أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 16 نوفمبر 2024

التفهم لما أشكل من مسائل القضاء والقدر د. جابر وليد السميري بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

التفهم لما أشكل من مسائل القضاء والقدر

د. جابر وليد السميري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: تضمن هذا البحث خمس مسائل هامة من مسائل القضاء والقدر، مما عسُر فهمه على بعض العوام، وأشكل معناه على كثير من الحركيين، والتي مثّلت في الزمن الغابر مذهباً لبعض الفرق الضالة من قدرية وجبرية ودهرية، ويمكن إجمال هذه المسائل فيما يلي:

الأولى: فساد الاحتجاج بالقدر على المعايب.

الثانية: صواب الاحتجاج بالقدر على المصايب.

الثالثة: علاقة الدّعاء والتوكل بالقضاء والقدر.

الرابعة: التفريق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور وعدم التسوية بينهما.

الخامسة: بيان أنه لا تعارض بين الإيمان بالقدر وبين العمل والأخذ بالأسباب.

ولعلي أثبت هنا الفرق بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي، مما أفادني به بعض الأفاضل، يقول -وفقه الله: يقع الخَلْطُ واللَّبسُ كثيرًا بين الدعاةِ والوُعّاظ حول مفهوم الرضا بالقضاء والرضا بالمقضيّ، حتى يتوهَّم المُتلَقي أنهما واحد، وليس الأمر كذلك. إنّ الرضا بالقضاءِ واجبٌ، وفي الحديث الصحيح: "وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ".

أمّا الرضا بالمَقضِيّ -الذي هو أثَرٌ للقضاء- فليس بواجبٍ على الإطلاق، بل قد يكون واجبًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون حرامًا، وقد يكون كُفرًا.

قال القَرَافِيّ: "الرضا بالقضاءِ واجبٌ على الإطلاقِ. أمّا المَقضِيُّ والمَقدُورُ فهو أَثَرُ القضاءِ والقَدَرِ، وليس الرضا بالمقضيّ واجبًا على الإطلاقِ. والصوابُ أنّ الرضا به قد يكونُ واجبًا كالإيمانِ باللهِ -تعالَى- والواجباتِ إذا قَدَّرَها اللهُ -تعالَى- للإنسانِ، وقد يكون المقضيّ مَندوبًا كَمَا في المَندُوبات، وحرامًا كما في المُحَرَّمات، ومُباحًا في المباحات، والرضا بالكُفرِ كُفرٌ".

قال ابن عربي: "لا يَلْزَمُ الراضي بالقضاءِ الرضا بالمَقضِيّ، فالقضاءُ حُكْمُ اللهِ وهو الذي أَمَرَنَا بالرضا به، والمقضِيّ هو المَحكومُ به فلا يَلْزَمُ الرضا به".

وقد ذكر القَرَافي فرقًا بين الرضا بالقضاء وبين الرضا بالمقضيِّ، حيثُ ضَرَبَ مثالًا للمريض والطبيب، فإذا وَصَفَ الطبيبُ للمريضِ دواءً مُرًّا، أو قَطَعَ يَدَهُ المُتآكلة، ثم قال المريض: بئس ما فَعَلَ الطبيب، وبئست معالجته وترتيبه، وإنّ غَيْرَهُ يُداوي أيسرَ منه وأفضلَ؛ فإنّ هذا تَسَخُّط بقضاءِ الطبيب، وأذًى له، وجنايةٌ عليه، ولو سمعه الطبيبُ لَكَرِهَ ذلك وشَقَّ عليه. لكنْ إنْ قال المريض: الدواءُ الذي وَصَفَهُ لي الطبيبُ مُرّ كالعلقم، وقد قاسَيْتُ منه الشدائدَ والصعاب، وقَطْعُ اليدِ حَصَلَ لي منها آلامٌ عظيمةٌ مؤلمة؛ فهذا تسخُّطٌ وكُرهٌ بالمقضيّ الذي هو الدواء والقَطع، وليس تسخُّطًا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، وهذا ليس عيبًا في الطبيب ولا قَدْحًا له، ولا يُؤذيه إذا سمع ذلك. فالأوّل: ساخِطٌ على الطبيب وعلى حُكمه، والثاني: راضٍ بِحُكم الطبيب كارِهٌ لِمَا حَكَمَ به من الدواء.

وعلى هذا فإنّ الإنسان إذا ابتُلِيَ بمرضٍ أو مصيبةٍ وتألّم منها بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء، بل عدم رضا بالمقضيّ به. فإنْ قال: ماذا فعلتُ حتى أصابني ذلك؟ وما ذنبي؟ وهل أستحقُّ هذا المرض؟ فهذا عدم رضا بالقضاء. ونحنُ مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نَتَعَرَّضُ لِمّا قَدَّرَهُ الله -تعالى- إلا بالإجلال والتعظيم.

 قال الغزالي: "مَنْ لم يرضَ بالقضاء يَكُنْ مهمومًا، مشغولَ القلبِ أبدًا بأنه: لِمَ كان كذا؟ ولماذا لا يكون كذا؟ فإذا اشتغل القلبُ بشيء من هذه الهموم كيف يتفرغ للعبادة؟ إذ ليس للإنسان إلا قلب واحد".

وهذا يفسر لنا تقسيم العلماء لمنازل الناس مع الأقدار المؤلمة على أربعة أقسام: الساخط المَوْزُور، والصابر، والراضي، والشاكر (وهو أعلاها). 

وفي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: "وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا".

 والشاهد قوله: (على ما تَكْرَه) فَحَضَّهُ على الصبر مع عِلمه أنّه كاره للمَقضِيّ به لأنه قَدَرٌ مؤلم.

وقال ابن رجب في شرحه للحديث: "يعني: أنّ ما أصابَ العبدَ مِنَ المصائبِ المُؤْلِمَةِ المكتوبةِ عليهِ إذا صَبَرَ عليها، كان له في الصبرِ خيرٌ كثيرٌ". 

وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "أصبحتُ وما لي سرورٌ إلا في مواضِعِ القَدَرِ".

فَعَلَى الدعاةِ أنْ يَعُوا جيدًا أننا لم نُؤمر بأنْ تَطِيبَ لنا البلايا والرزايا ومُؤلمات الحوادث، قال أبو بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه: "لَأَنْ أُعافَى فأَشكُر، أَحَبُّ إليَّ مِنْ أن أُبتلَى فأصبر".

 وقال القَرافي: "لَمْ تَرِدِ الشريعةُ بتكليفِ أَحَدٍ بما ليس في طبعه، ولم يُؤْمَرِ الأَرْمَدُ باستطابةِ الرَّمَدِ المُؤلم، ولا غيرِه مِنَ المرضِ، بل ذَمَّ اللهُ قومًا لا يتألّمون، ولا يَجِدُونَ للبأساء وَقْعًا؛ فَذَمَّهُمْ بقولِه تعالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}، فَمَنْ لَمْ يَسْكُنْ ولم يَذِلَّ للمُؤْلِمَاتِ ويُظْهِرِ الجَزَعَ منها ويَسألْ رَبَّهُ إقالةَ العَثْرَةِ منها فَهُوَ جَبّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عن طُرُقِ الخيرِ".

مقدمة:

 الحمد الله الذي قدر فهدى، والذي خلق فسوى، وصلى الله وسلم على من رسم طريق الهدى وحذر من مسالك الردى، وبعد:

فقـد تأملت فيما كتب في مادة القضاء والقدر فألفيتها مختصرة حيناً ومجملة حيناً آخر وقد جمعت في طياتها عبارات وأبواب تحتاج إلى تهذيب وتبيين، ولما كانت الكتابة فـي مـثل هذا الموضوع خطيرة ودقيقة وتحتاج إلى عناية، ولكونها أيضاً كتابة مهمة في موضـوع عقائدي يشكل ركناً من أركان الإيمان له قيمته العلمية وآثاره العملية، ويحتاجه ذو الهمـة العالية فضلاً عن غيره، ولما اتسم هذا النوع من العلم المفيد الذي لا ينفع فيه  التقليد دون البحـث والعمق، وجدت نفسي راغبة في التشمير والكتابة فيما عن لي من مسائل عديدة رأيت أنها تحتاج إلى توضيح وتقريب كي تستوعب ويفهم ما فيها من معاني عظيمة، ومفاهيم كريمة تربط العبد بربه وتقربه إليه.

وهـذه القضـايا القدرية التي استوعبها هذا البحث كانت بمثابة شبهات ومزلات أقـدام، تعثر في فهمها كثير من العباد، وترتب على عدم فهمها أعمال ومسالك وأخلاق لا تحمد، بل كانت شاذة مخالفة لنظام الشريعة، مما أدى إلى ضلال فاحش، يحتاج لمن يصـححه ويـرده إلـى الصراط المستقيم، إذ لا تعارض بين القدر والشرع، ولا بين المنقول والمعقول، فالكل قد نظمه رب العالمين وأحكمه.

 وقـد رأيت أن تكون هذه القضايا القدرية معدودة في خمس قضايا وهي:

 أولاً: الاحتجاج بالقدر على المعاصي.

 ثانياً: سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال.

 ثالثاً: أثر العمل والسبب على القدر المكتوب.

 رابعاً: ضرورة التفريق بين القضاء والمقضي.

 خامساً: ضرورة وضع المشيئة حيث نظمتها الشريعة

 وقـد حاولـت جاهداً أن أزيل الشبهات وأرسم الطريق لتفهيم هذه القضايا، فإن وفقـت فإني لله حامد على هذا الغنم، وإن كانت الأخرى فإني أستغفر الله وأتوب إليه.

 وأسأله تعالى أن يرشدني إلى ما فيه الخير، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

 المطلب الأول: الاحتجاج بالقدر على المعصية فيه رد للشريعة وإبطال لنظامها، وفيه تسوية بين أفعال المجرمين والمحسنين

 مـن أعظم مخاطر هذه القضية إبطال حجة الأنبياء والرسل على الخلق وتحميل القدر مسئولية جرائـم البشرية أو كما يقول ابن القيم: (فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا مـن هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه)

 [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، تحقيق د. السيد محمد السيد، وسعيد محمود، دار الحديث، القاهرة، ط٢ سنة ١٤١٨هـ، ص ٤٥].

 فالقدر لا يحتج به على المعاصي، إلا أن هناك من احتج به، وبيان ذلك في ذكر بعض ما أشار إليه.

 الدلـيل الأول: قوله تعالى: {سيقُولُ الَّذِين أَشْركُوا لَو شَاء اللَّه ما أَشْركْنَا ولا آباؤُنَا} (الأنعـام: ١٤٨).

وقوله: {وقَالَ الَّذِين أَشْركُوا لَو شَاء اللَّه ما عبدنَا مِن دونِهِ مِن شَـيءٍ} (النحل: ٣٥).

 وقوله: {وإِذَا قِيلَ لَهم أَنْفِقُوا مِما رزقَكُم اللَّه قالَ الَّذِين كَفَروا لِلَّذِيـن آمـنُوا أَنُطْعِم من لَو يشَاء اللَّه أَطْعمه} (يـس: ٤٧).

 وقوله: {وقَالُوا لَو شَاء الرحمن ما عبدنَاهم..} (الزخرف: ٢٠).

 فهذه أربعة مواضع حكى فيها الاحتجاج بالقدر على المعاصي والإشكال في ذلـك: أنـه قـد علم بالنصوص صحة قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا، ولو شاء الرحمن ما عبدناهم، إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال الله تعالى: {ولَو شَاء ربك ما فَعلُوه} (الأنعام: ١١٢). وقوله: {ولَو شِئْنَا لَآتَينَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (السجدة: ١٣). فكـيف أكذبهم، ونفى عنهم العلم، وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون وأهل السنة جمـيعاً يقولـون لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر ولا عصـاه أحد من خلقه، فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون ؟)

[شفاء العليل، ص ٤١، وانظر: تفسير ابن كثير، مكتبة الصفا، ط١ سنة ١٤٢٣هـ، ٢/ ٢١٢].

 وأجاب ابن القيم على هذه الشبهة بقوله: (إنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتاً لقدره وربوبيته ووحدانيته... ولـو قالوا ذلك: لكانوا مصيبين، وإنما قالـوه معارضين لشرعه ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره...)

 [شفاء العليل، ص ٤١، وانظر: طريـق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، دار ابن القيم، ط١ سنة ٤١٤هـ، ص ١٥٨].

وقـد رد الله على شبهتهم عقب ذلك مباشرة فقال تعالى: {كَذَلِـك كَـذَّب الَّذِين مِن قَبلِهِم حتَّى ذَاقُوا بأْسنَا قُلْ هلْ عِنْدكُم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجوه لَنَا إِن تَتَّبِعون إِلَّا الظَّن وإِن أَنْتُم إِلَّا تَخْرصون} (الأنعام: ١٤٨).

 وفي آية أخرى أجاب على شبهتهم بقوله: {كَذَلِك  فَعلَ الَّذِين مِن قَبلِهِم فَهلْ علَى الرسلِ إِلَّا الْبلاغُ الْمبِين} (النحل: ٣٥).

