إجماع المسلمين على أن الله تعالى في السماء
إعداد محمد بن شمس الدين
** مع إضافات يسيرة **
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذه صفحات غالية وثمينة، نقل فيها مؤلفها: إجماع السلف من أهل العلم على أن الله عز وجل في السماء، عالٍ على خلقه، مُستوٍ على عرشه، وقد عضد ذلك بآي الكتاب العزيز، وسُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأقوال أصحابة وآل بيته الأطهار، والتابعين وتابعيهم ومن سار على هديهم من سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم أجميعن.
فأما الكتاب فقد استدلَّ أهل السُّنة بجميع الآيات المصرحة بالفوقية، والعروج، والصعود، والاستواء،ـ وأنه في السماء ونحوها؛ كقوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} (النحل: ٥٠)، وقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} (المعارج: ٤)، وقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: ١٠)، وقوله: {ثم استوى على العرش} (للأعراف: ٤٥/ ويس: ٣/ والرعد: ٢/ والفرقان: ٥٩/ والسجدة: ٤)، في خمسة مواضع. وغيرها من الآيات الواردة في هذا الشأن، مما لا يكاد يُحصى لكثرته.
وأما من السُّنة؛ فالأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرةٌ جداً، يتعذر حصرها وإحصاؤها، والكتاب الذي بين أيدينا جمع بعضاً منها، فمنها حديث الجارية المصرح بأن الله في السماء، وحديث زينب بنت جحش عند البخاري: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، وحديث أبي سعيد الحدري المتفق عليه: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباح مساء …" وغير ذلك من الأحاديث التي بلغت حد التواتر.
وأما من العقل: فثبوته به من وجوهٍ كثيرة، ذكر شارح الطحاوية بعضها، فقال (٢/ ٣٩٨):
أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائنا من الآخر.
الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته، والأول باطل: أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والثاني يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه -غير معقول.
الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه: يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول: فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه. والأول باطل فتعين الثاني، فلزمت المباينة.
وأما دلالة الفطرة على أنه سبحانه عالٍ على خلقه، فيشرح ابن أبي العز هذا الدليل، بقوله (٢/ ٣٩٠): وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.
وفي تقرير دليل الفطرة، يقول الإمام محمد بن عثمان بن أبي شيبة (ص ٢٩١ -٢٩٢): وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم على الأرض. ثم توافرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسموات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش. فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصاً من خلقه بائنا منهم، علمه في خلقه لا يخرجون من علمه.
وأما دليل المناظرة بالفطرة على علو الله على خلقه؛ فهي الحكاية المشهورة بين أبي جعفر الهمداني وأبي المعالي الجويني، والتي ذكرها محمد بن طاهر المقدسي، وأوردها أبو جعفر الطحاوي في شرح الطحاوية (٢/ ٣٩١)، وهي: أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمذاني حيرني! أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو.
وذكرها ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (٤/ ٦١)، وعقّب عليها، بقوله: هذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم؛ فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء؛ فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله تعالى فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا.
فهذه جملة أدلة السلف على علو الله على خلقه -سبحانه وتعالى.
وأما موقف المتكلمين من قضية العلو؛ فهي مقالة أهل التعطيل لصفات الباري جل وعلا، الصادرة عن الجهمية الأوائل أتباع الجهم بن صفوان، وكل الفرق التي جاءت بعدهم تأثرت بمقالتهم هذه؛ فكان رأيهم في كثيرٍ من الصفات من جنس مقالة الجهمية، ولذلك عدَّ أئمة السلف من قال بقول جهم أبو بعضه في الصفات جهمياً، وقد قسم شيخ الإسلام ابن تيمية الجهمية إلى قسمين: معطلة، وحلولية (كما في مجموع الفتاوى: ٢/ ٢٨٧ -٢٩٨).
