أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 9 أكتوبر 2021

ما هي البدعة عند السَّادة الشَّافعيَّة ؟ بقلم الأستاذ محمد ناهض عبد السَّلام حنونة الشَّافعي

ما هي البدعة عند السَّادة الشَّافعيَّة ؟


بقلم الأستاذ

محمد ناهض عبد السَّلام حنونة الشَّافعي

غزَّة -فلسطين

إن ما يعنيه الفقهاء الشافعيَّة عموماً بالبدعة في كتبهم، هي البدعة اللغوية، والتي هي أعمُّ من البدعة الشرعية، واتفقوا على أن البدعة الشرعية مذمومةٌ كلها، وأما غير الشرعية فلهم فيها نظرٌ، ولذلك نرى السادة الشافعية رضوان الله عليهم يقسمونها -أعني البدعة اللغوية -إلى خمسة أقسام، ويجعلون إطلاقها في النصوص من العام المخصوص، وعليه تلتئم الأقوال في المذهب، ونعرف مُراد الإمام رحمه الله، ورضي عنه بالبدعة.. وتُفهم تخريجات أصحاب الوجوه في المذهب.

وقال الإمام بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) في كتابه "المنثور في القواعد" (1/ 217): البدعة قال ابن درستويه هي في اللغة: إحداثُ سُنَّةٍ لم تكن، وتكون في الخير والشر، فأما في الشرع فموضوعةٌ للحاديث المذموم. أ.هـ.

وروى البيهقي بإسناده في "مناقب الشافعي" (1/ 469)، عن الإمام الشافعيّ، قال: المحدثات ضربان:

أحدهما: ما خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا .. فهو بدعة ضلالة.

والثاني: ما أحدث من الخير .. فهو غير مذموم، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه، يعني: أنها محدثة لم تكن.

يعني بذلك البدعة اللغوية عموماً.


وقال الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) في "الفتح" (13/ 278): وأما البدع، فهو جمع بدعة، ويختصُّ في عُرف أهل الشرع بما يُذمُّ.

وقال الإمام الحافظ شمس الدين السَّخاوي (ت 902 هـ) في كتابه "فتح المُغيث" (1/ 326): البدعة هي ما أُحدث على غير مثالٍ مُتقدم، ولكنها خُصَّت شرعاً بالمذموم. وقال (1/ 327): وهي ما أُحدث على غير مثالٍ مُتقدم، فيشمل المحمود والمذموم، ولذا قسمها العز بن عبد السلام… إلى الأحكام الخمسة وهو واضح، ولكنها خُصت شرعاً بالمذموم، مما هو خلاف المعروف عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقال شهاب الدين ابن حجر الهيثمي (ت 974 هـ) في "الفتاوى الحديثية": البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم. قال: ومن العلماء من قسّماها إلى حسن وغير حسن، فإنما قسَّم البدعة اللغوية، ومن قال: "كل بدعةٍ ضلالة" فمعناه: البدعة الشرعية.

وقال أيضاً في "الفتاوي الحديثية" (ص 281): في الحديث الصحيح: (شر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة)، ويدخل في المبتدعة كل من أحدث في الإسلام حدثاً لم يشهد الشرع بحُسنه، وقول عمر رضي الله عنه في التراويح: (نعمت البدعة هي) أراد البدعة اللغوية، وهو ما فُعل على غير مثال، كما قال تعالى: {قُل ما كنتُ بدعاً من الرُّسل} (الأحقاف: 9)، ليست بدعةً شرعاً، فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من قسمها إلى حسن وغير حسن، فإنما قسّم البدعة اللغوية، ومن قال: (كل بدعةٍ ضلالة) فمعناه: البدعة الشرعية. ألا ترى الصحابة -رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان -أنكروا فريضة غير الصلوات الخمس كالعيدين -وإن لم يكن فيها نهيٌ؟ وكذا ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضي؛ فيكون تركه سُنة، وفعله بدعةٌ مذمومة.


وقال شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي (ت 665 هـ) في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 20): قد غلب على الحدث المكروه في الدين مهما أطلق هذا اللفظ، ومثله لفظ "المبتدع" لا يكاد يُستعمل إلا في الذم.

وقال في "النجم الوهاج" (10/ 323)، عن الشيخ عز الدين في (القواعد): البدعة (يعني اللغوية) منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة..  أو في قواعد التحريم فمحرمة..  أو المندوب فمندوبة..  أو المكروه فمكروهة..  أو المباح فمباحة.