 وقال: {وقَالُوا لَو شَاء الرحمن ما عبدنَاهم ما لَهم بِذَلِك مِن عِلْمٍ إِن هم إِلَّا يخْرصون} (الزخرف:٢٠).

 وفـي هـذا تجهيـل لهـم، وتسفيه لحجتهم، في كونهم يدعون علم الغيب، والحق أنهم يكذبون ولا يتبعون إلا التخريـص و الظـن، ولا غنى لهم بما يفعلون؛ لأن الذين كانـوا من قبلهـم يتعللون بما تعللوا به فلم ينفعهم حتى مسهم العذاب ولحقتهم الذلـة.

 يقول ابن كثيـر: (بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم... وأذاق المشركين من أليم الانتقام).

 [تفسـير ابـن كثـير، ٣/٢١٢، وانظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به للباقلاني، ط٣ سنة ١٤١٣هـ، ص ١٦٣].

 وقـال الشوكاني: (هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم؛ لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجـة ويقوم به البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم وأنهم إنما يتبعون الظنون... التي هي محل الخطأ ومكان الجهل...)

 [فتح القدير لمحمد الشوكاني، دار الفكر، ٢/١٧٤، وانظر: الإنصاف، ص ١٦٤].

 والغايـة مـن هـذا بيان خطأ تعليق معاصيهم بالقدر، وكان الأولى الاعتراف بمسؤوليتهم عن معاصيهم وأنهم سبب في وقوعها، وإن كانت واقعة بقدر الله فلا يجعل  لهم حجة في ذلك فهو كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحجةُ الْبالِغَةُ فَلَو شَاء لَهداكُم أَجمعِين} (الأنعــام: ١٤٩)، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم... وأعطاهم الأسماع والأبصار فثبتت حجته البالغة.

الدلـيل الثانـي: بمـا روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) [رواه الشيخان].

 وفـي روايـة: (أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فحج آدم موسى) [رواه مسلم].

 اشتبه هذا الحديث على كثير من الفرق، فمنهم من رده وزعم أنه باطل، لأن مداره على الطعن في الأمر والنهي والنبوات وغير ذلك، وما كان هذا حاله فهو باطل وهؤلاء هم المعتزلة. وقد رد عليهم بأن الحديث صحيح وليس مدار فهمه على ما ذهبوا إليه.

 [انظـر: المطالب العالية من العلم الإلهي لفخر الدين الرازي، دار الكتب، ط١ سنة ١٤٠٧. ٢١٧/٩].

 وذهـب الجهمية الجبرية إلى الاستدلال به على صحة الاحتجاج بالقدر على المعصية والذنوب، وقالوا: هذا آدم يحتج صراحة بالقدر المكتوب على ذنبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم له بالصحة.

 [انظـر: لوامع الأنوار البهية، للعلامة محمد السفاريني، المكتب الإسلامي، ط٣، سنة ١٤١١ هـ،  ٣٤٦/١ ].

 والرد على ما قاله هؤلاء من وجوه:

 الوجه الأول: لو صح الاحتجاج بالقدر على المعاصي والذنوب لارتفع اللوم والعقاب عن كـل المذنبين والعاصين كفرعون وهامان وغيرهم وما قامت لرسول حجة على أحد، والمعلوم خـلاف ذلك، والمعتبر هو حجة النبيين والرسل، وعذاب فرعون وغيره من المؤكدات. [انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ٨/١١٤، وانظر: المعتزلة وأصولهم، لعواد المعتق، مكتبة الرياض، ط٢ سنة ١٤١٦هـ، ص ١٨٣].

 الوجه الثاني: أن الفهم الصحيح لاحتجاج آدم، هو أن آدم احتج بالقدر على المصيبة ولم يحتج بالقدر على المعصية، يقول العلامة السفاريني: (فالحديث تضمن التسليم للقدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعايب، فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب)  [لوامع الأنوار البهية، ١/٣٤٧، وانظر: الرسالة الوافية لأبي عمر الداني، ط١ سنة ١٤٢١هـ، ص ١٤٥].

 وقـد علـق العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني على من رد هذا الحديث ومن احتج به على فهمه القيم بقوله: "... أما الذي ردوه فستسمع أن الحديث من أصح الأحاديث، وأما الذيـن ذهـبوا أنه حجة على مذهبهم المرذول فإنه لا متمسك لهم فيه لأنه قد أجمع أهل الإسلام على أن القدر يتعزى به في المصائب ولا يحتج به في المعائب" [إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، حققه محمد صبحي، دار ابن حزم، ط١ سنة ١٤٢٠هـ، ص ٣٧٥، وانظر: إيثار الحق على الخلق لابن الوزير اليماني، دار الكتب العلمية، ص ٢٩٥].

 وأقـرب من هذا ما قاله ابن القيم: أنه يجوز له أن يحتج بالقدر على ذنب تاب منه وأنـاب وذلـك بعد اعترافه واستغفاره وآدم – عليه السلام – اعترف بذنبه وطلب الغفران، وغفره الله له، فلا عليه أن يحتج بعد ذلك بالقدر؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا  نهياً ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة). [انظر: شفاء العليل، ص ٤٦،والاختلاف في اللفظ لابن قتيبة، ط١سنة ١٤٠٥هـ، ص ١٥].

 والاحتجاج الفاسد بالقدر يكون (بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً فيلومه علـيه لائـم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً). [شـفـاء العليـل، ص ٤٦، وانظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني، ط٣ سنة ١٤١٣هـ، ص ١٦٣].

وبهذا يتبين أنه لا حجة بالقدر على المعصية، وأنه يفهم من حديث المحاجة أن آدم عليه السلام كان قد اطلع على ما كتبه الله عليه وسأل موسى مقرراً وأكد له موسى أنه قرأ ما كان مكتوباً فإذا كان هذا الأمر معلوماً لآدم فما الذي يمنع أن يحتج به، أما بالنسبة  لغـيره فهـل يحتجون بقدر هو مغيب عنهم لم يطلعهم الله عليه ؟ فهناك فرق ظاهر وهو قياس مع الفارق ما حصل لآدم – عليه السلام – وبين من يريد أن يحتج بالقدر قياساً على صـنيع آدم، ولهـذا لـم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم على آدم احتجاجـه بل أقره، أما احتجاج المشركين على شركهم بالقدر فقد عابه الله – سبحانه – عليهم وأعلمهم بأن الذين من قبلهم فعلوه بالظن والكذب والتخريص فطالهم بأسه الشديد.

قـال القرطبـي: (إن آدم غلبه بالحجة؛ لأن ذكـر الجفاء بعد حصول الصفاء جفاء؛ ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحي حتى كأنه لم يكن فلا يصادف اللوم من اللائم محلاً). [فـتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، دار المعرفة، ١١/٥١٠، وانظر: عون المريد لشرح جوهرة التوحيد لعبد الكريم تتان ومحمد أديب الكيلاني، دار النشر، ط١ سنة ١٤١٥ هـ ٦٣٤/٢].

الدليل الثالث: اشتبه على المحتج بالقدر رد علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم -تركه للقيام للصلاة بالليل بقدر الله، أو كما جاء في النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً فقال لهم ألا تصلون ؟ قال: فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعـثها، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول: {وكَان الإِنْسان أَكْثَر شَيءٍ جدلاً} (الكهف: ٥٤). [رواه البخاري ومسلم].

فقـالوا: هـذا احتجاج من علي بالقدر على ترك العمل، والحق أن الحديث لا يتضمن الاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ لأن (علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب لا فعـل محرم، وإنما قال: إن نفسـه ونفس فاطمة بيد الله فإذا شاء أن يوقظها ويبعث أنفسهما بعثهما؛ وهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي: إن الله قبض أرواحنا حيـث شـاء وردها حيث شاء، وهذا احتجاج صحيح صاحبه يعذر فيه، فالنائم غير مفرط، واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح). [عون المعبود ٢/ ٦١٧].

وقال سعد الدين التفتازاني: (ومن وقاحتهم أنهم يروجون باطلهم بنسبته إلى مثل أمـير المؤمنيـن علي وأولاده – رضي الله عنهم – وقد صح عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة، فقال: ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره...) [شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني، عالم الكتب، ط١ سنة ١٤٠٩هـ، ٤ /٢٦٩].

 والإيمان يتطلب العمل لا تركه كما ذهبت إليه الجهمية في قولهم بالجبر.

 المطلب الثاني: أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص

 فهم كثير من الناس خطأ أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الاجتهاد والعمل، وأن ما قدره الله وكتبه واقع لا محالة وأن توسط العمل لا فائدة فيه، وقد ترتب على هذا الفهم السقيم الجنوح إلى الكسل والدعة واليأس والقنوط.

 وهذه الشبهة الخطيرة ربما كان من تداعياتها الكفر بالقضاء والقدر، وعدم الإيمان بعلم الله تعالى السابق، وكتابته لمقادير الأشياء قبل تكوينها وعدم الاهتمام بالعمل وبـذل الطاقـة والجهـد، أو ترك العمل وعدم الحرص عليه وانتظار ما تأتي به الأقدار
والتحلي بالعجز والانكسار.

 ولا يخفى على عالم أن القدر السابق يعين على العمل ويشجع عليه ولكن بشرط أن يفهـم الإنسـان معـنـى المراد بالقدر السابق، والكتابة الأولى، ولهذا حين أورد الصحابة هذه الشبهة "وهي ترك العمل" أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه الشفاء والهدى وجاء فـي حديثه (... ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قـد كتبـت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكلُ على كتابنا، وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصـير إلـى عمل أهل الشقاوة فقال: اعملوا فكلٌ ميسر، أما أهل السعادة فييسـرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَما مـن أَعطَى واتَّقَى * وصدقَ بِالْحسنَى * فَسنُيسره لِلْيسرى * وأَما من بخِلَ واستَغْنَى * وكَذَّب بِالحسنِى * فَسنُيسره لِلْعسرى ( الليل: ٥-١٠)) [البخاري ومسلم].

وفـي رواية أخرى قال رجل: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن، ففيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير أم فيما يستقبل ؟ قال: (لا بل بما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل ؟ فقال: اعملوا فكل ميسر) [مسلم].

 قـال ابـن القيم: (اتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد) [شفاء العليل، ص ٦٧].

 ثـم انظر كيف ربط رسول الله  بين السبب ونتيجته وجعل النتيجة من جنس العمل، ثم استشهد على ما وجه إليه الصحابة بالقرآن ومفاده أن الذي يأخذ بأسباب التقوى ويبذل العطاء مع إيمانه وتصديقه بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً فإن مآله الجنة،  ويقابل ذلك من ترك الأخذ بأسباب الخير، وبخل بماله وجهده، وضم إلى ذلك التكذيب بوعد الله والآخرة، فإنه لا شك ليس له مآل إلا إلى النار. ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: (ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن) [شفاء العليل، ص ٦٧.].

وعلق ابن القيم على ذلك بقوله: (وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة، ودقة أفهامهم و صـحة علومهم، فإن النبـي  أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما زاد في تحصيل السبب كان تحصيل المقدور أدنى له)  [شفاء العليل، ص ٦٧].

ولهـذا فـإن الله قد قدر السبب والنتيجة، فإذا هدى الإنسان إلى السبب وقام به تيسرت له النتيجة، ولهذا قال ابن تيمية: (وذلك أن الله – سبحانه وتعالى – يعلم الأمور علـى مـا هــي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسباباً تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسـباب، كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا: إذا علم الله أنه يولـد لـي فـلا حاجة إلى الوطء كان أحمق؛ لأن الله عـلم أن سيكون بما قـدره من  أمور المعاش والمعاد، فمن عطل العمل اتكالاً على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالاً على ما قدر له، وهذا مثله مثل الأسباب التي توصلنا إلى مرادنا في الدنيا وهذا شأن الوطء...) [مجموع الفتاوى، كتاب القدر، ٨/٦٨].

فمن كان من أهل الجنة يسره الله للعمل بعمل أهل الجنة وقبضه عليه (فمن قال: أنـا أدخل الجنة سواء كنت مؤمناً أو كافراً إذا علم الله تعالى أني من أهلها، كان مفترياً على الله في ذلك، فإن الله إنما علم إنه يدخلها بالإيمان، فإذا لم يكن معه إيمان، لم يكن هذا هو الذي علم الله إنه يدخل الجنة بل من لم يكـن مؤمنـاً بل كافراً، فإن الله يعلم أنه من أهل النار، لا من أهل الجنة) [شفاء العليل، ص ٦٧]

 والخلاصة: فإن القدر السابق معيـن علـى الأعمال، وحاثٌ عليها، ومقتضٍ لها لا أنه منافٍ لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلـت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم، فالنبي  أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سـببا السـعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى
خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع. [مجموع الفتاوي ٦٩/٨].

المطلب الثالث: أثـر الأسباب كالدعـاء والتوكل والدواء على القدر المكتوب ومحوه

 يسبـق إلـى فهم كثير من الناس عدم جدوى ونفع الدعاء والدواء والأسباب مع الإيمان بسبق القدر، وقد تسمعهم يقولون: القدر نافذ سواء دعوت أو لم تدع، تداويت أم لـم تداو، فهم يذهبون إلى إبطال الأعمال والعبادات والدعاء والتوكل وغير ذلك، فهل هناك جانب من جوانب الصواب مع هؤلاء ؟ أم أن التسبب بالأسباب كالدعاء وما شاكله لـه أثـر في القدر، كرده مثلاً، أو محوه، أو التخفيف منه ولنقف على أثر الدعاء في القدر، لنستبين إلى أي مدى ينفع الدعاء مع القدر.

 دور الدعاء والتوكل والاستغفار مع القدر:

 ذهـب المعتزلة وكثير من الفلاسفة إلى أنه لا ينفع مع القدر شيء لا دعاء ولا توكـل سـوى أنها عبادات محضة لا تأثير لها. يقول ابن القيم: (وصرح هؤلاء: أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شـيء مما قدر له، ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان عديم الفائدة، إذ هو مضمون الحصول، ورأيت بعض متعمقي هؤلاء – في كتاب له –لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء) [مدارج السالكين لابن القيم، مؤسسة المختار، ط١ سنة ١٤٢٢هـ، ١ /٥٣٥].

ويرجع ابن تيمية سبب عدم قبول الفلاسفة والمعتزلة لتأثير الدعاء في القدر إلى عقيدتهم في أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، ولا يقوم به صفة: (ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين به) [مدارج السالكين لابن القيم، مؤسسة المختار، ط١ سنة ١٤٢٢هـ، ١ /٥٣٥].

ويعلق ابن القيم على ذلك بقوله: (فأي توكل لمن يعتقد بأنـه يكون في ملكه ما لا يشاء) [مدارج السالكين لابن القيم، مؤسسة المختار، ط١ سنة ١٤٢٢هـ، ١ /٥٣٥، وانظر: تهافت الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي، دار المعارف، ص ٦٥].

 وهـذا الاشتباه في عدم فهم القدر فهماً صحيحاً يتضح بقولهم: (لأن الدعاء به  يتضمن الشك في وقوعه؛ لأن الداعي بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك من باب من الشك في خبر الله، وهو من العظائم، وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وطلبه، ولم يزل المسلمون – في عهد نبيهم –  وإلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء) [السالكين مدارج ٥٣٥/١]

والذيـن تركوا الدعاء جملة بنوا تركهم على أن سبق القدر بالسعادة والشقاوة لا يتـبدل ولا يـتحول عمـل أو لم يعمل، كذلك المدعو به إن سبق العلم والحكم بحصوله حصـل، دعونا أو لم ندع، وإن سبقا بعدم حصوله لم يحصل وإن دعونا.

ولا شك أن هـؤلاء بـنوا ما بنوه على فهم فاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين، ويظهر ذلك من خلال الرد عليهم، ومخالف لصـريح العقل والحس والمشاهدة [السالكين مدارج ٥٢٥/١].

 وإثبات فائدة الدعاء والتوكل وما في حكمهما.

أولاً: الآيات التي تحث على الدعاء لا حصر لها، ومنها ما يخبر بفائدة الدعاء وأخرى بأنه عمدة الأنبياء والعلماء يلجأون إليه دائماً، وآيات تبين بأن الله يبدل السيئات حسنات، ويغفر الذنوب، ويجيب دعوة الداعي، كل ذلك وغيره يبين أن الدعاء وطلب العون من المعبـود واسـتجابته لطلب الداعي يدل على تأثير الدعاء في القدر المكتـوب ومما يبين ذلـك.

 وفـي آيـات كثيرة منها قوله تعالى:  {ولَو أَن أَهلَ الْقُرى آمنُوا واتَّقَوا لَفَتَحنَا علَـيهِم بـركَاتٍ مِـن السـماءِ والْـأَرضِ ولَكِـن كَذَّبوا فَأَخَذْنَاهم بِما كَانُوا يكْسِبون} (الأعـراف:٩٦).

فانظـر إلـى أثر الإيمان والتقوى في إنزال البركات، وبالمقابل أثر التكذيب والجحود والفساد وترك الواجبات وعمل المنهيات في منع النعم ونزول النقم – فكل ذلك يدل على تأثير الأعمال في القدر المكتوب [انظر: عون المريد، ٢/٩٥٤، وشرح العقيدة الطحاوية، ص ٢٢١].

 ثانـياً: ومن السنة ما يدل على أثر الدعاء:

 ففي السنن أنه  قيل له: (يا رسـول الله: أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء (نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: هي من قدر الله)

فهذه أسـباب يطلب بها البرء والشفاء، والجميع بقدر الله، فإذا وفق العبد إلى الدعاء والدواء كان الشفاء، وهذا بخلاف من رام أن يصل إلى الشفاء دون الأخذ بالدواء أو أسـقط الدعـاء والدواء ليصل إلى رفع البلاء... فهذا الذي ذمه علماء السلف وعابه العقلاء ودعوه بالأحمق. 

وفي مثله قال ابن القيم: (فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء وهل  البهائم إلا أفقه منه ؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة، فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه... فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل...) [مدارج السالكين ٥٢٦/١].

وقوله: (هي من قدر الله) فيه فائدة عظيمة أشار إليها الإمام الزركشي في قوله: (إن الرقى والـدواء لا تستقل برد القضاء، لكن الله تعالى – إذا أراد رد قضائه بحسب سابق علمه، قدر التسبب باستعمال الرقى والأدوية، فكان هو في الحقيقة القاضي الراد، وقد صحت السنة بمشروعية التداوي والاسترقاء) [عـون المـريد، ٢/٩٥٥، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار الوثائق، ط١ سنة١٤٢٠هـ، ١٦٥٥/٥].

وقد وردت أحاديث كثيرة تبين نفع الدعاء، والحث عليه منها:

 ١ -عـن ابـن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء) [الترمذي].

وقال أبو حامد الغزالي: (اعلم أن من  القضـاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الماء سبب لخروج النبات... والذي قدر الخير قدره بسبب، والذي قدر الشر قدر لرفعهسبباً) [(إحياء علوم الدين، ٥/١٤٠، وانظر: إتحاف السادة المتقين للزبيدي، ٥/٣٩٠].

٢ -وعـن جابـر بـن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدعو على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم) [مسلم].

 والحديـث يدل بوضوح على تأثير الدعاء في القدر المكتوب، ولهذا ورد النهي والمنع من الدعاء على الأنفس والأرحام خوفاً من أن توافق ساعة إجابة.

وقال شارح الطحاوية: (فإذا قُدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء، كما لا يقـال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما أنه مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة) [شرح العقيدة الطحاوية، ص ٤٦٠، وانظر مجموع الفتاوى، ٨/١٩٥-١٩٦].

 ٣ -نفـع الدعــاء فـي كل من القدر المبرم والمعلق: والدعاء ينفع في القضاء المبرم والمعلـق، أما القضاء المعلق فلا استحالة في رفع ما علق رفعه منه على الدعاء، ولا في نزول ما علق نزوله منه على الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزلُ فيتلقاه الدعاء، فيتعالجان إلى يوم القيامة) [رواه الحاكم في مستدركه وصححه، وانظر: مجموع الفتاوى، القدر، ٨ /٥٤٨].

 فقوله: (ممـا نـزل أي القضاء المبرم فيكون أثر الدعاء في التخفيف منه من ناحيتين: الأولى: في توسعة صدر المصاب فيصبر ويصابر ويرى في هذا القضاء خيراً كثيراً؛ لأنه ينظر بعين  {وعسـى أَن تَكْرهوا شَيئاً وهو خَير لَكُم وعسى أَن تُحِبوا شَيئاً وهو شَر لَكُم واللَّه يعلَم وأَنْتُم لا تَعلَمون} (البقرة: ٢١٦).

والثانـية: مـن ناحيـة المقضى يجعل وطأته خفيفة وكما قيل: بعض الشر أهون من بعض، وقد يستشهد له بعض الناس بما هو جار على ألسنة العامة (اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه). 

وقد اعترض عليه من العلماء العلامـة ابـن عثيمين: (وهذا الدعاء لا يصح نقلاً عن السلف وإن صح عن بعضهم فلا يمكـن أن يصـح عن الصحابة الذي أقوالهم مأثورة مشهورة فلو قال: اللهم إني أسألك اللطف في قضائك، لصح أما لا أسألك رد القضاء فالله – عز وجل – ما يقضي شيء لطف به أو شدد عليك إلا وهو قد قضاه)  [انظر: شرح العقيدة السفارينية، لابن عثيمين، ص ٣٦١]

٤ -وقـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) [رواه الترمذي وقال حسن غريب، وأخرجه ابن ماجة والحاكم وابن حبان من حديث ثوبان، وصحح الحاكم إسناده].

وهذا الحديث يبين بوضوح أن الدعاء يتسبب في رد القضاء المكتوب،وكذلك العمر يـزيد بالعمل الصالح وينقص بالعمل الفاسد. ولهذا قال الأستاذ أبو القاسم إسماعيل بن محمد: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق النسمة قال: فإن كان منها الدعاءرد عنها كذا وكذا وإن لم يكن منها الدعاء نزل بها كذا وكذا، وكذلك أجلها إن برت والديها ويكون ذلك فيما يكتب في الصحيفة) [إتحاف السادة المتقين للزبيدي، ٥/٣٩٠، وانظر: الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة العكبري، ط١ سنة ١٤٢٣هـ، ص ٢١٥].

٥ -الدعـاء وحقيقة المحو والإثبات: جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في معيشته: يا ذا المن ولا يمن عليه... إن  كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً، فامح عني اسم الشقاوة و أثبتني عندك سعيداً موفقـاً للخير؛ فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت: {يمحو اللَّه ما يشَاء ويثْبِتُ وعِـنْده أُم الْكِـتَابِ} (الرعد:٣٩)) [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وانظر: المطالب العالية لابن حجر، ط١ سنة ٤١٤ هـ ٣٤٦/٣]، واستشهاد ابن مسعود بالآية يدل على أن المحو والإثبات ممكـن لكل ما كتب ما دام أن الله علقه بمشيئته.

وكذلك جاء عن عمر -رضي الله عنه - أنه كان يقول وهو يطوف بالكعبة: (اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنـباً فامحه واجعلـه سـعادة ومغفـرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب) [أخرجه اللالكائي عن عمر في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، سنة ١٣١٥ هـ، ٣٤٦/٣]

وكذلك جاء عن بعض السلف أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات: (اللهم  إن كتبتـنا سـعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت) [أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ٨/ ٢١٩].

فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته [فتح القدير للشوكاني، دار الفكر، ٣ /٨٨].

وبهذا يتبين لنا أهمية الدعاء كوسيلة مهمة يستفاد منه في تحقيق مصالح الدنيا والآخـرة، وخطأ من حاول أن يمنعه بقوله: لا فائدة فيه بعد أن كتب الله مقادير كل شيء، وبما وضحناه سابقاً تذهب الشبهة وتزول بحمد الله تعالى.

المطلب الرابع: ضرورة التفريق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور، والفعل والمفعول

لكـي يتبيـن للعبد ما يجـب حبه والرضى به مما لا يجب ولا يجوز. فمن اشتبه عليه مفهوم القضاء والمقضى فسوى بينهما وقع في المحذور، ونسب لله ما كان يجب أن ينزه عنه من النقص، وربما ذهب ليؤكد قضية وجوب محبة المقضى وإن كان يجـب كراهته من ناحية شرعية فيقع في التناقض بين ما يجب حبه من المقضى، وما يجـب كراهـته مـن ناحـية شرعية أو يضطر العبد إلى أن ينسب بعض مخلوقات لله ومقدوراتـه إلـى الإنسان فراراً من أن تضاف إلى الله.

 ولهذا قالت المعتزلة: (فلو كان الجـور وما شاكله من خلقه، لوجب الرضى به، والإجماع يبطل ذلك) [المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار، المجلد الأول، تحقيـق عمـر السيد عزمي، الدار المصرية، ص ٤٢١]

 ولهذا نسب المعتزلة خلق الجور للإنسان، والوجوب بالرضى قائم على التسوية بين معنى القضاء والمقضي؛ لأن الإيمــان بقدر الله وقضائه ركن من أركان الدين، فكيف لا يرضى بقضاء الله ؟! 

ولا شك أن هذه مغالطة؛ لأن هناك فرق بين القضاء والمقضي.

وهـذا موطـن مـزلة قـدم كثير من الباحثين، ولا مخرج له منه ولا ثبات إلا بالتفريق بين قدر الله الذي هو فعله وبين مقدوره الذي هو مفعوله، ومفعوله له تعلقات بأفعـال البشـر مـن ناحـية الاختيار وغيره، وفي مفعولاته ومقدوراته تدخل الشرور والنواقص وغيرها وهي من وجهة الله كلها خير وحكمة، وينظر إليها من جهة البشر على أنها نقص.

