حسن السُّمعة بإبطال قول من اشترط العدد والمكان الخاص لصلاة الجمعة
عبد العزيز بن محمد بن الصديق
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ أجمع العلماء على وجوب صلاة الجمعة، وكونها فرضُ عينٍ على كل مُسلمٍ بالغٍ عاقل، وأن الله سبحانه عظَّم من شأنها، وأمر بالسَّعي إليها، وحذَّر بعقوبة الطبع على كل من يتخلف عنها، وقد وضع الفقهاء شروطاً لصحتها وذلك من خلال استقراء أحداث السيرة، والأحاديث الصحيحة، وذكروا من تجب عليه، ومن لا تجب عليه، ومن تنعقد به، ومن لا تنعقد به، وعليه فلا يجوز لمن نظر في أقوالهم أن يجعل مستند رأيهم الهوى والعبث، فلكل شرط لديهم حظٌّ من النظر، ودليلٌ يستند إليه، سواء من النص أو القياس الآثار الواردة عن الصحابة، ونحو ذلك. ولكن تبقى هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي تحتمل الصواب والخطأ.
وهذه الرسالة هي جوابٌ عن سؤال ورد إلى الشيخ الغماري بخصوص العدد الذي اشترطه الفقهاء لصحة صلاة الجمعة، هل له دليلٌ صحيح يُعتمد عليه؟ وألحق به الجواب عن اشتراط المكان أيضاً (وهو المسجد الجامع)، وقد ذكر الغماري أن جماعة الجُمعة كسائر الجماعات، لا يشترط لها عددٌ مُعيَّن، وأنها تصحُّ باثنين فصاعداً، وأن ما اختاره هو مذهب من نوَّر الله تعالى بصيرته! ولا يُلزم أحداً به.. غير أن من أخذ به فقد عمل بالصواب.
واستدلَّ الغُماري بأدلَّةٍ، منها:
أولاً: أن هذه الشروط مُحدثة ولا أصل لها في اللغة ولا في الشرع.
ثانياً: حديث أبي موسى الأشعري: (اثنانِ فما فوقَهُما جماعةٌ) وهو حديث صحيحٌ مُرسلاً، قال: فالمعتبر في جماعة الجمعة هو ما سمَّاه الشارع جماعةً، ودلت عليه اللغة أيضاً، فالجماعة هي كل ما انتفت عنه صفة الفردية.
ثانياً: عن أبي هريرة: أنه كتَب إلى عُمرَ يَسألُه عنِ الجمُعةِ بالبحرَينِ وكان عامِلَه عليها، فكتَب إليه عُمرُ: (جَمِّعوا حيث كنتُم). (عمدة القاري، بإسناد جيد)؛ قال الغماري: كما أنه فعل أسعد بن زرارة حيث صلَّى في نقيع ماء، ومصعب بن عُمير حيثُ جمَّع بهم ولم يكن ذلك في مسجد خاص.
وما ذهب إليه الغُماري، هو مذهب الظاهرية، وطائفة من السلف، كإبراهيم النخعي، والحسن بن صالح، وداود، ومكحول، واختاره الطبري، والشوكاني، وظاهر قول ابن رشد، وهو قول جماعةٍ كبيرةٍ من العلماء المتأخرين.
وخلاصة كلام الغماري في رسالته، ما يلي:
أولاً: أن اشتراط العدد لم يأت في شريعتنا ما يدلُّ عليه صراحةً.
ثانياً: أنه من التشبُّه بأهل الكتاب في اشتراط العدد لصلاتهم!
ثالثاً: أن هذه المسألة من المسائل النظرية التي لا طائل تحتها.
رابعاً: أنه يكفي في صلاة الجماعة ما يُسمى جماعةً لغةً وشرعاً، وذلك يصدق على الاثنين؛ فصاعداً.
خامساً: أنه لا يشترط الجماعة في صلاتها ركعتين، بل إذا صلاها الإنسان وحده لعُذرٍ صلاها ركعتين؛ لأنها فُرضت كذلك، وليست لأنها بدلاً عن الظهر.
سادساً: أنه لا يُشترط لفعلها المسجد الجامع.
سابعاً: أن اشتراط فعلها في المسجد هو من التشبه باليهود والنصارى الذين لم يُصححوا عباداتهم إلا في البيع والكنائس.
ثامناً: تصحُّ صلاة الجمعة في أيِّ مكانٍ، سواءً كا ن مبيناً أم لا، مُسقَّفاً أم لا، في المسجد وغير المسجد، في المصر الجامع أم لا، إلا ما استثناه الشارع من ذلك.
تاسعاً: أنها تجب على أهل البوادي كما تجب على أهل الحضر بلا فرق.
عاشراً: أن اشتراط إذن الحاكم في إقامتها شرطٌ باطل.
وأختم بفائدة ذكرتها في مقال (نور اللمعة في خصائص الجمعة) للسيوطي:
قال الإمام السيوطي: وأقوى ما رأيته لاختصاص الجمعة بالأربعين، ما أخرجه الدارقطني في "سننه"، عن جابر رضي الله عنه، قال: (مضت السُّنة أن في كل أربعين فما فوق ذلك جُمعة). نور اللمعة في خصائص الجمعة، للسيوطي (ص 47).
لكن الحديث الذي ذكره السيوطي ضعيف جداً، قال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به، وقال البيهقي: هذا الحديث لا يحتج بمثله، وفيه عبد العزيز بن عبد الرحمن متروك.
وأقوى منه: ما رواه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وغيرهما: عن كعب بن مالك رضي الله عنه: «أن أولَ مَن جمعِّ بأهل المدينة أَسْعدُ بن زرارة رضي الله عنه، وكانوا يومئذ أربعين»، وهو حديث حسن..
وفيه: قال عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ لأبيه: كم كنتم يومئذ؟ قال: «أربعين رجلاً».
وروى البيهقي في "السنن الصغير" (610)، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب: «إذا بلغ أهل القرية أربعين رجلا فليجمعوا».
وأما ما رواه الزُّهريُّ: «أن مُصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة وهم اثني عشر رجلاً» (دلائل النبوة؛ للبيهقي: 2/ 433).
فلنا فيه ثلاثة أجوبة:
الأول: ما روي عن كعب متصل، وقول الزهري منقطع ضعيف، والمتصل أقوى.
الثاني: أن الزُّهري أراد ذكر عدد النقباء الذين حضروا الجمعة، لا جميع من حضرها ممن أسلم، وكان أسعد بن زرارة أحد النقباء الذين حضروها، وقد أخبر أنه صلاها أربعين رجلا،
الثالث: أن الزهري أضاف الجمع إلى مُصعب، لكونه هو الذي صلاها، وأضافها كعب إلى أسعد بن زرارة؛ لأنه أول من دعا إليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق