أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 أغسطس 2021

إجماع المسلمين على أن الله تعالى في السماء إعداد محمد بن شمس الدين

إجماع المسلمين على أن الله تعالى في السماء

إعداد محمد بن شمس الدين

** مع إضافات يسيرة **

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه صفحات غالية وثمينة، نقل فيها مؤلفها: إجماع السلف من أهل العلم على أن الله عز وجل في السماء، عالٍ على خلقه، مُستوٍ على عرشه، وقد عضد ذلك بآي الكتاب العزيز، وسُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأقوال أصحابة وآل بيته الأطهار، والتابعين وتابعيهم ومن سار على هديهم من سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم أجميعن.

فأما الكتاب فقد استدلَّ أهل السُّنة بجميع الآيات المصرحة بالفوقية، والعروج، والصعود، والاستواء،ـ وأنه في السماء ونحوها؛ كقوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} (النحل: ٥٠)، وقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} (المعارج: ٤)، وقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: ١٠)، وقوله: {ثم استوى على العرش} (للأعراف: ٤٥/ ويس: ٣/ والرعد: ٢/ والفرقان: ٥٩/ والسجدة: ٤)، في خمسة مواضع. وغيرها من الآيات الواردة في هذا الشأن، مما لا يكاد يُحصى لكثرته. 

وأما من السُّنة؛ فالأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرةٌ جداً، يتعذر حصرها وإحصاؤها، والكتاب الذي بين أيدينا جمع بعضاً منها، فمنها حديث الجارية المصرح بأن الله في السماء، وحديث زينب بنت جحش عند البخاري: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، وحديث أبي سعيد الحدري المتفق عليه: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباح مساء …" وغير ذلك من الأحاديث التي بلغت حد التواتر.

وأما من العقل: فثبوته به من وجوهٍ كثيرة، ذكر شارح الطحاوية بعضها، فقال (٢/ ٣٩٨):

أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائنا من الآخر.

الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته، والأول باطل: أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والثاني يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه -غير معقول.

الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه: يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول: فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه. والأول باطل فتعين الثاني، فلزمت المباينة.

وأما دلالة الفطرة على أنه سبحانه عالٍ على خلقه، فيشرح ابن أبي العز هذا الدليل، بقوله (٢/ ٣٩٠): وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. 

وفي تقرير دليل الفطرة، يقول الإمام محمد بن عثمان بن أبي شيبة (ص ٢٩١ -٢٩٢): وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم على الأرض. ثم توافرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسموات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش.  فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصاً من خلقه بائنا منهم، علمه في خلقه لا يخرجون من علمه.

وأما دليل المناظرة بالفطرة على علو الله على خلقه؛ فهي الحكاية المشهورة بين أبي جعفر الهمداني وأبي المعالي الجويني، والتي ذكرها محمد بن طاهر المقدسي، وأوردها أبو جعفر الطحاوي في شرح الطحاوية (٢/ ٣٩١)، وهي: أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمذاني حيرني! أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو.

وذكرها ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (٤/ ٦١)، وعقّب عليها، بقوله: هذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم؛ فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء؛ فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله تعالى فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا.

فهذه جملة أدلة السلف على علو الله على خلقه -سبحانه وتعالى.

وأما موقف المتكلمين من قضية العلو؛ فهي مقالة أهل التعطيل لصفات الباري جل وعلا، الصادرة عن الجهمية الأوائل أتباع الجهم بن صفوان، وكل الفرق التي جاءت بعدهم تأثرت بمقالتهم هذه؛ فكان رأيهم في كثيرٍ من الصفات من جنس مقالة الجهمية، ولذلك عدَّ أئمة السلف من قال بقول جهم أبو بعضه في الصفات جهمياً، وقد قسم شيخ الإسلام ابن تيمية الجهمية إلى قسمين: معطلة، وحلولية (كما في مجموع الفتاوى: ٢/ ٢٨٧ -٢٩٨).

١- فأما القائلون بالحلول من الجهمية؛ فيذهبون إلى أن الله تعالى بذاته في كل مكان، فلا يكون في مكان دون مكان، وفي تصوير مذهبهم يقول الإمام ابن القيم -بعد أن ذكر مقالة ابن عربي وغيره من القائلين بوحدة الوجود:

وأتى فريقٌ ثم قال وجدته … بالذات موجوداً بكل مكان

هو كالهواء بعينه لا عينه .. ملأ الخلاء ولا يُرى بعيانِ

واستدل هؤلاء ببعض الأدلة الشرعية التي لا دليل لهم فيها؛ كقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم} إلا أن أئمة أهل السنة أوضحوا أنه لا دليل لهم في هذه الآية، لأن من حمل عنه التأويل من الصحابة والتابعين، قالوا في تأويلها: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحدٌ ممن يعتد بقوله. فقال الضحاك بن مزاحم وسفيان -رحمهما الله تعالى -: "هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم" (الرد على الجهمية للإمام أحمد ص ١٣٨). وغير ذلك من الأقاويل المأثورة عن السلف والتي توضح معنى هذه الآية، بهذا التوجيه الذي يتفق مع النصوص الأخرى، التي تدل على علو الله وأنه فوق عرشه، لأن الأدلة الشرعية لا يُخالف بعضها بعضاً، وبعضها آخذٌ بُحُجَزِ بعض.

ومما استدل به هؤلاء قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} (الحديد: ٣)، وقوله تعالى: {وهو الله في السماوات والأرض} (الأنعام: 3)، وقوله: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف: ٨٤).

إلا أن هذا الاستدلال فيه كذبٌ على الله عز وجل، وإنما يلبس به القوم على من لا علم له؛ لأن معنى هذه الأدلة واضحٌ على ضوء الأدلة الأخرى، التي تدل على أن الله تعالى في السماء على العرش.

فقد أوضح أهل العلم من أئمة السنة المعاني الصحيحة لهذه الآيات، أما الآية الأولى؛ فقد أوضحوا أن معناها: الأول: قبل كل شيءٍ من حياة وموت. والآخر: بعد كل شيءٍ بعد الخلق. والظاهر: فوق كل شيءٍ يعني ما في السماوات. والباطن: دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين. ويدل على هذا آيةٌ أخرى: {وهو بكل شيء عليم} (الشريعة للآجري، ص ٢٩٧).

ومما يدل على صحة هذا التفسير حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) (أخرجه مسلم: ٢٧١٣).

وأما الآيتان الأخيرتان؛ فقد أوضح أهل العلم المعنى الصحيح لهما: {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} هو كما قال أهل الحق: مما جاءت به السنن: أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيطٌ بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون.

وقوله عز وجل: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} معناه: أنه جل ذكره إله من في السماوات، وإله من في الأرض، هو الإله يعبد في السماوات، وهو الإله يُعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء (الشريعة للآجري، ص ٢٩٧، والرد على الجهمية للإمام أحمد، ص ١٣٧، واجتماع الجيوش لابن القيم، ص ٨٦).