يقول ابن تيمية: (فمن لم يفرق في حق الرب – تعالى – بين الفعل والمفعول إذاً قـال إنها فعل الله – تعالى – وليس لمسمى فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولى... وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى، أما الذين لا يكون إلا بمعنى مفعوله... فلهذا عظم النزاع وأشكلت المسألة) [مجموع الفتاوى ١٢٢/٨].

وإذا قـالوا بالتفريق بين الفعل والمفعول فقد انجلت المشكلة لديهم (وأما من قال: خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفـس فعـل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة) [مجموع الفتاوى ١٢٣/٨].

ويترتب على هذا التفريق كما قال ابن تيمية: (... فإنه يقال الكـذب والظلـم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً لـه، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصـف بهـا من كانـت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صـفة لغيـره، كمـا أنه – سبحانه – لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان... وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره) [مجموع الفتاوى، ٨/١٢٣، وانظر: شرح العقيدة السفارينية، ص ٣٦٧].

ومن هنا نعلم الخطأ الواضح الذي وقعت بسببه المعتزلة في نسبة بعض الخالق لغير الله – تعالى – فراراً أن يكون صفة الله وفعلاً له ولو أنهم ارتضوا التفريق بين الفعل والمفعول وجعلوا المكروهات من مفعولاته، وهي منفصلة عنه، وما كان من مفعولاته فإنـه ليس وصفاً له ولا يقوم به لكان الخطب يسيراً ولكنهم عطلوا فاعليته وجعلوا الخالق قادرين على أن يخلقوا ما لا يستطيعه إلا الله جلا وعلا، ويقول القاضي عبد الجبار: فلـو كانـت أفعال العباد كلها بقضاء الله تعالى وقدره للزم الرضا بها أجمع وفيها الكفر والإلحاد، والرضى بالكفر كفر) [شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، مكتبة وهبة، ط١ سنة ١٣٨٤هـ، ص ٧٧١].

يبين القاضي بهذا التدليل امتناع إضافة أفعال العباد الله تعالى؛ لأنه يترتب عليه وجـوب الرضـا بهـا وفيها من الكفر والإلحاد ما نهينا عن حبه والتعلق به، بل يجب كراهته والتنزه عنه، إذاً هي قطعاً ليست بقضاء الله ولا من قدره في شيء، ويواصل القاضي عبد الجبار نقده لمعتقد أهل السنة فيقول: (فإن قيل: إنا نرضى بالكفر من حيث خلقه الله تعالى ولا نرضى به من حيث إنه قبيح فاسد متناقض، قلنا: أي المعتزلة: دعنا مـن هذه الترهات أو ليس أن الكفر على سائر أوصافه وجهاته وقع بالله تعالى وبقضائه وقدره فكيف رضيتم به من وجه دون وجه) [شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، مكتبة وهبة، ط١ سنة ١٣٨٤هـ، ص ٧٧١. وانظر: رسائل العدل والتوحيد، ص ٣٠٠].

وهذا الجدل الطويل في هذه المسألة جاء بسبب الخلط بين معنى القضاء والمقضى، ولهذا نجد أن علماء السنة فرقوا بينهما وردوا علـى المعـتزلة هذا التخبط فقالوا: (فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه ؟! فالجواب: 

أن يقـال أولاً: نحـن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بـل من المقضى ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضـى به القاضي لأقضـيتـه – سبحانـه -، بل من القضاء ما يسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم... وفصل أهل السنة بين الفعـل القائم بذات الله تعالى، والمفعول الكائن بفعله والمنفصل عنه، وهو مفعوله المخلوق.

ويقال ثانيـاً: هنا أمـران: قضـاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضى وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضـاء كله خير وعدل وحكمة، ونرضى به كله، والمقضى قسمان: منه ما يرضى به، ومنه لا يرضى به)  [شرح العقيدة الطحاوية، ص ٢٥٨ بتصرف، وانظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني، تحقيق الكوثري الخانجي، ط٣ سنة ١٤١٣هـ، ص ١٦٦، والإرشاد إلى قواطع الأدلة للجويني، ص ١٠٨].

وبهذا التفصيل يظهر الفرق والتمييز بين ما هو فعل الله تعالى ينبغي أن ننظر إليه بعين الكمـال والجلال؛ لأنه صفته وقائم به، وبين ما هو من أثر فعله وهو مفعوله والذي له تعلق بالعبد ونسبته إليه (فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به) [شرح العقيدة الطحاوي، ص ٢٥٨، وانظر: المطالب العالية لابن حجر، ٩ /٢٤٥].

المطلب الخامس: ما بين النطق بمشيئة الله ووجوبه وعدم النطق بها وحرمته ضل أقوام، واهتدى آخرون

لا شك أنه لا يكون في ملك الله إلا ما يشاءه خلافاً للمعتزلة وهم محجوجون في ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع بسطها، فقـد جـاء الأمر في بعض المواضع بوجوب التلفظ بالمشيئة مقرونة بالمطلوب. [قال الراغب: المشيئة عند الأكثر كالإرادة سواء، وعند بعضهم أن المشيئة في الأصل إيجاد الشـيء وإصابته، فمـن الله الإيجاد، ومن الناس: الإصابة وفي العرف تستعمل موضع الإرادة، فـتح الباري، ١٣/ ٤٤٨، وانظر: معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية.]

 ورتـب علـى عدم الاقتران فساد عريض دنيوي واخروي، وكذلك منع في مواضع من الاقتران بها وحث على الحزم والجزم بالمطلوب، وعلل ذلك بعلل:

المسألة الأولى: ورد الأمر بالتلفظ بالمشيئة مقرونة في أي مطلب أو عمل يتوجه إليه الإنسـان في المستقبل، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {ولا تَقُولَن لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِك غَداً * إِلَّا أَن يشَاء اللَّه} (الكهف: ٢٣-٢٤)، نهـاه أن يقطع بشيء من الفعل في المستقبل حتى يرده إلى مشيئة الله 

[نظـر: نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني، مكتبة الثقافة الدينية، بدون طبعة، ص٢٥٩-٢٦٠، شرح المواقف للشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية، ط١ سنة ١٤١٩هـ،. ٨/ ٩٦]

 قال ابن كثير: (هذا إرشاد من الله – تعالى – لرسوله  إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله فـي المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يستقبل إلا بعد مشيئة الله؛ لأنه لا يصح أن تقطـع على وقوع شيء في يكون وما لم يكن لو كان كيف يكـون) [تفسير ابن كثير، مكتبة الصفا، ط١ سنة ١٤١٣هـ، ٥/ ٩٠]

وقـد ورد فـي السنة من الأخبار ما يبين الفساد المترتب على ترك التعليق على المشيئة فـروى أبو هريرة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام، لأطوفن الليلة على سبعين امرأة وفي رواية تسعين امرأة... تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله) ، فقيل له – وفي روايـة قال له الملك: قل: إن شـاء الله، فما ولـدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام)  [البخاري ومسلم].

وفي رواية (فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان) قـال نبي الله  لو كــان سليمـان استثنى لحملـت كـل امـرأة منهن فولدت فارساً في سبيل الله) [البخاري].

وهـذا الحديـث يبيـن بجلاء أثر الرجوع إلى القدر وعدم الاتكال على الفعل، فسـليمان عليه السلام قام بالفعل وانتظر ثمرته، ولكن هيهات، ويبين الرسول  سبب تخلـف ثمرة الفعل وهو عدم قرنه بمشيئة الله تبارك وتعالى.

وفي ذلك يقول ابن حجر: (قـال بعض السلف: نبه  في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء ليمضي القدر) 

وفـي الحديـث تنبيه على الخسارة العظمى التي تلحق الأفعال والجهود المبذولة والتي غفـل أصحابها عن التفويض وذكر المشيئة، فوجب بذل العمل وقرنه بالمشيئة عسى أن تأتي الثمرة أعظم ما تكون.

المسألة الثانية: فعن أنس قـال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له) [البخاري].

وفي رواية: (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكرِه له) [البخاري].

قـال ابن عبد البر: (لا يجوز لأحد أن يقول: اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا؛ لأنه كلام مستحيل لا وجه له؛ لأنه لا يفعل إلا ما شاءه) 

قـال ابـن حجر معقباً على كلام ابن عبد البر: (وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر) [الفتح]

وقوله: (فإنه لا مستكره له أو فإنه لا مكره له)، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه، ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة، بل ربما يفيد معنى لا يليق بالله – سبحانه – وأن هناك ما يمنع إجابته للسائل.

ولذلك قال: "لا مكره له"، أي ما يكرهه على عدم الإجابة أو الإجابة والتعليق بالمشيئة كأن فيه استغناء من العبد عن إجابة المطلوب، فالأولى: حسم المسألة دون تقييدها بخيار المشيئة إن شاء أعطى وإن شاء منع، في الوقت الذي يكون فيه السائل محتاجاً إلى طلبته وتناسب هـذا هو الحـزم والجزم، ولهذا بوب الإمام البخاري عليه بقوله: (ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له).

وقـال الداودي: (معنى قوله: "ليعزم المسألة" أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى، ولكن دعاء البائس الفقير) 

فهـذا الحديـث، خـص الدعاء وطلب المسألة دون سائر المسائل بعدم التعليق بمشيئة الله تعـالى، بـل عليه أن يحسن الظن بالله، ويجتهد في الدعاء ولا ييأس من الإجابة.

وقـد يغفل كثير من الناس فيقيس الدعاء على غيره من الأعمال والأقوال حيث أمـر الشـارع بربطها بالمشيئة فيستثنى فيقع في المحذور، وقد يستفسر عن الفرق بين الأمر بالمشيئة هنا والنهي منها هناك، فالجواب من وجهين:

أولاً: مقـام الدعاء وطلب الحاجات من الله – سبحانه – يظهر فيه مقام الغنى والقدرة الله تعالى ومقام الفقر والضعف للعبد، وكنوز الله ملأى، فلا يناسبه التعليق بالمشيئة بخلاف الحال في الأعمال والأقوال التي يقوم بها الإنسان فيحتاج فيها إلى عون الله ولطفه.

وثانياً: هو أن الاقتران بالمشيئة يحتاجه من يعلق عملاً أو قولاً كما ورد فهو يحتاج فيه إلـى الـتفويـض، وبعـبارة أخـرى يحتاج إلى التوقيف على أمر الشرع في الأعمال والأقوال، فحيث أمر بذكرها ذكرت بخلاف الحال في باب الدعاء فالقياس فاسد.

نتائج البحث:

أولاً: أن الإيمـان بالقضـاء والقـدر يعتبر من أكبر الدواعي التي تدعو الإنسان للعمل والنشاط بمـا يرضي الله تعالى، وهو من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمـور بثبات وعزيمة ويقين، ولهذا لما سمع بعض الصحابة معاني القدر من النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدره الله عليه، ومكنه فيه، توجهوا إلى العمل، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم، فإن رسـول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن)، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه.

ثانياً: مصالح الدنيا، ومصالح الآخرة متعلقة بالقضاء والقدر، فكلما حقق الإنسان تنفيذ الأسباب الموصلة إلى هذه المصالح وتحققت له كان أسعد الناس بهذا الإيمان على خلاف من كان إيمانه بالقدر سلباً وتواكلاً فإنه لا يجنى في النهاية إلا الإحباط واليأس، ولهذا إذا رأى الإنسان أن مصالح دنياه تحققت بأسباب موصلة، علم أن الآخرة لا بد لها من أسباب اجتهد في تحصيلها أو كما قال ابن القيم: (فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مورقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في المسير فيها بحسب علمه بما يفضى إليه).

ثالثاً: جاء عن السلف الصالح قولهم: (لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره) وذلـك لأنه إذا كان قد سبق له من سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها وهيأ له أسبابها لتوصله إليها، فالأمر كله من فضله وجوده السابق، فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها، فالمؤمن أشد فرحاً بذلك من كون أمره مجعولاً إليه كما جاء عن بعض السلف (والله ما أحب أن يجعل، فالقدر السابق معين على أمـري إلي، أنه إذا كان بيد الله خير من أن يكون بيدي الأعمـال ويحث عليهـا ومقتضٍ لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم.

رابعاً: الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك على المجتمعات وتورث الأحقاد بين الناس وتدفع إلى التحاسد والتباغض ونسيان معنى الأخوة بينهم، فلا يهنأ بنعيم، ولا يسعد براحة، ويفقد معنى القناعة بما رزقه الله.

خامسـاً: لا يخلو الأمر من مصاب جلل يحتاج من الإنسان أن يواجهه بالصبر ورباطة الجأش، فمـن أنعـم الله عليه بإيمان بخير القدر وشره اطمأن حاله، واستقر باله، ولا يرزق الصبر إلا من حقق الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره.

سادسـاً: المؤمن القوي في ميزان الله تعالى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولا قوة تحمد إلا قوة المؤمن الذي يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله ولا يعجز ولا يقنط وإن لحق به شيء أو أصابه مكروه لا يتردد من اللجوء إلى القدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ولا يرمي بنفسه في ميدان "لو" فيهلك وتنثني عزيمته فتغلبه وسوسة إبليس.

وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين

 





الأحد، 10 نوفمبر 2024

خدعة هرمجدون محمد إسماعيل المقدم بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

خدعة هرمجدون

تأليف محمد بن إسماعيل المقدم

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: الإنسان كائن مُفكّر بطبعه، فإن لم تملأ عقله وقلبه بالتصورات الصحيحة، امتلأ بالخطأ واستحوذ عليه الشيطان، وقد شاع في العقد الثاني من الألقية الثانية ظاهرة مُحدثة، وهي الخوض في علامات آخر الزمان وأشراط الساعة، وحفل كثيرٌ منها بالمجاوزات والمآخذ الكثيرة، ومن ذلك الحديث عما يُسمى (معركة هرمجدون).

وهرمجدون ((Armageddon كلمة عبرية، مكونة من مقطعين (هور أو هار) ومعناها الجبل، و(مجدون) اسم وادي في فلسطين، يقع في مرج ابن عامر، ويبعد حوالي 55 ميلاً شمال تل أبيب، و20 ميلاً جنوب شرق حيفا، و15 ميلاً من شاء البحر المتوسط. وقد علق القس "د. فرنسيس راميدسن" على هذا المصطلح بأنه مجهول؛ إذ لا يوجد جبل في مجدو!

الخطير في الأمر أن بعض المسلمين يروجون لهذه المعركة باعتبارها مرادفة "للملحمة" التي أخبر عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، بل قبلوا هذا المصطلح العبري الدخيل، وحاولوا أسلمته دون إدراك الأبعاد الخطيرة التي يروج لها. والتي أهمها "صهينة المسلمين" لما يترتب على اعتقاد هذه المعركة من أمور، منها:

1-اعتقاد ضرورة وجود يهودي على أرض فلسطين.

2-اعتقاد وجوب قيام دولة إسرائيل.

3-اعتقاد أن القدس يجب أن تكون عاصمة يهودية.

4-اعتقاد أن الهيكل يجب إعادة بناؤه بعد نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة.

وهذه الأمور الثلاثة هي الممهدة لهذه المعركة في اعتقاد اليهود والنصارى جميعاً، ذلك أن هدم المسجد الأقصى وقبة الصخة سيستفز العالم الإسلامي للدخول في حرب مع إسرائيل، حينها سيظهر المسيح لإنقاذ إسرائيل.

وقد روّج اليهود لمعركة هرمجدون في الفكر النصراني الغربي، وأنفقوا في ذلك الأموال الطائلة، من أجل ترسيخ هذا المفهوم في عقل الغربي الخاوي؛ لأنها تخدم أهدافهم السياسية في تكوين وطن قومي لهم في فلسطين، ويساعدهم في السيطرة على العالم من ناحية أخرى.

فيعتقد النصارى: أن هرمجدون هي مجزرة بشرية هائلة، أو حرب نووية، تباد فيها مُعظم البشرية؛ وهي بزعمهم بين قوى الشر ممثلة بالشيطان ومعه المسلمون وبعض الروس، وبين قوى الخير ممثلة بالمسيح وقواته من الملائكة التي ستزامنه في عودته، ومن ضمن قوى الخير الشعب الأمريكي، وعقب المعركة يقبض المسيح على الشيطان ويأسره ويسجنه، وفي أثناء المعركة يُرفع الأبرار من النصارى إلى السحاب لمراقبة ما يجري، ثم يعودون سالمين إلى الأرض ليعيشوا مع المسيح ألف سنة في الفردوس الأرضي.

وفي اعتقاد اليهود: هرمجدون هي معركة هائلة تفنى فيها معظم البشرية، وتكون بدخول الألفية الثالثة التي هي نهاية دورة الزمان في التاريخ اليهودي، ويأتي مسيحهم المزعوم لتبدأ دورته في السلام، بعد أن يقضي على كل أعداء إسرائيل؛ وللك فهم يستعجلون قدومه، وقد قامت دولته ووحدت عاصمته وجُهز هيكله الذي سيحكم منه العالم، وبقي معركة "هرمجدون" و"الألفية السعيدة"، و"عودة مسيحهم".

ونظرية النصارى المتعلقة بعودة المسيح، قائمة على أن المسيح لن يأتي إلا بعد عودة الدجال (مسيح اليهود)، وعودة الدجال يعني عودة الهود قبله إلى القدس، وهدمهم للأقصى وبناء هيكلهم وذبحهم للبقرة، فهم في نظر النصارى شرٌّ لا بُد منه، والدجال قدرٌ لا بُد من مواجهته، وعليه فلا يكون اختيار إلا بالاعتناء باليهود، والحرص على دولتهم.

فاليهود ضروريون بالنسبة للأمل المسيحي في الخلاص، هذا مع أن كلاهما متنافرين في جذور العقيدة، ومتنافرين في قضايا التوحيد والبعث، ومن هنا نفه كيف استساغ كثير من النصارى ومبرزيهم في هذا العصر أن ينسبوا أنفسهم إلى الصهيونية مع بقائهم على دين النصرانية.

وعليه "فهرمجدون" هي حرب عالمية ثالثة، وأكثر من وصفها، قال بأنها: حرب نووية، ويعتبرون ذلك تنفيذٌ لمشيئة الرب! ولعل هذا يفسر لنا الانحياز الأمريكي الأعمى إلى جانب الكيان الصهيوني، رغم ما يرتكبه من جرائم وفظائع، ولماذا يوضع هذا الكيان فوق كل القوانين ويُستثنى من كل الإجراءات بما في ذلك التفتيش عن الأسلحة النووية والبيولوجية. وقد جعل الإنجليون في أمريكا وراء كل مذبحة وجريمة يهودية نبوءة توراتية مُزيفة أو مُحرّفة، وليس أمام الآخرين سوى الرضوخ لإرادة الله بحسب زعمهم.

وقد ذهب بعض الباحثين المسلمين (المتخصصين في كتب أهل الكتاب) إلى أن المقصود من "هرمجدون" هو معركة اليرموك بالمفهوم الإسلامي، والتي حدثت سنة 638م، بالقرب من الموقعة التي يشير إليها مصطلح "هارمجدون"، وظفر فيها المسلمون على النصارى.

وهذا الكتاب يُسلط الضوء على هذه المعركة، وفيه رد على أدعياء الدين الإبراهيمي، وتناوله العلاقة الحميمة التي نشأت بين اليهود والنصارى على يد "مارتن لوثر" (قائد ما يُسمى بحركة الإصلاح الديني داخل المذهب البروتستانتي)، والذي دعا على تعظيم اليهود وإجلالهم، باعتبار أن الكتاب المقدس جاء عن طريق اليهود، وأن المسيح ولد يهودياً.

ومن هنا نشأت الحركة الصهيونية النصرانية، التي دعت إلى قيام دولة الكيان على أرض فلسطين، وكان "لوثر" يهدف من خلال هذا التقريب إلى تحويل اليهود إلى المذهب البروتستانتي، ولكن بدلاً من أن يفعلوا ذلك، كان اليهود يقيمون احتفالات لضم النصارى إلى ديانتهم، ولذلك انقلب عليهم "لوثر" وعبّر عن بُغضه لهم في كتابه "ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم"، والذي وضعه عام 1544م، وطالب فيه بطردهم من ألمانيا.

وفي ظل هذا التعاطي مع هذه القضية (وهي أن قيام مملكة إسرائيل هو الطريق للمجيء الثاني للمسيح) قرر الكاثوليك الانضمام إلى التيار الصهيومسيحي، معتقدين أن من سيتبقى من اليهود بعد مجيء المسيح لن يكون أمامهم سوى اتباعه والإيمان به، وأما بقيتهم من غير المؤمنين به؛ فسوف يقتلهم المسيح مع أعدائه.

وتطورت العلاقات بين النصارى واليهود في أكبر بلدان العالم وأكثرها قوة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبنّت هذا المشروع، بناءً على التراث التاريخي والروحي، ويرى نصارى أمريكا أن الله اختار الولايات المتحدة وباركها من أجل إسرائيل. كما يؤمن كثيرٌ من النصارى الأمريكيون بأن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948م جاء كتحصيل للنبوءات التوراتية، وأن انتصارها في حرب عام 1967م واحتلال القدس هو تأكيدٌ لهذه النبوءات.

بل عن اليمين المسيحي في الولايات المتحدة كان مُستعداً، بل راغباً في اشتعال حرب نووية من أجل إسرائيل تحقيقاً للنبوءات التوارتية المتعلقة بقدوم المسيح. إذن ربط النصارى مصيرهم وعقيدتهم بدولة إسرائيل التي تُعد تحقيقاً لإرادة المسيح كما يقولون، وإيذاناً بعودته مرة أخرى إلى الأرض فكل طرفٍ كما ترى يحاور الآخر ويُراهن عليه، ويضمه لجانبه طمعاً في جعله من جملة أتباعه.

وقد بين قادة إسرائيل أن بقاء دولتهم مرهون بالدعم الأمريكي والنصراني، وصرّح بذلك حاييم وايزمان (مؤسس الصهيونية العالمية)، وبن غوريون، الذي قال: إن نجاح إسرائيل قائم على 97.5% من دعم السياسة المسيحية التوراتية و2.5% على القوة العسكرية الداخلية. وأشار لذلك نتنياهو في إحدى تصريحاته.

ومما ينبغي معرفته أن هذا التمهيد لمجيء المسيح لم يكن وليد القرن العشرين، بل سبق إلى ذلك "كريستوفر كولومبس" الذي يعتقد أن مغامرته في اكتشاف العالم الجديد تأتي ضمن خطته لعودة المسيح، وبدء الألف عام السعيدة، وتحرير أورشليم من المسلمين، وإعادة بناء المعبد. وكذلك "نابليون بونابرت" في حملته المصرية عام 1799م وجّه نداءه ليهود العالم لينضموا إلى جيشه لإعادة ما سماه مجد اليهود الضائع في القدس.

وأخيراً: هناك فروق جوهرية بين "الملحمة" التي يعتقد بها المسلمون، وبين معركة "هرمجدون" التي يؤمن بها النصارى، وأبرزها:

أولاً: أن خبر "الملحمة" ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أما "هرمجدون" فهو اصطلاح نصراني إسرائيلي، لا يُدرى مصداقيته ولا صحته، وهو مجرد اسم للموضع يُدّعى أن المعركة ستقع فيه، في حين أنه ثبتت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تسمية موضع الملحمة بأنه "الأعماق" أو "دابق" موضعان بالشام قرب حلب.

ثانياً: أن "الملحمة" ستقع بين أهل الإسلام وبين الروم والنصارى، في حين يدّعي أهل الكتاب أن "هرمجدون" طرفاها قوى الشر ممثلة بالمسلمين، وقوى الخير ممثلة بالنصارى واليهود.

ثالثاً: أن عاقبة "الملحمة" هو انتصار المسلمين على أعدائهم، في حين يدعي أصحاب "هرمجدون" أن الغلبة للنصارى. كما يؤمن المسلمون أن المسيح عليه السلام حينما ينزل؛ فإنه لن يخرج مع النصارى، بل سيخرج عليهم؛ فيكسر صليبهم، ويقضي على دجال اليهود (مسيحهم)، ويضع الجزية، ولن يقبل حينها إلا الإسلام.

رابعاً: حدد النصارى موعد "هرمجدون" التي ينتظرون منها قدوم المسيح –على رأس الألف أو خلالها، وهم على أعتاب الألف الثالثة، وأما الأحاديث النبوية فلم تُحدد موعداً "للملحمة" سوى أنها من أشراط الساعة.

خامساً: أن الترويج لمعركة "هرمجدون" هو ترويج لمفاهيم يهودية نصرانية لا أصل لها في الإسلام، بل هذا يُعتبر تسليم لليهود الغاصبين لهذه الأرض، وانضمام لهذا القطيع الصائر إلى مصيره المحتوم، واستسلام لمخططات اليهود وإفسادهم.

سادساً: أن "هرمجدون" ضد السنن الكونية والشرعية، و"الملحمة" متوافقة معها، و"هرمجدون" يأس وقنوط، و"الملحمة" بُشرى وأمل. "هرمجدون" تدعو إلى استحضار هزيمتنا كأمر واقع، و"الملحمة" انتصار للمسلمين وهو الأمر الواقع، والوعد الحق، وهو أمر شرعي قدري.





أيُّها السّاسة أوقفوا هذا المد تأليف الشيخ العلامة د. سلمان بن نصر الداية بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

أيُّها السّاسة أوقفوا هذا المد

تأليف الشيخ العلامة د. سلمان بن نصر الداية

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: إن الحقائق تحتاج لرسوخها إلى الحسم والوضوح والمباشرة، ولا تحتمل المجاملة ولا التأجيل؛ حتى وإن كان المقام مقام مواجهة وحرب، ولو بلغ الخذلان أوجه وذروته؛ لأن المصلحة المترتبة على هذا البيان أعظم من بقاء الأمر على ما هو عليه، فمن هذه المصالح: تصويب المفاهيم، وتصحيح المسار أو تغييره.

