرد على القائلين بوحدة الوجود

(1) ومن يعرف حقيقة هذا المذهب يعرف بطلانه ببدائه العقل، لأنه لا يُعقل أن يكون الإنسان هو الله، والحجر هو الله، والشجر هو الله، كما لا يُعقل أن يكون الإنسان هو الحجر، وهو الشجر؛ فشتان بين مخلوق ومخلوق، وشتان بين خالقٍ ومخلوق، وهذا أحرى وأولى.

(2) كذلك فإن ما جاءت به الأنبياء والرسل يقتضي المغايرة بين الخالق والمخلوق، وقد قال سبحانه وتعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} /الطور: 35/؛ فمن المحال أن يوجد الشيء من العدم، أو يوجد ذاته بذاته، فلا بُد للموجود من موجد، ولا بُد للمخلوق من خالق، ولا يُعقل أن يكون المالك هو المملوك، والرازق هو المرزوق، ولا العابد هو المعبود.

(3) كذلك فإن دعوة الأنبياء والرسل منصبَّةٌ إلى توحيد العبادة، ولذلك اشتدَّ نكيرهم على من عبد غير الله أو أمر بعبادة غير الله سبحانه؛ وهذا يدّلُّ على الفرق بين العابد والمعبود، قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} /الزمر: 64/، وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } /فاطر: 3/، وقال سبحانه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} /الزمر: 64/. 

(4) وقد أجمع المسلمون على مر العصور على أنَّ الله عز وجل هو الخالق، وأن ما سواه مخلوق، وأنه سبحانه لا يحلُّ في المخلوقات، ولا تحلُّ فيه المخلوقات، وأن الله تعالى فوق عرشه، بائنٌ من خلقه في ذاته، وصفاته، وأفعاله.

(5) والقول باتحاد الخالق والمخلوق مُحالٌ عقلاً؛ لأن في اتحادهما إما أن يتحولا إلى شيءٍ مغاير لهما، أو يبقيا كما هما؛ فلا يكونان متحدان، وبذلك بطل القول بوحدة الوجود، وإما أن يبقى أحدهما وينعدم الآخر فيه فليس اتحاداً ولا وحدة. وإذا انعدم أن يتحد العبدان المربوبان، فلا يصحُّ ذلك في حقِّ الخالق.

(6) أن مذهب الصوفية مُركّبٌ من سلب الجهمية وتعطيلهم، وتمثيل الاتحاديين وأهل الفلسفة، حيث زعموا أن الله عز وجل يحل في الأشياء، ولا شكَّ أن هذه زندقة وكقر، وقد صرَّح كثيرٌ منهم بالوجود المطلق، وأزلية الكون، بل وبقدم الطبيعة؛ فلازم قولهم تعدد الخالقين.

(7) القائلون بوحدة الوجود أكفر من اليهود والنصارى؛ لأن النصارى قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة! وقال اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه! وقال غلاة الصوفية: إن الله هو كل شيء، بما في ذلك الكفار والمنافقون، والأرجاس، والمجانين، والصبيان، بل وزعموا أنه يتجلى في صور العاشقات والمعشوقات، عياذاً بالله تعالى؛ فيكونون أكفر من اليهود والنصارى.

(8) تناقض الصوفية القائلين بوحدة الوجود؛ فقولهم إن الكون وما فيه من المخلوقات هي مظاهر الحق، لأن الموجودات "المظاهر" متعددة وليست شيئاً واحداً، فالمغايرة الواقعة حساً وعقلاً أوقعتهم في التناقض؛ فكيف تكون الزوجة هي عين الأم؛ وكيف أحلت هذه حرِّمت الأخرى، ومعلومٌ أن في الوجود الظالم والمظلوم؛ فكيف يُحاسب الظالم ولا يُحاسب المظلوم..

****

الآثار الخطيرة المترتبة على القول بوحدة الوجود

إن القول بوحدة الوجود له آثاره السلوكية والعقدية الخطيرة التي تُفسد المجتمعات وتُهلك الأمم، ومن هذه الآثار: 

(1) إبطال عقيدة التوحيد؛ لأن القول بوحدة الوجود لا يجتمع مع توحيد الخالق جل وعلا؛ لأنه لا فرق حينئذٍ بين الخالق والمخلوق، ولا فرق بين الموحد والمشرك، قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} /الأنعام: 14/ بالإضافة إلى تعطيل العبادة؛ فكل معبودٍ عندهم هو اله، وكل عابد هو الله، والمأمور به هو عين المنهي عنه؛ فلا عبادة ولا شريعة ولا قيود.

(2) إبطال عقيدة الولاء والبراء؛ لأن هذه العقيدة قامت على أن الدين عند الله الإسلام، وما سوى ذلك فليس ديناً عند الله، وهذا يعني تمايز المسلمين والموحدين عن غيرهم من المشركين، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وأما عقيدة وحدة الوجود؛ فقئمةٌ على موالاة كل شيء، وكل مخلوق، وعدم معاداة أحدٍ في الوجود؛ لأن كل ما في الوجود عندهم هو "الله"، وهذا كفرٌ بالله العظيم.

(3) تخطئة الرسل عليهم السلام؛ الذين دعوا إلى التوحيد، وجاءوا بالتكاليف والأحكام والحدود والجهاد، لأنه إذا كان الوجود واحداً، والمعبود واحداً مع تعدد صوره التي يُعبد فيها، فكيف قاتل الرسل أعداء الله؟ وكيف استباح الأنبياء وأتباعهم دماء الكفار ؟ وما موقف هؤلاء من التاريخ الإسلامي الطويل المليء بالجهاد في سبيل الله ؟ وما حكم من قتلوا بسبب كفرهم ؟! وما هو حكم قاتلهم ؟ بل وما فائدة وجود النار يوم القيامة ؟ ولماذا هناك جنة ؟ وما فائدة البعث ؟!ولا شكَّ أن مذهب أهل وحدة الوجود كفرٌ صريح، وضلالٌ مُبين.