ومقالة الجهمية هذه كما ترى في غاية القبح؛ لأنهم اختاروا الله تبارك وتعالى أن يكون حالاً في كل مكان، ولم يستثنوا مكاناً دون الآخر، ومعنى هذا أنه في أجواف الخنازير والقردة واماكن اللهو والعبث، والفجور، وبيوت الخلاء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

 وقد رد الإمام أحمد على الجهمية في مقالتهم هذه وزيفها وكشف عوارها، قال رحمه الله: إذا أردت هذه أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان؛ فقل له: أليس كان الله ولا شيء غيره؟ فيقول: نعم .فقل له: فحين خلق الشيء خلقه في نفسه او خارجاً عن نفسه؛ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل:

أ- إن زعم أن الله تعالى خلق الخلق في نفسه: كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه.

ب-وإن قال: خلقهم خاجراً عن نفسه، ثم دخل فيهم كفر أيضاً حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر.

ج-وإن قال: خلقهم خاجراً عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة (اجتماع الجيوش، ص ١٣٩)..

وبهذا الرد القاطع الذي لا مهرب مه، يتجلى تهافت هذا المذهب الباطل، ومصادمته الصريحة لصحيح النقل، وصريح العقل، والفطرة المستقيمة، وقول الجهم في باب الصفات جملةً وتفصيلاً أقبح الأقوال وأكثرها تطرفاً، وأشدها معارضةً للإسلام، ولا يقوله في هذا إلا الفلاسفة الذين نفوا جميع الصفات، وجعلوا نصوصها من باب الوهم والتخييل، إذ يرون أن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان كذباً؛ فهو كذبٌ لمصلحة الجمهور، إذا كانت دعواهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريقة، ويذكر الإمام ابن تيمية أن الفلاسفة كابن سينا وأمثاله قد وضعوا قانونهم على هذا الأصل (درء التعارض ١/ ٨ -٩).

٢-أما معطلة الجهمية ونفاتهم؛ فيقولون: إنه لا يجوز أن يُقال: إن الله في السماء؛ لأن في ذلك تحديداً للجهة والمكان، والجهة والمكان من خصائص الأجسام، ولذلك وصفوه بما يوصف به المعدوم؛ فقالوا: لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف ولا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مُحايث له؛ فينفون عنه الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو من أحدهما موجود (انظر: لمع الأدلة للجويني ص ٩٤، ومقالات الأشعري ١/ ٢٣٧، ومجموع فتاوى ابن تيمية ٢/ ٢٩٧).

وهذا القول اشتهر عن المعتزلة والأشاعرة، وفي وصف هذا المذهب وبيان أصله، يقول أستاذنا الدكتور/ محمد خليل هراس -رحمه الله: "كان قدماء الجهمية قبل أن يتفلسفوا يقولون: إن الله في كل مكان… ولما ترجمت الفلسفة إلى العربية ووجدوا بعض الفلاسفة من العقليين يثبتون نوعاً من الموجودات يسمونه المجردات، وينفون عنها المكان، والجهة، والصورة، إلى غير ذلك، جعلوا الله عز وجل واحداً من هذه المجردات، التي هي في الحقيقة معدومات، فقالوا: ليس له مكان" (هامش على كتاب التوحيد لابن خزيمة، ص ١١٢ -١١٣).

وقد رأينا فيما سبق أن القائلين بالحلول من الجهمية تشبثوا من النصوص بما لا دليل فيه، ولكن ما شأن هؤلاء المعطلة هل ادعوا أن الوحي معهم، وهل استدلوا به على مذهبهم؟ الواقع أن هؤلاء المعطلة معترفون -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -بأنه ليس مستندهم الكتاب ولا السنة، ولا أقوال السلف، ولا فطرة العقل وضرورته. ولكن يقولون: معنا النظر العقلي (مجموع الفتاوى: ١٦/ ١١٠).

أما ما يدل على خلاف مذهبهم من نصوص الوحي؛ فقد عمدوا إلى صرفه إلى معانٍ أخرى غير الظاهر منه -بدون دليل -يقول الفخر الرازي موضحاً هذا الموقف من الأدلة الشرعية: "وأما الظواهر النقلية المشعرة بالجسمية والجهة؛ فالجواب الكلي عنها: أن القواطع العقلية دلت على امتناع الجسمية والجهة، والظواهر النقلية مشعرة بحصول هذا المعنى، والجمع بين تصديقهما محال، وإلا لزم اجتماع النقيضين، والجمع بين تكذيبهما محال، وإلا لزم الخلو عن النقيضين، والقول بترجيح الظواهر النقلية على القواطع العقلية محال؛ لأن النقل فرع على العقل فالقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح في الأصل والفرع معاً وهو باطل؛ فلم يبق إلا الإقرار بمقتضى الدلائل العقلية القطعية وحمل الظواهر النقلية إما على التأويل وإما على تفويض علمها إلى الله سبحانه وتعالى" (أصول الدين، الرازي، ص ٤٨).

وهكذا نرى أن هؤلاء قد جعلوا الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون الوحي المنزل على الأنبياء تبعاً له، فما وافق منه هذا  القانون قبلوه، وما خالفه أعرضوا عنه. ويُشبه ابن تيمية هذه الطريقة بطريقة النصارى في أمانتهم () التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة إليها، ولكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل؛ فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء (درء التعارض؛ ١/ ٧ -٨).

فالقوم كما ترى معتمدون على عقولهم، ويقدمونها على نصوص الوحي، ويجعلون تصورات عقولهم أساساً يبنون عليه اعتقادهم، لأن الأدلة العقلية هي الأدلة القطعية التي لا تقبل الخطأ عندهم، ولذلك جعلوا هذا الفنون الجائز في باب الصفات أساساً لصرف النصوص عن دلالتها التي أراد الله ورسوله منها.

وقد شرع القوم في تأويل كل نصٍّ يدلُّ على إثبات صفة، فأولوا الاستواء الوارد في سبعة مواضع من كتاب الله بالاستيلاء، والعلو بعلو المكانة والقهر، وغير ذلك من المعاني التي صرفوا ظاهر النصوص المثبتة للعلو إليها. وأطلقوا تلك العبارات الموبوءة، التي لا تؤدي في حقيقتها إلا إلى نفي وجود الله تعالى؛ فلا يمكن لعاقلٍ أن يتصور وجود موجود ليس في جهة من الجهات، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، إلا في الذهن فقط، ولهذا صجَّ أن يُقال عنهم: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء.

والإنسان المسلم يجب عليه أن يلتزم بمنهج الوحي، فيكون متبعاً لا مبتدعاً، ولذلك لم يجوز السلف ابتداع عبارات في الإثبات أو التنزيه لم يرد الشرع بذكرها، مثل الجهة والتحيز والتجسيم -التي جعلها القوم شبهاً بنوا عليها التأويل -ولم يجوزوا إطلاقها نفياً ولا إثباتاً، لما فيها من المعاني الصحيحة، والمعاني الفاسدة، فيثبت منها ما صحَّ من معناها، وينفي ما لم يصح، ولا يطلق اللفظ؛ إذ لا بُد من التقييد بما ورد في الشرع من ألفاظ، وهذا كما ترى في غاية الحيطة والاحتراز.