١- فأما القائلون بالحلول من الجهمية؛ فيذهبون إلى أن الله تعالى بذاته في كل مكان، فلا يكون في مكان دون مكان، وفي تصوير مذهبهم يقول الإمام ابن القيم -بعد أن ذكر مقالة ابن عربي وغيره من القائلين بوحدة الوجود:
وأتى فريقٌ ثم قال وجدته … بالذات موجوداً بكل مكان
هو كالهواء بعينه لا عينه .. ملأ الخلاء ولا يُرى بعيانِ
واستدل هؤلاء ببعض الأدلة الشرعية التي لا دليل لهم فيها؛ كقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم} إلا أن أئمة أهل السنة أوضحوا أنه لا دليل لهم في هذه الآية، لأن من حمل عنه التأويل من الصحابة والتابعين، قالوا في تأويلها: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحدٌ ممن يعتد بقوله. فقال الضحاك بن مزاحم وسفيان -رحمهما الله تعالى -: "هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم" (الرد على الجهمية للإمام أحمد ص ١٣٨). وغير ذلك من الأقاويل المأثورة عن السلف والتي توضح معنى هذه الآية، بهذا التوجيه الذي يتفق مع النصوص الأخرى، التي تدل على علو الله وأنه فوق عرشه، لأن الأدلة الشرعية لا يُخالف بعضها بعضاً، وبعضها آخذٌ بُحُجَزِ بعض.
ومما استدل به هؤلاء قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} (الحديد: ٣)، وقوله تعالى: {وهو الله في السماوات والأرض} (الأنعام: 3)، وقوله: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف: ٨٤).
إلا أن هذا الاستدلال فيه كذبٌ على الله عز وجل، وإنما يلبس به القوم على من لا علم له؛ لأن معنى هذه الأدلة واضحٌ على ضوء الأدلة الأخرى، التي تدل على أن الله تعالى في السماء على العرش.
فقد أوضح أهل العلم من أئمة السنة المعاني الصحيحة لهذه الآيات، أما الآية الأولى؛ فقد أوضحوا أن معناها: الأول: قبل كل شيءٍ من حياة وموت. والآخر: بعد كل شيءٍ بعد الخلق. والظاهر: فوق كل شيءٍ يعني ما في السماوات. والباطن: دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين. ويدل على هذا آيةٌ أخرى: {وهو بكل شيء عليم} (الشريعة للآجري، ص ٢٩٧).
ومما يدل على صحة هذا التفسير حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) (أخرجه مسلم: ٢٧١٣).
وأما الآيتان الأخيرتان؛ فقد أوضح أهل العلم المعنى الصحيح لهما: {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} هو كما قال أهل الحق: مما جاءت به السنن: أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيطٌ بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون.
وقوله عز وجل: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} معناه: أنه جل ذكره إله من في السماوات، وإله من في الأرض، هو الإله يعبد في السماوات، وهو الإله يُعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء (الشريعة للآجري، ص ٢٩٧، والرد على الجهمية للإمام أحمد، ص ١٣٧، واجتماع الجيوش لابن القيم، ص ٨٦).
ومقالة الجهمية هذه كما ترى في غاية القبح؛ لأنهم اختاروا الله تبارك وتعالى أن يكون حالاً في كل مكان، ولم يستثنوا مكاناً دون الآخر، ومعنى هذا أنه في أجواف الخنازير والقردة واماكن اللهو والعبث، والفجور، وبيوت الخلاء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وقد رد الإمام أحمد على الجهمية في مقالتهم هذه وزيفها وكشف عوارها، قال رحمه الله: إذا أردت هذه أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان؛ فقل له: أليس كان الله ولا شيء غيره؟ فيقول: نعم .فقل له: فحين خلق الشيء خلقه في نفسه او خارجاً عن نفسه؛ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل:
أ- إن زعم أن الله تعالى خلق الخلق في نفسه: كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه.
ب-وإن قال: خلقهم خاجراً عن نفسه، ثم دخل فيهم كفر أيضاً حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر.