لقد قرأنا وسمعنا تصريحات قادة الطوفان ومنظريه، والتي هي خليطٌ بين الحكمة والعبث، وبين العدل والجور، وبين الهدى والضلال، وقرأتُ لبعضهم تأصيلات شيطانية لهذا الطوفان، أشبه ما يكون بتقرير هذا الكم الرهيب من المجازر الدموية والإبادة الجماعية، وتساءلت في حينها: أيُّ تأصيلٍ هذا؟ ولصالح مَن؟ وعلى حساب من؟!

 هل هو تأصيلٌ لاستمرار هذه المقتلة التي أبيدت فيها آلاف مؤلفة من البشر؟ أم هو تأصيلٌ لمكابرة الساسة والقادة المتربعين على عرش الزعامة في الخارج؟ أم هو تأصيلٌ لمعاناة المواطنين وجراحاتهم ومآسيهم التي لا تتوقف؟!

لا شك أن تلك التأصيلات الفذة والعبقرية تمنح -بغبائها -الغطاء والمشروعية لكل تلك المجازر والإبادات؛ فتمضي المذابح تلو المذابح دون أن يُحرك أحدٌ ساكناً، ودون أن ينبت المقهورون ببنت شفة؛ لأن الله هو الذي يأمرهم بذلك! ولأننا نستحق العقوبة! ولأن هذا ضريبة الجهاد المزعوم!

هل هذا كلام يصلح لوعظ الناس فضلاً عن تأصيل مآسيهم وجراحاتهم.

ما يجري هو برمجة صريحة لعقول الغزيين والبسطاء على قبول هذا السيل الجارف من الدماء، وهذا الطوفان الكارثي بناءً على السعادة الأبدية بمصير الراحلين، وإرجاع الأمر لقدر الله.. دون اعتبار من الأخطاء التي ارتكبت أو تُرتكب من هؤلاء البشر، وتودي بحياة الآلاف إلى المهالك.

وهل يستوي التطهير المعنوي بالتوبة من الذنوب والمعاصي مع التطهير العرقي الذي نشاهده صباح مساء حتى نتوب عن الأول ولا نرعوي عن وقف الثاني؟ وهل ما تراه من قتل وتشريد نوع من الرحمة ندب إليها الإسلام وعدّها من مقومات البطولة؟ وهل هذه الحرب علامة من العلامات التي وضعها الله للغزيين لإنذارهم بسوء أعمالهم ولا تعلق لها بسوء إدارة القطاع وفشل قادته؟ ولماذا لا يوجه الشيوخ كلامهم إلى الساسة والقادة في لمعرفة من هو المسؤول عن هذه المحرقة؟ ومن المطالب بوقفها وإنهائها؟!

إن الدعاة والمصلحين حقاً لا يمكن أن يُفكروا بالطريقة التي يُفكر فيها هؤلاء الشيوخ، فالأمر ليس مجرد ملاومة، ولا نصب الشماعات التي تُلقى عليها قمصان الدم وعباءات الدمار، ولا حتى حصر الأمر في الدعاء والصبر وانتظار الفرج فقط، بل النُّصح لمن تسبب بالأذى للعباد بلا أدنى مسؤولية أو نتيجة بأن يتوقف عن أفعاله، ويُراجع أهدافه وتصريحاته وأغراضه الشخصية والحركية، ويكف عن هذا العبث الذي يخدم الاحتلال ويتسق مع أهدافه، ظناً منه أنه يُرضي الله ويحمي الوطن.

وهذه رسالة نفيسة جليلة للإمام العلامة الشيخ القدوة سلمان بن نصر الداية، حفظه الله تعالى – وضع فيه حدّاً لكل تلك التجاوزات التي أطلقها الساسة باسم الدين، في الوقت الذي ترك فيه أهل الدين الساحة للساسة ليجتهدوا ويتحكموا بمصير البلاد والعباد، بل ويقرروا ما يجوز وما لا يجوز.

وقد أجاب فيه عن تصريحات بعض السياسيين المحسوبون على الطوفان بآي الكتاب الكريم، وسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفهم العلماء الربانيين، مُبيناً أخطاءهم الكارثية، وجناياتهم على الدين والشريعة: في رمي منتقدي طوفانهم بألقاب العمالة والنفاق والجبن والتخاذل، ثم عدم اعتبارهم لأعداد المدنيين الذين سقطوا في هذه الحرب الظالمة. وقول بعضهم: إن خسائرنا تكتيكية. وقول رابع: نحن على استعداد أن نكون كأصحاب الأخدود! وقول خامس: حماية الناس منوط بوكالة الغوث والاحتلال! وقول سادس: أن الشعب مجر ورقة ضغط على الاحتلال ولا يهتم إذا قتل الاحتلال 20 أو 100 ألف! وقول بعضهم أن الأوطان لا تُحرر إلا بالدماء وهو ما يحصل الآن!

وأخيراً: قد يمتلك هؤلاء القادة قدرات خطابية قوية، وقنوات تدعم تلك الخطابات بتأصيلات وهمية، لكنهم لا يمتلكون أية حجة شرعية أو أي مسوغ ديني لاستمرار هذه الإبادة، وكل محاولاتهم لتدبيج الآي وتطويعها لخدمة أهوائهم لن تُفلح في تقرير هذه الأخطاء؛ لأن هذا الدين متين، ولم يبق إلا الفهم المغلوط للدين، والدوران في فلك المصالح الحزبية والسياسات الإقليمية والعلاقات الدولية، في مقابل السياسات الشرعية التي لا يسع أحداً مخالفاتها.

إن الدوران في ساقية هؤلاء الساسة، أشبه ما يكون بدوار البهيمة العمياء، التي قاد زمامها رجل أعمى على عوج الطريق، فأنى لهذا أن يصل أو يبلغ مراده. ولذا أنصح نفسي وإخواني بلزوم السياسة الربانية (الشرعية)، التي نطق بها كتاب الله وشهدت لها سنة رسوله الكريم ، وفهم علمائنا الأبرار الأطهار، والتي توجها شيخنا الإمام في رسالته هذه.



بعد عام من الطوفان تأملات وتوقعات وحلول تأليف الشيخ رامي الدالي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

بعد عام من الطوفان تأملات وتوقعات وحلول

تأليف الشيخ رامي الدالي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

       تمهيد: طرقت العديد من المؤلفات المتعلقة بهذا الطوفان، في سياقها الديني والسياسي، فألفيتُ في كثيرٍ منها تأصيلات ضعيفة تفتقر إلى البناء السليم، والقواعد الصحيحة، بل تفتقر إلى بداهة النظر فضلاً عن التدقيق والتعمّق في الحيثيات والتفاصيل، فمن إيراد دليل في غير محله، أو ذكر شاهد في غير مشهده، أو تعليق آمالٍ في غير موضعها.

وللأسف رأينا بعض الشيوخ من يُقرر هذه الإبادة، ويُمجّد هذه المحرقة، ويتعامل مع آراء السياسيين وتقديراتهم البشرية تعامله مع الأدلة والنصوص الشرعية، من حيث تنزيهها عن الخطأ، وإلحاقها بالمُقدس والمتعالي، سعياً في تقديم حصانة شرعية تحمي تلك الآراء والتقديرات من المراجعة والنقد، حتى كتب أحدهم: (هذه الحرب يديرها الله!) كأنه يقول لمنتقديها: إنكم تقفون في الجانب المعادي لله والدين!

إن هذه الأوهام والمبررات التي يزرعها هؤلاء الشيوخ في عقول الكبار والشباب ممن أدركوا هذه الحرب، سيستمر نتاجها المُر حتى أجيال قادمة، وما قيمة هذه الأوهام التي يُلوّح بها هؤلاء إذا فقد الناس الثقة في فهم هؤلاء وكلامهم؛ إذ كيف يُجعل من رفض كلام الساسة وانتقاده رفضاً للدين برمته.

هل هذا لأن الزمرة التي تبنت الحرب أملت على الناس أنها هي الطائفة المنصورة التي تمثل الإسلام، والإسلام بالطبع لا يخطئ أبداً. وبالتالي فإن هذه القيادات معصومة لا تخطئ! من قال هذا الإفك؟ لا شك أن هذه المغالطات فتنةٌ عظيمة يعرضها هؤلاء الشيوخ، فصفعتهم على وجوههم.

ثم من هذا الذي يجعل من فهم القادة والسياسيين وأفعالهم حجةً على الدين، وهم بشر يخطئون ويصيبون، وقد تحقق خطؤهم هذه المرة بلا ريب، ولا حرج عليَّ أن أقول ذلك أو أصرّح به. إن دين الله –سبحانه وتعالى –دينٌ خالد، وهو فوق أي احتكارٍ أو ادّعاءٍ أو تمثيل، ولا يمكن اختزال أحكامه في رؤية سياسية، أو تحليل إعلامي، أو هوىً نفساني (حزبي أو شخصي).

وهذه رسالة قيّمة في ترتيبها وتدرجها في بيان قضية الحرب ومعرفة فقهها للشيخ أبي محمد الدالي –وفقه الله -تتضمن جملةً صالحة من الأسباب الشرعية التي ساهمت في نشوب هذه الحرب واستعارها، وهي وإن لم تكن السبب المباشر لها؛ إلا أنها تؤصل للمعنى الشرعي العام للحرب.

وتأتي هذه الرسالة في السياق: التصحيحي والإنذاري للقادة والساسة وصُناع القرار، في إطار غزوة أحد وما يليها من غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعاركه، وذلك باعتبار ما جرى عقوبة عمّت الجميع.

وقد ذكر الشيخ عدة أمور هيأت لهذه العقوبة، ومنها: عدم تحكيم شرع الله تعالى. وعدم وضوح راية الحق وتجردها. ومجاملة أهل البدع في أمور العقيدة. وأن هذه العقوبة تناولت من نصّبوا أنفسهم لحمل لواء الدين، وكون العقاب الذي جلبوه على أنفسهم والناس أشد من العقاب الذي يجلبه العوام.

وفي ذلك يقول: "فلا يجوز بحال أن نقول عن قائد أهل البدع إنه شهيد القدس؛ لأن القدس تقع في الصميم من عقيدتنا ولا يفتحها إلا أهل العقيدة الصحيحة والإيمان الخالص، وهذا تعديل ومدح لعقيدته، والشهادة تزكية في ذاتها، فإذا أُضيفت إلى العقيدة كانت تزكيةً لها".

وقال أيضاً في الإشارة إلى حوثيي اليمن والحشد الشعبي: "ولا يجوز أن نقول كذلك إنهم من الجند الوارد ذكرهم في حديث ابن حوالة: (سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة: جندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق"... لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرهم على سبيل التزكية، وأنهم الذين يمثلون الإسلام ويرفعون راية الحق الخالص الذي يفتح الله على أيديهم. ولا أن نقول مثلاً هؤلاء شرفاء هذه الأمة؛ لأن شرفاء الأمة هم أكرمها وهم أنقياؤها...".

وذكر الشيخ من هذه الأسباب: الاستخفاف بالذنوب والمعاصي، وتراخي السلطة الحاكمة عن الأخذ على أيدي هؤلاء. وأن الجهاد وسيلة وليس غاية. ونسي الشيخ –حفظه الله –أسباباً شرعية أخرى، نبَّه عليها غيرُه كفضيلة الشيخ العلامة الدكتور سلمان بن نصر الداية في رسالته الأخيرة، ولعلي أفرد لها مقالاً خاصاً بها.







رسالة إلى شباب الأمة د. راغب السرجاني بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

رسالة إلى شباب الأمة

د. راغب السرجاني

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: الشباب هم وقود هذه الأمة، ومحركها النابض، وعقلها المفكر، وتُعد هذه المرحلة هي الأخطر والأكثر أهمية في حياة الإنسان، كونها أطول مراحل الحياة، بالإضافة إلى كونها المرحلة التي تكتمل فيها القوة البدنية والإدراكية ويكتسب فيها كثيراً من الخبرات العلمية والعملية، وقد بلغ من خطورة هذه المرحلة أن يُفرد لها سؤال خاصٌّ بها يوم القيامة: (وعن شبابه فيما أبلاه).

وقد ضحت هذه الأمة بخيرة شبابها وخيرة أبنائها وأموالها لإيصال هذا الدين والخير للناس، ولعل الدعوات المعاصرة على اختلافها ارتكزت على فئة الشباب، سيما شباب جيل الصحوة، والذي تاب على يديه كثيرٌ من الناس. وفي هذا الوقت نحتاج إلى اختبار هذا الشباب في انتمائه وولائه بما يجدُّ من قضايا هذه الأمة، لنرى موضع اهتماماته، وأكثر ما يشغل تفكيره، والقضية التي تستحق أن يفني عمره فيها.

وهذا الكتاب موجه إلى الشباب المسلم الذي لا يعرف دوره في الحياة، والأمر الذي ينتظره المسلمون منه، والخط الذي ينبغي له السير فيه. هذا ونحن نرى مشكلات الشباب الكثيرة من البطالة، والرغبة في الزواج مع ارتفاع التكاليف، والاختلاط، والنظر المحرم، وغيرها من المشكلات المعاصرة.