وما يريده أرباب هذه المقالة من نفي صفة العلو؛ فيه مخالفة للسمع والعقل والفطرة التي سبق أن ذكرت دلالتها على إثبات هذه المسألة، فالقرآن والسنة المستفيضة وكلام السلف من الصحابة والتابعين والقرون الثلاثة الأولى مملوءةٌ بما فيه إثبات علو الله تعالى على خلقه، بشتى أنواع الدلالات؛ فتارةً يُخبر عن نفسه أنه على العرش، وأخرى بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه، وتارة بخبر نزولها منه أو من عنده، وتارةً يُخبر بأنه العلي الأعلى، وتارةً بأنه في السماء. وأما الأحاديث المروية عن الصحابة والتابعين؛ فلا يُحصيها إلا الله عز وجل.

ويبين الإمام ابن تيمية -رحمه الله -أن موقف هؤلاء المعطلة من نصوص الصفات موقفٌ باطل، لأن فيه اتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير في البلاغ وبيان الحق، ولذلك دحض موقفهم بما يوضح فساده وبطلانه ومعارضته حتى للعقل الذي استندوا إليه؛ فيقول رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (٥/ ١٦٦ -١٦٨): "....فلا يخلو إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو الله نفسه على خلقه هو الحق أو الحق نقيضه؛ إذ الحق لا يخرج عن النقيضين؛ وإما أن يكون نفسه فوق الخلق؛ أو لا يكون فوق الخلق -كما تقول الجهمية -. ثم تارة يقولون: لا فوقهم ولا فيهم ولا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا محايث وتارة يقولون: هو بذاته في كل مكان وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه. 

فإما أن يكون الحق إثبات ذلك؛ أو نفيه فإن كان نفي ذلك هو الحق فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط - لا نصاً ولا ظاهرا - ولا الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به. 

وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء: فأكثر من أن يحصى أو يحصر فإن كان الحق هو النفي - دون الإثبات - والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلا: لزم أن يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب؛ بل نطقوا بما يدل -إما نصاً وإما ظاهراً -على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب. 

ومعلوم أن من اعتقد هذا في "الرسول والمؤمنين" فله أوفر حظ من قوله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

 فإن القائل إذا قال: هذه النصوص أريد بها خلاف ما يفهم منها أو خلاف ما دلت عليه أو أنه لم يرد إثبات علو الله نفسه على خلقه؛ وإنما أريد بها علو المكانة ونحو ذلك - كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع. فيقال له: فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق (به باطنا وظاهرا؛ بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه؛ فإن غاية ما يقدر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة والباطن المخالف للظاهر.

ومعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي؛ فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد؛ لا سيما إذا كان باطلاً لا يجوز اعتقاده في الله؛ فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفاً عليهم؛ ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة: هو اعتقاد باطل؟ 

فإذا لم يكن في الكتاب ولا السنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلا؛ بل هم دائما لا يتكلمون إلا بالإثبات امتنع حينئذ أن لا يكون مرادهم الإثبات وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه؛ وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه وهذا كلام مبين؛ لا مخلص لأحد عنه".

ويمضي رحمه الله في بيان مذهبهم بالرد على قولهم في القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب، وهي العقل؛ فيقول (٥/ ١٧١ -١٧٢): 

"فيقال لهم: أولاً: فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال؛ وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم: كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال ولم ينصب لهم أسباب الهدى وأحالهم في الهدى على نفوسهم فيلزم على قولهم أن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة التي لم تنفعهم؛ بل ضرتهم.

ويقال لهم ثانياً: فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة؛ مثل ذكره لخلق الله وقدرته ومشيئته وعلمه ونحو ذلك - من الأمور التي تعلم بالعقل - أعظم مما يعلم نفي الجهمية وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفى وأدق؟ وكلامه لم يدل عليه؛ بل دل على نقيضه وضده ومن نسب هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فالله حسيبه على ما يقول…  

ويقال لهم " ثالثا " من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة؛ بل العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول وليس بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح تناقض أصلاً".

وهكذا نرى أن القوم لا مع النقل بقوا ولا مع العقل اتفقوا/ فهلا اعتبر المسلمون بما آل إليه أمر زعمائهم، مما سبق أن أوضحتُ، وهلا نظر المُعجبون بالمدارس العقلية إلى واقعها، وما نتج عنها من معارضة لمنهج الإسلام؟ فيعتبروا ويتعظوا، ويثوبوا إلى رشدهم، ويدركوا أن السلامة في التمسك بمنهج السلف الصالح، الذي يبدأ من الوحي وينتهي إليه، ولا يحيدون عنه قيد أنملة، لآن أمر العقيدة توقيفي، ولا مجال للعقل إلا فيما لا يوجد فيه مخالفة للنقل، والعقل له مكانته عظيمة في حدود الشرع.

وهلا نظر المعجبون بالمدارس العقلية -وما أكثرهم في عصرنا -إلى هؤلاء المؤصلين للعقل، المدعين لعصمته وعدم قبوله للخطأ، كيف -أنهم -مع تشدقهم بهذه الدعوى العريضة الخطيرة قد حصل بينهم من الخلاف ما لا يعلمه إلا الله، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن اضطرابهم واختلافهم أكبر من أي اختلاف على وجه الأرض؛ ولذلك تفرقوا إلى فرق كل منها ينهج نهجاً عقلياً يُخالف به الآخر.

وحتى أرباب الفرقة الواحدة اختلف علماؤها في كثيرٍ من المسائل، التي يعدون العقل هو الأصل فيها، فالأشاعر مثلاً لم يتفقوا على تأويل جميع الصفات الخبرية، بل بعضهم أولها، وبعضهم فوض فيها، وبعضهم أثبت وأول وفوض، ومن أمثلة هذا الاختلاف آراء الباقلاني وابن فورك والبيهقي وغيرخم، وأما رئيسهم الذي ينتسبون إليه، فإنه يقول بقول السلف، ويذهب إلى مذهبهم وهو الإثبات، كما هو واضحٌ من "مقالات الإسلاميين"؛ حين صرّح بأنه يقول بقول أهل الحديث، ويذهب إلى ما ذهبوا إليه، وكتابه "الإبانة عن أصول الديانة" الذي يُعتبر آخر ما ألف وسطر في العقيدة التي يراها واجبة الاعتقاد، وأنها هي عقيدة السلف، فاتفق مع السلف في كل ما قاله فيها.

أما من اختار القول بالتفويض لصفة العلو وغيرها من الصفات، فإنهم يرون أن التفويض هو مذهب السلف، ولذلك قالوا العبارة التي سبق ذكرها في وصف مذهبهم بأنه أعلم وأحكم، وممن قال بأن التفويض مذهب السلف السيوطي في "الإتقان"ن والزرقاني في "مناهل العرفان"، والبيهقي في "الاعتقاد"، ولا نريد أن نستقصي القائلين به، بل يكفي أن نقول: إن نسبة التفويض إلى السلف خطأ كبير، هذا -والحمد لله رب العالمين.

وقد جاء الكتاب الذي بين يدينا كالتالي:

أولاً: آي الكتاب العزيز، وفيه ست عشرة موضعاً.

ثانياً: كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه سبعة أحاديث:

(١) أعتقها فإنها مؤمنة.

(٢) السماء التي فيها الله عز وجل.

(٣) يرحمكم من في السماء.

(٣) أمين من في السماء.

(٤) ودنا الجبار رب العزة.