فمن أمثلة الواجبة الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله، وذلك واجب؛ حفظًا للشريعة, وكذلك تدوين أصول الفقه وحفظ الغريب. وللبدع المحرمة أمثلة منها: مذاهب القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة, والرد على هؤلاء من البدع الواجبة. ومن أمثلة المندوبة: إحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول كصلاة التراويح. ومن المكروهة: زخرفة المساجد وتزويق المصاحف. ومن المباحة: المصافحة عقب الصبح والعصر، والتوسع في المآكل والملابس.

وأما حديث: (من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة)، فيقول الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (4/ 120 -122): واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعيّ أفضل.. واحتجَّ الشافعيُّ بوجوه: أولها … والرابع عشر: قال عليه السلام: من سنَّ سسُنَّة حسنةً؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. فمن كان أسبق في الطاعة، كان هو الذي سنَّ عمل الطاعة في ذلك الوقت، فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر.

وقال الإمام النووي في "شرحه" لمسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها..) فيه الحثُّ على الابتداء بالخيرات، وسنِّ السنن الحسنات، وسبب هذا الكلام في الحديث أنه قال في أوله: (فجاء رجلٌ بصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجزُ عنها، فتتابع الناس، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان. انتهى.

وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجر العسقلاني في "الفتح" (7/ 137): خديجة رضي الله عنها مما اختصَّت به: سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان؛ فسنَّت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهنَّ، لما ثبت أنَّ (من سنَّ سنةً حسنة)، وقد شراكها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال. انتهى.

فخديجة رضي الله عنها لم تخترع الإيمان، وإنما كانت أول من استجابت لدعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فقال فيها الحافظ: فسنَّت ذلك لكل من آمنت بعدها؛ لما ثبت أنَّ (من سنَّ سنةً حسنة).

وقال شهاب الدين ابن حجر الهيثمي (ت 974 هـ) في "الفتاوي الفقهية الكبرى": سئل ما معنى حديث البيهقي: (من فطّر صائماً، كان له أجر مَن عمله)؟ فأجاب بقوله: يصحُّ أن يكون المعنى: كأن للمُفَطِّر أجر من عمل التفطير مُقتدياً به في ذلك، للخبر الصحيح: (من سنَّ سُنَّةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) انتهى.

قال أبو بكر الدمياطي في "إعانة الطالبين" (1/ 313) قال الشافعي رضي الله عنه: ما أُحدث وخالف كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً؛ فهو البدعة الضلالة، وما أُحدِثَ من الخير ولم يُخالف شيئاً من ذلك فهو البدعة المحمودة.

قال: والحاصل أن البدع الحسنة متفقٌ على ندبها، وهي ما وافق شيئاً مما مرَّ، ولم يلزم من فعله محذورٌ شرعي.

قال: وأن البدع السيئة، وهي ما خالف شيئا من ذلك صريحا أو التزاماً، قد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة والكراهة أخرى.. فمن الأول الانتماء إلى جماعة يزعمون التصوف ويخالفون ما كان عليه مشايخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة عنهم، بل كثيرٌ من أولئك إباحية لا يحرمون حراماً، لتلبيس الشيطان عليهم أحوالهم الشنيعة القبيحة، فهم باسم الكفرة أو الفسق أحق منهم باسم التصوف أو الفقر.

 

وقال الإمامُ العُمرانيُّ في "البيان في المذهب" (3/ 38)، عند حديث: «من غسل ميتًا، فكتم عليه ... غفر الله له أربعين مرة»: وإن كان الميت مبتدعًا مظهرًا لبدعته، ورأى الغاسل منه ما يكرهه، فالذي يقتضي القياس: أن يتحدث به الغاسل في الناس، ليكون ذلك زجرًا للناس عن البدعة.


وقال القاضي حسين في "التعليقات" (2/ 1031):

فأما أهل البدع ينظر فيه؛ فإن كانت بدعة مستحسنة مثل أن قرأ طول النهار، وصلى آناء الليل والنهار، فإنه بدعة مستحسنة، فإن البدعة في اللغة هو الإحداث فإنه تجوز الصلاة خلفه وتستحب، فأما إذا صلى في الأوقات المنهية أو أذن في غير وقت الأذان، فإنه بدعة تكره الصلاة خلفه، وتجوز.