ويعرض هذا الكتاب المشكلات الأساسية والجوهرية التي ينبغي للشباب الاعتناء بها، وعلى سبيل المثال: السعي لإيجاد حكم إسلامي، والعمل على تحرير البلدان التي ترزح تحت الاحتلال، والتصدي لحملات التشويه الإعلامي لشعائر ورموز المسلمين، وحل مشكلة الديون المتراكمة على العالم الإسلامي والتي يكاد الخروج منها يكون مستحيلاً، وحل مشكلات الفساد الإداري والمالي وانعدام الشفافية والمصداقية في مؤسسات العالم الإسلامي الرسمية وغير الرسمية، ومشكلة ضآلة الإنفاق على قضايا البحث العلمي وتطوير التقنيات، ومشكلة عدم وصول الإسلام إلى مناطق شاسعة في العالم.

والفرق بين المشكلات في الفقرة الأولى والثانية هي أن الأولى تُعد مشكلات فردية ولا شك أنها مُلحة، وتحتاج إلى علاج وحل، لكن المشكلة الثانية عامة وحلُّها يتطلب تكاثف جهود الشباب، وما كانت حركة التغيير في العالم الإسلامي إلا على أيدي الشباب: بدءاً من الصحابة الكرام الذين دخلوا في الإسلام وبشروا به، وتفانوا في خدمته -وهم في ريعان الشباب، وذكر نماذج شبابية كثيرة، منهم:

* الزبير بن العوام رضي الله عنه = ص 22.

* طلحة بن عُبيد الله = ص 24.

* سعد أبي وقاص = ص 25.

*  الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي = ص 25.

* علي بن أبي طالب = ص 27.

* زيد بن ثابت = ص 29.

  ثم دلف بعد ذلك إلى بيان بعض الأسباب التي ساهمت في نشأة هذا الجيل الضائع، والتي منها: غياب التربية الإسلامية الواعية. وغياب القدوة الصالحة. والإحباط. والإعلام الفاسد. ثم تطرق إلى بعض النصائح الهامة إلى الشباب، والتي تساهم في انتشالهم من كبوتهم وانحرافهم، والتي منها: الإقلاع عن المعاصي. وتعرف على دينك. والارتباط بالمسجد. والسعي إلى التفوق. وصلة الرحم. وانتقاء الأصدقاء. معرفة الواقع. وممارسة الرياضة. الدعوة الفردية لغيرك. وأخيراً نظم وقتك.



الخميس، 7 نوفمبر 2024

العقيدة في فكر جماعة الإخوان المسلمين إبراهيم جبرين جولس بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

العقيدة في فكر جماعة الإخوان المسلمين دراسة تحليلية

إبراهيم جبرين عطا الله جويلس

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: هذه دراسة علمية تبحث في قضايا العقيدة في فكر جماعة الإخوان المسلمين، من حيث موافقتها أو مخالفتها لاعتقاد أهل السُّنة، وتتطرق إلى تساؤلات مهمة، وقضايا مُلحة تتعلق بفكر الجماعة ومنهجها التربوي والدعوي، ومنها: هل يهتم الإخوان بقضايا العقيدة؟ وما رأي الجماعة في آيات الصفات؟ وما موقفها من الحكام والمشاركة السياسية؟ وكيف تنظر إلى القبورية والتصوف والبدع؟ وكيف تفسر مفهوم الولاء والبراء؟

تُعد جماعة الإخوان المسلمين هيئة إسلامية دعوية جامعة، تؤمن بمبادئ الإسلام وشموليته لجميع جوانب الحياة، ولها منهاج تربوي وديني معروف، كما أن لها عناية كبيرة بمجال الخدمات الإنسانية والنشاط السياسي، ولها امتداد قطري، وتحالفات إقليمية ومحلية وتعتز بروابطها الدولية، وهي حركة شعبوية مرنة ومتحورة، تتكيف بحسب البيئات والأعراف والمذاهب وأنظمة البلدان، ويتبعها مئات الآلاف حول العالم، وتركز على فئة المتعلمين وأصحاب الطاقات والخبرات في المجتمع كأعضاء فاعلين في الجماعة، يعملون لخدمتها وتحقيق مصالحها.

ومن أهداف الجماعة المُعلنة إقامة الخلافة الإسلامية في مختلف أقطار العالم الإسلامي، وذلك عن طريق الوصول إلى سُدة الحكم، سواء بالانتخابات أو بالثورات والانقلابات، كما تتبنى خيار الثورة والقوة ضد الأنظمة كوسيلة للتغيير، وهي تعمل حالياً في أكثر من سبعين قطر إسلامي.

وللجماعة لائحة عامة مكونة من أربعة وخمسين مادةً، تنتظم في ستة أبواب، وهي مُلزمة للجماعة في جميع الأقطار ولجميع الأفراد، وتعمل في الإطار الرسمي من خلال المؤسسات والجمعيات المتاحة، وفي الإطار غير الرسمي من خلال الاجتماعات والندوات الدورية.

وقد كان للجماعة دور بارز في التصدي للفكر العلماني والشيوعي والإلحاد وغيرها من الأفكار المنحرفة وهذا يأتي في الإطار العام للدفاع عن الإسلام. لكن الجماعة أيضاً كانت تتأثر تأثراً بالغاً بطبيعة البيئات التي تتواجد فيها، كذلك تأثرت بالقناعات الدينية والطائفية المنتشرة في مختلف المناطق حول العالم، والتي تركت أثراً بالغاً في التكيف العقدي والمذهبي للجماعة، والتي فرضها عليها اتباعها.

 ولعل الباحث استطاع تصوير بعض مطالب بحثه بما يتفق مع أهداف الدراسة، ولكنه كان عاجزاً عن تناول تلك المطالب بموضوعية تامة؛ لأننا نرى انتقائية عجيبة في اختيار المادة والكتب التي سيستقي منها النتيجة والخلاصة، نرى مثلاً كتباً لبعض أعلام الجماعة، مثل: (كتاب العقائد الإسلامية لسيد سابق)، و(كتاب الإيمان لمحمد نعيم ياسين)، و(كتاب تبسيط العقائد للشيخ حسن أيوب)، و(تعريف عام بدين الإسلام لعلي طنطاوي)، و(الإيمان أولاً) لمجدي الهلالي)، الأمر الذي لا يتفق مع محددات الدراسة والتي ترتأي بالأساس لدراسة العقائد التي وضعها المؤسس البنا.

مع ضرورة التنويه إلى أن مؤسس الجماعة لم يُردها جماعة عقدية، كما أنه ليس من أهل التخصص في علم العقيدة وأصول الدين؛ فلم يترك رسالة متخصصة شاملة، وإنما هي ثقافات ومعارف أشبها ما تكون بالمبادئ اكتسبها من خلال مقروءاته ومسموعاته ولقاءاته التي كان يحضرها، ولذا كان كثيراً ما يُحيل في رسائله وكتبه إلى أصحاب الاختصاص وأمهات الكتب، الأمر الذي أقرَّ به الباحث في دراسته.

ولذلك لا أرى هذه الدراسة مع فائدتها في التأريخ للجماعة ومؤسسيها ذات موضوعية، وهي بحاجة إلى إعادة نظر؛ لأن كثيراً من المنتسبين للجماعة لهم قناعتهم العقيدة المخالفة لنتائج الدراسة، وليس من شروط الجماعة التزام مذهب عقدي مُعيّن، وحتى لو وجدنا ذلك الشرط بتأويل سائغ، سنجد في الواقع أن الأمر مختلف تماماً.

 ولعل الأفضل تناول المذهب العقدي للجماعة من منطلق المبادئ العامة للإسلام أو التوجيهات الكلية للقرآن والسُّنة، وهذا ينقلني إلى الباعث الرئيس أو الأساس من وضع مثل هذه الدراسة، والتي تمثل تصنيفاً لها بين الفرق والجماعات المعاصرة على أنها جماعة سُنيّة تتبع أهل السُّنة والجماعة.

وبالجملة فإن الجماعة بمختلف مكوناتها، يمكنها أن ترتكز على عقائد أهل السُّنة في مختلف القضايا المطروحة حالياً، بل وتقررها في منهاجها الحديث، وقد بين الباحث التقويم العقدي وحركة التصحيح للمفاهيم داخل الجماعة، وهذا جيد. ولكن تبقى بعض الإشكاليات في التطبيق، والنظر الدقيق لبعض المسائل، ولكن النظر العام للجماعة ينبغي أن يكون للغاية التي تسعى إليها ومدى توافق ذلك مع معتقد أهل السنة أو لا.

لقد تلقى مؤسس الجماعة حسن عبد الرحمن البنا، تعليمه الابتدائي في مؤسسة دينية تُعرف "بمؤسسة الرشاد الدينية"، ثم اجتمع بأتباع الطريقة الحصافية، ثم تردد على مكتبة والده العالم عبد الرحمن البنا، و"المكتبة السلفية"، وبعد ذلك انتقاله إلى "دار العلوم" لإكمال دراسته الجامعية، ثم انتمائه إلى الجمعيات الدينية، مثل: "جمعية المكارم الإسلامية"، و"الجمعية الحصافية الخيرية"، وأخيراً قام بتأسيس "جمعية الإخوان المسلمين"، وظل على رأسها وفي مقدمة المنظرين لها؛ حتى اغتيل في العام 1949 م.

كما تأثر البنا بعدد من الشخصيات المعروفة في ذلك الوقت منها: الشيخ محمد زهران، والأستاذ عبد العزيز عطية، والأستاذ رشيد رضا، والأستاذ محب الدين الخطيب، والشيخ محمد الخضر حسين، والسيد عبد الوهاب الحصافي شيخ الحصافية، والشيخ عبد الله الصولي الذي تروج البنا كريمته لطيفة الصولي، وأنجب منها ابنه سيف الإسلام أحمد.

ووضع البنا منهج الجماعة مع ستة من أتباعه تحت عنوان "مدرسة التهذيب"، ثم قام بعد ذلك بتأسيس "مدرسة حراء الإسلامية" للبنين، ثم "مدرسة أمهات المؤمنين" والتي كانت تدرس المنهاج وفق رؤية الإخوان المسلمين، ثم نشر "جريدة الإخوان المسلمين"، والتي كانت في بادياتها تدعوا إلى إصلاح النفوس وتهذيب الأرواح، واستمرت في ذلك أربع سنوات، أتبعها بمجلة "النذير" والتي استمرت سنتان، ثم صدرت المجلة الخاصة بالجماعة تحت اسم "الإخوان المسلمون".

وقد ترك المؤسس عدداً من المؤلفات والرسائل التي يمكن الاعتماد عليها في تقرير عقيدة الإخوان، ونظرتهم إلى مختلف القضايا المعاصرة، كان أهمها رسائله التي كانت تصدر بشكل دوري ابتداءً من (1931 وحتى 1947م) وبلغ عددها اثني عشر رسالة، كانت تُعد ميثاق الجماعة والدستور الذي يجمع شتاتها، وقد جُمعت في كتاب تحت عنوان (مجموعة رسائل البنا) وقد تطرق الباحث إليها بالتفصيل (ص: 33 -35).

وأخيراً مذكراته (المعروفة بمذكرات الدعوة والداعية) التي تناول فيها محطات من حياته الشخصية والدعوية، منذ طفولته في العام 1915 وحتى 1940 وقد أشبعها بمواقفه تجاه قضايا العالم العربي والإسلامي، ونظريته في التغيير المستقبلي.

بل قد شارك البنا في الحياة السياسية من خلال ترشحه لعضوية مجلس النواب في العام 1942، قبل أن يعدل عنها مقابل رفع الحكومة قبضتها عن الجماعة، والسماح لها بممارسة أنشطتها التي كانت مُنعت منها في العام 1941م.

وقد حاول البعض مقارنته بعدد من المُصلحين قبله؛ فبعضهم يقرنه بشيخ الإسلام ابن تيمية، وآخرون يرون أنه ينتظم في سياق المصلحين الدينيين مثل: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وآخرون يرون تأثره الكبير بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

ويذكر الباحث ضمن مقدماته في المبحث الثاني من الفصل الأول: تاريخ تأسيس الجماعة، ونواتها الأولى، وشعارها المرسوم، وشعارها المنطوق، والتكوين العلمي للأعضاء، والدرجات التي يترقى فيها، والبيعة التي يعاهد فيها على ثمانية وثلاثين بنداً، ونصُّ البيعة المعهود في الجماعة، والهيكل الإداري للجماعة بحسب نظر حسن البنا، ومرشدو الإخوان بعد حسن البنا، وذكر منهم: حسن الهُضيبي (1951 -1973)، وعمر التلمساني (1973 -1986)، ومحمد حامد أبو النصر (1986 -1996)، ومصطفى مشهور (1996 -2002)، ومحمد المأمون ابن حسن الهُضيبي (2002 -2004)، ومحمد مهدي عاكف (2004 -2010)، ومحمد بديع (2010 –وحتى الوقت الحالي).

وهذه الدراسة الطيبة قدمها الباحث إبراهيم جويلس كمتطلب لاستكمال درجة الماجستير في العقيدة بقسم أصول الدين في كلية الدراسات العليا والبحث العلمي في جامعة الخليل، وتتضمن هذه الدراسة مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة.