(4) التسوية بين دين المسلمين ودين المشركين، بناءً على القول بوحدة الأديان، وقد صرَّح كثيرٌ من المتصوفة الأوائل بوحدة الأديان، حيث يزعمون أن الملل والأديان كلها صادرةٌ عن الواحد، وإن تعددت صوره وأشكاله، فلا فرق بين دين أنزله الله، ودين ابتدعه البشر، ما دام أن الله هو الوجود المطلق؛ فأفضل الخلق عندهم هو من عرف الحقيقة المتمثلة بوحدة الوجود، ولا يهم بعد ذلك أن يكون المؤمن بها يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً.

(5) إلغاء قانون الشريعة، من الحدود والأحكام، بحيث يُصبح الحرام كالحلال، والمحظور كالمباح، والماء كالخمر، والمحرمات كالأجانب، ولا فرق عندهم بين من واقع زوجته أو ابنته أو دابته، وقد بان ذلك في أشعار القائلين بوحدة الوجود، الذين يذكرون حانات الخمر، ومواخير الخطايا، وكنيس اليهود، وبيع النصارى، وبيوت الأصنام، ومساجد الله كلها مستوية في نظرهم! 

(6) إبطال الحكمة من الخلق؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} /الذاريات: 56/ فإذا كان القول وحدة الوجود يؤدي إلى إبطال التوحيد والعبادة؛ فما هي الحكمة من الخلق؟ والله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً؛ قال تعالى: {فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} /المؤمنون: 115/، والحق أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، وخلق الجنة ليثيب أولياءه، وخلق النار ليُعاقب أعداءه. وإذا كان المخلوق الناقص يترفع عن العبث، ويحرص أن تكون أفعاله مبنية على حكمةٍ وغايةٍ سامية؛ فكيف بالخالق الذي يتصف بكل كمال، ويتنزه عن كل نقص، فهو أولى بذلك الكمال.

(7) إعانة أعداء الإسلام على إلغاء مفهوم الجهاد من قاموس الأمة، وذلك من خلال نشر التصوف الإلحادي، لأنهم يعرفون المكاسب التي سيجنون ثمارها من هذا القول، ومدى تأثيرها السلبي على الناس في إزالة مفهوم الجهاد في سبيل الله، والخنوع للأقدار والأقضية المتساوية في الكل.

(8) القول بإيمان الكافرين؛ فهم يقولون بإيمان فرعون، وذلك لأنه بزعمهم عرف الحقيقة، وآمن بالوحدة؛ فقال: أنا ربكم الأعلى، لأن الجميع أرباب عنده، وقد عُلم بالضرورة من دين الإسلام كفر فرعون وهامان؛ قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ، وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} (هود: 97 -99). وقال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 45، 46).

* نتائج الدراسة:

- أن اعتقاد الصُّوفية بوحدة الوجود مناقضٌ لعقيدة التوحيد، ويؤدي إلى تعطيل الشريعة، وتخطئة الرسل فيما جاءوا به من الحق.

- من أصول الدين الإيمان بالله تعالى، واعتقاد أنه بائن من خلقه، لا يحلُّ فيهم، ولا يحلُّ فيهم، ولا هم يحلون فيه، ولا تحوزه الأمكنة، خلاف غلاة الصُّوفية الذين ينقضون هذا الأصل ويقولون بعقيدة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وكلها عقائد كقرية.

- المعرفة عند غلاة الصُّوفية يحصلون عليها من طريق الكشف، والرؤى المنامية، والذوق، وهذا من أعظم أسباب الضلال، حيث تزودوا بالعلوم الشيطانية، وابتعدوا عن العلوم الشرعية، وأما أهل السُّنة فيأخذون دينهم عن الوحي الذي هو كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- موقف الصُّوفية من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فيه غلوٌ واعتداءٌ على خصائص الألوهية والربوبية، وبعضهم فرّط في حقِّه فأعطوا حقَّ التشريع والطاعة والعصمة لمشائخهم، وبعضهم يُعطي شيوخه ما هو من خصائص الربوبية كالتصرف في الكون، والرزق، والإحياء، والإماتة، وشفاء المرضى.

- كثرة استعمال الصُّوفية للمجازات والكنايات والألفاظ الغريبة المولدة رتب على ذلك حصول فساد كبير في العقائد، والتي تُعد إما عقائد كقرية بنفسها، أو تؤدي إلى العقائد الكفرية.

- الفناء عند الصوفية يؤدي إلى الغيبوبة وزوال العقل -بحسب ادعائهم -وهذا لا يدلُّ على كمالٍ في الدين، وإن الرسول وصحبه الكرام لم يكونوا على هذه الحال الناقصة حقيقةً، ولم يتكلفوا الوصول إلى ذلك، وأن الصوفية إنما وصلوا لذلك بالطرق المبتدعة.

- نزع الصوفية إلى تفسير القرآن تفسيراً باطنياً موافقُ لفعل القرامطة والحلوليون من الزنادقة، مبتعدين عن التفسير بالمأثور والرأي المحمود الذي كان عليه السلف، وقد تركوا لذلك أقوال أئمة التفسير لأغراض نفسانية وأهواءٍ بدعية لم يقدروا على الخلاص منها.