(٥) أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق.

ثالثاً: كلام صحب النبيِّ صلى الله عليه وسلم:

(١) أبو بكر الصديق.

(٢) عمر بن الخطاب.

(٣) عائشة أم المؤمنين.

(٤) زينب أم المؤمنين.

(٥) ابن عباس.

(٦) عبد الله بن مسعود.

رابعاً: إجماع أهل العلم:

(١) سعيد بن عامر الضُّبعي (٢١٠ هـ).

(٢) إسحاق بن راهويه (٢٣٨ هـ).

(٣) قتيبة بن سعيد (٢٤٠ هـ).

(٤) أبو زرعة الرازي (٢٦٤ هـ).

(٥) أبو حاتم الرازي (٢٧٧ هـ).

(٦)  ابن قتيبة الدينوري (٢٧٦ هـ). 

(٧) عثمان بن سعيد الدارمي (٢٨٠ هـ).

(٨) حرب الكرماني (٢٨٠ هـ). 

(٩) زكريا الساجي (٣٠٧ هـ). 

(١٠) محمد بن إسحاق بن خزيمة (٣١١ هـ). 

(١١) أبو الحسن الأشعري (٣٢٤ هـ). 

(١٢) ابن أبي زيد القيراوني (٣٨٦ هـ).

(١٣) ابن بطة العكبري (٣٨٧ هـ). 

(١٤) أبو عمر الطلمنكي الأندلسي (٤٢٩ هـ).

(١٥)  أبو نعيم الأصبهاني (٤٣٠ هـ). 

(١٦) أبو نصر السجزي (٤٤٤ هـ). 

(١٧) أبو عثمان الصابوني (٤٤٩ هـ).

(١٨) ابن عبد البر (٤٦٣ هـ).

(١٩) قوام السنة الأصبهاني (٥٣٥ هـ).

(٢٠) ابن رشد الحفيد (٦٠٥ هـ).




السبت، 14 أغسطس 2021

تنبيهات في الحج على الكتابة المسماة (افعل ولا حرج) -تأليف: عبد المحسن العباد البدر

تنبيهات في الحج على الكتابة المسماة 

(افعل ولا حرج)

تأليف: عبد المحسن العباد البدر

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه رسالة تعقب فيها الشيخ البدر على الشيخ العودة في كتابه (افعل ولا حرج)، وقد قطع البدر المسائل التي تحتمل الاجتهاد بمسألة وجوب الاقتداء؛ فكان شعاره (افعل كما فعل)، ورجحها على مسألة تخفيف النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه وترخيصه بتقديم بعض الأمور أو تأخيرها؛ بقوله (افعل ولا حرج)، وذهب إلى أن أفعال النبيِّ صلى الله عليه وسلم المطلقة تُفيد الوجوب، بينما يرى أن كتاب العودة هو تهوينٌ لأمر المسائل الخلافية في الحج، وانتقاء ما فيه ترخيص وتيسير غير منضبط، ولو كان مرجوحاً أو شاذاً، وتوسع في الاستدلال بحديث (افعل ولا حرج). 

 والذي يظهر لي من هذه الرسالة أنه لا وجه لانتقاد البدر على العودة في كثيرٍ من المسائل، بل لم أجد تبريراً لهذه الرسالة سوى أنها نوعٌ من التحامل على الشيخ في بعض مسائل الفروع.

والعجيب أن البدر يقرر أن العودة لم يستدل على اختياراته بشيء، وأنها من اختلاف التضاد، والصحيح أن أدلة العودة قويةٌ جداً، ولا يوجد شيء منها يناقض الشريعة أو يضادها، بل هي في تناسق كامل مع روح الشريعة ومقاصدها، عدا مسألة واحدة، وهي (الطواف للحائض).

وبعض هذه التنبيهات ليست جوهرية، تمسُّ لب القضية، وإنما يمكن الاستفادة من تعليقات البدر في تصحيح حديث شبرمة مرفوعاً، ونسبة وجوب التمتع لابن عباس، وزيادة ركني: الإحرام والسعي، ومسألة اشتراط الطهارة للطواف (انظر ص 32 -35)، وقضية جواز الرمي عن النساء، وختم البدر بضرورة الرجوع في الفتوى إلى المحققين من أهل العلم !! دون غيرهم من المتسرعين، وأن الصحفيين يُفتون بغير علم.




افعل ولا حرج أبو معاذ سلمان بن فهد العودة

افعل ولا حرج

أبو معاذ سلمان بن فهد العودة

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/  هذه رسالةٌ مختصرة مُفيدة، جمعت أمهات المسائل، المتضمنة للتسهيل والتوسعة على الحجاج، في الوقت الذي كثر فيه عددهم، وضاقت الرقعة الجغرافية باستيعابهم، مع ذهاب كثيرٍ من الأنفس، وكون المشاعر محدودة والزمان موقوت، وقد قرَّر الباحث أن كل الرخص مشروعةٌ ما لم تشتمل على مخالفة لنص من كتاب االله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجملة هذا الكتاب مأخوذٌ من شرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على "عمدة الفقه"، مع زيادات قليلة.

والمقصود من هذه الرسالة بيان: سماحة الشريعة، وأن في الأمر سعة، ولا تثريب على من فعل شيئاً من ذلك، وأن على المفتي أو طالب العلم أن يراعي أحوال الحجاج، وأن يجعل شعاره كما سبق (افعل ولا حرج) طالما أن في الأمر سعة ورخصة. كما أن على المفتي أن يدرك اختلاف الناس وتنوع مشاربهم ومذاهبهم وأقوال المفتين لديهم، وحملهم على قول واحد أو مذهب واحٍد متعسر، بل متعذر، وسعة الشريعة لا تحكم بضيق هذا المذهب أو ذاك في بعض الفروع والمسائل.

وقد قرظ هذه الرسالة الشيخ: عبد الله بن عبدالرحمن بن جبرين، وعبد الله بن سليمان بن منيع، وعبد الله بن بيّه، وقد استغرق ذلك أكثر من ثلث الكتاب تقريباً، وفيها فوائد نافعة، ونذكر أهم هذه المسائل التي ذكرها العودة:

أولاً: تكرار الحج النفل: ينبغي لمن أدى فريضة الحج، وأراد أن يتنفل أن يدع المجال لإخوانه الذين لم يؤدوا الفريضة، أو يتصدق على من يحتاج هذا المال.

ثانياً: أن في الحج توسعة كبيرة حيث يقع عن الفريضة وإن نواه الحج نفلاً إن كان أول مرة، ويقع عن النفس وإن نواه عن غيره إن لم يحج قبل ذلك. 

وكذلك فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما سئل يوم النحر عن أربعة أشياء: النحر، والطواف، والحلق، والرمي، لم ير بأساً في تقديم بعضها أو تأخيره، وقال لمن سأله (افعل ولا حرج).

ومن ذلك الاغتسال والتختم وشم الريحان، ولبس الهِميان =التكة مثل الحزام على وسط المحرم، ولبس الخف، ودخول الحمام، والتبرد بالماء البارد أو المكيف أو المروحة، أو الاستظلال، بشجرة أو سيارة أو سقف أو شمسية، ولو حمل على رأسه شيئًا لم يضره، لأنه لم يقصد التغطية. 

ومن التيسير: جواز الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران.

ثالثاً: أن العلماء اتفقوا على أن للحج ركنين هما: الوقوف بعرفة والطواف، واختلفوا في غيرهما، ولو وقف الناس يوماً ظنوه عرفة فبان أنه غيرهم احتسب لهم وقوفهم ظاهراً وباطناً، وقد نص النووي وجماعة أنه لو نسي طواف الإفاضة، وطاف للوداع من غير نية الإفاضة، أو بجهل بوجوب الطواف؛ أجزأه طوافه عنهما معاً، ويسقط طواف الوداع عن الحائض، وهي رخصة ثابتة في السنة.

كذلك بالنسبة لطهارة الطائف: أجاز أبو حنيفة الطواف على غير طهارة، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار ابن تيمية، وابن القيم عدم شرطية الطهارة، وهو ما كان يفتي به الشيخ ابن عثيمين . ((قلت محمد: والحق مع الجمهور، وهو أنه يجب الطهارة للطائف)).

رابعاً: التيسير في رمي الجمرات ليلاً، وأنه لا يشترط وقوعها في الحوض، وأنه يجوز الرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وله أن يؤخر رمي الجمرات -عدا يوم العيد -لليوم الأخير، والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء، وأيام التشريق كاليوم الواحد، وأنه للضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي.

خامساً: أن التحلل الأول يقع برمي جمرة العقبة، فإذا رماها يوم العيد حل له كل شيء إلا النساء، وأنه يسقط المبيت بمنى عمن لم يجد مكانًا يليق به، وليس عليه شيء.

سادساً: ومن التيسير: عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء؛ فإن الفتوى أحيانًا تُلزم الحاج بدم كلما ترك واجباً، والأصل مراعاة حال السائل من الغنى والفقر؛ بينما في فعل المحظور أوجب الشارع على فاعله الفدية.



مذابح الإخوان في سجون ناصر جابر رزق

مذابح الإخوان في سجون ناصر

جابر رزق

دار الاعتصام، ط 2، 1978 م.

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ تعتبر جماعة الإخوان المسلمين في طليعة الحركات الإسلامية المعاصرة، التي كانت سداً منيعاً أمام جميع محاولات التغريب والعلمنة والتهويد، وبغض النظر إذا كنا نختلف معها في جزئيات مُعينة أو نتفق معها فيها، فإنها جماعةٌ ضحَّت بخيرة أبنائها، وقدَّمت للعالم الإسلامي ثمرة جهودها في العمل للإسلام، والدفاع عنه.

ومن المؤسف حقاً أن تقرأ في التاريخ المعاصر قصصاً حقيقية لمآسي الإخوان في السجون المصرية، والإبادة التي تعرض لها جيلٌ كامل من أبناء هذه الجماعة، خلال العقود الماضية، وكيف تعرض شبابها لشتى أصناف التعذيب والقهر والمعاناة، من الإعدام، والسجن، والاعتقال، والمطاردة، ومصادرة الأموال، وتعطيل الأعمال.

وقد تعرضت الجماعة إلى محاولات عديدة لمحوها عن الوجود، بدايةً من حكومة النقراشي التي أعلنت عن حل الجماعة في العام (1948 م) بسبب حادث مجهول في القاهرة تسببت به المخابرات الأمريكية واتهم به الإخوان ظلماً وعدواناً، وزُجَّ بشبابه إلى المعتقلات، وبقي حسن البنا خارج السجن؛ لأن النية كانت مُبيتة لقتله واغتياله، والذي تم قتله في العام (1949 م)، ولم يُتم الثانية والأربعين من عمره. 

ثمّ تجددت مآسي الإخوان على يد عبد الناصر طوال فترة حكمه، واعتقل شباب الإخوان، وذاقوا ويلات العذاب، وكانت بداية ناصر مع الإخوان أن  حاول استقطاب بعض أفراد الإخوان ليخترق صف الجماعة، ويشتت ولاءاتها، قبل أن يوجه لها ضربته القاصمة في العام (1954م).

وكان قد دبَّر مع أجهزة الأمنية حادثة أمنية عُرفت بـ(حادثة المنشية)، والذي أطلق فيه النار على جمال عبد الناصر مع نائبه العام سليمان حافظ، وألصقت التهمة فوراً بالإخوان، وبدأت عملية الإبادة الفعلية للجماعة، واعتقل أكثر من (800) شخص من الإخوان، أخذوا جميعاً أحكاماً ما بين الخمس سنوات والخمسة وعشرين سنة، واستمرت عملية الاعتقال بصورة بشعة ومؤذية.

ونفذ ناصر حكم الإعدام في المئات من الشهداء، منهم: عبد القادر عودة، ومحمد عواد، والشهيد الشيخ محمد فرغلي، والشهيد يوسف طلعت، ومحمد منيب، والشهيد إبراهيم الطيب، والشهيد هنداوي، والشهيد محمود عبد اللطيف… وأقام مذبحة سجن طرة التي استشهد فيها (26) من الإخوان، وبذر في صفوفهم الفرقة، وفتنهم واستمر ذلك إلى العام (1965 م) حيث مذبحة السجن الحربي.

وارتكب عبد الناصر في قرية "كرداسة" -من قرى الجيزة -مأساةً حقيقية، لا يضارعها إلا مذبحة "دير يس" التي ارتكبها اليهود في فلسطين، وكانت نموذجاً حقيقياً لحرب الإبادة التي شنها النظام الناصري على الدعوة الإسلامية، وعلى شباب الإخوان بالتحديد.

وكانت ذروة المأساة في محنة الإخوان في العام (1965 م) هي الزج بالمئات من النساء المسلمات في زنازين السجن الحربي، وسجن القناطر، ومركز الشرطة العسكرية، كرهائن حتى يُقبض على أزواجهنَّ، وكان عبد الناصر يُشرف على التعذيب ببنفسه، 

ويمثل هذا الكتاب الدور الريادي للإخوان في حرب فلسطين، وكونهم في طليعة الجيش المصري الذي دافع عن هذه الأرض بكل بسالة وتفاني، وتضمن تقارير الإنجليز وتوصياته للحكومة المصرية بضرورة حل الجماعة، وما أعقب ذلك في الحقبة الثانية للإخوان التي تمثلت في الهدوء والصمت في عهد المرشد الثاني حسن الهضيبي والتي بدأت عام (1951 م)، وبالجملة فالكتاب مليء بالمآسي والمحن التي لم يسلم منها الإخوان في عهد السيسي الذي اشتدَّت وطأته عليهم، فنسأل الله تعالى أن يُخلصهم منه، وأن يُعيد لمصر هيبتها وإسلامها، ويحفظ أمنها وشبابها.

من المجرم الحقيقي والمسؤول عن مذابح الإخوان ؟!

يقول المؤلف: كلمة أخيرة أختم بها هذين الفصلين وهى أن فكرة تصفية الاخوان المسلمين لم تكن فى يوم من الأيام تفكيراً مصرياً خالصاً .. ولكن في جميع المحن التي تعرض لها الإخوان المسلمون كان الحقد الصليبى والكيد اليهودى والمكر الشيوعى وراء كل محنة لتصفية هذه الجماعة .. ويقينى ان الولايات المتحدة الأمريكية هى المحرض الأول على ضرب الإخوان المسلمين سواء كان ذلك ايام ابراهيم عبد الهادى..  أو ايام جمال عبد الناصر لأنها صاحبة المصلحة الأولى فى المنطقة سواء كانت المصلحة اقتصادية او استراتيجية ثانياً؛ لأنها حامية الصليبية العالمية فى القرن العشرين، وثالثًا لأنها أصبحت مطية الصهيونية واليهودية العالمية تسخرها لتحقيق حلمها الكبير في إقامة "هيكل سليمان " من جديد. 

والجميع يعلمون أن هذا الحلم لن يتحقق إلا في غيبة الاسلام وبالذات اسلام «الاخوان المسلمين» الذى أعلن جمال عبد الناصر أنه لن يسمح بتواجده فى منطقة الشرق الأوسط أقول إن العقل المفكر فى ضرب الإخوان المسلمين كان عمل القوى الخفية التى تحكم العالم اليوم وتعتبر الاسلام عدوها الأول والأخير وبرميل البارود الذي لا يدرون متى ينفجر فيبدد أحلام الجميع ؟!  

أما الأقزام من الحكام الذين صورتهم أجهزة هذه القوى الخفية فى صور لا الأبطال الأسطوريين أمام شعوبهم فلم يتعد دورهم دور الهراوة الغليظة التي هوى بها المجرم الحقيقى على نافوخ الضحية ..  

ولكن أنى للإنسان القزم أن يحجب بيده نور الشمس ؟!  

وانى للحقد الصليبي والكيد اليهودى والمكر الشيوعى أن يقلوا فى وجه الزحف الإسلامي الكاسح ؟!  

آن المسلم الحق الذي يعمر الإيمان قلبه مطمئن إلى قوة الله وقدرته وإحاطته بالبشر جميعاً ويقينه انه لو شاء الله لانتصر منهم ولكن لله سنة لابد أن تتحقق حتى يتحقق نصر الله، لابد أن نستقيم نحن أولا على طريق الله فالنصر مرهون باستقامتنا نحن على دين الله وليس رهن بقوة الباطل او ضعفه !!




الجمعة، 13 أغسطس 2021

لحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين -تأليف: أسامة السيد محمود الأزهري

الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين

التيارات المتطرفة (من الإخوان إلى داعش) في ميزان العلم

تأليف: أسامة السيد محمود الأزهري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب هو محاكمة أدبية لجماعة الإخوان المسلمين فكراً ومنهجاً وسلوكاً، بناءً على بعض أنماط التفكير المنحرف، والفلسفة العنيفة التي نشأت في ظروف نفسيّة مُعقّدة، وتطورت بشكل دراماتيكي جراء الواقع المرير الذي عانته الجماعة إبان ظهورها، إلى أن تحولت إلى صدام مباشر وصراع منفعل ضد أنظمة الحكم في الدولة المصرية، وأصبح مستقراً لديها اعتقاد حتمية المغالبة على السلطة والتفوق السياسي، من أجل حماية أفراد هذه الجماعة، ولتكوّن مظلةً آمنة للمشروع الإسلامي المنشود.

وبالإضافة إلى نشأة الإخوان في جو نفسي متأزم ومختنق، فقد سيطرت عليه أزمات انهيار الدولة الإسلامية، واحتلال فلسطين، والضغوط النفسية داخل السجون، ولا شك أن هذا الجو يصنع فقهاً مختنقاً وفكراً غالياً لدى بعض الأفراد، ويصنع مفردات جديدة مُفعمة بالحماسة والاندفاع الذي لا يصدر عن روية وفكر.

    ولا يزال التنكيل بشباب الإخوان وشيوخهم قائماً إلى هذا الوقت، حيث تزج السلطات الحاكمة في مصر بمئات بل الآلاف من أبناء جماعة الإخوان المسلمين في السجون والمعتقلات بتهم مزيفة وغير حقيقية.

ويُلاحظ أن أسامة الأزهري أكثر من إيراد النصوص من كتب سيد قطب؛ لإثبات مصدريته لفكر التطرف، وأكد على ربطه بـ"داعش" بنقلٍ نقله من ترجمة للعدناني -وهو الناطق الرسمي السابق باسم "داعش" واسمه طه فلاحة، ورد فيه أن العدناني كان حريصاً على كتاب في ظلال القرآن.

ويتفق الأزهري مع علي جمعة الذي أكد في بعض حلقات برنامجه "والله أعلم" أن داعش هي الجيل الثاني بعد القطبيين، وهي نفس المعلومة التي ذكرها الأزهري عن صلة العدناني بسيد. والذي ينبغي التنبيه عليه، هو: أن الغرض المقصود من عرض هذا الكتاب ليس هو معالجة الظاهرة، وإنما هو: إضعاف الإخوان على صعيد التعاطف السياسي، وتنفير الناس عنهم، والنيل منهم بطريقةٍ أو بأخرى.

ويلاحظ أيضاً إشادة الأزهري بدور الأزهر، باعتباره المؤسسة الأكثر حدة في نقد الإخوان وتخوينهم، والتي بالغت في التنقيص منهم، لا سيما علي جمعة المتحالف مع النظام، وكلامه في هذا على الفضائيات بعد الانقلاب معروف، فيصف على جمعة مؤسس الإخوان (حسن البنا) بأنه انحرف عن دين الله، وكوَّن ديناً موازياً، وأن سيد قطب انحرف بهذا الدين الموازي إلى قضايا التكفير. كما أنه كثير الشتم للقرضاوي والتنقيص منه، والشيء المتفق عليه بين الجندي وجمعة وأبو عاصي هو اتهام الإخوان بأنهم خوارج.

وترى جماعة الإخوان أن الإرهاب المعاصر -من داعش وأخواتها -لا علاقة له بفكر الجماعة ولا أدبياتها، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي عناصر مشبوهة صُنعت بأيدي المؤسسات الدولية، وأن أنظمة الاستبداد في العالم العربي شوهت صورة الإخوان من خلال الطابور الخامس الذي يُصفق للأنظمة، ويلقي بالتهم على الإخوان.

وأوضحت جماعة الإخوان أنه لا علاقة للجماعة بالإرهاب والتفجير وسفك الدماء، وأن فكر الجماعة المستمد من تراث الشهيد حسن البنا، والسباعي، وعلي الطنطاوي، وسيد سابق، والقرضاوي، وعلي الصلابي، وغيرهم يختلف تماماً عن الفكر المتحمس لقطب، فالخطأ إذن لا يكمن في منهج الجماعة أو نمط التفكير السائد فيها، وإنما الخطأ هو في كلام قطب وحده، أو في فهم بعض كلامه بطريقة لم يُردها هو، ولم تتبناها الجماعة أصلاً.

وقرر كثيرٌ من قياداتها أن هذه الدراسات والأبحاث والتقريرات التي ترصد أفكار الجماعة وتحاول تشويهها هي جزء من المنظومة التي سخرتها أجهزة المخابرات العربية لمصادرة فكر الجماعة وتفرقة الناس من حولها؛ لأنها في المحصلة تشكل خطراً حقيقياً على نظام الحكم العلماني والدولة المدنية.

وينبغي ملاحظة أن جماعة الإخوان المسلمين ليست منغلقة على نفسها، بل هي جماعةٌ متطورة، تبلورت لديها العديد من الأفكار العصرية، واندمجت مع المجتمع المصري والعربي، وعاصرت الكثير من حركات التحرر، ونضجت في كثير من القضايا الفقهية والحركية، فمن الجناية تمثيل الإخوان على أنهم إلى الآن يمثلون الفهم الغاضب للواقع، والتفسير المنفعل للنصوص، والتطبيق العدواني للأفكار، وتبناها وطورها أشخاص مُعينين، ثم سرت إلى الجماعة بأسرها. ىوقد توارد على زعامة هذه الجماعة وقيادتها العديد من الشخصيات العلمية المحترمة، وأصحاب المنهجيات المختلفة، التي تتفق أو تختلف مع الشخصيات الحادة في التنظيم.

وتقد ناول الباحث بعض المفاهيم التي يرى أن الإخوان ضلوا بسببها مثل: الحاكمية والجاهلية والجهاد وانقطاع الدين وحتمية الصدام والوطن، ويرى المؤلف أن فكر "قطب" من الصدام المباشر مع الناس يشبه إلى حدٍّ كبير نظرية "صدام لحضارات" لصامويل هنتاجون، و(نهاية التاريخ) لفوكوياما.

وأن الإخوان -في نظره -نشأوا في جو مضطرب مظلم من الفوضى العارمة، والاضطراب الكبير، والحيرة الممزوجة بالحماسة، وأنه لم يكن لديهم رؤية واضحة ولا منهج متكامل نحو ما يجري في العالم الإسلامي، لأنه لم تتوفر لديهم أدوات الفهم والمعرفة التي تُعينهم على استيعاب نصوص الكتاب والسُّنة والاستنباط منهما!. وتطور الأمر إلى نشأة تيارات تكفيرية داخل هذه الجماعة، ونشأت (ظاهرة التفسير الغاضب للقرآن)!!. 

ويرى "الأزهري" أن الإخوان تيارٌ متمرد متشنج، غاضب ومندفع، ومُفخخ بالأفكار المنحرفة، وتصنيفه الطبيعي إنما هو تيارات التكفير والتفجير والدماء، وأن امتدادهم هم الخوارج، كما أنه ليس لديهم فقه ولا بصيرة ولا أدوات للفهم.

وإذا عرفنا أن هذا العمل نضج وطبخ في الإمارات (العربية!) وتحديداً في أبو ظبي، فينبغي فهم ملابسات هذا العمل، وإدراجه ضمن المشروع الصهيوني التجهيلي المؤصل لضرب منظومة العمل الإسلامي بأقلام أزهرية تنتسب إلى العلم والدعوة، تهدف إلى تقويض الحركات الإسلامية، لا سيما جماعة بحجم جماعة الإخوان المسلمين.

ونحن لا نبرئ "قطب" من بعض انحرافاته، ولكن لا نتجنى على الجماعة بأسرها، فنحملها ما لا تحتمله، لا سيما وأن لها تاريخ نضالي عريق، وكثيرٌ من قيادات الأمة وعلمائها تنتسب إليها.




الخميس، 12 أغسطس 2021

المستغيثين بالله عند المهمّات والحاجات لأبي القاسم خلف بن عبد الملك

المستغيثين بالله عند المهمّات والحاجات

لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي

(٤٩٤ - ٥٧٨ هـ)

تحقيق الباحثة النمساوية مانويلا مارين

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا مجلد لطيف في الرقائق والآداب، لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الخزرجي -أحد علماء الأندلس، سماه "المستغيثين بالله تعالى عند المهمات والحاجات والمتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات، وما يسر الله الكريم لهم من الإجابات والكرامات"، وقد تضمن (١٥٤) خبراً ما بين حديثٍ وأثرٍ وقصة، من أخبار المستغيثين بالله تعالى. 

وقد بدأ ذلك بالأدلة القرآنية التي تبين عظيم فضل الاستغاثة بالله جل وعلا؛ فإنه -سبحانه -رجاء المؤمنين، وغوث المستغيثين، ومنتهى رغبة العابدين، ومجيب دعوة المضطرين؛ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجيبُ دعوة الدَّاعِي إذا دَعانِ} (البقرة: 186).

ثم شرع بذكر الآثار الدالة على دوام اضطرار العبد إلى مولاه وخالقه ورازقه، وأردف ذلك بالقصص الكثيرة والغريبة لبعض الصالحين والزُّهاد الذين وجهوا خالص عبوديتهم ودعائهم واستعانتهم إلى الله وحده، طالبين منه العون والمدد والإغاثة، وما تبع ذلك من الكرامات الكثيرة، والإمدادات المتواصلة منه سبحانه.

وقد بيَّن فيه الأوقات الشريفة التي ينبغي للمسلم أن يتحرى فيها الدُّعاء، وأن الله عز وجل أسرع إعانةً وإجابةً لمن يستغيث به، وكان الأولون إذا وقعوا في كرب أو اشتدَّ عليهم أمر استنجدوا برحمته واستنزلوا فضله، فيكشف ما بهم من ضُر، ويزيل ما بهم من همٍّ وغم، وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الصغير"، والبيهقي في "الشعب"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها».

وقد تضمن هذا الكتاب كغيره بعض الأحاديث الباطلة، والأخبار الموضوعة، والإسرائيليات، والقصص التي لا تصح بحال، والكتاب بحاجة إلى خدمة وتحقيق أفضل، نسأل الله سبحانه أن يُيسر له من يخدمه بصورة أفضل.

 ويتكون الكتاب من أربعة أجزاء؛ كالتالي:

الجزء الأول (ح 1 -56).

الجزء الثاني (57 -103).

الجزء الثالث (104 -131)

الجزء الرابع (132 -154).

أهم الكتب التي اعتمد عليها ابن بشكوال في كتابه:

صحيح البخاري.

الفرج بعد الشدة؛ لابن أبي الدنيا.

الغربة؛ علي العتكي

فضائل بيت المقدس؛ الفضل بن عبيد الله بن الفضل الهاشمي. 

الدعاء؛ لأبي حاتم الرازي.

التسلي عن الدنيا بتأميل خير الآخرة؛ لعبد الله بن يونس الصّفار القرطبي.

الورع؛ أبي الغمر محمد بن مسلم.

فضائل التابعين؛ سعيد بن أسد

 الأخبار؛ لأبي جعفر الطحاوي.

 كتاب أبي العرب؛ شقران بن علي القيرواني.

من عُرف بالإجابة؛ لأحمد بن محمد القصري

العروس ….

الزهد لأحمد بن حنبل.

العُبّاد لقاسم بن محمد.



الثلاثاء، 10 أغسطس 2021

صبراً آل ياسر فالعاقبة للمتقين

تأليف مجدي الهلالي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه الكتاب يتحدث عن عبودية هذا الوقت، وهي الصبر على الابتلاء، وأنها تستوجب مزيد التعلق بالله سبحانه، واليأس مما في أيدي الخلائق، والمزيد من الثبات على دين الله سبحانه، أمام كل المخططات والمحاولات لمحو الحق وتشويه صورته، واستجابةً للأمر الرباني: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣).