أما الفصل الأول: فخصصه للحديث عن الجماعة من حيث النشأة والتأسيس، ومن حيث الأهداف، والوسائل، والأساليب، والأنشطة التي تمارسها، بالإضافة إلى الانتشار، وتحدث أيضاً عن مؤسسها البنا من حيث نشأته وحياته العلمية والعملية.

وفي الفصل الثاني: تناول الباحث العقيدة في فكر الجماعة من خلال مصادرها المعتمدة، باستعراض آراء حسن البنا، مع الأخذ بعين الاعتبار الموطن الذي احتضن هذه الجماعة إبان تأسيسها، ومصادر البنا العلمية.

أما الفصل الثالث: فقد خصصه في بيان الشُّبه المثارة حول بعض قضايا العقيدة في فكر الجماعة، ومناقشتها في ضوء عقيدة السلف الصالح، وتم تناول هذه الشُّبه في أربع مباحث، لكل شُبهةٍ مبحث، مع بيان موقف الجماعة منها، مع عزو الكلام إلى مصادره.

وقد استفاد الباحث من مؤلفات الجماعة في تقرير عقائدها، والتي من أهمها:

1-رسالة العقائد؛ لمؤسس الجماعة حسن البنا، وهي منشورة ضمن كتاب (مجموع الرسائل، في الصفحات: 377 -418)، وذكر فيها أهداف الجماعة وغايتها، ووسائلها لتحقيقها، بالإضافة إلى جملة من المسائل الاعتقادية المتعلقة بأقسام التوحيد الثلاث: الإلهيات، والنبوات، والسمعيات.

2-رسال التعاليم؛ لمؤلفها حسن البنا، وهي منشورة ضمن الرسائل أيضاً (في الصفحات: 353 -371)، وهي ذات أهمية باعتبار أنها مخصصة لمن تأهل للبيعة من أفراد الجماعة، ثم تضمنها أركان البيعة العشرة للجماعة، وأصول الفهم العشرين الذي يُعد الركن الأهم والأساس عند الجماعة.

بالإضافة إلى الكتب التي توافق أو تخالف الجماعة من مؤلفي أهل السُّنة، ومنها:

1-الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة؛ للشيخ سلين عيد الهلالي (الصفحات: 195- 367).

2-الإخوان المسلمين 70 عاماً من الدعوة؛ للدكتور يوسف القرضاوي (الصفحات: 314 -351).

وقد أشبع الباحث بعض هذه المباحث بالدراسة والتعليق، سيما ما يتعلق بالتصوف، والتوسل، والتبرك بالصالحين، والصلاة إلى القبور، وطبيعة الصراع مع اليهود، وموقفها من الوطنية والقومية، وموقع الولاء والبراء من فكر الجماعة، وموقفهم من الصراع الدائر بين اليهود والعرب في فلسطين، على أنه تم توظيف بعض هذه المفاهيم لخدمة الإخوان كجماعة وحزب له أتباعه وفكره الحاصر.

 

  


الثلاثاء، 5 نوفمبر 2024

الأربعون القلبية د. نادر وادي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الأربعون القلبية

د. نادر وادي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: القلب وعاء الإيمان، ومجمع الخير والإحسان، فهو الذي يُصدق ما جاءت به الرسل، واللسان يُصدق ما في القلب، والعمل يصدق القول والقلب، ولذلك قيل: المؤمن من صدق قوله عمله. كما أن القلب أكير في مملكته يتصرف في الأعضاء بما يشاء، وكل ما دونه من الأعضاء جنود وأتباع مطيعة ومنقادة، فإن صلح القلب صلح سائر الجسد، وإن فسد القلب فسد سائر الجسد.

كما أن القلب يتأثر بكسب الجوارح والأعضاء، لأن الجميع يصبُّ فيه ويتوجه إليه، ولذا شبَّه بعض المعاصرين القلب بلوحة الكترونية حساسة، تتأثر بما حولها، وتنفعل للتيار المار فيها؛ فهو ملك مُطاع لكن قد ينقلب إلى ملك تابع، لذا ينبغي الحفاظ عليه، والاعتناء بشأنه،

وهذا الجزء الحديثي النافع، جمع فيه مؤلفه اثنين وأربعين حديثاً في القلب وأحواله، اقتبس أصولها من كُتب الصحاح والسُّنن، فانتقى ما يتصل به اتصالاً مباشراً، وهي أحاديث صحاح إلا حديثين كما أشار المؤلف -وفقه الله -وقد زيَّنها بحُسن تعليقه عليها، من شرح غريبها وبيان شاهدها، ثم استخراج لطائفها وأهم ما يستفاد منها.

ورتب المؤلف أحاديث الكتاب في ثلاثة أقسام، بعد تقديمه لها بحديث (إن في الجسد مُضغة) والذي يُنبّه على أهمية هذا الجزء الخطير في الإنسان، وكونه في مرتبة الملك بالنسبة لغيره، وبعد ذلك، يأتي:

القسم الأول: ما يتعلق بالقلب من العقائد وأصول الدين، وفيه:

ثواب القلب الموقن بالله وبرسوله، وأنه لا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، وأن القلب هو محط نظر الرب وثوابه، والنهي عن التنقيب في قلوب الناس، وإيمان القلب وما يتبعه من إيمان اللسان، وأن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل.

القسم الثاني: ما يتعلق بالقلب من العبادات، وفيه:

أن الله تعالى لا يستجيب من قلبٍ غافلٍ لاهٍ، والدُعاء بصلاح القلب، وأن تعلق القلب بالمساجد سبب لإظلال صاحبه في القيامة، وطلب يقين القلب وطمأنينته، وإذا وقع القرآن في القلب نفع، وائتلاف القلوب على القرآن، ومؤاخذة القلب في بعض أعماله، ورفع الإثم عن حُزن القلب، واستفتاء القلب في بعض الأعمال، وإنكار القلب للمنكرات، وتفهم مقالة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقلب، وطلب سلامة القلب واجتناب المشتبهات، ومن سأل الشهادة من قلبه صادقاً.

القسم الثالث: ما يتعلق بالقلب من الأخلاق والتربية والسلوك، وفيه:

أن القلب الرحيم في الجنة، وأن اللقب القاسي بعيد عن الله، وخير مال المرء قلبٌ شاكر، وأن الكرم هو قلب المؤمن، والنهي عن اختلاف القلوب، وضرب القلوب بعضها ببعض إذا رضيت بالمنكر، وعلاج غين القلب بالاستغفار، وخطر الطَّبع على القلب، وخطر المعاصي في انتكاس القلب، وأن كثرة الضحك تميته، وأن الغنى في القلب والفقر فيه أيضاً، وشباب القلب على خصلتين، وأن في آخر الزمان إنسٌ بقلوب الشياطين، وكبح ميل القلب، وحيلولة الشيطان بين القلب والحق، وأن الإيمان والحسد لا يجتمعان في قلب مؤمن، وأن الدُّنيا تُزيغ القلب، والأعمال التي تُلين القلب، وماذا يفعل من وقعت امرأةٌ في قلبه، واجتماع الرجاء والخشية في قلب العبد.

ثم ختم بحديث (القلب السليم) أي: الصالح الذي ينفع صاحبه في الآخرة -رجاء أن يُحقق الله له ذلك عند لقائه، تفاؤلاً بحسن الخاتمين: خاتمة الكتاب وخاتمة الحياة.

وبعد تمام الكتاب ذكر إسناده إلى صحيحي الإمامين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، لأن جُلَّ الأحاديث منهما، وأبان أن روايته لصحيح البخاري من طريق عبيد الله بن صالح العبيد، ولمسلم من طريق ظهير الدين المباركفوري، كما أشار إلى ثُلةٍ من شيوخه في الكتب الستّة الباقية، وذلك بعد أن ذكر طرفٍ من فضل علوم الإسناد.



طيب العنبر في جمال النبي الأنور صلى الله عليه وآله وسلّم

د. عبد الرحمن الكوثر البُرني

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: إن محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره والشوق إليه وطاعته والتعلق بصفاته من مقتضيات الإيمان بنبوته والتشرف باتباع رسالته، وقد تحدث العلماء عن ذلك في مصنفاتهم الكثيرة، بل أفردوا بعضها للحديث عن خصاله وشمائله وخصائصه ودلائل نبوته وغيرها.

وهذا الكتاب المبارك هو نفحة طيبة من نفحات تلك المؤلفات، التي نتنسم من خلالها جمال النور المحمدي، بصورتيه الحسية والمعنوية، ونتعلق بما فيها من الصفات التي تبعث في نفوسنا السرور والرضا، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً، وأجملهم وجهاً، وجملهم قولاً وحالاً وفعلاً.

وفائدة هذا الكتاب أنه يُنمي الإحساس الجمالي بروعة هذا النبيّ، ويرفع الوجدان والشعور تجاه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيصير المؤمن مرهف الحس تجاه أوصافه وشمائله وخصاله المحمودة، مدركاً لعظيم ذلك الجمال الذي نراه مبثوثاً في تقاسيم وجهه وحُسن صورته وشرف أخلاقه، وما يبعثه ذلك في النفس من السرور والارتياح بل والتعلق الشديد به صلى الله عليه وسلم، وبذلك تتهذب الانفعالات وتترسخ القيم وتسمو الأخلاق، وكل ذلك يزيد من قوة الإرادة وصدق الإيمان وثبات العزيمة.

وقد خطَّ المؤلف في كتابه هذا صوراً عذبةً لجمال المصطفى الخَلقي والخُلقي، رغبةً في أن يزداد القارئ حُباً في هذا النبي العظيم، ويحثه على اتباعه في أقواله وأفعاله وأحواله. وعقد ذلك في ثلاثة أبواب، بيانها فيما يلي:

الباب الأول: في بيان جماله الخَلْقي، وذكر فيه: جمال نسبه، وجمال وجهه، وتلؤلؤه كالقمر ليلة البدر، وكيف وجهه عند السرور، وجمال رأسه وشعره ولحيته، وجمال فمه وأنفه وعينيه وأسنانه، وجمال جبينه وخديه وجمال صدره وبطنه، وجمال يديه وقدميه وكفيه، وجمال عقيبيه ومنكبيه، وجمال لونه وقامته، وجمال إقباله ومشيته، وجمال خاتم النبوة الذي في ظهره، وجمال طيبه وكونه أطيب الطيب، وجمال تبسمه وضحكه، وجمال كلامه وصوته.

الباب الثاني: في بيان جماله الخُلُقي: وذكر فيه: جمال خطابه، وجمال فصاحته وبلاغته، وجمال بيانه وجمال حلمه ورحمته وإقامته للعدل، وجمال جوده وسخائه، وجمال خُلقه مع أهله وخدمه، ورحمته بأمته، وجمال معاملته ووفائه، وجمال إنفاقه على الأهل، وجمال تلطُّفه مع عامة الناس، وجمال خُلقه مع الصبيان والأمهات والعبيد والإماء والضعفاء من أمته، وجمال مؤانسته للأطفال، وجمال رحمته بالحيوان، وجمال زهده وصبره وصدقه وتواضعه، وجمال شكره وشجاعته، وجمال حمته بأهل مكة وبأهل الطائف، وجمال دعوته الكفار إلى الإسلام قبل أن يُقاتلهم، وجمال دعوته اليهود إلى الإسلام، وجمال وصيته بالنهي عن الغل والغدر والمُثلة وقتل الوليد، وجمال خلوته في بيته، وجمال مؤانسته للناس، وجمال أخلاقه مع جلسائه، واجمال استقباله الناس وعشرته إياهم، وجمال عفوه وصفحه وسلامة صدره، وجمال خُلقه في أداء الدَّين، وجمال رحمته بأمته في الدنيا، وجمال رحمته في التيسير والشفقة على أمته، وجمال استغفاره وشفاعته لها، وجمال سقايته لأمته من الحوض، وجمال دعائه لأمته عند مرورهم على الصراط، وجمال رحمته في التعليم وفي التربية، وجمال رحمته بالمخطئين، وجماله في العفو عن الخدم والعبيد، واستجابة دعوة أصحابه، وجمال خُلقه في عدم التفريق بين الوالدة وولدها وبين المرء وأخيه، وجمال هيبته ووقاره، وجمال خُلقه في صلة الرحم وكسب المعدوم وإكرام الضيف والوفاء بالعهد.

الباب الثالث: في بيان لباسه صلى الله عليه وسلم، وفيه: جمال لباسه، وجمال صنعته إذا استجدَّ ثوباً، وجمال عمامته وجُبّته، وجمال ترجُّله، وجمال اكتحاله، وصفة نعليه، وجمال خاتمه الذي في يده، وجماله في كونه خاتم النبيين.

ومنهج المؤلف أنه يذكر تحت كل ترجمةٍ حديثاً أو أكثر، ثم يشرح غريب هذا الحديث شرحاً متقناً مُحبّراً، يبين فيه الأسرار والحكم المطويَّة فيه، وقد يكتفي بنقل ذلك من شروحات الأئمة، مثل: الحافظ ابن حجر، والإمام النووي، وابن القيم، والزين العرقي، والبدر العيني، والمُناوي، والقاري، والطيبي، وغيرهم.