ج-وإن قال: خلقهم خاجراً عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة (اجتماع الجيوش، ص ١٣٩)..
وبهذا الرد القاطع الذي لا مهرب مه، يتجلى تهافت هذا المذهب الباطل، ومصادمته الصريحة لصحيح النقل، وصريح العقل، والفطرة المستقيمة، وقول الجهم في باب الصفات جملةً وتفصيلاً أقبح الأقوال وأكثرها تطرفاً، وأشدها معارضةً للإسلام، ولا يقوله في هذا إلا الفلاسفة الذين نفوا جميع الصفات، وجعلوا نصوصها من باب الوهم والتخييل، إذ يرون أن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان كذباً؛ فهو كذبٌ لمصلحة الجمهور، إذا كانت دعواهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريقة، ويذكر الإمام ابن تيمية أن الفلاسفة كابن سينا وأمثاله قد وضعوا قانونهم على هذا الأصل (درء التعارض ١/ ٨ -٩).
٢-أما معطلة الجهمية ونفاتهم؛ فيقولون: إنه لا يجوز أن يُقال: إن الله في السماء؛ لأن في ذلك تحديداً للجهة والمكان، والجهة والمكان من خصائص الأجسام، ولذلك وصفوه بما يوصف به المعدوم؛ فقالوا: لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف ولا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مُحايث له؛ فينفون عنه الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو من أحدهما موجود (انظر: لمع الأدلة للجويني ص ٩٤، ومقالات الأشعري ١/ ٢٣٧، ومجموع فتاوى ابن تيمية ٢/ ٢٩٧).
وهذا القول اشتهر عن المعتزلة والأشاعرة، وفي وصف هذا المذهب وبيان أصله، يقول أستاذنا الدكتور/ محمد خليل هراس -رحمه الله: "كان قدماء الجهمية قبل أن يتفلسفوا يقولون: إن الله في كل مكان… ولما ترجمت الفلسفة إلى العربية ووجدوا بعض الفلاسفة من العقليين يثبتون نوعاً من الموجودات يسمونه المجردات، وينفون عنها المكان، والجهة، والصورة، إلى غير ذلك، جعلوا الله عز وجل واحداً من هذه المجردات، التي هي في الحقيقة معدومات، فقالوا: ليس له مكان" (هامش على كتاب التوحيد لابن خزيمة، ص ١١٢ -١١٣).
وقد رأينا فيما سبق أن القائلين بالحلول من الجهمية تشبثوا من النصوص بما لا دليل فيه، ولكن ما شأن هؤلاء المعطلة هل ادعوا أن الوحي معهم، وهل استدلوا به على مذهبهم؟ الواقع أن هؤلاء المعطلة معترفون -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -بأنه ليس مستندهم الكتاب ولا السنة، ولا أقوال السلف، ولا فطرة العقل وضرورته. ولكن يقولون: معنا النظر العقلي (مجموع الفتاوى: ١٦/ ١١٠).
أما ما يدل على خلاف مذهبهم من نصوص الوحي؛ فقد عمدوا إلى صرفه إلى معانٍ أخرى غير الظاهر منه -بدون دليل -يقول الفخر الرازي موضحاً هذا الموقف من الأدلة الشرعية: "وأما الظواهر النقلية المشعرة بالجسمية والجهة؛ فالجواب الكلي عنها: أن القواطع العقلية دلت على امتناع الجسمية والجهة، والظواهر النقلية مشعرة بحصول هذا المعنى، والجمع بين تصديقهما محال، وإلا لزم اجتماع النقيضين، والجمع بين تكذيبهما محال، وإلا لزم الخلو عن النقيضين، والقول بترجيح الظواهر النقلية على القواطع العقلية محال؛ لأن النقل فرع على العقل فالقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح في الأصل والفرع معاً وهو باطل؛ فلم يبق إلا الإقرار بمقتضى الدلائل العقلية القطعية وحمل الظواهر النقلية إما على التأويل وإما على تفويض علمها إلى الله سبحانه وتعالى" (أصول الدين، الرازي، ص ٤٨).