وقال الشيخ زكريا الأنصاري في "الإفهام" (ص 265):

وكل بدعة ضلالة من العام المخصوص، والمراد غالب البدع، قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومنظوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة، 

فمن الواجب: نظم ادلة المتكلمين في الرد على المبتدعين، والاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم.

ومن المندوبة: إحداث الربط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول. ومنها: صلاة التراويح، ولهذا قال عمر: "نعمت البدعة".

ومن المحرمة: اعتقاد مذهب الجبرية، او القدرية، او المرجئة، او المجسمة، ونحوهم.

ومن المكروهة: زخرفة المساجد وتزويق المصاحف.

ومن المباحة: المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام،وقد يختلف في بعض ذلك؛ فيجعله العلماء من البدع المكروهة، وبعضهم من غير البدع نبه على ذلك النووي في تهذيبه.


وقال الرافعيُّ في شرح الوجيز (1/ 126)، عند حديثه عن غسل الوجه أكثر من ثلاث: "فإنها بِدْعَةٌ، وترك السنة -من الزيادة على الغسلة -أهون من اقتحام البدعة".

وقال الرافعيُّ في شرح الوجيز(2/ 143) عند حديثه عن تفضيل الصلاة في المسجد البعيد كثير الجمع أو القريب قليل الجمع: وأن يكون إمام المسجد البعيد مبتدعاً كالمعتزلي وغيره، وإمام المسجد القريب بريئاً عن البدعة، فالصلاة في المسجد القريب أولى.

وقال تقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي (ت 756 هـ) في "فتاويه" (2/ 108): فالبدعة عند الإطلاق لفظٌ موضوعٌ في الشرع للحاديث المذموم، لا يجوز إطلاقه على غير ذلك.

وقال ابن كثيرٍ في "تفسيره" (1/ 162): البدعة على قسمين: تارةً تكون بدعةً شرعية؛ كقوله: (كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة)، وتارةً تكون بدعةً لُغويَّة؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح، واستمرارهم: (نعمت البدعة هذه).

ويقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص 266): فقوله (كل بدعةٍ ضلالة) من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيءٌ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدين… وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع؛ فإنما ذلك من البدع اللغوية لا الشرعية. وقال أيضاً: البدعة المذمومة: ما ليس لها أصلٌ من الشريعة يُرجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع.

وقال الرُّوياني في "بحر المذهب" (2/ 263) في حكم الصلاة خلف المبتدع: "وأما المظهر للبدع في الدين بالطعن على السلف الصالح فإنه تكره الصلاة خلفه فإن صلى صحت صلاته لأن ذلك لا يخرجه عن الإسلام .

وقال صاحب الإفصاح: أراد الشافعي رحمه الله: إذا لم يخرج عن الإسلام ببدعته ولم يكفر السلف ولم ينقصهم ولم يعتقد حدوث كلام الله تعالى ولا نفي شيء من صفاته، وإنما خالف في الأرجاء والوعيد ونحو ذلك من البدع التي لا تخرجه من الملة فتكره الصلاة خلفه، ولكن تجوز فأما إذا اعتقد شيئاً مما ذكرنا لا تجوز الصلاة خلفه… ومن أصحابنا من قال: البدعة على ثلاثة أضرب ضرب لا يفسق به كالمخالف في الفروع من الفقهاء فلا تكره الصلاة خلف معتقده إلا أن يكون منهم من يذهب إلى ترك الأركان فتكره الصلاة خلفه لئلا يترك ركناً ويجوز لأن الظاهر منه أنه يأتي به… وضرب يفسق به كمن سب الصحابة من الروافض والخوارج، فتصح الصلاة خلفه ولكنه يكره، وضربٌ يكفر به كالقول بخلق القرآن والاعتقاد بأن علياً رضي الله عنه كان إلهاً أو كان نبياً كما قالت غلاة الرافضة فلا تجوز الصلاة خلفه.

ويقول الإمام البغويُّ في "التهذيب" (8/ 269) في حكم تكفير أهل البدع: ومذهب أكثر الفقهاء: أنهم لا يكفرون أحداً من أهل البدعة.

وقال في "عجالة المحتاج" (3/ 1314) عند حديثه عن الامتناع عن إجابة الدعوة، قال: ويدخلُ في قولِ المصنِّفِ: (وَلَا مُنكَرَ) ما إذا كان هناكَ داعيَةٌ إلى الْبِدْعَةِ ولا يقدرُ المدعوُّ على رَدِّةِ، وما إذا كان هناكَ من يضحكُ بِالْفُحْشِ وَالْكَذِبِ، وبهِ صَرَّحَ الغزاليُّ في الإِحْيَاءِ.