وما أحوجنا في هذا الوقت الذي تكالبت فيه فرق الضلال على أهل السُّنة تُسيمهم قتلاً وخسفاً ومطاردة، وتحيلهم إلى السجون والزنازين، وتختبر عقائدهم وأحوالهم وتنشر ذلك على الملأ، وتستعين في ذلك بكل فاسقٍ غادر، وظالم فاجر إلى هذه العبودية التي تجعلنا في راحةٍ وسعادة وطمأنينة عظيمة.

ومع ذلك كله؛ فإننا من أنقاب هذه المحن نتلمَّح النَّصر القريب، والفرج الكبير:

فكل الحادثات وإن تناهت ... فموصول بها الفرج القريب

ولا شك أن الأحداث التي تمر بالدعوة الإسلامية المعاصرة تشابه إلى حد كبير الأحداث التي مرت بأصحاب الدعوات في الماضي والتي أفاض القرآن في ذكرها وكيفية التعامل معها، ومن الخطأ بمكان أن نترك هذا الرصيد الضخم من التجارب والحلول المجربة.

ومع ثقتنا بوعد الله لنا بالنصر والغلبة: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، إلا أننا بحاجة إلى عودةٍ صادقةٍ إلى الله عز وجل، بالتوبة النصوح، وأن تتكاثف جهودناا، لتعلو الراية، ويعود عزُّنا، ويتتحقق نصرنا، مع يقيننا الجازم أن السُّنة لا تنتشر إلا بجهد الفئة المؤمنة، وجهادها المرير.

وقد وصى يعقوب عليه السلام بنيه بالثبات على الدين؛ لأنه يحقق النجاة من العذاب والفوز بالآخرة، فالمؤمن الحق يلتزم بدين االله، وهذا الالتزام يدل على سلامة الفطرة والإيمان العميق، وقد وصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم -أحوال المؤمنين آخر الزمان، بأن: "الصابر على دينه كالقابض على الجمر" (الترمذي).

ونختم بأن نرفع أكُفَّ الضراعة إلى الله سبحانه، أن يجعل لنا من هذه المحن منحاً تعلو بها دعوتنا، ويتحقق بها رجاؤنا، وينجلي بها تكاثف الظلمات، وتتضح لنا سبل السعادة ومعالم الخيرات.

فائدة إعرابية/

صبراً: مفعولٌ مطلق لفعلٍ محذوف، والتقدير "اصبروا صبراً"، والجملة الفعلية (اصبروا صبراً) جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب.  آلَ: منادى محذوف منه حرف النداء، منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وهو مضاف. ياسر: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة. فالعاقبةُ: الفاء تعليلية، العاقبةُ: مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.

للمتقين: اللام حرف جر.  والمتقين: اسم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم. والجار والمجرور في محل رفع خبر المبتدأ. وجملة فالعاقبة للمتقين جواب الجملة الفعلية "اصبروا آل ياسر".



الصبر مطية النجاح لأبي عبد الله محمد بن أحمد ابن ظهير الإربيلي (٦٠٢ -٦٧٧ هـ)

الصبر مطية النجاح

لأبي عبد الله محمد بن أحمد ابن ظهير الإربيلي (٦٠٢ -٦٧٧ هـ)

جمع: عبد القادر المبارك (ت ١٩٤٥ م)

تقديم مازن المبارك

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه قصيدة بائية لطيفة، نظمها الشيخ العالم محمد بن أحمد بن عمر الحنفيّ مذهباً، المراكشيِّ أصلاً، أحد أعيان الأدب، وفحول المتأخرين في الشعر، وقد قصد جمعها عبد القادر المباركح حيث إنه كلما وقف على قطعةٍ منها سجلها على غلاف الكتاب الذي يجدها فيه، ولما تمَّت لديه، نشرها في مجلة الحقائق الدمشقية، بعد أن شرح غريبها، وفسَّر ألفاظها.

وقد تضمنت هذه القصيدة العديد من الأغراض الحميدة، والمعاني الشريفة، التي أجلُّها الحث على التوبة والاستغفار، والزهد في هذه الدار، والعمل لدار القرار، والاتعاظ بأحوال الناس والاعتبار، واستشراف العاقبة الحسنة بحسن العمل لله سبحانه.

وعدد أبيات هذه القصيدة (١٢١) بيتاً، ويمكن تحديد أغراضها في النقاط التالية:

- بيان حقيقة الإنسان وأصل خلقه.

- التأكيد على أن الإنسان مخلوق مكرم خلق لغاية أرادها االله سبحانه وتعالى وهي العبادة.

- التأكيد على أن الإنسان لديه القدرة على التمييز بين الخير و الشر.

- التأكيد على أن االله زود الإنسان بالقدرة على التعلم والمعرفة، ليكون مستخلفاً في الأرض، معمراً لها.

- التأكيد على أن الإنسان مسؤول عن أعماله .

- تربية المتعلم على العبودية الله والخضوع له،كما خضع الكون.

- التأكيد على خضوع الكون لسنن سنها االله وفق أقدار معينة.

-التأكيد على أن الحياة دار ممر وابتلاء، وأن متاعها زائل .

- إيثار الآخرة على الدنيا، لكن دون إهمال الحياة الدنيا .

- السير في هذه الحياة وفق إرادة االله .

- الصبر والمجاهدة في هذه الدنيا؛ لأن الحياة تتطلب ذلك

ومن المعاني التي تضمنها القصيدة:

الإشارة إلى أن موت الأصحاب يُصيب الرجل بالموت وهو على قيد الحياة:

وإذا المرء طال عمراً أذاقته ... المنايا بموتها أصحابه

وفي الحث على المشورة، والاحتياط في الأمر:

ومن الحزم أن تشاور في الأمـر ... فكم فات ذا صواب صوابه

وفي تشبيه بعض الناس في أخلاقها بالوحوش الضارية التي لا ترعى حقاً ولا ذمَّةً:

ومن الناس مشبه الوحش لا ... يرضيه إلا عدوانه واغتصابه

وفي ذكر تباين الناس في الكرم والضيافة؛ حتى بلغ ببعضهم البخل أن يعقر ضيفه، بينما بلغ الكرم بالآخر أن كلابه لا تنبح لكونها شبعى:

ومن الناس عاقر الضيف كالكلب ... ومنهم من لا تهر كلابه

وفي بيان أن الجهل غُربة، والعقل أنس وراحة:

توحش الجاهل الإقامة في الأهل ... ولا يوحش اللبيب اغترابه

وفي أن اللبيب تكفيه الإشارة:

والحكيم الرشيد يخجله العتب ... ولا يخجل اللئيم سبابه

وفي بيان أن أذى اللسان سلاح العاجز:

وإذا اغتابك اللئيم فشكراً ... حيث أضحى جهد اللئيم اغتيابه

وفي أن إجابة السفيه تكمن في الإعراض عنه:

وإذا ساءك السفيه بما شاء ... فترك الجواب عنه جوابه

ويقول في معنى تبدُّل أحوال الناس، وارتفاع الوضيع:

كيف ترجو الوفاء من أهل دهر ... قد تساوت أبناؤه وذئابه

طال فيه العدول عن سنن القصد  ... وطالت رؤوسه أذنابه

وفي معنى أن الرزق مكتوب، قلَّ أم كثر:

ولقد يرزق المقيم ويكدى ... من سعى دهره وطال اغترابه