وهكذا نرى أن هؤلاء قد جعلوا الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون الوحي المنزل على الأنبياء تبعاً له، فما وافق منه هذا القانون قبلوه، وما خالفه أعرضوا عنه. ويُشبه ابن تيمية هذه الطريقة بطريقة النصارى في أمانتهم () التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة إليها، ولكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل؛ فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء (درء التعارض؛ ١/ ٧ -٨).
فالقوم كما ترى معتمدون على عقولهم، ويقدمونها على نصوص الوحي، ويجعلون تصورات عقولهم أساساً يبنون عليه اعتقادهم، لأن الأدلة العقلية هي الأدلة القطعية التي لا تقبل الخطأ عندهم، ولذلك جعلوا هذا الفنون الجائز في باب الصفات أساساً لصرف النصوص عن دلالتها التي أراد الله ورسوله منها.
وقد شرع القوم في تأويل كل نصٍّ يدلُّ على إثبات صفة، فأولوا الاستواء الوارد في سبعة مواضع من كتاب الله بالاستيلاء، والعلو بعلو المكانة والقهر، وغير ذلك من المعاني التي صرفوا ظاهر النصوص المثبتة للعلو إليها. وأطلقوا تلك العبارات الموبوءة، التي لا تؤدي في حقيقتها إلا إلى نفي وجود الله تعالى؛ فلا يمكن لعاقلٍ أن يتصور وجود موجود ليس في جهة من الجهات، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، إلا في الذهن فقط، ولهذا صجَّ أن يُقال عنهم: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء.
والإنسان المسلم يجب عليه أن يلتزم بمنهج الوحي، فيكون متبعاً لا مبتدعاً، ولذلك لم يجوز السلف ابتداع عبارات في الإثبات أو التنزيه لم يرد الشرع بذكرها، مثل الجهة والتحيز والتجسيم -التي جعلها القوم شبهاً بنوا عليها التأويل -ولم يجوزوا إطلاقها نفياً ولا إثباتاً، لما فيها من المعاني الصحيحة، والمعاني الفاسدة، فيثبت منها ما صحَّ من معناها، وينفي ما لم يصح، ولا يطلق اللفظ؛ إذ لا بُد من التقييد بما ورد في الشرع من ألفاظ، وهذا كما ترى في غاية الحيطة والاحتراز.
وما يريده أرباب هذه المقالة من نفي صفة العلو؛ فيه مخالفة للسمع والعقل والفطرة التي سبق أن ذكرت دلالتها على إثبات هذه المسألة، فالقرآن والسنة المستفيضة وكلام السلف من الصحابة والتابعين والقرون الثلاثة الأولى مملوءةٌ بما فيه إثبات علو الله تعالى على خلقه، بشتى أنواع الدلالات؛ فتارةً يُخبر عن نفسه أنه على العرش، وأخرى بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه، وتارة بخبر نزولها منه أو من عنده، وتارةً يُخبر بأنه العلي الأعلى، وتارةً بأنه في السماء. وأما الأحاديث المروية عن الصحابة والتابعين؛ فلا يُحصيها إلا الله عز وجل.
ويبين الإمام ابن تيمية -رحمه الله -أن موقف هؤلاء المعطلة من نصوص الصفات موقفٌ باطل، لأن فيه اتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير في البلاغ وبيان الحق، ولذلك دحض موقفهم بما يوضح فساده وبطلانه ومعارضته حتى للعقل الذي استندوا إليه؛ فيقول رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (٥/ ١٦٦ -١٦٨): "....فلا يخلو إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو الله نفسه على خلقه هو الحق أو الحق نقيضه؛ إذ الحق لا يخرج عن النقيضين؛ وإما أن يكون نفسه فوق الخلق؛ أو لا يكون فوق الخلق -كما تقول الجهمية -. ثم تارة يقولون: لا فوقهم ولا فيهم ولا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا محايث وتارة يقولون: هو بذاته في كل مكان وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه.
فإما أن يكون الحق إثبات ذلك؛ أو نفيه فإن كان نفي ذلك هو الحق فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط - لا نصاً ولا ظاهرا - ولا الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به.
وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء: فأكثر من أن يحصى أو يحصر فإن كان الحق هو النفي - دون الإثبات - والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلا: لزم أن يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب؛ بل نطقوا بما يدل -إما نصاً وإما ظاهراً -على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب.
ومعلوم أن من اعتقد هذا في "الرسول والمؤمنين" فله أوفر حظ من قوله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
فإن القائل إذا قال: هذه النصوص أريد بها خلاف ما يفهم منها أو خلاف ما دلت عليه أو أنه لم يرد إثبات علو الله نفسه على خلقه؛ وإنما أريد بها علو المكانة ونحو ذلك - كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع. فيقال له: فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق (به باطنا وظاهرا؛ بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه؛ فإن غاية ما يقدر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة والباطن المخالف للظاهر.
ومعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي؛ فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد؛ لا سيما إذا كان باطلاً لا يجوز اعتقاده في الله؛ فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفاً عليهم؛ ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة: هو اعتقاد باطل؟
فإذا لم يكن في الكتاب ولا السنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلا؛ بل هم دائما لا يتكلمون إلا بالإثبات امتنع حينئذ أن لا يكون مرادهم الإثبات وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه؛ وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه وهذا كلام مبين؛ لا مخلص لأحد عنه".
ويمضي رحمه الله في بيان مذهبهم بالرد على قولهم في القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب، وهي العقل؛ فيقول (٥/ ١٧١ -١٧٢):
"فيقال لهم: أولاً: فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال؛ وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم: كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال ولم ينصب لهم أسباب الهدى وأحالهم في الهدى على نفوسهم فيلزم على قولهم أن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة التي لم تنفعهم؛ بل ضرتهم.
ويقال لهم ثانياً: فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة؛ مثل ذكره لخلق الله وقدرته ومشيئته وعلمه ونحو ذلك - من الأمور التي تعلم بالعقل - أعظم مما يعلم نفي الجهمية وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفى وأدق؟ وكلامه لم يدل عليه؛ بل دل على نقيضه وضده ومن نسب هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فالله حسيبه على ما يقول…
ويقال لهم " ثالثا " من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة؛ بل العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول وليس بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح تناقض أصلاً".
وهكذا نرى أن القوم لا مع النقل بقوا ولا مع العقل اتفقوا/ فهلا اعتبر المسلمون بما آل إليه أمر زعمائهم، مما سبق أن أوضحتُ، وهلا نظر المُعجبون بالمدارس العقلية إلى واقعها، وما نتج عنها من معارضة لمنهج الإسلام؟ فيعتبروا ويتعظوا، ويثوبوا إلى رشدهم، ويدركوا أن السلامة في التمسك بمنهج السلف الصالح، الذي يبدأ من الوحي وينتهي إليه، ولا يحيدون عنه قيد أنملة، لآن أمر العقيدة توقيفي، ولا مجال للعقل إلا فيما لا يوجد فيه مخالفة للنقل، والعقل له مكانته عظيمة في حدود الشرع.
وهلا نظر المعجبون بالمدارس العقلية -وما أكثرهم في عصرنا -إلى هؤلاء المؤصلين للعقل، المدعين لعصمته وعدم قبوله للخطأ، كيف -أنهم -مع تشدقهم بهذه الدعوى العريضة الخطيرة قد حصل بينهم من الخلاف ما لا يعلمه إلا الله، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن اضطرابهم واختلافهم أكبر من أي اختلاف على وجه الأرض؛ ولذلك تفرقوا إلى فرق كل منها ينهج نهجاً عقلياً يُخالف به الآخر.
وحتى أرباب الفرقة الواحدة اختلف علماؤها في كثيرٍ من المسائل، التي يعدون العقل هو الأصل فيها، فالأشاعر مثلاً لم يتفقوا على تأويل جميع الصفات الخبرية، بل بعضهم أولها، وبعضهم فوض فيها، وبعضهم أثبت وأول وفوض، ومن أمثلة هذا الاختلاف آراء الباقلاني وابن فورك والبيهقي وغيرخم، وأما رئيسهم الذي ينتسبون إليه، فإنه يقول بقول السلف، ويذهب إلى مذهبهم وهو الإثبات، كما هو واضحٌ من "مقالات الإسلاميين"؛ حين صرّح بأنه يقول بقول أهل الحديث، ويذهب إلى ما ذهبوا إليه، وكتابه "الإبانة عن أصول الديانة" الذي يُعتبر آخر ما ألف وسطر في العقيدة التي يراها واجبة الاعتقاد، وأنها هي عقيدة السلف، فاتفق مع السلف في كل ما قاله فيها.
أما من اختار القول بالتفويض لصفة العلو وغيرها من الصفات، فإنهم يرون أن التفويض هو مذهب السلف، ولذلك قالوا العبارة التي سبق ذكرها في وصف مذهبهم بأنه أعلم وأحكم، وممن قال بأن التفويض مذهب السلف السيوطي في "الإتقان"ن والزرقاني في "مناهل العرفان"، والبيهقي في "الاعتقاد"، ولا نريد أن نستقصي القائلين به، بل يكفي أن نقول: إن نسبة التفويض إلى السلف خطأ كبير، هذا -والحمد لله رب العالمين.
وقد جاء الكتاب الذي بين يدينا كالتالي:
أولاً: آي الكتاب العزيز، وفيه ست عشرة موضعاً.
ثانياً: كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه سبعة أحاديث:
(١) أعتقها فإنها مؤمنة.
(٢) السماء التي فيها الله عز وجل.
(٣) يرحمكم من في السماء.
(٣) أمين من في السماء.
(٤) ودنا الجبار رب العزة.
(٥) أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق.
ثالثاً: كلام صحب النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
(١) أبو بكر الصديق.
(٢) عمر بن الخطاب.
(٣) عائشة أم المؤمنين.
(٤) زينب أم المؤمنين.
(٥) ابن عباس.
(٦) عبد الله بن مسعود.
رابعاً: إجماع أهل العلم:
(١) سعيد بن عامر الضُّبعي (٢١٠ هـ).
(٢) إسحاق بن راهويه (٢٣٨ هـ).
(٣) قتيبة بن سعيد (٢٤٠ هـ).
(٤) أبو زرعة الرازي (٢٦٤ هـ).
(٥) أبو حاتم الرازي (٢٧٧ هـ).
(٦) ابن قتيبة الدينوري (٢٧٦ هـ).
(٧) عثمان بن سعيد الدارمي (٢٨٠ هـ).
(٨) حرب الكرماني (٢٨٠ هـ).
(٩) زكريا الساجي (٣٠٧ هـ).
(١٠) محمد بن إسحاق بن خزيمة (٣١١ هـ).
(١١) أبو الحسن الأشعري (٣٢٤ هـ).
(١٢) ابن أبي زيد القيراوني (٣٨٦ هـ).
(١٣) ابن بطة العكبري (٣٨٧ هـ).
(١٤) أبو عمر الطلمنكي الأندلسي (٤٢٩ هـ).
(١٥) أبو نعيم الأصبهاني (٤٣٠ هـ).
(١٦) أبو نصر السجزي (٤٤٤ هـ).
(١٧) أبو عثمان الصابوني (٤٤٩ هـ).
(١٨) ابن عبد البر (٤٦٣ هـ).
(١٩) قوام السنة الأصبهاني (٥٣٥ هـ).
(٢٠) ابن رشد الحفيد (٦٠٥ هـ).