ويقول الغزاليُّ في "إلجام العوام عن علم الكلام": اتفقت الأمة قاطبةً على ذم البدعة وزجر المبتدع، وتعتيب من يُعرف بالبدعة؛ فهذا مفهومٌ على الضرورة بالشرع… وذم رسول الله صلى الله عليه وسلم البدعة، وعُلم بتواتر مجموع أخبارٍ تُفيد العلم القطعي جملتُها، فمن ذلك ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي… وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار).

وسئل ابن الصلاح عن الفرق بين المبتدع والفاسق؛ فأجاب في فتاويه (1/ 219): "كل مبتدع فاسق وليس كل فاسق مبتدع، والمراد أن المبتدع الذي لا تخرجه بدعته عن الإسلام، وهذا لأن البدعة فساد في العقيدة في أصل من أصول الدين، والفسق قد يكون فساداً في العمل مع سلامة العقيدة".

وقال محمد بن عمر التناري في نهاية الزين (ص: 150) إذا رأى المُغسِّلُ أمارة خيرٍ أو شرٍّ على المبتدع: نعم إِذا رأى من المبتدع أَمارَة خير يكتمها لِئَلَّا يغري النَّاس على الْوُقُوع فِي مثل بدعته وضلاله بل لَا يبعد وجوب الكتمان عِنْد ظن الإغراء بهَا والوقوع فِيهَا. وَلَو كَانَ الْمَيِّت مبتدعا مظهر الْبِدْعَة ورؤي بِهِ أَمارَة سوء لَا يجب ستره بل يجوز التحدث بِهِ لينزجر النَّاس عَنْهَا... وَكَذَا لَو كَانَ مستترا ببدعته وَظهر عَلَيْهِ أَمارَة سوء فَيجوز التحدث بهَا عِنْد المطلعين عَلَيْهَا المائلين اليها لَعَلَّهُم ينزجرون.

وقال في "النجم الوهاج" (7/ 43) حول حكم غيبة أهل البدع،  قال المصنف وغيره: الغيبة تباح بستة أسباب: التظلم، والاستفتاء، والاستعانة على إزالة المنكر، ولتحذير الناس من الشر، وأن يكون متجاهراً بالفسق أو البدعة، وللتعريف- إذا لم يعرف إلا بذلك  مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد الاستخفاف والأذى.

وسنأتي إلى أشهر العلماء الذين قالوا بتقسيم البدع إلى أقسام، وهم العز بن عبد السلام، وتلميذه القرافي، والإمام النووي، لنوضح من كلامهم أنهم لم يقصدوا به تقسيم البدعة في العبادات إلى حسنة وقبيحة، وإنما قصدوا تقسيم البدعة بمعناها في لغة العرب، الذي يشمل كل جديد في أمور الدنيا العادية من مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك.

قال الإمام عز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ) في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 204): البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة.

وللبدع المباحة أمثلة؛ منها: المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام.

ويتضح من الأمثلة التي ذكرها العز بن عبد السلام في البدع المباحة أنها تتعلق بأمور الدنيا، وأنه لا يُقسم البدع في العبادات، وإنما يقسم البدعة من حيث معناها الواسع في لغة العرب، والذي يشمل الدين والدنيا.

وأما موقفه من بدع العبادات، فهو ما قاله في "الفتاوى" في مسألة المصافحة عُقيب صلاة الصبح والعصر مُستحبّةٌ أم لا؟ وهل يرفع الداعي يديه؟ فأجاب: "المصافحة عقب الصبح والعصر من البدع، إلا لقادمٍ يجتمع بمن يُصافحه قبل الصلاة، فإن المصافحة مشروعةٌ عند القدوم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي بعد الصلاة بالأذكار المشروعة ويستغفر ثلاثاً، والخير كله في اتباع الرسول.

قال: ولا يُستحب رفع اليدين في القنوت، كما لا يرفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث. ولا يُستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولا تصح الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت، ولا ينبغي أن يُزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء، ولا يُنقص. انتهى.

وهذا يُظهر لنا موقف العز بن عبد السلام من البدعة، من حيث أنه قسمها إلى خمسة أقسام، ثم هو يُعلنها صراحةً أن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات غير مشروع، ولا يُتقرب إلى الله به. فتلق المبتدعة بكلام العز بن عبد السلام رحمه الله لا يُفيدهم بشيء.

وقال الإمام القرافي (ت 684 هـ) في كتابه "الفروق" (4/ 203 -205): والحق التفصيل، وأنها خمسة أقسام (قسم) واجب وهو ما تتناوله قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن... (القسم الثاني): محرم، وهو بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس... و(القسم الثالث) من البدع مندوب إليه، وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشريعة كصلاة التراويح... (القسم الرابع) بدع مكروهة، وهي ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادات، من هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات كما ورد في التسبيح عقيب الصلوات ثلاثة وثلاثين فيفعل مائة... (القسم الخامس) البدع المباحة، وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق؛ لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات.

 ومن خلال قراءة كلام الإمام القرافي نجد أنه يعتبر أيَّ زيادة في العبادات قلة أدب!! وعلى أهل البدع أن يُجيبوا عن هذا الأمر، وتشبثهم بتقسيم القُرافي وهو برئ من بدعهم، ونلاحظ أن البدع المباحة هي المتعلقة بأمور الدنيا لا الدين.

وقال النووي في شرح "صحيح مسلم": قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعةٍ ضلالة) هذا عامٌ مخصوص، والمراد غالب البدع. قال أهل اللغة: هي كل شيءٍ عُمل على غير مثالٍ سابق، قال العلماء: البدعة خمسة أقسامٍ: واجبةٌ، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة… ومن المباح: التبسط في ألوان الأطعمة، وغير ذلك. انتهى.

قال الإمام النوويُّ (ت 676 هـ) في "المجموع شرح المهذب" (4/ 519): وقوله صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة): هذا من العام المخصوص؛ لأن البدعة كلُّ ما عمل على غير مثال سبق. قال العلماء وهي (أي البدعة اللغوية) خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة وقد ذكرت أمثلتها واضحة في تهذيب الأسماء واللغات ومن البدع الواجبة تعلم أدلة الكلام للرد على مبتدع أو ملحد تعرض وهو فرض كفاية…  ومن البدع المندوبات بناء المدارس والربط وتصنيف العلم ونحو ذلك..انتهى.

وبناءً عليه؛ فكلام الإمام النووي واضحٌ في أنه يقصد العموم من حيث المعنى اللغوي للفظ "بدعة" من حيث كل ما يصحُّ أن يُسمى بدعةً في لغة العرب، فلفظ "بدعة" يعمُّ كل جديدٍ مُبتدع في أمور الدنيا العادية والدين.

فالحديث حينئذٍ يكون خاصاً؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعةٍ ضلالة، لا يقصد به كل مبتدعٍ جديدٍ في أمور الدنيا والدين، وإنما يقصد الابتداع في الدين فقط، فيكون الحديث خاصّاً بالابتداع في الدين فقط.

فلا بُد أن نفهم قصد من قال بالعموم، وقصد من قال بالخصوص، فنجد أنه لا تعارض بينهما.

وأما موقف الإمام النووي رحمه الله من الابتداع في العبادات، فيقول في كتابه "خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام" (1/ 616): "فَصَلَاة الرغائب ثنتا عشرَة رَكْعَة فِي لَيْلَة أول جُمُعَة من رَجَب. وَصَلَاة النّصْف مئة رَكْعَة، لَيْلَة نصف شعْبَان. وهما بدعتان مذمومتان منكرتان، وأشدهما ذمّاً الرغائب لما فِيهَا من التَّغْيِير لصفات الصَّلَاة، ولتخصيص لَيْلَة الْجُمُعَة. والْحَدِيث الْمَرْوِيّ فِيهَا بَاطِل، شَدِيد الضعْف، أَو مَوْضُوع. وَلَا يغتر بكونهما فِي "قوت الْقُلُوب"، و"الْإِحْيَاء"، وَلَا بِمن اشْتبهَ عَلَيْهِ الصَّوَاب فيهمَا، فَذكر وَرَقَات فِي استحبابها، فَإِنَّهُم غالطون فِي ذَلِك، مخالفون لسَائِر الْأمة، وَقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (إيَّاكُمْ ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل بِدعَة ضَلَالَة)، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد)، وَهَاتَانِ محدثتان لَا أصل لَهما. انتهى.

فتعلق أهل البدع بتقسيمات الإمام النووي محض وهم، فالإمام النووي رحمه الله كان على الجادة.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق