الرد الأثري المُفيد على البيجوري في جوهرة التوحيد
تأليف عمر بن محمود أبو عمر
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا شكَّ أن خير العلوم وأشرفها هو علم التوحيد، وأن أفضل مراتب الدعوة والجهاد هو الذبُّ عن حياض التوحيد، وتصفيته من الشوائب والبدع، وما علق به من أدران الكلام، وعكر الفلسفة، والتي قد تورث الدَّخن لدى بعض أهل الغفلة في زماننا، ممن لا يُميز بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، والعلم والجهل.
وهذا الكتاب هو ردٌّ على شرح الشيخ إبراهيم بن محمد البيجوري (ت 1277 هـ) على "جوهرة التوحيد" لمؤلفها الشيخ إبراهيم بن إبراهيم اللقاني (ت 1401 هـ)، والمُسمى بـ"تحفة المُريد"، وهذا الشرح يعتني بجمع مسائل الاعتقاد بحسب فرقة الأشاعرة، ولا نبالغ إن قلنا: إن البيجوري في شرحه للجوهرة قد جمع سقطة كل أشعري، ولم يُغرب بعيداً عن عقائد المعتزلة إلا من حيث الصورة اللفظية، كما أوردناه عن المؤلف في ذلك.
وقد أحسن المؤلف في اختيار هذا الموضوع، الذي تمسُّ الحاجة إليه، لا سيما وأن هذا المتن وشرحه يعتبران المصدر الأساس الذي تُستقى منه العقائد في كثير من المعاهد والمدارس والجمعيات في العالم الإسلامي، وهو شرحٌ مشحون بمقالات أهل البدع، وتخريفات المتصوفة.
وقد وضع المؤلف مقدمة مهمة لبيان معنى العقيدة الأشعرية، ومن هو الأشعري، وهل رجع الأشعري عن عقيدته؟ ومراحل تنقل الأشعري من المعتزلة إلى الكلابية إلى عقيدة السلف، وهل الأشاعرة على قوله الأشعري، وما هو سبب انتشار العقيدة الأشعرية، وما هو موقع الجوهرة وشرحها في التصانيف الأشعرية، وذكر نقولات عن العلماء والسلف في ذم علم الكلام.
ومن المعلوم أن العقيدة الأشعرية فُرضت بمرسوم رسمي أصدره الخليفة العباسي "القادر" أحمد بن العباس سنة (420 هـ)، والذي عُرف بالمرسوم القادري، والذي ألزم العلماء فيه بالعقيدة الأشعرية، وهدد من يُخالفها بالعذاب والإهانة.
وفي سبيل إقرار هذا «الاعتقاد» جمَعَ الخليفة العباسي القادر بالله (381 – 422 هـ) الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة، للتوقيع على ورقته، اعترافًا منهم بأنها وحدها الطريقة المُثلَى للإيمان الحق، وأن ما عداها «فِسْق وكُفْر» يستحق صاحبه العقاب والتنكيل، ثم أمَرَ بأن تُرسل الوثيقة إلى كافة أنحاء الدولة العباسية، كي يدعوا لها الخطباء من فوق المنابر ويُلزم الجميع بِاتباعها.
وكانت غايته من ذلك مواجهة الخطر الكبير الذي تمثله الدولة الفاطمية، فاتجه إلى الترويج للمذهب الأشعري، من أجل مجابهة الدعاة الفاطميين، الذين كانوا ينشطون في مناطق الدولة العباسية، وأنشأت المدارس من أجل تدريس هذه العقيدة، وأبرزها المدرستان: النظامية في بغداد، والنظامية في نيسابور، اللاتي أنشأهما نظام الملك، أبرز وراء العهد السلجوقي، من أجل تخريج الدعاة ذوي العقيدة الأشعرية لمواجهة الفاطميين.
وعلى الرغم من هذا التوجُّه الخاطئ للخليفة القادر من الناحية العقدية، والذي يبدو أنه تأثَّر بنظام الملك الحسن بن علي الطوسي (ت 485 هـ)، إلا أن العمليَّة تمَّت وانتشر المذهب الأشعري بشكل كبير في الأوساط العلمية، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي (532 -582 هـ) بعد عقدين ونصف من الزمان، وقضى على الدولة الفاطمية واستمر في اعتماد العقيدة الأشعرية، على مستوى الحكم، لأنه قد تلقاها وحفظها على يد أساتذته الذين درسوا في النظامية.
وبالجملة؛ فيعتبر هذا الكتاب النفيس رداً أثرياً يعتمد الدليل النقلي من الكتاب والسنة، دون الخوض في مهاترات أهل الكلام، التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، وقد تضمن الكتاب الحديث عن أهم المسائل التي خالف فيها الأشاعرة عقيدة السلف، وجاءت في أحد عشر مسألة، نسردها إجمالاً، ثم يأتي تفصيلها فيما بعد:
المسائل التي خالف فيها (الأشاعرة) و"البيجوري" أهل السُّنة والجماعة:
١.حقيقة كلام الله تعالى.
٢.حجية أحاديث الآحاد في العقائد.
٣.مفهوم الإيمان.
٤.صفات الله تعالى من حيث الإثبات.
٥.أول واجب على المكلف.
٦.القبورية.
٧.والديِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
٨.الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى.
٩.الكسب عند الأشاعرة.
١٠.الكشف عند البيجوري.
١١. طرف من وحدة الوجود عند البيجوري.
تنبيهان//
الأول: أخطأ المؤلف في التعبير عن خلق الفطرة فعبَّر عنها بالدين؛ فقال (ص 101): {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم/ 30)، قال: والآية دليلٌ على أن الدين مخلوق"!!
وقد سألتُ عنها شيخنا د. أبو عمر علي الأزدي؛ فقال: لا يصح ذلك، وقد ناقش نحو هذا شيخ الاسلام ابن تيمية في المنع من القول بأن الإيمان مخلوق والدين منه القرآن الكريم والوحي العظيم ومنه أسماء الله الحسنى، يمتنع إطلاق أنه مخلوق في أيٍّ منها.
الثاني: أن الكتاب الموجود على المكتبة الذهبية الشاملة، حُذف منها بعض الفقرات المهمة، بالإضافة إلى عدم وجود الفصول السابع والثامن والتاسع، من "البيجوري ووالديّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم -إلى - "الكسب عند الأشاعرة".
أولاً: عقيدة البيجوري في صفة الكلام، والرد عليه:
البيجوري أستاذ الأشاعرة في عصرنا ومعلمهم عقائد السلف كما يبين في شرحه لجوهرة التوحيد يفيض ويسهب في شرح عقيدته في كلام الله تعالى، وهو عودة منه إلى طامة كبرى مرت على المسلمين في الأزمان السالفة التي دخلت فيها علينا عقائد اليونان ونفاياتهم وعقائد الهندوس وضلالاتهم باسم الإسلام وعقيدة المسلمين.
فما هي عقيدة البيجوري ومن قبله اللقاني ومن شايعهم من الأشاعرة في كلام الله تعالى، يقول اللقاني ناظم الجوهرة:
ونزه القرآن أي كلامه ... عن الحدوث واحذر انتقامه
فكل نص للحدوث دلاّ ... إحمل عن اللفظ الذي قد دلاّ
ويشرح البيجوري هذا النظم بقوله: (أي واعتقد أيها المكلف تنزه القرآن - بمعنى كلامه تعالى- عن الحدوث، خلافاً للمعتزلة القائلين بحدوث الكلام، زعماً منهم أن من لوازمه الحروف والأصوات، وذلك مستحيل عليه تعالى، فكلام الله تعالى عندهم مخلوق، لأن الله خلقه في بعض الأجرام، ومذهب أهل السنة أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم، لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق، ولذلك امتنعت الأئمة من القول بخلق القرآن) (شرح الجوهرة، ص 92، 93).
ثم قال في شرحه:
فكل نص للحدوث دلاّ ... إحمل على اللفظ الذي قد دلاّ
(أي إذا تحققت ما سبق - من التفريق بين اللفظ القرآني والكلام النفسي - فكل نص ... إلخ؛ فالفاء فاء الفصيحة، وهذا من باب الحقيقة جواب عما تمسك به المعتزلة من النصوص الدالة على الحدوث مثل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} .. {إنا نحن نزلنا الذكر} والمراد من النص: الظاهر من الكتاب والسنة؛ وقوله "للحدوث دلاّ" أي دل على حدوث القرآن) (شرح الجوهرة، ص 95).
ثم قال: (والحاصل أن كل ظاهر من الكتاب والسنّة دل على حدوث القرآن، فهو محمول على اللفظ المقروء لا على الكلام النفسي، لكن يمتنع أن يُقال: القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم).
وهذه الأقوال تبين لنا مراد البيجوري في عقيدته في كلام الله تعالى، وهو التفريق بين المعنى واللفظ، وأن المعنى هو كلام الله تعالى النفسي القديم، وأنه ليس بمخلوق، واللفظ القرآني ليس هو كلام الله تعالى بل هو مخلوق، وإن كان يصح إطلاق كلام الله عليه ولكن يكون كلام الله هنا مخلوق، ولا يقال ذلك إلا في مقام التعليم هذا هو الأمر المراد من كلامه.
أما المراد الثاني: فهو أن كلام الله تعالى نفسي قديم ليس بحرف ولا صوت. وصرح بذلك في موطن آخر حين قال: فقد سمع سيدنا موسى كلام الله القديم وهو ليس بحرف ولا صوت (شرح الجوهرة، ص 73).
ومن عقيدته كذلك في كلام الله تعالى، قوله بأن الله بم يزل متكلماً أزلاً وأبداً (شرح الجوهرة، ص 74).
عقيدة السلف في كلام الله تعالى:
أ) هل التفريق بين المعنى واللفظ معلوم من كلام العرب وهل الكلام يطلق على اللفظ دون المعنى أو العكس؟
الكلام عند النحاة: هو اللفظ المركب المفيد بالوضع.
هذا التعريف لمعنى الكلام يدل بعبارته على أن الكلام هو ما اجتمع فيه أمران: اللفظ والإفادة (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك).
فالكلام هو الملفوظ المنطوق وفيه دلالة على معنى، وبهذا يعلم أن لغة العرب لا تفرق بين اللفظ والمعنى حين إطلاق معنى الكلام.
فقولنا كلام الله تعالى: لابد فيه من أمرين في لغة العرب اللفظ والإفادة (المعنى). ولا يصح فصل أحد الأمرين عن الآخر إلا لسبب لغوي أو شرعي مقبول وإلا بقي الأمر على أصله.
وهذا المذهب الذي ذكرناه من أن كلام الله تعالى هو ما حوى اللفظ والمعنى، فاللفظ القرآني والمعنى المراد من اللفظ هو كلام الله تعالى على الحقيقة هو مذهب السلف بلا خلاف، وما دخل الخلاف إلا عندما دخل الدخن من عقول الفلاسفة ومنطق اليونان.
ومذهب الأشعرية هو مذهب المعتزلة ولكنه متطور بغرابة غير معقولة ولا مفهومة، وهذا ديدن الأشاعرة في تلفيق مذهبهم وتوفيقهم بين المتناقضات بما لا يتفق.
فمؤدى مذهب الأشاعرة أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، وأنه دال على كلام الله وليس هو كلام الله تعالى، لأن كلام الله معنى، وليس لفظاً ومعنى، ونفسيّ: ليس بمقروء على الألسن ولا محفوظ في الصدور وليس بمكتوب على الأوراق؛ قديم، ومعنى قولهم قديم أي أن الله عز وجل لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً (شرح الجوهرة، ص 74).
وبعد هذا الذي بيناه هل في كلام السلف ما يوافقه - وهو أن الكلام لفظ ومعنى حرف وصوت -؟
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد نصَّ أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة أن الله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقد نص أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة بأن الله ينادي بصوت وأن القرآن كلامه تكلم به بحرف وصوت ليس منه شيء كلاماً لغيره لا لجبريل ولا غيره) ( الفتاوى 2/ 584).
قال أبو المعالي: (كنت يوماً عند الشيخ أبي البيان رحمه الله تعالى فجاءه ابن تميم الذي يدعى الشيخ الأمين، فقال له الشيخ بعد كلام جرى بينهما: ويحك، الحنابلة إذا قيل لهم: ما الدليل على أن القرآن بحرف وصوت؟ قالوا: قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا، وسرد الشيخ الآيات والأخبار: وأنتم إذا قيل لكم: ما الدليل على أن القرآن معنى قائم في النفس؟ قلتم: قال الأخطل "إن الكلام لفي الفؤاد" إيش هذا الأخطل؟!! نصراني خبيث بنيتم مذهبكم على بيت شعر من قوله وتركتم الكتاب والسنة) (مختصر العلو 284 - 285).
وقال أبو أحمد الإسفرائيني: (مذهبي ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى وجميع علماء الأمصار أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وأن جبرائيل عليه السلام سمعه من الله عز وجل وحمله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبرائيل عليه السلام وسمعه الصحابة رضي الله عنهم من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل حرف منه كالباء والتاء كلام الله عز وجل ليس بمخلوق) (اجتماع الجيوش الإسلامية 116).
فالقرآن كلام الله لفظاً ومعنى، منزّل غير مخلوق وهو المتلو المسموع والمكتوب في المصاحف.
وتفصيل ذلك على الآتي:
الكلام صفة كمال لأن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئة وقدرة أكمل ممن يكون الكلام لا إرادياً ليس لهو عليه قدرة ولا له فيه مشيئة ولذلك فالله عز وجل متكلم حقيقة بكلام هو صفة من صفاته العليا حقيقة ويتكلم متى شاء بما شاء ولذلك قال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف: آي: 143).
والآية تبين وقت كلام الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى عليه السلام، وهو إنما كان بعد ما جاء موسى لميقات ربه وليس كما قال البيجوري وأشياعه وسلفه، أن الله عز وجل لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً، ومعنى كلامه أن الله عز وجل لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول يا موسى يا موسى يا موسى، وكلام الله عز وجل يعلم منه أنه حين جاء موسى كلمه فهو سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومشيئته وقعت حين جاء موسى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأتباع السلف يقولون إن كلام الله قديم أي: لم يزل متكلماً إذا شاء، لا يقولون إن نفس الكلمة المعينة قديمة، كندائه لموسى ونحو ذلك) ( جواب أهل العلم والإيمان 79 - 80).
ومثال ذلك الذي ذكرنا في كتاب الله كثير ومنه قول الله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهم ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} (الأعراف: 22). وكقوله تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً} (مريم: 52).
وقد تكلم الله بلفظه ومعناه بصوت نفسه قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام لله} (التوبة: 6).
فبين سبحانه وتعالى أن المسموع هو كلام الله تعالى حقيقة وقد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، الذي سمعه من الله تعالى، ونزل به إليه، وأسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ،وهو الذي أمره الله عز وجل بإسماعه للمشرك المستجير.
وقولهم أن القرآن دال على كلام الله عز وجل وليس هو كلام الله عز وجل؛ بل ليس فيه إلا المعنى القائم بذات الله واللفظ مخلوق فهذا يرده قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} ولم يقل الله عز وجل: (حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله)، والأصل في الإطلاق الحقيقة كما أشار البيجوري نفسه ص74.
قال شارح العقيدة الطحاوية: (وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية: هي ما يسمع منه أو من المبلِّغ عنه فإذا سمعه السامع علمه وحفظه، فكلام الله تعالى مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم. وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه، والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا: ما قرأ القارئ كلام الله تعالى وقد قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}، وهو لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه من مبلِّغه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله فإنه تعالى قال: {حتى يسمع كلام الله}، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله، أو حكاية عن كلام الله، وليس فيها كلام الله فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً) (الطحاوية 194).
والبيجوري قال هذا الضلال عندما قال: (واعلم أن كلام الله يطلق على الكلام النفسي القديم، بمعنى أنه صفة قائمة بذاته تعالى، وعلى الكلام اللفظي بمعنى أنه خلقه، وليس لأحد في أصل تركيبه كسب، وعلى هذا المعنى يحمل قول عائشة: ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى. وإطلاقه عليهما قيل بالاشتراك، وقيل حقيقي في النفسي، مجاز في اللفظي) ( الجوهرة 72).
أما بالنسبة للأمر الآخر الذي كان بينه في كلامه أن الله تعالى لم يتكلم بحرف وصوت ودليله على ذلك لم يفصح عنه، وإن كان معلوماً أنه نفى ذلك هو وسلفه وأشياعه مخافة التشبيه.
ومذهب السلف في ذلك هو ما ذكره سابقاً شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد نصَّ أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة أن الله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وقد نص أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة بأن الله ينادي بصوت وأن القرآن كلامه تكلم به بحرف وصوت ليس منه شيء كلاماً لغيره لا لجبريل ولا غيره) ( مجموع الفتاوى 2/ 584).
والأدلة على ذلك كثيرة من السنن النبوية الشريفة فمنها:
1) قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول لكم ألم حرف؛ ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) (رواه الترمذي عن ابن مسعود دون قوله ولام حرف، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه 3075/ 4).
فبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن كتاب الله حروف، وكتاب الله هو كلامه وقد سمى الصحابة آيات الله وكلامه حروفاً، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (سمعت هشام بن حزام يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها حروفاً لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، قال: فأردت أن أساوره وأنا في الصلاة فلما فرغ قلت: من أقرأك هذه القراءة. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: كذبت والله ما هكذا أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذت بيده أقوده فانطلقت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقلت: يا رسول الله إنك أقرأتني سورة الفرقان وإني سمعت هذا يقرأ حروفاً لم تكن أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأ يا هشام. فقرأ كما كان قرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال: إقرأ يا عمر فقرأت فقال: هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه) (البخاري (6/ 227 - 228) وأحمد (1/ 24،42 - 43) والنسائي (2/ 150 - 152) وغيرهم).
والآثار في ذلك كثيرة.
أما أن الله عز وجل يتكلم بصوت وهو ما قدمنا أنه قول السلف من الصحابة رضوان الله عنهم ومن تابعهم فأدلته كثيرة منها:
1) قال البخاري في صحيحه في كتاب التفسير في باب قوله: {وترى الناس سكارى}: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه- قال: تسعمائة وتسعة وتسعين. فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسع وتسعين. ومنكم واحد. ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وإني لأرجوا أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا. ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا. ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا)) (وأخرجه أحمد (3/ 32 - 33) ومسلم (1/ 201 - 202)).
2) قال البخاري في "خلق أفعال العباد": حدثنا داود بن شبيب، حدثنا همام، حدثنا القاسم بن عبدالواحد، حدثني عبدالله بن محمد بن عقيل، أن جابر بن عبدالله حدثهم أنه سمع عبدالله بن أنيس، رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة) (وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وأحمد (3/ 495) والحاكم (2/ 437 - 438،4/ 574 - 575) وصححه ووافقه الذهبي. وذكره البخاري في صحيحه معلقاً في كتاب التوحيد وأخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (1/ 133) وقال الهيثمي فيه عبدالله بن محمد ضعيف أ. ه.
قلت: وفي التقريب صدوق في حديثه لين. قال ابن حجر في فتح الباري (1/ 174) بأن له طريقاً آخر أخرجه الطبراني في مسند الشاميين وتمام في فوائده من طريق الحجاج بن دينار عن محمد بن المنكدر عن جابر بمعناه وقال ابن حجر: إسناده صحيح).
وقال البخاري قبله: (وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال الله عز وجل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} (البقرة: 22)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وذلك أن من آمن بما وصف الله به كلامه، فأقر بأنه جميعه كلام الله، وأقر به فلم يكفر بحرف منه، وعلم أن كلام الله أفضل من كل كلام وأن خير الكلام كلام الله، وأنه لا أحسن من الله حديثاً ولا أصدق منه قيلاً، وأقر بما أخبر الله به ورسوله من فضل بعض كلامه، كفضل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وقل هو الله أحد ونحو ذلك؛ بل وتفضيل يس وتبارك والآيتين من آخر سورة البقرة؛ بل وتفضيل البقرة وآل عمران وغير ذلك من السور والآيات التي نطقت النصوص بفضلها وأقر بأنه كلام الله ليس منه شيء كلاماً لغيره لا معانيه ولا حروفه فهو أبعد عن جعله عِضين) (جواب أهل العلم والإيمان 79 - 80).
مسألة: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن إمام يقول يوم الجمعة على المنبر في خطبته: إن الله تكلم بكلام أزلي قديم ... ليس بحروف ولا صوت، فهل تسقط الجمعة خلفه أم لا؟ وما يجب عليه؟
فأجاب رحمه الله تعالى: (الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة: أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، وأن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس هو كلام الله، يقرؤه الناس بأصواتهم، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، والقرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه. وإذا كان الإمام مبتدعاً، فإنه يصلي خلفه الجمعة، وتسقط بذلك، والله أعلم) (الفتاوى 23/ 361).
قال الذهبي رحمه الله تعالى: (وأما داود؛ فقال: القرآن محدث، فقام على داود خلقٌ من أئمة الحديث، وأنكروا قوله وبدَّعوه، وجاء من بعده طائفة من أهل النظر؛ فقالوا: كلام الله معنى قائم بالنفس، وهذه الكتب المنزلة دالة عليه ودققوا وعمقوا، فنسأل الله الهدى وإتباع الحق، فالقرآن العظيم حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين غير مخلوق وتلفُّظُنا به من أعمالنا المخلوقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم") (أخرجه أحمد (283، 285، 304) وابن ماجة (1342) والنسائي (2/ 179 - 180) والحاكم (1/ 573) وأبو داود الطيالسي (738) وابن حبان (6610 - موارد الظمآن))
وقال أبو أحمد بن الحسين الشافعي المعروف "بابن الحداد" -رحمه الله تعالى: (وأن القرآن كلام الله رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً، وأنه غير مخلوق، وأن السور والآيات والحروف والمسموعات والكلمات التامات التي أعجزت الأنس والجن على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ليس بمخلوق كما قال المعتزلي، ولا عبارة كما قال الكلابي، وأنه المتلو بالألسنة المحفوظ في الصدور، المكتوب في المصاحف، المسموع لفظه، المفهوم معناه، لا يتعدد بتعدد الصدور والمصاحف والآيات، ولا يختلف باختلاف الحناجر والنغمات) (اجتماع الجيوش الإسلامية 104).
فمن أين للبيجوري وأساتذته وتلاميذه هذه العقيدة في كلام الله تعالى؟
قال شارح العقيدة الطحاوية: بعد سرده هذا القول - وهو أن الكلام معنى نفسي قديم واللفظ المعبِّر عنه مخلوق -: (وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللهوت والناسوت! فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام، فأنظر إلى هذا الشبه ما أعجبه) (الطحاوية 198).
ولا تنسَ أخي القارئ احتجاج البيجوري وأمثاله على عقيدته بأن الكلام هو المعنى النفسي القديم القائم بالذات بقول الأخطل النصراني المولد:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلاً
البيجوري وحديث الآحاد
والبيجوري من قوم لا يحتجون لعقائدهم إلا بالمتواتر؛ لأنها قطعية بزعمهم، ولا يقبلون حديث الآحاد؛ لأنه يفيد الظن فقط، وهؤلاء القوم يزعمون التوقي لدينهم من الدخن والتحرز من اعتقاد الخطأ.
والعجيب أن البيجوري الذي يرى أن الكشف أعلى درجات الأدلة في إثبات العقائد -كما فصلنا في ذلك في بابه -يرفض الأحاديث النبوية الآحادية ويزعم أنها لا تصلح دليلاً للاحتجاج.
فهو يرفض حديث النبي صلى الله عليه وسلم النصيّ: أن والده في جهنم لأنه حديث آحاد، وهو يرفض حديث إطالة الأجل بصلة الرحم؛ لأنه حديث آحاد، ولا يجزم أن للأنبياء أحواض لأنها أحاديث آحاد (انظر شرح الجوهرة ص29 – 160 – 184.).
وهذه المسألة هي من المسائل التي ظهرت عندما نبتت نابتة السوء في تاريخ الإسلام فدخلت آثار اليونان ونفايات السابقين إلى أُمتنا؛ فصارت مسلّمة لا شبهة فيها حتى زعم أقوام أن الإجماع قد انعقد على أن العقائد لا يقبل فيها إلا بالمتواتر.
قال الشيخ شلتوت: (نصوص العلماء المتكلمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء) (الإسلام عقيدة وشريعة 74 – 76).
فعندما بلغ الأمر بهذه الأمة إلى هذه الحالة، وصار أمر أعلامها وعلمائها إلى تقليد السابقين وترك النصوص والآثار، تغيرت العقائد ومسخت أصول الإسلام، فصار المنطق اليوناني دثار الأصوليين ومهوى مرادهم.
وهذا الأمر -وهو ترك الاحتجاج بحديث الآحاد في العقائد- صرف الناس عن طريق الهدى والصواب، فتحجمت العقيدة، وقلص التوحيد، فصار أهل الكلام يملؤون مداخل العقيدة بآرائهم ونتاج عقولهم وأهوائهم فخرج الحق من نصله وحل الخبيث بدلاً منه، ولعل قارئ شرح جوهرة التوحيد للبيجوري يرى ذلك واضحاً جلياً.
ولأهمية هذه الردود على المذاهب الدخيلة التي تزيت بزي الإسلام وعقيدته فإننا نقتصر على الإجابة بالأدلة النقلية النصية وبأقوال أهل العلم الموثقين المقبولين بإجماع أهل الأمة.
تحقيق المسألة:
التواتر في لغة القرآن والعرب التتابع قل أو كثر، قال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه}، والمعنى أن الرسل تتابعت إلى أممها وتواترت إليها.
قال الشوكاني: (والمتواتر لغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من الوتر) (الإرشاد 46).
وفي الاصطلاح: (خبر جمع عن جمع محسوس يمنع تواطؤهم على الكذب) (المرجع السابق). وقيل: هو أن يرويه جماعة عن جماعة مثلها من أول طريقه إليهم قرناً فقرناً حتى يصل من الصادر منه إلى المرفوع إليه.
والآحاد: هو ما لم يوجد على صفة المتواتر.
ولا يظنُّ ظانٌ أن الآحاد ما رواه الواحد عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس هذا المراد وإن عُد من الآحاد.
والمتواتر: عندهم هو أن يبلغ العدد مبلغاً من غير العادة تواطؤهم على الكذب ولا يُقيّد ذلك بعدد معين.
والمسألة كما هي معروضة واضحة دائرة حول حصول الاطمئنان القلبي، فهي في الأصل شاء المنكرون أم أبوا تعود إلى نفس الشخص السامع وحاله لا إلى ضابط صحيح.
وما دام أن المسألة تعود إلى السامع فقد يحصل الاطمئنان واليقين في نفس السامع بخبر الواحد فقط؛ لاعتقاده بصدقه وقد لا يحصل الاطمئنان واليقين بخبر جماعة كثيرة لتردده وتوارد وساوسه.
ولعل إدراكنا لهذا الأمر يكشف لنا عن حقيقة أصل هذه البدعة -وهي رفض حديث الآحاد في العقيدة -وهو أن أقواماً ظنوا أن الحقائق هي ما وجدوه من نفايات اليونان؛ فوجدوا أن هذه الحقائق كما زعموا تخالف ما ورد من كتاب الله وسنة رسوله سواء أكانت هذه المسائل في الإلهيات أم في غيرها فانتحلوا الأسباب والدلائل لردها لحصول الشك لديهم في هذه النصوص فابتدع لهم شيطانهم هذه المقالة.
قال ابن القيم: (وأعلم أن خبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن وللتجوز فيه مدخل؛ ولكن هذا الذي قلناه - وهو أن الحديث بنفسه يفيد العلم- لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم وقته مشتغلاً بالحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة؛ ليقف على رسوخهم في هذا العلم، وكبير معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر، والبحث عن أحوال الرواة، والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة واحدة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك وقد نقلوا هذا الدين كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم، وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن ما يجلّ عن الوصف ويقصر دونه الذكر، وإذا وقف المرء على هذا في شأنهم وعرف أحوالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه) ( مختصر الصواعق المرسلة 2/ 409 – 410).
ولأن أهل الحديث هم أدرى الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو أعلم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -بما يفيد الاطمئنان واليقين من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وما لا يفيد ذلك؛ فقد حاول الخصوم إخراج هؤلاء الزمرة من ساحة المحاورة ليخلو لهم الجو فينشروا بضاعتهم الفجة ويوردها الناس بلا مدافع؛ ولذلك قالوا: (وبعدما تبين اختصاص كل علم بموضوعه يتضح أن تحقيق مسألة عدم جواز الاستدلال بحديث الآحاد في العقيدة إنما يكون في علم أصول الفقه ولا تعلق له بالمسائل الفقهية والحديثية إلا من حيث التمثيل والتوضيح؛ بل هي التي لها علاقة بعلم الأصول أو لم يبنوا بحث هذه المسألة على الأسس الأصولية يكون بحثهم ناقصاً غير ناضج وبالتالي لا يعتد بآرائهم وأقوالهم في هذا الموضوع) (الاستدلال الظني في العقيدة 11).
وبياناً لهذا المعنى، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل، ليس هو صفة للدليل في نفسه؛ فهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، فقد يكون قطعياً عند زيد ما هو ظني عند عمرو، فقولهم: إن إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة المتلقاة بين الأمة بالقبول لا تفيد العلم؛ بل هي ظنية هو إخبار عما عندهم؛ إذ لم يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلم أهل السنة ما حصل لهم، فقولهم: لم نستفد بها العلم لم يلزم منها النفي العام على ذلك بمنزلة الاستدلال على أن الواجد للشيء العالم به غير واجد له ولا عالم به؛ فهو كمن يجد من نفسه وجعاً أو لذة أو حباً أو بغضاً فينتصب له من يستدل على أنه غير وجع ولا متألم ولا محب ولا مبغض، ويكثر له من الشبه التي غايتها أني لم أجد ما وجدته، ولو كان حقاً لاشتركت أنا وأنت فيه، وهذا عين الباطل وأحسن ما قيل:
أقول للائم المهدي ملامته … ذق الهوى وإن استطعت الملام لُمِ
فيقال له: اصرف عنايتك إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والحرص عليه وتتبعه، وجمعه، ومعرفة أحوال نقلته، وسيرتهم، وأعراض عما سواه واجعله غاية طلبك ونهاية مقصدك؛ بل احرص عليه حرص أتباع أرباب المذاهب على معرفة مذاهب أئمتهم؛ بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهبهم وأقوالهم، ولو أنكر ذلك عليهم منكر لسخروا منه، وحينئذٍ تعلم هل تفيد أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم أو لا تفيده؛ فأما مع إعراضك عنها وعن طلبها فهي لا تفيدك علماً، ولو قلت: لا تفيدك أيضاً ظناً لكنت مخبراً بحصتك ونصيبك منها) (مختصر الصواعق 2/ 432 – 433).
أقوال الأئمة في هذا المسألة:
ذكر كثير من أهل العلم الإجماع السلفي على قبول حديث الآحاد في العقائد وأنه يفيد العلم كما أنه يفيد العمل.
قال السفاريني في لوامع الأنوار البهية (1/ 19): (يعمل بخبر الآحاد في أصول الدين، وحكى الإمام ابن عبدالبر الإجماع على ذلك).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل (أي تثبت بخبر الواحد) (الرسالة 453).
وقال رحمه الله: (ولو جاز لأحد أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي. ولكني أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد، بما وصفت من أن ذلك موجوداً على كلهم) (الرسالة 457 – 458).
وقال ابن القيم رحمه الله: (وقد صرح الشافعي في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم، نص على ذلك صريحاً في كتاب اختلاف مالك).
وفي كتاب المسودة قال أبو بكر المروزي: (قلتُ لأبي عبدالله - الإمام أحمد -: ههنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، فعابه وقال: ما أدري ما هذا).
قال المؤلف: (وظاهر هذا أنه سوى فيه بين العمل والعلم) (المسودة 242).
وقال السفاريني: (نقل أحمد بن جعفر الفارسي في كتاب الرسالة عن الإمام أحمد -رضي الله عنه -أنه قال: لا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث، كما جاء نصدقه أنه كما جاء فقوله: ونعلم أنه كما جاء نص صريح في أن هذه الأحاديث تفيد العلم عنده) (لوامع الأنوار البهية 1/ 18).
قال الشوكاني: (وقال أحمد بن حنبل أن يفيد بنفسه العلم) (الإرشاد 48).
وقال: (وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس واختاره) (انظر الأحكام 1/ 119).
وقال ابن حزم: (وقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معاً) (الأحكام 1/ 124).
وقال ابن أبي العز الحنفي: (وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملاً به وتصديقاً له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر. ولم يكن بين سلف الأمة نزاع في ذلك؛ كالأحاديث المتفق عليها بين الصحيحين: كخبر عمر إنما الأعمال بالنيات. وخبر ابن عمر رضي الله عنهما "نهى عن بيع الولاء وهبته". وخبر أبي هريرة: ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، وكقوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وأمثال ذلك) (شرح العقيد الطحاوية 399 – 400).
وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجب العمل بالأحاديث الصحيحة التي لا يعلم لها معارض يدفعها وهي تنقسم إلى ما دلالته قطعية بأن يكون قطعي السند والمتن وهو ما تيقنا أن رسول الله قاله وتيقنَّا أنه أراد به تلك الصورة وإلى ما دلالته ظاهرة غير قطعية. فأما الأول فلا خلاف بين العلماء في الجملة أنه يجب اعتقاد موجبه علماً وعملاً … وقد اختلفوا في خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول والتصديق أو الذي اتفقت على العمل به، فعند عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين أنه يفيد العلم وذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لا يفيد … وأما القسم الثاني وهو الظاهر فهذا يجب العمل به في الأحكام الشرعية باتفاق العلماء المعتبرين فإن كان تضمن حكماً علمياً مثل الوعيد ونحوه فقد اختلفوا فيه فذهب طوائف من الفقهاء إلى أن خبر الواحد العدل إذا تضمن وعيداً على فعل فإنه يجب العمل به في تحريم ذلك الفعل ولا يعمل به في الوعيد إلا أن يكون قطعياً وكذلك لو كان المتن قطعياً لكن الدلالة ظاهرة. وذهب الأكثرون من الفقهاء وهو قول عامة السلف إلى أن هذه الأحاديث حجة في جميع ما تضمنته من الوعيد فإن أصحاب رسول الله والتابعين من بعدهم ما زالوا يثبتون بهذه الأحاديث الوعيد كما يثبتون بها العمل (مجموع الفتاوى 20/ 257 – 268).
وقال رحمه الله: (ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به فهذا يفيد العلم ونجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه والأمة لا تجتمع على ضلالة) (مجموع الفتاوى 18/ 16).
ويقول كذلك: (فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، ومن الناس من يسمي هذا المستفيض، والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطأ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام) (مجموع الفتاوى 18/ 70.).
وقال الشوكاني: (ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له ومن هذا القسم أحاديث الصحيحين فإن الأمة قد تلقت ما فيها بالقبول) (إرشاد الفحول 50).
وقال ابن حزم: (قال أبو سليمان والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي: إن خبر الواحد العدل عن مثله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل جميعاً) (الأحكام 1/ 119).
وقال ابن تيمية رحمه الله: (وهو قول المنصفين من أصحاب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك).
وقال: (وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية، كأبي إسحاق وابن فورك).
وقال: (وهو قول أبي حامد وأبي الطيب وأبي إسحاق من الشافعية، وقول القاضي عبدالوهاب من المالكية، وهو قول السرخسي وأمثاله من الحنفية، وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع به فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم والحديث) (مجموع الفتاوى 13/ 351 – 352).
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: (أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها؛ قال: فمن خالف حكمه خبراً منها وليس له تأويل سائغ للخبر، نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول) (قواعد التحديث للقاسمي 85).
وقال ابن حجر: (الخبر المحتف بالقرائن قد يفيد العلم خلافاً لمن أبى ذلك) ( شرح النخبة 7).
وهذه أقوال أساطين العلم وجهابذة الفتوى يرون أن حديث الآحاد يفيد العلم والعمل، وأن هذه الأحاديث كما توجب العلم والعمل كذلك هي حجة في العقائد والتصورات والزعم بخلاف ذلك أمر محدث بدعي لم يعلم عند السلف السابقين.
قال ابن حزم: (وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}؛ فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة -والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا-ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلماً ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوماً إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع؛ لكان لزاماً عليهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة.
وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولاً إلى ملك من ملوك الكفر أو أمة من أمم الكفر يدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ولا فرق.
وما قال قط مسلم أنه كان حكام أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وعقد الإيمان حق عندنا؛ ولكن ما أفتيتنا به وعلمتناه من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك؛ لأن الكذب جائز عليك، ومتوهم منك حتي يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر؛ بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين، وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق؛ لينقلبوا إليهم عنه القرآن والسنن وشرائع الدين، وأنه -عليه السلام -لم يبعثهم إليهم ليشرعوا لهم ديناً لم يأت هو به عن الله تعالى. فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنن ففرض قبوله والإقرار به والتصديق به واعتقاده والتدين به) (الأحكام 1/ 112 – 113.).
وقال رحمه الله: (ومن البرهان في قبول خبر الواحد: خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام، أنه قال له رجل: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فصدقه وخرج فاراً وتصديقه المرأة في قولها: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} فمضى معها وصدقها) (الأحكام 1/ 118.).
حكم منكر أحاديث الآحاد:
قال الشيخ عمر الأشقر: (ذهب الإمام إسحاق بن راهويه إلى القول بكفره، والصحيح أنه لا يكفر؛ لأنه لا يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يتهم الرواة الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلط، ولعل الذين ذهبوا إلى القول بكفره نظروا إلى الأحاديث المجمع على صحتها، أو التي تلقتها الأمة بالقبول، وليس معنى عدم القول بتكفيره أنه مسلم؛ لا بل يخشى على مثل هذا أن يصيبه الله بعقاب لأنه أعرض عن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم والله يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}، ونقول لمثل هذا كما قال الشافعي رحمه الله ليس لك أن تشك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول: فهذه الأحاديث أصل الدين والدين محفوظ إلى نهاية الزمان) (الاعتقاد 88).
وأما من رأى أن السنة بالكلية لا تصلح دليلاً للعقائد واليقينات، ويزعم أنه لا يرضى إلا بكتاب الله عز وجل؛ فهو كافر كما أفتى به كثير من العلماء:
قال السيوطي: (فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي -صلى الله عليه وسلم -قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر، وخرج من دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة.
روى الإمام الشافعي رضي الله عنه يوماً حديثاً، وقال: إنه صحيح؛ فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبدالله؟ فاضطرب وقال: يا هذا أرأيتني نصرانياً؟ أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ أروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟) ( مفتاح الجنة 6).
وقال ابن حزم: (ولو أن امرءاً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال) (الإحكام 2/ 80).
البيجوري ومفهوم الإيمان
يقول اللقاني:
وفسر الإيمان بالتصديق … والنطق فيه الخلف بالتحقيق
(الشرح 42)
وفسر البيجوري هذا النظم بقوله: (إن الإيمان هو مطلق التصديق، والإيمان والعمل الصالح متغايران، ومن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره لا مرة ولا أكثر من مرة مع القدرة على ذلك فهو مؤمن عند الله تعالى؛ ولكنه شرط في إجراء الأحكام الدنيوية) (الشرح 46 – 51).
قال: (والراجح أن الإيمان هو التصديق وهو غير الجزم) (الشرح 34).
هل الإيمان هو التصديق فقط؟!!
إن القول أن الإيمان هو التصديق خطأ كبير، ذلك لأن فيه اقتصاراً على المعنى اللغوي فقط، والإسلام قد أضاف للألفاظ معان شرعيّة زيادة على المعاني اللغوية، مع أن الإيمان في بعض وجوه الأصل اللغوي تفيد العمل (انظر شرح الطحاوية 338).
مع أن هناك اعتراض على قولهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق بمنع الترادف بين التصديق والإيمان، وهب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقاً؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان.
ومما يدل على عدم الترادف:
أنه يقال للمخبرَ إذا صدق: صدّقه، ولا يقال آمنه ولا آمن به؛ بل يقال آمن له، كما قال تعالى: {فآمن له لوط} (العنكبوت: 26)، {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف} (يونس: 83)، وقال تعالى: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} (التوبة: 61). ففرق بين المعدّى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبرَ به، والثاني للمخبر. ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدقٍ لنا، لأن دخول اللام لتقوية العامل، كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل اسم فاعل، أو مصدراً (الطحاوية 338).
فاقتصار الإيمان على التصديق فقط اقتصار مرفوض، ذلك لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم -قد أوقفنا على معاني الإيمان وعلمنا من مراده علماً ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك ولا صلى ولا صام ولا أحب الله ورسوله ولا خاف الله؛ بل كان مبغضاً للرسول معادياً له يقاتله: أن هذا ليس بمؤمن (شرح الطحاوية 339، وبمثله يقول شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان 112).
ومن هنا التصديق لا يطلق على المعنى المجرد عن اللفظ، ولذا لم يجعل الله أحداً مصدقاً للرسل بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم حتى يصدقوهم بألسنتهم ولا يوجد في كلام العرب أن يقال فلان صدق فلاناً أو كذبه إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك (الإيمان 113).
وقد نفى الله الإيمان عمن صدق بقلبه ولم ينطقها بلسانه فقال سبحانه: {وما هم بمؤمنين} (البقرة: 8).
وقد بين الله سبحانه حال أقوام صدقوا بقلوبهم وأبوا أن يقروا بألسنتهم بأنهم كفرة مكذبين للرسل وللحق، قال سبحانه: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} (البقرة: 146).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمشاهد أن هناك خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان: إما معاداة أهلهم، وإما ما لا يحصل من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (المائدة 51 – 53)
والمفسرون متفقون على أنه نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض وخاف أن يغلب أهل الإسلام فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب واليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب واليهود والنصارى صادقون فقد روي أن عبادة بن الصامت قال: (يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود)، فقال عبدالله بن أبي: (لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود)، فنزلت هذه الآية (الإيمان 138 – 140).
وبقولهم إن الإيمان هو التصديق فقط إخراج للأعمال منه، وهو قول باطل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لقد غلط المرجئة في أصلين أحدهما ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب، فإن أعمال القلوب كلها فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه الله ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، والثاني للمقربين السابقين وذلك مثل حب الله ورسوله؛ بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ بل أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله، ومثل خشية الله وحده من دون خشية المخلوقين، ورجاء الله وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل على الله وحده دون المخلوقين، والإنابة إليه مع خشيته، كما قال تعالى: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}.
والثاني من غلط المرجئة ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار فإنما ذلك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره ومع ذلك يجحد ذلك لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى في النفس وهو في قلبه يعلم أن الحق معه وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون ولكنهم يكذِّبون إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرئاسة، وإما لحبهم لدينهم الذي كانوا عليه، فيكونون بذلك من أكفر الناس كإبليس وفرعون مع علمهم بأنهم على الباطل والرسول إنما معتمدهم على مخالفة أهوائهم كقولهم لنوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (الشعراء: 111).
ومعلوم أن إتباع الأرذلين له لا يقدح في صدقه ومثل قول فرعون: {أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا عابدون} (المؤمنون: 47).
ومثل قول عامة المشركين: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} (الزخرف: 22)، وهذه الأمور وأمثالها ليست حججاً تقدح في صدق الرسل؛ بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهوائهم وعاداتهم، فلذلك لم يتبعوهم وهؤلاء كلهم كفار؛ بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون علو كلمته وليس عندهم حسد له ولكن كانوا بعلمون أنّ في متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم فما احتملت نفوسهم ترك العادة واحتمال هذا الذم فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم؛ بل لهوى النفس، فكيف يقال إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله) (الإيمان 138 -140).
وقال رحمه الله: (وقد كَفّر السلف كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما من يقول بهذا القول (إن الإيمان هو التصديق فقط) وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم لا لكونه كَذّبَ خبراً، وكذلك فرعون وقومه قال الله تعالى فيهم: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} (النمل: 14)، وقال موسى عليه السلام لفرعون: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} (الإسراء: 102)، فدل على أن فرعون كان عالماً بأن الله أنزل الآيات وهو من أكبر خلق الله عناداً وبغياً لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه) (الإيمان 138)
وقال رحمه الله: (لقد تبين أن الإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة يُراد به ما يراد بلفظ البر والتقوى وبلفظ الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان، وكذلك لفظ البر يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ التقوى وكذلك الدين أو دين الإسلام) (الإيمان 130).
أما قول البيجوري إن التصديق لا يعني الجزم فهو يعني عنده أن المؤمن لا يجزم بما آمن به والله عز وجل يقول: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} (الحجرات: 15)؛ فاشترط سبحانه في صدق إيمانهم كونهم لم يرتابوا ولم يشكوا.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة))؛ فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزم وعدم الشك لصحة الإيمان.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا هريرة بنعليه قائلاً له: من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة. ولذلك لابد لكلمة التوحيد من شروط لتكون مفتاحاً لدخول الجنة، وهذه الشروط هي:
1) العلم بمعناها: قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (محمد: 19)، وفي الصحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
2) اليقين: أن يكون القائل مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً فإن الإيمان لا يغني فيه إلا اليقين لا علم الظن والشك قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} (الحجرات: 15).
3) القول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه: قال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} (الصافات: 36 -36). فجعل الله سبحانه وتعالى علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله كما تقدم.
4) الانقياد لما دلت عليه بالطاعة والإنابة قال سبحانه: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} (الزمر: 54)، وقال سبحانه: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} (لقمان: 22).
5) الصدق: وهو أن يقولها صدقاً من قلبه يوافق قلبه لسانه قال عز وجل: {ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون} (البقرة: 8 -9)، فهم كاذبون في قولهم.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) فاشترط في قائل الكلمة أن يكون صادقاً.
6) الإخلاص: قال سبحانه: {ألا لله الدين الخالص} (الزمر: 3)، وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (البينة: 5).
7) المحبة: قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} (انظر العقيدة في الله لعمر الأشقر).
الأشاعرة وصفات الله
البيجوري ومن قبله ناظم الجوهرة اللقاني يأبيان سلوك طريق السلف الصالح في توحيد الصفات وهما يتبعان طريق الخلف في ذلك.
فالبيجوري من القائلين بتأويل صفات الله عز وجل وصرفها عن ظاهرها وتحميل معاني الصفات معان جديدة جاؤوا بها من عند أنفسهم فحرموا متابعة الأُول ووافقوا أقواماً طالما حمل عليهم السلف الغارات من أجل ردعهم عن باطلهم ومن أجل كشف عوار وعقائدهم يقول اللقاني:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوِّض ورم تنزيهاً
يقول البيجوري: ("أوِّله"؛ أي احمله على خلاف ظاهره مع بيان المعنى المراد، فالمراد: أولِّه تأويلاً تفصيلياً بأن كون قه بيان المعنى المراد كما هو مذهب الخلف: وهم من كانوا بعد الخمسمائة. وقيل: من بعد القرون الثلاثة. وقوله: "أو فوّض"؛ أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوِّض المراد من النص الموهم إليه تعالى على طريقة السلف).
يقول: (وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لما فيها من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم، وهي الأرجح، ولذلك قدمها الناظم، وطريقة السلف أسلم: لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد الله. وقوله "ورم تنزيها"؛ أي واقصد تنزيهاً له تعالى عما لا يليق به مع تفويض علم المعنى المراد؛ فظهر مما قررناه اتفاق السلف والخلف على التأويل الإجمالي لأنهم يصرفون النص الموهم عن ظاهره المحال عليه تعالى).
ويقول شارحاً ذلك بالأمثلة:
1) قوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} فالسلف يقولون فوقية لا نعلمها، والخلف يقولون: المراد بالفوقية التعالي في العظمة أي ارتفاعه فيها.
2) قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} فالسلف يقولون: استواء لا نعلمه، والخلف يقولون: المراد به الاستيلاء والملك. كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ولا دم مهراق
ويقول مؤيداً قول الغزالي في القصيدة المنسوبة إليه:
وهو فوق الفوق لا فوق له ... وهو في كل النواحي لا يزول
3) قال: ومما يوهم الجسمية قوله تعالى: {وجاء ربك} وحديث الصحيحين: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، ويقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)، فالسلف يقولون: مجيء ونزول لا نعلمها، والخلف يقولون: المراد: وجاء عذاب ربك أو أمر ربك الشامل للعذاب، والمراد ينزل ملك ربنا فيقول عن الله ... إلخ.
4) قال: ومما يوهم الجوارح قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك} و {يد الله فوق أيديهم} وحديث: (إن قلوب بني آدم كلها كقلب واحد بين أصبعين من أصابع من الرحمن) فالسلف يقولون: لله وجه ويد وأصابع لا نعلمها، ويقول الخلف المراد من الوجه: الذات، وباليد: القدرة؛ والمراد من قوله: (بين أصبعين من أصابع الرحمن) بين صفتين من صفاته وهاتان الصفتان: القدرة والإرادة (الشرح 91 – 93).
هذه هي عقيدة البيجوري الأشعري في صفات الله عز وجل وقوله يتضمن عدّة أمور:
1) أن صفات الله عز وجل دائرة بين التأويل والتفويض لا ثالث لهما.
2) أن تأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر.
3) التفويض: هو جهل بمعنى الصفات، وتفويض المعاني للصفات الموهمة لرب العالمين.
4) التفويض والتأويل متفقان على أن اللفظ القرآني للصفة غير مراد؛ والسلف والخلف متفقان على صرف النص الموهم عن ظاهره المحال عليه تعالى - كما يزعم -
5) أن إثبات صفات الله عز وجل يؤدي إلى التجسيم.
فهل ما قاله البيجوري يوافق معتقد أهل السنة والجماعة من السلف الصالح؟ وهل ما قاله يوافق ما فهمه الأئمة من صفات الله عز وجل؟
وما هي عقيدة السلف في صفات الله عز وجل؟
قال ابن القيم رحمه الله: (وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً؛ ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال؛ بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحدهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها؛ بل تلقوها بالقبول والتسليم) (أعلام الموقعين 1/ 49).
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي: (والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل، أن كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث).
قال: (وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر إلى كل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته؟ لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر. والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله؛ لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله عز وجل وعدم الإيمان بها مع أنه جل وعلا هو الذي وصف نفسه بها فكان هذا الجاهل مشبهاً أولاً ثم معطلاً ثانياً، فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان في قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي، طاهراً من أقذار التشبيه، لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ في الكمال والجمال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين فيكون قلبه مستعداً لصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}) (أضواء البيان 2/ 319 وانظر منهج الدراسات لآيات الأسماء والصفات له 19 – 20.).
وقال ابن عبدالبر: (أهل السنن مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولم يكيفوا شيئاً منها؛ وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا: من أقر بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة) (فتح الباري 13/ 407).
وقال الإمام الترمذي في سننه في باب فضل الصدقة: (ما ثبت بهذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف هذا، هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبدالله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه. وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده وقالوا: إنما معنى اليد القدرة. وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهاً وهو كما قال تبارك وتعالى في كتابه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}) (سنن الترمذي 2/ 87)
وقال الشهرستاني: (فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث مثل مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وسلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد في الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره) (الملل والنحل 604).
وقال ابن خزيمة في كتابه "التوحيد وإثبات صفات الرب": (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا: أن نثبت لله ما أثبته الله لنفسه نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين وعز ربنا أن نشبهه بالمخلوقين، وجل ربنا عن مقالة العاطلين وعز أن يكون كما قال المبطلون) (ص 10).
قال ابن قدامة المقدسي: (وعلى هذا درج السلف والخلف رضي الله عنهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم وحذرنا المحدثات وأخبرنا أنها ضلالات) (لمعة الاعتقاد 4).
فهذه نصوص من أقوال السلف الصالح في وصف عقائد أصحاب الملة الصحيحة واضحة جلية في أن عقائد السلف هي ما اجتمع فيها:
1) تنزيه الله عن مشابهة الخلق في صفات أفعاله وذاته.
2) الإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة، وعدم التعرض لنفيها، وعدم التهجم على الله بنفي ما أثبته لنفسه.
3) إن الكيفية مقطوعٌ الطمع بإدراك كيفيتها ( منهج ودراسات 25 – 26).
إذاً فعقيدة السلف رضي الله عنهم: إثبات ما أثبته الله لنفسه من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وأنه من قال بالتأويل والتعطيل فهو جهمي معاند.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب"؛ موافق لقول الباقين أمروها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف فإن الاستواء حينئذٍ لا يكون معلوماً؛ بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبت في الصفات، وأيضاً فإن من ينفي الصفات مطلقاً لا يحتاج أن يقول بلا كيف فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منفية؛ لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ بلا كيف إذا نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول) (مجموع الفتاوى 5/ 41 – 42).
فليس مذهب السلف التفويض ولا التأويل إنما هم يثبتون صفات الله عز وجل مع تنزيهه سبحانه وتعالى.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين: (ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
وقد دل على ذلك السمع والعقل.
أما السمع فمنه قوله تعالى: {كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} وقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} وقوله جل ذكره: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}.
والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه ليتذكر الإنسان بما فهمه منه.
وكون القرآن عربياً ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم، وإلا لما كان الفرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.
وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه ومعناه. وأما العقل فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتاباً أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق ويبقى في أعظم الأمور وأشدهما ضرورة مجهولة المعنى بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى وقد قال الله تعالى عن كتاب: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}
هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات: وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات ويدعون أن هذا مذهب السلف والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحياناً وتفصيلاً أحياناً وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف "العقل والنقل" - 1/ 116 - المطبوع على هامش منهاج السنة: (وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله).
إلى أن قال – ص 118 - : (وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه؛ بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى بياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه هو ما أخبر به الرب عن صفاته ... لا يعلم أحد معناه، ولا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ المبين؛ وعلى هذا التقدير فيكون كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به فيبقى هذا الكلام سد للباب الهدى، والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) (القواعد المثلي، ص 36).
فالتأويل والتفويض مذهبان باطلان وفيهما إلحاد في صفات الرب تبارك وتعالى.
قال بن عثيمين: (ومذهب التأويل باطل من وجوه:
1) أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.
2) أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره. والله تعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.
3) أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه؛ قول على الله بلا علم، وهو محرم لقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ولقوله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان مسئولا}.
فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله كذا مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام. وإذا كان المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فمنا ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟
مثال ذلك قوله تعالى لإبليس: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ} فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال لم يرد باليدين اليدين الحقيقتين وإنما أراد كذا وكذا قلنا لهم ما دليلك على ما نفيت وما دليلك على ما أثبت فإن أتى بدليل - وأنى له ذلك- وإلا كان قائلاً على الله بلا علم بنفيه وإثباته.
4) أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها فيكون باطلاً لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها) (انتهى باختصار القواعد المثلى، ص 40 -43).
الصفات التي أولها البيجوري
بعد بيان مذهب السلف في صفات الله عز وجل وأنها حق على ظاهرها من غير تشبيه، نرى تأويل البيجوري لبعض صفات الله وما هو موقف السلف من هذه الصفات.
1) أوّل البيجوري الفوقية بالعظمة وزعم أن فوقية الذات تستلزم التشبيه. وأوّل الاستواء بالاستيلاء.
وإليك فهم السلف لقول الله فيهما:
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف: 54)، وقال سبحانه: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (طه: 4- 8)، وقال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55)، وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام: 18)، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 50)، وقال تعالى: {إليْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10)، وقال تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36 -37).
قال الحافظ الدارمي في "الرد على الجهمية": (ففي هذه الآية بيان بين ودلالة ظاهره أن موسى كان يدعو فرعون إلى معرفة الله بأنه فوق السماء، فمن أجل ذلك أمر ببناء الصرح ورام الاطلاع إليه).
قال معاوية بن الحكم السلمي: (كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة - وأنا رجل من بني آدم- فأسفت فصككتها؛ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ادعها. فقال لها رسول الله: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: اعتقها فإنه مؤمنة) ( رواه مسلم وأبو داود والنسائي).
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباح مساء)) متفق عليه.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت حسر عن منكبيه حتى يصيبه المطر ويقول: (إنه حديث عهد بربه) (رواه مسلم).
وقال عدي بن عميرة: خرجت مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر قصة طويلة ... إلى أن قال: (فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء فأسلمت وتبعته) (اجتماع الجيوش الإسلامية 51).
وقال أبو حنيفة: (من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرحمن على العرش استوى} وعرشه فوق سبع سماوات) ( شرح الطحاوية 322).
وقال عبدالله بن المبارك: (نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماوات على العرش استوى بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية) (الرد على الجهمية 8).
وقال وهب بن جرير: (الجهمية الزنادقة إنهما يردون أنه ليس على العرش استوى). وقال: (أحذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم يستجلب الزنادقة وأنا كلمت أستاذهم جهما فلم يثبت لي أن في السماء إلهاً) (الرد على الجهمية 8).
وقال ابن خزيمة: (فنحن نؤمن بخبر الله جل وعلا أن خالقنا مستوي على عرشه لا نبدل كلام الله ولا نقول قولا غير الذي قيل لنا) (التوحيد 101 – 104).
وقال أبو الحسن الأشعري: (نقول إن الله عز وجل مستوي على عرشه) (الإبانة 30).
وقال ابن تيمية: (والقول الفصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوي على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به) (الحموية 1/ 439 – 440 المجموعة الكبرى).
وقال أبو الحسن الأشعري شارحاً الاستواء: (فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أأمنتم من في السماء} لأنه مستوي على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أأمنتم من في السماء} - يعني جميع السماوات- وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال: {وجعل القمر فيهن نوراً} ولم يرد أن القمر يملأهن جميعاً، وأنه فيهن جميعاً، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض) (الإبانة 31).
وقال رحمه الله: (إن قال قائل: ما تقول في الاستواء؟ قيل: تقول له: إن الله مستو على العرش كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ... وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن قول الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} أنه استولى وقهر وملك، وأن الله تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه - كما قال أهل الحق - وذهبوا في الاستواء للقدرة ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء - وهو سبحانه مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادر على الأشياء كلها - ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية- لم يجيز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها فوجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان، فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً) ( الإبانة 70 - 71).
وقال أبو نصر السجزي: (وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه في كل مكان) ( اجتماع الجيوش الإسلامية 97).
وقال الإمام القرطبي في قوله تعالى: {ثم استوى على العرش}: (وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك؛ بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه من أعظم المخلوقات، وإنهما جهلوا كيفية الاستواء فإنها لا تعلم حقيقته) ( الجامع لأحكام القرآن 7/ 219).
وقال ابن خزيمة: (من لم يقل أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة).
وقال الإمام البخاري عند قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء}: (قال أبوالعالية الرياحي: استوى إلى السماء أي ارتفع، وقال مجاهد: استوى: علا على العرش) (صحيح البخاري الفتح 13/ 404).
وقال الدارمي في "الرد على الجهمية" بعدما ساق حديث الجارية: (ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن ولو كان عبداً فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء) (الرد على الجهمية 39).
وقال حماد بن زيد: (إنما يدورون على أن يقولوا ليس في السماء إله) (مختصر العلو 146.) - يعني الجهمية -معنى قولهم: إن الله في السماء:
قال أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرحه لرسالة الإمام أبي محمد بن أبي زيد: (أما قوله: إنه فوق عرشه المجيد بذاته، فمعنى فوق وعلا عند جميع العرب واحد. وفي الكتاب والسنة تصديق ذلك، وهو قوله تعالى: {ثم استوى على العرش}. وقال: {الرحمن على العرش استوى} وقال: {يخافون ربهم من فوقهم}).
وساق حديث الجارية والمعراج إلى سدرة المنتهى، إلى أن قال: (وقد تأتي لفظة "في" في لغة العرب بمعنى فوق، كقوله تعالى: {فامشوا في مناكبها} و {في جذوع النخل} و {أأمنتم من في السماء} قال أهل التأويل - أي التفسير -: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عمن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء، يعني فوقها وعليها، فلذلك قال الشيخ أبو محمد: (إنه فوق عرشه" ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته. إذ لا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، قد كان ولا مكان).
ثم سرد كلاماً طويلاً ... إلى أن قال: (فلما أيقن المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه بعد خلقه سماواته وأرضه، وتخصيصه بصفة الاستواء، وعلموا أن الاستواء هنا غير الاستيلاء نحوه، فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه، وأنه على الحقيقة لا على المجاز، لأنه الصادق في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك إذ ليس كمثله شيء) (مختصر العلو 282 – 283).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ثم من توهم أن كون الله في السماء - بمعنى أن الله في السماء تحيط به - فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ ولا رأينا أحداً نقله عن واحد؛ ولو سأل سائل المسلمين هل يفهمون من قول الله ورسوله إن الله في السماء (أن السماء) تحويه، لبادر كل واحد منهم) ... إلى أن يقول: (هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا. وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله؛ بل عند المسلمين أن معنى "الله في السماء وهو على العرش" واحد إذ السماء يراد به العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل) (العقيدة الحموية 158).
وقد تقدم قول الإمام أبي الحسن الأشعري في هذا، وقوله أن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد قدمنا أقوال السلف في نفي هذا التأويل الباطل.
وممن قال كذلك في هذا النفي:
قال محمد بن أحمد بن النضر: (كان أبو عبدالله جارنا وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أن ابن أبي داود سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: لا أعرفه) (مختصر العلو 194 – 195).
وقال داود بن علي: (كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل، فقال: يا أبا عبدالله، ما معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال الرجل: ليس كذلك؛ إنما معناه استولى. فقال: اسكت ما يدريك ما هذا؟ العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب، قيل استولى، والله تعالى لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر) (مختصر العلو 195).
وبهذا يعلم أن قول من قال: أن الله في كل مكان ضلال مبين.
2) أوّل البيجوري صفة المجيء بأنه مجيء العذاب أو الملائكة.
وتقدم قول السلف في الصفات وأن الواجب على المؤمن أمررها واعتقادها من غير تأويل ولا تعطيل، فهذه صفة لله عز وجل قد نسبها لنفسه فقال سبحانه: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} (الفجر: 22)، فنحن نقول أن الله عز وجل يأتي كما يليق بجلاله وعظمته.
وقال سبحانه وتعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (البقرة: 210).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها؛ وقال رحمه الله: ولو لم يتصف الله تعالى بالنزول والمجيء والإتيان وغير ذلك من صفات الأفعال التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، لكان من يتصف بذلك من خلقه أكمل منه وأتم، ولا يقول بهذا أحد، وفي القاعدة الكلامية المشهورة: أن كل كمال ثبت لمخلوق من غير أن يستلزم نقصاً بوجه من الوجوه فالخالق تبارك وتعالى أولى به من كل مخلوق. وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه وتعالى أولى بتنزهه عنه من كل موجود) (موافقة صريح المعقول 2/ 119).
وكذلك صفة النزول هي من صفات الله تعالى حقيقة لا مجاز فهو تعالى ينزل ويجيء ويأتي على ما يليق بجلاله. وهي صفة ككل صفات الله عز وجل نقطع الطمع بإدراك كيفيتها.
وأما صفة الوجه واليد والأصابع، فهي صفات حق أخبر الله عز وجل في كتابه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنها في كلامه، والقول فيها كالقول بباقي الصفات.
البيجوري وأول واجب على المكلف
يقول البيجوري بعد أن ذكر أول الواجبات وأن فيها الخلاف، ويوصل الأقوال إلى اثني عشر قولاً.
قال: (والأصح أن أول واجب مقصداً: المعرفة. وأول واجب وسيلة قريبة: النظر, ووسيلة بعيدة: القصد إلى النظر) (الشرح 38).
إذاً فأول واجب على المكلفين عند البيجوري هو القصد إلى النظر؛ لأن الوسيلة قبل الغاية , والوسيلة تبدأ من البعيد قبل القريب.
ويفسر البيجوري النظر بقوله: (والنظر – لغة - الإبصار: أي إدراك الشيء بحاسة البصر والفكر: أي حركة النفس في المعقولات ,وأما في المحسوسات فتخيل، وعلم من ذلك أن النظر مشترك بين الإبصار والفكر, والمراد منه هنا الثاني وهو الفكر) (الشرح 38).
إذاً فالقصد إلى النظر: هو القدرة على التعبير عن وجود الله – فقط - باصطلاح المتكلمين من الأدلة المنطقية التي ورثها بعض أهل الإسلام من نفايات أهل اليونان.
ويقصد بالمعرفة: اعتقاد وجود الصانع وليس المراد بها التوحيد كما يتبادر إلى الأذهان. ودليل ذلك قول البيجوري: وحاصله أن تقول: نفسي ملزومة لصفات حادثة وكل ملزوم لصفات حادثه فهو حادث ,وكل حادث لابد له من صانع حكيم واجب الوجود موصوف بالصفات (الشرح 39).
فإذا علمت هذا تستطيع أن تحكم على حكمه بان أول واجب هو النظر, أو القصد إلى النظر، أو المعرفة إن هذا ليس من الإسلام في شيء؛ بل حين تعرض إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمان أصحابه وهو أكمل الناس إيماناً بعد الأنبياء على هذه القاعدة الباطلة، والحكم الجائر الذي جعل المسلمين وأئمتهم دهورا طويلة مشغولين بمباحث فلسفيه أغنى الله المسلمين عنها، ورحمهم حين أنزل لهم ما يصلحهم تمام الصلاح من كتاب قويم وسنة هدى نيرة، تجد أن عقائدهم في طريق غير هذا الطريق.
ولو نظرنا إلى هذين المأخذين - كتاب وسنة- لنرى ما هو أول واجب على المكلف , وما هو أول أمر دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لرأيناه يغاير كل المغايرة ما دعا البيجوري الناس إليه.
قال تعالى: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قومي اعبدوا الله مالكم من إله غيره} (الأعراف: 59)، وقال تعالى: {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} (الأعراف: 65)، وقال سبحانه وتعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل: 36)، وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه انه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء: 25).
وفي هذا إجماع الأنبياء أنهم ما أتوا بالنظر ولا بالقصد، بل جاءوا بالتوحيد وعبادة الله وحده واجتناب ما عبدوا من دون الله، ومعهم في ذلك خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) متفق عليه.
فهذه النصوص الصريحة والواضحة جلية المراد في دلالتها الأكيدة على أن أول واجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله.
قال شارح العقيدة الطحاوية بن العز الحنفي: (أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول واجب يؤمر به العبد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر تجديد ذلك عقيب بلوغه, بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك, ولم يوجب احد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين/ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا ووجوبه يسبق الصلاة, لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك) ( شرح العقيدة الطحاوية 75).
فالتوحيد هو أول واجب وكذلك هو آخر واجب.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه الحاكم وغيره.
البيجوري والقبورية
لعل المسلم الواعي المتفهم لأبجديات عقيدته فحسب، يدرك أن أصل عقيدته وأساسها يكمن في أن العبادة لا تصرف إلا لله وحده، وأن الله عز وجل هو المستحق للعبادة، وهذا هو المتبادر الأول لذهن المؤمن حين ينطق بلا إله إلا الله، وهو يعلم كذلك أن صرف العبادة لغير الله إنما هو شرك في ألوهية الإله الحق سبحانه وتعالى. فهل البيجوري حين يقرر عقائد التوحيد كما يزعم يفهم هذه الأبجدية ويعي حقيقتها؟!!
يقول البيجوري: (ولذا قيل: من لم تظهر كرامته بعد موته كما كانت في حياته فليس بصادق. وقال الشعراني: ذكر لي بعض المشايخ أن الله تعالى يوكل بقبر الولي ملك يقضي الحوائج، وتارة يخرج الولي من قبره فيقضيها بنفسه) (شرح الجوهرة 153).
هذا التقرير العجيب في باب إثبات كرامات الأولياء وتحت شرحه لقوله الناظم اللقاني:
وأثبتن للأوليا الكرامة … ومن نفاها فانبذن كلامه
أقول هذا التقرير العجيب ماذا يحمل في طياته: هل هو إثبات كرامات الأولياء التي لا ينكرها من أهل السنة أحد أم هو أمر آخر؟!
الناظر فيه بتمعن يدرك الدعوة الصارخة للالتجاء إلى القبور لقضاء الحوائج، لأن الولي يقضي الحوائج أو الملك الموكل بقبره.
طامة عظمى ودعوة جاهلية في كتاب التوحيد من أجل الإشراك بالله سبحانه وتعالى.
ومن أجل بيان أجلى في شرح مفهوم العبادة، وخاصة الدعاء، وأنه لا ينبغي صرفه إلا لله تعالى، وصرفه إلى غيره شرك بالعبادة.
نقول وبالله التوفيق:
إن الله عز وجل هو الذي خلق الخلق وهو الذي له حق الأمر وحده. قال سبحانه وتعالى: {ألا له الخلق والأمر} وخروج الناس عن أمره سبحانه وتعالى إنما هو معصية كبيرة لهذا الإله العظيم. ولذلك جعل سبحانه وتعالى أوامره من أجل إحقاق الحق وصرف العبادة له وحده. والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة (العبودية 38).
ومع هذا البيان لمعاني العبادة، لابد أن نعلم أن العبادة المقبولة عند الله تعالى لابد لها من شروط، وإلا كانت العبادة باطلة وكانت وبالاً على صاحبها.
وهذه الشروط أجمع علماء الإسلام عليها، وهي واضحة جلية في الكتاب والسنة.
أجلى هذه الشروط وأعمقها وأهمها:
ألا تعبد إلا الله، ولا تعبد الله إلا بما شرع. فأن لا تعبد إلا الله تحقيق لمعنى التوحيد بشقه الأول وهو: أن لا إله إلا الله، ولا تعبد الله إلا بما شرع تحقيق لمعنى محمد رسول الله. فلا عبادة إلا بنية، ولا عبادة إلا بنص. فمن صرف عبادته لغير الله فقد أشرك، ومن عبدالله بغير ما شرع فقد ابتدع.
قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية: (جماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف: 110). وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله.
ففي الأولى: أن لا نعبد إلا الله. وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره. وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة. قال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة: 112).
وكما أننا مأمورون أن لا نخاف إلا الله، ولا نتوكل إلا على الله، ولا نرغب إلا إلى الله، ولا نستعين إلا بالله، وألا تكون عبادتنا إلا بالله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه، ونتأسى به. فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه) (العبودية 170 – 171).
وبعد هذا البيان المقتضب لمفهوم العبادة لابد أن نعلم أن من أعظم العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله: الدعاء، وأن صرفه لغيره سبحانه وتعالى شرك يحبط الأعمال.
وقد أمر سبحانه وتعالى أن لا ندعو إلا إياه. قال جل وعلا: {ولا تدعو من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} (يونس: 106)، وقال تعالى: {ولا تدعو مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو} (القصص: 88).
وجعل سبحانه وتعالى دعاء غيره عبادة له وشركاً بالله تعالى: قال سبحانه وتعالى: {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض} (الأحقاف: 4)، وقال سبحانه: {قل أرأيتم شركائكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40)، وقال جل وعلا: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} (الأنعام: 56)، وقال سبحانه: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} (الأعراف: 37)، وقال سبحانه وتعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} (فاطر: 13/ 14).
فهذه الآيات وأمثالها في كتاب الله العزيز كثيرة تبين لنا بوضوح أن من دعاء غير الله من قبر أو ميت إنما هو مشرك بالله رب العالمين.
قال ابن كثير في بيان -الآية 37 -من سورة الأعراف المتقدمة: (يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين بفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم إلى النار يقولون لهم: أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه) (ابن كثير: 3/ 146).
وأما الأحاديث فكثيرة وأبينها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))، فهذا الحديث جلي واضح أن دعاء غير الله عبادة لغير الله، لأن الدعاء عبادة فكل من دعاء غير الله سبحانه وتعالى فقد وقع في الشرك الأكبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويحجون إليها ليدعوهم ويسألوهم أو ليعبدوهم ويدعوهم من دون الله هم مشركون) ( الرد على الأخنائي 52).
وفي موطن آخر من الكتاب - ص56 - : (وهؤلاء الذين يعتقدون أن القبور تنفعهم وتدفع البلاء عنهم قد اتخذوها أوثاناً من دون الله وصاروا يظنون فيها ما يظنه أهل الأوثان في أوثانهم فإنهم كانوا يرجونها ويخافونها ويظنون أنها تنفع وتضر).
وقد يقول جاهل متعالم إننا لو دعونا صاحب القبر إنما نحن نعتقد أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله؛ ولكن نحن ندعوه بقولنا يا مدد أو بقولنا مدد يا رسول الله أو يا باز أو يا "أبو العلميين". إنما لنتقرب بذلك إلا الله بمن يحبهم من أوليائه ورسله، أي بمعنى: نتخذهم واسطة لعظم قدرهم وجاههم عند الله.
فنقول وبالله التوفيق:
إن هذا هو شرك القربة وهو من جنس شرك الجاهليين، الذي بعث رسول الله إليهم ليدعوهم إلى التوحيد والإيمان. قال سبحانه وتعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} (يونس: 18)، وقال سبحانه: {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمقصود هنا أن هؤلاء المشركين الذين يجعلون أصحاب القبور وسائط يشركون بهم كما يشرك أصحاب الأوثان بأوثانهم، يدعونهم ويستشفعون بهم ويرجونهم ويخافونهم، وقد جعلوهم أنداداً يحبونهم كحب الله، هم الذين يقولون لمن نهى عن هذا الشرك وأمر بعبادة الله وحده إنه تنقصهم وعاداهم وعاندهم. كما يزعم النصارى إن من جعل المسيح عبداً لله ولا يملك ضراً ولا نفعاً أنه قد تنقص المسيح وعاداه وسبه وعانده) (الرد على الأخنائي 62).
وبعد هذا نرى ضلال البيجوري وأمثاله واضح ودعوة صريحة للإشراك بالله في كتاب موسوم أنه لب التوحيد وجوهره فإلى الله المشتكى.
وكذلك مما نهى الله عنه: أن يتحرى المسلم الدعاء في أماكن القبور ظاناً أن هذا أرجى لدعائه وادعى لقبوله ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عن اتخاذ القبور مساجد يصلى عندها ويدعى الله فيها ومن هذه الأحاديث:
1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ( رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة- فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنو على قبره مسجداً ثم صوروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ( رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
4) عن عبدالله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد) (رواه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 92/2) وابن حبان (340/ 341) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم إسناده جيد).
فهذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الكثيرة تبين ضلال من قصد القبر للتبرك والدعاء والصلاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها - ولم يستحب الشارع قصدها- فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها قاصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعاً ولا عيناً إلا أن ذلك قد يجوز لحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيه كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة، وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه) أهـ (نقلاً عن فتح المجيد 251).
وقال رحمه الله تعالى: (والمقصود أن ما سنه لأمته غير النوع الذي يقصده أهل البدع من السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فإنهم - أي أهل البدع - لا يسافرون لأجل ما شرع من الدعاء لهم والاستغفار؛ بل لأجل دعائهم والدعاء بهم والاستشفاع بهم، فيتخذون قبور أنبيائهم مساجد وأوثاناً وعيداً يجتمعون فيه) (الرد على الأخنائي 11).
البيجوري و والدي النبي صلى الله عليه وسلم
مما يقرره الباجوري هو أن والدي النبي فنذ في الجنة، وأن الله أحياهما فدعاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فآمنا، ثم ماتا، وكم تمنينا أن يكون أدب البيجورى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على وجهه الصحيح، وهو إعمال نصوصه والأدب مع العقيدة في تقرير نصوصها هو كمال الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المسالة هي ككل مسائل العقيدة التي لا يجوز الخوض فيها من قبل الرأي والهوى، بل لا بد من النص والأثر الصحيح.
وقبل أن نخوض بذكر النصوص علينا أن لا نلتفت لقول البيجوري أن حديث الآحاد لا يؤخذ به في العقائد، فقد قدمنا وجه الحى عند السلف في هذه المسألة، وهو أن حديث الآحاد يفيد العلم والعمل؛ فكما أنه يؤخذ به في الأحكام فكذلك العقائد هي أولى .
يقول البيجوري: - إذا علمت أن أهل الفترة ناجون على الراجح علمت أن أبويه -صلى الله عليه وسلم -ناجيان لكونهما من أهل الفترة، بل جميع آبائه و وأمهاته ناجون ومحكوم بإيمانهم، لم يدخلهم كفر ولا رجس ولا عيب ولا شيء مما كان عليه الجاهلية (الجوهرة، ص 29)
وقال كذلك: -وحديث أن بعض الصحابة سأله وهو يخطب؛ فقال: أين أبي؟ فقال: في النار، أجيب بأن أحاديثهم أحاديث آحادا (الجوهرة، ص 29).
وقال: والحق الذى نلقى الله عليه أن أبويه -صلى الله عليه وسلم -ناجيان (الجوهرة، ص 30).
أما مناقشة البيجوري في تصحيح حديث إحياء أبوي النبي -صلى الله عليه وسلم -بطريق الكشف؛ فهذه مسألة أخرى، أفردنا لها باباً خاصا في كتابنا.
والآن دعونا من مخاري البيجورى وأمثاله ومن ظلمات رأيه إلى نور حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ليكشف لنا الحقيقة واضحة جلية.
1-عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً، قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار. فلما قضى دعاه؛ فقال: "إن أبي وأباك فى النار" (رواه مسلم: 1/ 203).
وهذا حديث صحيح صريح في مقام والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين هو. والسؤال الآن: هل البيجوري وأمثاله أكثر أدباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع والديه؟ أم انه يتألى على الله سبحانه وتعالى فيما ليس له علم؟ في أي مقام وصفوا أنفسهم لن يخرجوا من مخالفة صريحة لنص الهدى من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -هذا بالنسبة لوالده؛ فما الأمر بالنسبة لأمه:
2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم، قبر أمه فبكى وأبكى من حوله؛ فقال: "استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة" (رواه مسلم، كتاب الجنائز، حديث 108).
3- عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمة: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لاستغفرن لك ما لم أنه عنك".
فأنزل الله عز وجل {ما كان للنبيِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} (التوبة: 113).
وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (القصص: 56) (مسلم: 1/ 24).
هذان حديثان صحيحان فيهما الحكم الصحيح في مقام أم النبي صلى الله عليه وسلم، وأين هي. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه استأذن النبي في أن يستغفر لها فلم يؤذن له، وحديث المسيب يبين من هم الذين نهى الله تعالى أن يستغفر لهم: (إنهم المشركون)، {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} إذا أم النبيِّ صلى الله عليه وسلم مشركة، وماتت على ذلك ، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لها، والمشرك ليس له مقام في الآخرة إلا النار.
وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم، فيه إشارة لتأكيد هذا المعنى الصريح في مقامها، وأما زيارة قبرها، فزيارة قبور المشركين معلوم أنها جائزة عند عامة أهل الفقه، لأن زيارتهم إنما هي تحصيل لعلة الزيارة وهي: «فإنها تذكر بالآخرة»، وإن كان زيارة قبور المؤمنين إنما هي تحصيل لفائدة أخرى وهي الدعاء والاستغفار لهم؛ كما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عند زيارته لأهل البقيع رضوان الله عليهم اجمعين .
أما احتجاجه (البيجوري) بأن أبوي النبي -صلى الله عليه وسلم ناجيان؛ لأنهما أهل فترة، فليس لأحد أن يقعد القواعد ويؤصل الأصول ليصادم بها النصوص،
فهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أحق بالاتباع، والنصوص التي رأيناها صريحة في أمرهما يجب الإيمان بها والاعتقاد بما فيها، وقد يقول قائل: أن الحكم بأن أبوي النبيِّ -صلى الله علبه وسلم -في النار إنما فيه سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -والجواب على هذا من وجوه:
١ - إن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتباع أمره، واعتقاد ما أخبر به، وسوء الأدب هو اجتناب هديه ومصادمة قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} (الحجرات/ ١).
٢ - إن القول بنجاة والدي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -هدمٌ صريح لقاعدة من قواعد الاعتقاد، وهو أن الإيمان هو الشرط الأول لدخول الجنة، وغير ذلك إنما هو من تلبيس الشياطين، فمجرد النسبة العرقية لوالدي النبي صلى الله عليه وسلم لا تعتبر مفتاحاً للجنة، والقول بذلك تقول على الله بغير علم، وهدم لقاعدة الاعتقاد التي قدمنا.
٣ - لقد جرَّ هذا الاعتقاد البيجوري وأمثاله إلى الحكم بنجاة كل أصول النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أبويه وما على من أجداده من جهة أمه وأبيه، ولذلك قال: "بل جميع آبائه -صلى الله عليه وسلم -وأمهاته ناجون ومحكوم بإيمانهم» ولو رجعنا إلى حديث المسيب السابق، لرأينا فساد هذا القول وضلاله؛ فما الذي جعل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يُشدِّد على أبي طالب في طلب إسلامه عندما قال له المشركون: "أترغب عن ملة عبد المطلب"؟ فلو كان عبد المطلب (وهو جد االنبيِّ صلى الله عليه وسلم) مؤمناً؛ لسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعلم أن المشركين إنما يطلبون ما يطلب، ولكنه لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يعرض التوحيد على أبي طالب ويعيد له مقالته بقوله: «قل لا إله إلا الله»؛ فدل أن ملة عبد المطلب هي غير ملة أهل لا إله إلا الله.
كذلك أين مقام أبي طالب بعد موته وقد ختم حياته بقوله: «هو على ملة عبد المطلب» قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك» قال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان ٢/ ١٢٩).
إذاً؛ فمن مات على ملة جدالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو في الدرك الأسفل من النار فأين جد النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وتأكيداً لما قدمنا، فإن أقوال العلماء طافحة بهذه المسألة، مبينة لها قال النووى (١/ ١١٤) في شرحه على صحيح مسلم: - فيه (حديث أبي في النار) أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات من أهل الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان؛ فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذه قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم (ا. ه) .
ومما فيه صراحة لما قدمنا من أن مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا من أهل الفترة المشمولين بالعفو الإلهي الصريح في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء/ ١٥).
وقوله -صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يملك شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفوني بالبعر، رأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاماً» (رواه أحمد في مسنده وابن حبان).
قال أحمد: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع به .
وبالإسناد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مثله -غير أنه قال في آخر: «فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها» .
قال ابن كثير: وكذا رواه إسحاق راهويه عم معاذ بن هشام ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن إسحاق، عن علي بن عبد الله المديني به وقال: هذا إسناد صحيح .
أقول مما يدل صراحة: على ما قدمنا: أن مشركي العرب قبل بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليسوا مشمولين بالعفو الإلهي: حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -مر بنخل لبني النجار فسمع صوتاً، فقال: ما هذا؟ قالوا: قبر رجل دفن في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني" (رواه أحمد (٣/ ١٠٣- ٢٠١) وهو من ثلاثياته وعلى شرط الشيخين)
وهذا الحديث يدل صراحة على عذاب قوم دفنوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، في الجاهلية؛ فلو كانوا من أهل الفترة التي بينها حديث الأسود بن سريع؛ لكانوا من الناجين، ويشهد له حديث زيد بن ثابت عند مسلم" ( شرح النووي على مسلم: 8/ 160 -161).
قال أبو سعيد الخدري: ولم أشهده من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنيه زيد بن ثابت قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه؛ فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة - شك الجريري شيخ ابن عُليَّة شيخ مسلم - فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل : أنا. قال : فمتى مات هؤلاء؟ قال : ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه. قال زيد: ثم أقبل علينا بوجهه؛ فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن . قالوا: نعوذ بالله من عذاب الفتن ما ظهر وما بطن. قال : تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال". ا. ه.
أما تصحيح حديث "إحياء والدي النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الكشف؛ فهذا ضلال سنبينه في فصل مستقل كما قدمنا والحديث كما هو معلوم عند أهل الصناعة الحديثية موضوع وممن ذكر ذلك ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات".
الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى وأحكامه
مما هو معلوم أن الأشعرية لا تثبت العلة في أفعال الله تعالى وهذا القول صار من معالم مذهبهم، وكذلك هم لا يثبتون العلة في أحكامه سبحانه وتعالى قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى: «قول من نفى الحكمة». وقالوا: هذا يُفضي إلى الحاجة، فقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمه.. ، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وأنه يفعل ما يشاء. وهذا تعظيم ، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. وهذا قول الأشعرى وأصحابه ومن وافقهم: كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والجويني والباجي ونحوهم، وهذا الفول في الأصل قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة. ا. هـ ( الفتاوى / ٣٧ - ٣٨).
ولذلك هم ينفون لام التعليل في القرآن الكريم ويتمحلون نفيها بشتى الأساليب والطرق.
قال البيجوري في قوله تعالى: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى}.
قال: "فإن قيل ظاهر الآية التعليل مع أن أفعال الله لا تعلل؟ أجيب بجعل لامه للعاقبة والفائدة.. وقال: وأوهمت (الآية) تعليل فعله وقد علمت جوابه" (شرح الجوهرة، ص 18).
فلما خلت أفعال الله تعالى وأحكامه من الحكمة والعلة كما قالوا جوزوا على الله سبحانه وتعالى الشرور والظلم والإعراض عن الحق.
قال البيجوري:- "وبالجملة فهو سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، والكل بخلقه، فليست الطاعة مستلزمة لثواب وليست المعصية مستلزمة للعقاب، وإنما هما إمارتان تدلان على الثواب لمن أطاع، والعقاب لمن عصى، حتى لو عكس دلالتهما بأن قال: من أطاعني عذبته ومن عصاني أثبته لكان ذلك منه حسناً" (شرح الجوهرة ١٠٨).
وكما هو واضح أن هذا مذهب فاسد، وهو خلاف مذهب السلف المعتمد على النصوص الشرعية من كلام الله وسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وأصل هذه المسألة في الأصل يعود إلى الخلاف في التحسين والتقبيح: هل هو شرعي أم عقلي؟
فالأشعرية ومن وافقهم يرون أن التحسين والتقبيح شرعي لا عقلي؛ فهم يقولون إن الأمور بذواتها أصلاً، لا تحمل قبحاً ولا حُسناً، إنما هي متساوية، وإنما جاء الحسن والقبح من جهة الشرع؛ فنكاح المحرمات ليس قبحاً بذاته مثلاً، إنما صار قبيحاً بعدما جاء الشرع بتحريمه فصار قبيحاً، والصدق ليس حسناً لذاته، وإنما جاء له صفة الحسن بعدما حث الشرع عليه وأمر به، وعلى هذا النطر وهذه القاعدة أجازوا أن يأمر الله بالكذب؛ فبالأمر يصير الكذب حسناً، وبالأمر يصير الصدق قبيحاً.
ويقولون كذلك: إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يأمر بالظلم والفحش وينهى عن البر والتقوى والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفاً عندهم، ولا المنكر في نفسه منكراً عندهم، بل إذا قال: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم" (فتاوى ابن تيمية ٨/ ٤٢٣).
قول السلف في التحسين والتقبيح:
مع أن هذا القول مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء، هو مخالف للمعقول الصريح.
فال سبحانه وتعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء}.
وقال سبحانه: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}.
وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفجار}.
وبهذه الآيات يعلم أن العباد يعلمون بعقولهم حسن بعض الأفعال، ويعلمون أن الله متصف بفعله، ويعلمون قبح بعض الأفعال، ويعلمون أن الله منزه عنه (منهاج السنة: ١/ ١٢٤).
ولا يعني هذا أن العبد معاقب على إتيانه القبائح قبل ورود الشرع بها؛ لأن هذا القول هو قول القائلين أن التحسين والتقبيح عقليين، فهم يقولون أن العبيد معذبين على فعل القبائح والأثام قبل إتيان النذر، وهذا مخالف للنصوص الشرعية الدالة على ذلك: -
قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}
وقال سبحانه: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وقال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}.
وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}.
فمذهب السلف هو أنه قد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشارع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل، والشرعُ قبَّح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن .
النوع الثاني: - إن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
النوع الثالث: - أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه! ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم ليذبح ابنه، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح، وكذلك حديث الأبرص والأقرع والأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى. قال المَلَكُ: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم؛ فرضي عنك وسخط على صاحبيك.
فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به" (الفتاوى ٨/ ٤٣٦)
وبعد هذا العرض نعلم هل أفعال الله تعالى فيها الحكمة وتتضمن العلة أم لا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجمهور أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل في أفعاله وأحكامه" (منهاج السنة: ١٢٢/١).
فقد نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له؛ فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم وذلك كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون/ ١١٥) فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك وهذا فعل. وقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} (القلم/ ٣٥) [شرح الطحاوية/ ٤٥٠].
أما قول البيجوري: "إن الطاعة ليست ملزمة لثواب وليست المعصية مستلزمة للعقاب وإنما هما أمارتان تدلان على الثواب لمن أطاع، والعقاب لمن عصى، ونحن إذا تأملنا آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، نرى أنه رتب دخول الجنة على القيام بالفرائض وأداء الواجبات وعمل الصالحات والتقرب إلى الله بالطاعات، كما أوعد بدخول النار والعذاب فيها من تنكب طريق الهدى والرشاد ووقع في المعاصي والآثام وقصر في أداء الواجبات من ذلك: -
١ - قوله تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}(الزخرف/ ٢).
٢ - وقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون] (النحل / ٣٢).
٣ - قوله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} (الأعراف/ ١٨٠).
٤ ـ قوله تعالى : {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} (السجدة/ ١٤) .
٥ـ قوله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ لا يستوون. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذى فسقوا فمأواهم النار} (السجدة/ ١٨ -٢٠)
٦ - ما أخرجه مسلم في صحيحه، عن أبى عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم".
وخلاصة مذهب السلف في التعليل: أن الله عز وجل كثيراً ما أخبر في كتابه أنه فعل كذا لكذا وهذا لهذا، قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض. مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} (الطلاق/ ١٢).
وقال سبحانه: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء/ ١٦٥).
وقال تعالى : {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} (البقرة/ ١٤٣).
فإن قيل اللام في هذا كله لام العاقبة؛ كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزناً} (القصص/ ٨). وقوله: {ولتصغى إليه أفئدة الذي لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون} (الأنعام/ ١١٣). وغير ذلك مما هو في القرآن كثير، فإن ما بعد اللام في هذا ليس من الغاية المطلوبة، ولكن لما كان الفعل منتهياً إليه، وكان عاقبة الفعل دخلت عليه لام التعليل، وهي في الحقيقة لام العاقبة .
قلنا: إن لام العاقبة إنما تجيء في حسن من لا يكون عالماً بعواقب الأمور ومصائرها، فيفعل الفعل الذي له عاقبة لا يعلمها كال فرعون، فأما من كان بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، فلا يتصور منه أن يفعل فعلاً له عاقبة لا يعلمها، وإذا علم أن فعله له عاقبة فلا يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون، فإن ذلك تمن وليس بإرادة.
فاللام الواردة في أفعال الله وأحكامه لام الحكمة والغاية المطلوبة، وقد أجاب ابن القيم أيضا على الاعتراض بجواب آخر بإمكان حمل ما احتجوا به على أن اللام للعاقبة بحمل ذلك على أنها لام التعليل (شفاء العليل / ٤٠٢ - ٤٠٧).
وما يلزم نفاة التعليل: أنهم يقولون بأن الله تعالى أيد الرسل، وأصحبهم بالمعجزات الخارقة للعادة بإحالة الطبائع المخالفة لما بنى عليه العالم، وذلك لا يكون إلا من الله تعالى فهو الفاعل لها اتفاقاً، وإنها لتصحيح صدق الرسل وصحة ما أتوا به من عند الله تعالى، وهذا يخالف قولكم أن الله لا يفعل شيئاً لشيء، وهذا باعترافكم أن الله فعل المعجزات لتصديق الرسل، وهذا تعليل لأفعال الله تعالى فثبت تناقضكم (الجواب الصحيح ٤/ ٢٥٧).
وقوله سبحانه: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فـلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولـة بين الأغنياء منكم} (الحشر/ ٧).
فقد أتى سبحانه وتعالى بـــ «كي» وهي صريحة في التعليل، وقال ابن القيم في قوله تعالى رداً على الملائكة حين قال لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فقال سبحانه: {إني أعلم ما لا تعلمون} (البقرة/ ٣٠)، يقول ابن القيم: «لو كان فعله مجرداً عن الحكم والنايات والمصالح لكان الملائكة أعلم به إن سألوا هذا السؤال، ولم يصح جوابهم بتفرده بعلم ما لا يعلمونه من الحكم والمصالح التي في خلق هذه الخليقة، ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة، ولم يكن اعتراضاً على الربِّ تعالى، ولو قدر أنه على وجه الإعتراض فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئاً إلا لحكمه فلما رأوا أن خلق هذه الخلقة مناف للحكمة في الظاهر سألوه عن ذلك .
ومن هذا قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام/ ١٢٤) فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبي أن يضع رسالاته في غير محلها وعند غير«أهلها ولو كان الأمر راجعاً إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جواب، بل كان الجواب أن افعاله لا تعلل ،وهو يرجح مثلاً على مثل بغير مرجح والأمر عائد إلى مجرد القدرة كما يقوله المنكرون» (شفاء العليل، ص ٤٢٧)
أما قولهم: أن من يفعل لعلة يكون مضطراً لا مختاراً، فغيرُ مُسلَّمةٍ بالنسبة إلى الله فالعلة التي يفعل لأجلها الله سبحانه ومعلولها من إيجاده ومن فعله باختياره، فلم يوجب عليه أحد شيئاً. والمضطر من فرض عليه أن يعمل هذا العمل مثلاً لغرض أو لغير غرض، والقول بأن من يعمل لغرض يكون مضطراً، لا يتم إلا إذا كانت العلة التي فعل لأجلها اضطرته للفعل قهراً- والمجبر لا يكون إلهاً، ولا يقول بهذا أحدٌ، حيث أنه هو الفاعل باختياره لعلة أرادها؛ فهو الفاعل المختار يفعل ما يشاء لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه (ابن حزم وموقفه من الإلهيات، ص ٤٦٠)
الكسب عند الأشاعرة
مما هو معلوم عند أهل السنة قاطبة أن الله هو الذي خلق أفعال عباده وأنها مخلوقة خلقها الله تعالى في الفاعلين. قال ابن تيمية رحمه الله: "أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص على ذلك سائر أئمة الإسلام: الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله ومن بعده، حتى قال بعضهم، من قال إن أفعال العباد غير مخلوقة. فهو بمنزلة من قال: إن الماء والأرض غير مخلوقة" ( مجموع الفتاوى / ٤٠٦).
وأدلة ذلك: -
١ - قال تعالى: {هل من خالق غير الله} (فاطر/ ٣) ودلالة الآية ظاهرة على نفي وجود خالق سواه.
٢ - قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (الروم /٣٠) . والآية دليل على أن الفطرة مخلوقة لله عز وجل .
٣ - وقال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} (النحل / ١٧) فصح بنص الآية أن الله هو الخالق لا خالق سواه.
وقال تعالى: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} (لقمان/ ١١) فالله خالق كل شيء وغيره مخلوق لا يستطيع الخلق، ولو كان هناك من يستطيع الخلق لأجاب المنكرون جواباً فيه: نعم نريك أفعالاً خلقناها من دونك.
٥. قال تعالى: {الله خالق كل شيء} (الرعد/ ١٨ والزم/ ٦٢) أي أن الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم "كل".
٦ - قال تعالى: {أتعبدون ما تنحتون . والله خلقكم وما تعملون} (الصافات: ٩٥ - ٩٦) فالله سبحانه هو خالق أفعالنا، وإنما عملنا النحت.
فهذه الآيات وغيرها فها الدلالة واضحة صريحة أن أفعال العباد مخلوقة من الله عز وجل، ومع أن الأشاعرة أقروا مع أهل السنة أن الله خالق أفعال العباد، إلا أنهم افترقوا بنسية الفعل إلى العبد.
فعندما رأى الأشاعرة أن الجبرية وعلى رأسهم جهم بن صفوان قد ذهب إلى أن العد مجبور على عمله من خير أو شر، وتنسب إليه الأعمال مجازاً كما تنسب إلى الجماد، والإنسان إنما يخالف الجماد في المظهر فقط، فكتب فلان أو قرأ فلان هي مجاز كما يقال: ماج البحر، وتحرك الجمل، وأثمرت الشجرة، ويترتب على هذا القول إبطال التكليف والثواب والعقاب على الأعمال، كما ينتج منه أن إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثٌ، وهو مذهب باطل كما هو ظاهر عقلاً وشرعاً، فإنه لا يستساغ أن يعطي العامل أجر عمل لم يعمله باختياره حقيقة، وإنما ينسب إليه مجازًا من حيث الثواب، أما من حيث العقاب، فليس من العدل أن يعاقب العامل على خطيئة ارتكبها تحت الإجبار وبدون اختيارٍ منه بل أتاه كالمكره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فيصبح إنذار الترغيب والترهيب وإنذار الرسل كلام لا معنى له.
ورأوا -يعني الأشاعرة -أن المعتزلة القدرية تقول إن العبد يخلق أفعاله بقدرته مستقلاً عن قدرة الله، ويريد ويدبر بإرادته الحرة قبل أن تتدخل إرادة الله في إرادته، فهم يقولون إن الإنسان هو الذي يقدر أفعاله ويوجدها، وجعلوا العباد خالقين مع الله سبحانه، وهو ما قدمنا بطلانه بالآيات السابقة.
فلما رأى الأشاعرة هذا الإفراط والتفريط أرادوا أن يأتوا بحل وسط بين الجبرية والقدرية، إلا أنهم لم يوفقوا كما لم يوفقوا في كثير من المائل التوفيقية التي أرادوها فجعلوا مناط التكليف هو الكسب.
والكسب عند الأشاعرة لا معنى له محدد عندهم، فهم قد اختلفوا فيه وفي تعريفه أقوالاً شتى (انظر الروض الباسم، ١/ ١٨ -٢٥).
واعتبره أهل العلم قولاً لا حقيقة له، ولا معنى له ولهذا قيل:
مما يُقال ولا حقيقة تحته … معقولةُ تدنو من الإفهام
الكسب عند الأشعري والحال … عند الهاشمي وطفرة النظام
ومدار الكسب عند الأشاعرة هو الارادة التي تحصل عند الفعل، وهو الاقتران العادي بين القدرة الحادثة والفعل وأن الله سبحانه أجرى عادته بخلق أفعاله عند إرادة العبد.
قال صاحب شرح الجوهرة البيجوري: «وقد عرفوا الكسب بتعريفين، الأول: أنه ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به: أي ارتباط وتعلق أو إرادة. . ، كالحركة متلبساً ومصحوباً به، من غير صحة كون القادر وهو العبد ينفرد بذلك المقدور، بل ومن غير صحة المشاركة، إذ لا تأثير منه بوجه ما، وإنما له مجرد المقارنة والخالق الحق متفرد بعموم التأثير.
الثاني: أنه ما كان، أنه ما يقع به المقدور في محل قرته، أي: ارتباط وتعلق، أو إرادة… كالحركة متلبساً ومصحوباً به، حال كون هذا المقدور في محل قدرته كاليد. (شرح الجوهرة/ ١٠٤).
فأنت ترى قول البيجوري: «إذ لا تأثير منه (أي العبد) بوجه ما» بل «ومن غير صحة مشاركة» كما في القول الأول فهذا القول هو عين قول الجيرية، والقول الثاني جبرية ملفقة، فقولهم هو الجبر بعينه والخلاف بينهم وبين الجيرية خلاف لفظي وليس بجوهرى ولذلك قال الرازي (وهو أشعري): إن الإنسان مجبور في صورة مختار وقال البغدادى: ضرب بعض أصحابنا للاكتساب مثلاً في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل ويقدر آخر على حمله متفرداً به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملاً. كذلك العبد لا يقدر على الإنفراد بفعله، ولو أراد الله الإنفراد بإحداث ما هو كسب للعبد قدر عليه، ووجد مقدوره فوجوده في الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلاً وإن وجد الفعل بقدرة الله تعالى" (أصول الدين، ص ١٣٣، ١٣٤)
فهذا المثل الصريح في أن العبد لا فعل له حقيقة إنما هو يقوم بالفعل في الصورة الظاهرة والحقيقة غير ذلك.
هذه هي عقدة الأشاعرة ومنهم البيجوري في الكسب وحقيقته.
فما هو قول أهل السنة والجماعة.
تحقيق المسألة: -
الكسب لغة: - قال الجوهري "الكسب هر الجمع، وهو طلب الرزق"، وأما القرآن فقد استعمل الكسب على ثلاثة أوجه:
١ - عقد القلب وعزمه: - مثل قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} (البقرة/ ٢٥٥) أي بما عزمتم عليه وعقدتموه كما ذكر في الآية الأخرى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} (المائدة/ ٩) أي عقدتم عليه العزم بالقصد والنية.
٢ - كسب المال من التجارة أو الزراعة أو الصناعة مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} (البقرة/ ٢٦٧).
٣ - السعي والعمل، مثل قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (البقرة/ ٢٧٦) وقوله تعالى: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}، وقوله تعالى: {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت} (الأنعام/ ٧٠) .
فالكسب في اللغة وفي استعمال القرآن يرجع إلى ما اكتسبه الإنسان من عمل القلب أو من عمل الجوارح وهو المعبر عنه بالاجتراح والعمل، قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (الجاثية/ ٢١).
فلفظ الكسب بهذا المعنى لفظ مبتدع، لا يوافق اللغة ولا الشرع قال شيخ الاسلام ابن تيمية: - "إن جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وقول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الأسفرايي وإمام الحرمين وغيرهما أن العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة فى مقدورها كما نؤثر القوى والطبائع والأسباب ودل على ذلك الشرع والعقل من ذلك قوله تعالى: {فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من الثمرات} (الأعراف/ ٥٧) ولم يقل فأخرجنا عنده. ويقول: {فأحيا به الأرض} ولم يقل أحيا عنده، فدل ذلك على بطلان قولهم إن فعل العبد يوجد عندها لا بها" (مجموع الفتاوى ٣٠/ ١٣٩).
وقد نطق القرآن بإثبات فعل العبد في كثير من الآيات «يعملون - يفعلون - يؤمنون - يكفرون - تفكرون -يحافظون - يتقون».
ولتوضيح هذا نقول: - إذا قيل عن فعل «ما» إنه فعل الله تعالى، أو فعل العبد، فيجب معرفة المقصود من هذا، لأن في هذا القول إجمال فقد يراد الفعل نفسه، وقد يراد مسمى المصدر.
فإذا أريد بالفعل الفعل الذي هو مسمى المصدر، كصلاة الإنسان، وصيامه ونحو هذا، فالفعل هنا هو المفعول، وهذا لا يقال عنه إنه فعل الله تعالى باتفاق المسلمين وبصريح العقل، يقول تعالى : {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} (سبأ/ ١٣) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} إنه في أصح القولين أن «ما» بمعنى الذى، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالى: {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون} (الصافات/ ٩٥ - ٩٦) أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، فالعمل عملهم والله خالق الكل كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خال كل صانعٍ وصنعته».
وتكون فعل الله تعالى إذا أريد بها كونها مفعولة كسائر المخلوقات.
يوضح هذا: أنك إذا كتبت بالقلم مثلا، هل يكون القلم شريكك، أو يضاف إليه شيء من نفى الفعل وصفاته؟ أم هل يصلح أن تلغي أثره وتقطع خبره وتجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال به كتبت ولله المثل الأعلى - فإن الأسباب بيد العبد وليست من فعله وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها. والله سبحانه خلق الأسباب ومسبباتها، وجعل خلق البعض شرطاً وسبباً في خلق غيره، وهو مع ذلك غني عن الإشتراط والتسبب، ونظم بعضها ببعض لكن الحكمة تتعلق بالأسباب وتعود إليها، والله عزيز حكيم.
فعلى هذا فمشيئة العبد للخير والشر موجودة، وله قدرة على هذا وهذا، وهو العامل للخير والشر، والله خالق ذلك كله وربه ومليكه لا خالق غيره ولا رب سواه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد أثبت سبحانه مشيئته ومشيئة العبد، وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئته سبحانه في قوله: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. وما تشاؤون إلا ما يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} (الإنسان/ ٢٩ -٣٠).
وقال: {إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير/ ٢٧ - ٢٨ - ٢٩).
وقال: {فمن شاء ذكره. وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} (المدثر/ ٥٥- ٥٦).
فمذهب السلف أن فعل العبد له حقيقة، وهو مخلوق لله، ومفعول له سبحانه، وليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق (بتصرف من ابن حزم وموقفه من الإلهيات/ ١٣١ - ٤٢٣).
فهو سبحانه وتعالى أجل من أن يعذب عبداً على فعل فعله هو أجبره عليه.
وذلك يعني أن العبد يعمل بإرادته وقدرته واختياره، ولكنه هر وإرادته وقدرته والآلة التي استعملها بل وعقله كل ذلك مخلوق، فتضاف الأعمال إلى العبد حقيقة إضافة المسبب إلى السبب، لأن العبد بإرادته وقدرته هو سبب وجود تلك الأعمال، وقد جعل الله لكل شيء سبباً؛ فهي تضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق، هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة.
قال تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف/ ٢٩).
وقال سبحانه: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} (البقرة/ ٢٨١ - آل عمران/ ١٦١). وقال سبحانه: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. (البقرة/ ٢٨٦).
وقال سبحانه: {ذلك بما قدمت أيديكم} (آل عمران: ١٨٢).
فهذه الآيات تفيد أن أفعال العبد تقع بإرادته ومشيئته واختياره، فأين هذه الآيات وقول الأشاعرة بكسبهم المزعوم وجبرهم الخفي المستور.
الكشف عند البيجوري وطرفاً من وحدة الوجود
من المعلوم البدهي لدى المسلم أن لكل فن من الفنون مصادره، ولكل علم منه قواعد لا ينبغي التصرف فيها، وهذه القواعد ما وضعت في كل فن إلا حفاظ عليه من الدخن الوارد عليه، ومن أجل تمييز حقائقه من أباطيله وبدون هذه القواعد يصبح الأمر فوضى لا ضابط له.
وإذا علم هذا فإن اطمئنان النفس وحديثها، وخيالات العقول لا تصلح بحال من الأحوال ضابطاً يقوم به مقبول العلوم ومردودها، لأن أمزجة النفوس مختلفة، ورغائب القلب وهوا ه مضطرب لا استقرار له، وقد يحصل في النفس أمر يكون خلاف الحق، ومن أجل هذا فمعلوم قطعاً أن عقائد المسلمين لا تؤخذ إلا من الوحيين الكتاب والسنة.
قال الإمام العلامة عبدالرحمن بن المعلمي اليمني: (مآخذ العقائد الإسلامية أربعة: سلفيان وهما الفطرة والشرع، وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمق والكشف الصوفي.
أما الفطرة فأريد بها ما يعم الهداية الفطرية والشعور الفطري والقضايا التي يسميها أهل النظر ضروريات وبديهيات، والنظر العقلي العادي وأعني به ما يتيسر للأميين ونحوهم ممن لم يعرف علم الكلام ولا الفلسفة.
وأما الشرع فالكتاب والسنة.
وأما النظر العقلي المتعمق فيه فما يختص بعلم الكلام والفسلفة.
وأما الكشف التصوفي فمعروف عند أهله ومن يوافقه عليه) (القائد لتصحيح العقائد 37).
ثم قال: (ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، وكان من نتائج ذلك قضية الحلاج ولعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة؛ بل لعل فيهم من هو أوغل منه إلا أنهم كانوا يتكتمون ودعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره من حب الرياسة، وكذلك مزج الفلسفة في التصوف كان معروفاً عند بعض الفلاسفة الأقدمين، وتجد في كلام الفارابي وابن سينا نتفاً من ذلك، وكذلك في كلام متفلسفة المغاربة كابن باجة وغيره، وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف فلما جاء الغزالي نصب التصوف منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحق لا يعدو هذه الأربع مقالات وقضى ظاهراً للتصوف مع ذكره كغيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الإباحة المطلقة وفي ذلك نبذ الشراع البتة، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي وابن سبعين والتلمساني ومقالاتهم معروفة، ومن تتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة التابعين وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف وأنعم النظر في ذلك ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقيناً أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع ويصدقهم معه، وإن غالط نفسه وغالطته؛ فالتكذيب ثابت في قرارها ولابد).
هذا، والشرع يقضي بأن الكشف ليس ما يصلح الاستناد إليه في الدين ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤية الصالحة)).
وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في فتح الباري منها حديث ابن عباس عند مسلم وغيره وحديث أم كرز عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان وحديث حذيفة ابن أسيد عند أحمد والطبراني وحديث عائشة عند أحمد وحديث أنس عند أبي يعلى.
وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا. اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا؛ فلم يعتد به، فدلَّ ذلك على أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا.
وقال: (قد تقدم أن الرؤية قصارها التبشير والتحذير وفي الصحيح: أن الرؤيا قد تكون حقاً وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس والتمييز مشكل، ومع ذلك فالغالب أن تكون على خلاف الظاهر، حتى في رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قص من ذلك القرآن وثبت في الأحاديث الصحيحة ولهذه الأمور اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة وإنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج لثبوتها عنده بالكتاب والسنة فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك فاستبشر ابن عباس.
هذه حال الرؤيا فقس عليه حال الكشف إن كان في معناه فأما إن كان دونها فالأمر واضح.
وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقاً وقد يكون من الشيطان وقد يكون تخيلاً موافقاً لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيراً ما يكشف للرجل بما يوافق رأيه حقاً كان أو باطلاً، ولهذا تجد في المتصوفة من ينتسب إلى قول أهل الحديث ويزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، وهكذا تجد فيهم الأشعري والمعتزلي والمتفلسف وغيرهم، وكل يزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه ومخالفة منهم لا يكذبه، ولكن يكذب كشفه وقد يكشف لأحدهم بما يوافق مقالات الفرقة التي ينتسب إليها وإن لم يكن قد عرف تلك المقالات من قبل كأنه لحسن ظنه بهم وحرصه على موافقتهم إنما تتجه همته إليهم فيقرأ أفكارهم وترتسم في مخيلته أحوالهم.
فالكشف إذاً تبعاً للهوى؛ فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار؛ فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل، ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل، وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل دعوى فارغة إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة؛ لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريقة التي كان يفهمها بها السلف الصالح.
فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفضع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم؛ بل يشهد عليهم أوضح شهادة بأنه أبطل من الباطل.
أولاً: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة، فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل.
ثانياً: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع فالكشف شهد لنفسه، فمن يشهد لنفسه على تأويله.
وأما التحديث والإلهام؛ ففي "صحيح البخاري" وغيره من أحاديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" وأخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة وفيه: "فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام.
وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أصدق أئمة الصحابة وعلمائهم استدلال بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية؛ بل كان يخفى عليهم الحكم فيسألون عنه؛ فيخبرهم إنسان بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القول فيخبرهم إنسان عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه فيرجعون إليه.
وأمام الفراسة؛ فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها فإذا شرحها عرفت، فإن كانت مما يعتد به عمل بها، لا بالفراسة). انتهى من القائد لتصحيح العقائد.
أقول:
بعد هذه المقدمة التي تبين شيئاً عن حقيقة الكشف وأنه ليس من الدين في شيء ولا يصلح دليلاً لحقيقة علمية، سنرى وضع البيجوري العجيب وأمره معه الكشف وإلى أي مدى عنده يصلح الكشف دليلاً لإثبات الحقائق العلمية.
يقول البيجوري: بعد أن يذكر طرق النظر الموصلة للحقائق العقدية: (ويقوم مقام ذلك ما لو عرف العقائد بالكشف) ( الجوهرة 22)، أي أن الكشف يوصلك إلى حقيقة العقائد الإيمانية مع العلم أنه لم يذكر شيئاً عن الكتاب والسنة، وأنهما يصلحان طريقاً للعقائد؛ بل منع تحصيلها بأحاديث الآحاد.
وهنا لابد من تساؤل عن الكشف بأي شيء يحصل: هل هو باستغراق صوفي ضال على طريق متصوفة الهند والعقائد الباطلة يحصل الكشف؟! أم بماذا؟ وخاصة إذا علمنا أن هذا الرجل السالك إلى حقيقة الكشف - كما زعم - ليس لديه عقيدة سليمة حال سلوكه فهذه الأعمال التي توصله إلى الكشف بأي نية يقوم بها وبأي طريق؟
جزماً سيكون الجواب أنه بغيره نية صحيحة، وبغير عمل صالح لأنه بعد لم يصل إلى العقائد الصحيحة كما يزعم.
ونتيجة لذلك، إلى أي عقيدة سيصل هذا السالك؟ قطعاً سيصل إلى عقيدة أبالسة الأرض منذ أن ذرأ الله ذرية آدم ألا وهي وحدة الوجود. وليس هذا تجنياً على البيجوري وأمثاله ممن يؤمنون بالكشف طريقاً يوصل إلى المعرفة؛ بل هو يصرح بذلك ويدين نفسه بنفسه.
يقول البيجوري: (فإن تصديق المقلد ليس كتصديق العارف بالدليل، وهو ليس كتصديق المراقب، وهو ليس كتصديق المشاهد، وهو ليس كتصديق المستغرق الذي لا يشاهد إلا الله) (الجوهرة 51).
هذه نهاية الكشف وهو أن لا يشاهد إلا الله. لا يرى في الوجود إلا الله. لا خالق ولا مخلوق فالكل هو الله. العبد رب والرب عبد.
وإن أردت عبارة أصرح منها وأوضح من البيجوري، تكشف عن مؤدى كشفه فاقرأ: (فالتقليد - أي في المعرفة - للعوام، والعلم لأصحاب الأدلة، والعيان لأه المراقبة ويسمى مقام المراقبة، والحق للعارفين، ويسمى مقام المشاهدة، والحقيقة للواقفين ويسمى مقام الفناء لأنهم يفنون عن غير الله ولا يشهدون إلا إياه، وأما حقيقة الحقيقة فهي للمرسلين، وقد منعنا الله من كشفها، فلا سبيل إلى بيانها) ( الجوهرة 43).
وحدة وجود بينة واضحة وطامات مستورة لا يستطيع (تستراً) بيانها، فسبحان الله العظيم إذا كان الكفر قد كشفه وبينه فما هو المستور الذي يخاف فضحه. وإذا كانت حقيقة الحقائق يخفيها عن المسلمين إذاً: ما هذا الذي يعلمهم في شرحه جوهرة التوحيد هل هو باطن؟ هل هو الظاهر؟ وهناك من الباطن المستور، وقطعاً أنه يخالف الظاهر المنظور إليه.
لا يستطيع عالم منصف أن يمسح هذا السواد المظلم عن هذه الضلالات، أو أن يجد لها تأويلاً. وبعد هذا كله يكون هذا الشرح معتمداً لدى المسلمين في مدارسهم وحلقاتهم. هذا الكشف في العقائد. فهل الكشف عند البيجوري يصلح لأمر آخر؟
يقول البيجوري: (ولعل هذا الحديث - حديث إحياء والدي النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهما ثم موتهما - صح عند أهل الحقيقة بطريق الكشف) (الجوهرة 30).
يا لضيعة جهود علماء الحديث وتعبهم في البحث عن الأسانيد وتجميعها، ويا لضيعة جهودهم في تحقيق هذه الأسانيد. لماذا أضاعوا أعمارهم؟ ولماذا شقوا على أنفسهم إذا كانت هذه العلوم والضوابط لا معنى لها عند البيجوري؟
يجلس الصوفي في خلوة له مستغرقاً في وحدة الوجود، وبالكشف يخبرنا صحيح الحديث وضعيفه {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}.
أهذا هو العلم، أهكذا هو الإسلام الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. أهذا هو إسلام التابعين وأئمة المسلمين. أهذه هي عقائد المسلمين التي يعلمهما البيجوري في شرحه للجوهرة؟
والذي يجب علي أن لا أكتمه عن حقيقة الكشف بعد ذلك وأنه ضلال في ضلال؛ بل هو الجنون بعينه.
أقول: إن الكشف هو عبارة عن أمور في نفس الشخص يظن أنها موجودة في الأعيان فيجزم بوقوعها وأنها حقيقة قائمة، ولا يستطيع نفيها عنده أحد مهما تجمعت لديه الأدلة الأخرى على ضلال اعتقاده، كوحدة الوجود وحصول بعض المشاهدات لديه كادعائه أنه يرى الله وأن الله يكلمه، وأنه يجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويتلقى منه العلم ويصلي الفرائض وراءه وهي في الحقيقة تصورات ذهنية داخلية وخيالات نفسية شيطانية ليس لها واقع صحيح وليست من هدي الكتاب والسنة ولا هي سبيل المؤمنين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى -: "والاتحاد والحلول باطل. وعلى قول من يقول به إنما هذا في الباطن والقلب؛ لا في الظاهر؛ فإن غاية ذلك ما تقوله النصارى في المسيح ولم يقولوا إن أحدا رأى اللاهوت الباطن المتدرع بالناسوت. وهذا الغلط يقع كثيرا في السالكين. يقع لهم أشياء في بواطنهم فيظنونها في الخارج؛ في ذلك بمنزلة الغالطين من نظار المتفلسفة ونحوهم؛ حيث يتصورون أشياء بعقولهم كالكليات والمجردات ونحو ذلك فيظنونها ثابتة في الخارج وإنما هي في نفوسهم؛ ولهذا يقول أبو القاسم السهيلي وغيره: نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي" (مجموع الفتاوى (5/ 491).
أي نستطيع أن نقول إن الكشف هو خيال جنوني داخلي يدعي الصوفي أنه به يحصل له علم اليقين في مسائل الاعتقاد وفي كثير من المسائل الشرعية وغيرها وهذا شرع من الدين لم يأذن به الله ولا رسوله.
فنسأل الله العفو والعافية.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى هذا أمر فوق العقل، ويقول بعضهم ما كان يقول التلمساني لشيخ أهل الوحدة يقول: يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل) (الجواب الصحيح 2/ 92).
فإذا لم تكن من صحيح النقل ولا من صريح العقل؛ فمن أين جاءت؟ لاشك أنها من الشيطان والهوى.
البيجوري والتقليد
قال اللقاني:
ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم (الشرح 150)
وأبو القاسم هو محمد الجنيد سيد الطائفة الصوفية.
والتقليد هو: العمل بقول الغير من غير حجة ( إرشاد الفحول 265، وشرح جوهرة التوحيد 33). إذاً فالناظم يريد منا ومن مجموع الأمة أن نقلد الأئمة الأربعة وكذا نقلد الجنيد، فالأئمة الأربعة في المسائل الفقهية، والجنيد في التصوف (الشرح 151).
إن الناظر لهذه المسألة مع عرضها على نصوص السنة النبوية وأقوال الأئمة، يرى فيها أن الحق في جانب يخالف الجانب الذي دعا إليه اللقاني، لأن الله عز وجل قد تعبدنا بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد منع كثير من الأئمة جواز التقليد؛ بل قد ذكر بعضهم الإجماع على ذلك:
قال عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي: (التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة. والاتباع ما ثبت عليه حجة) (جامع بيان العلم وفضله 2/ 117).
وقد نهى الأئمة عن تقليدهم فينبغي متابعتهم فيما قالوا:
1) سئل أبو حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: (اتركوا قولي لكتاب الله). فقيل: إذا كان خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: (اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم). فقيل له: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: (اتركوا قولي لقول الصحابة رضي الله عنهم) ( إيقاظ همم أولي الأبصار 50).
2) قال عبدالله بن المبارك: سمعت أبا حنيفة يقول: (إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم) (الإيقاظ 70).
3) قال الشافعي: (إذا قلت قولاً وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني) (إعلام الموقعين 2/ 285، و إيقاظ همم أولي الأبصار 50).
4) وقال رحمه الله: (إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه واعلموا أنه مذهبي).
5) وقال: (مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري) (إعلام الموقعين 2/ 211).
6) وأما أحمد بن حنبل رحمه الله فقال أبو داود: قلت لأحمد بن حنبل: الأوزاعي هو أتبع أم مالك - كأنه يريد أكثر أتباعاً من مالك- فقال: (لا تقلد في دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير) (مسائل الإمام أحمد لأبي داود 276–277، وإعلام الموقعين 2/ 200 - 201).
7) وقال أحمد أيضاً: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا) (إعلام الموقعين 2/ 201، والإنصاف 105).
8) وقال رحمه الله: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال) (إعلام الموقعين 2/ 201).
9) وقال الشافعي: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد) (إعلام الموقعين 2/ 282، وإيقاظ أولي الأبصار 58 - 103).
10) وقال: (إذا صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا قولي بالحائط، واعملوا بحديث الضابط) (إعلام الموقعين 2/ 288، وإيقاظ أولي الأبصار 63).
فهذه نصوص الأئمة وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أنهم قد ألزموا بعض أتباعهم على ترك تقليدهم ويرون ذلك من قلة الفقه وإن الإتباع - إتباع الكتاب والسنة- هو سبيل أهل التدين من السلف والخلف.
أما قول الناظم بوجوب التقليد فهو قول مدعى يعوزه الدليل، وينقصه البرهان.
أما احتجاج البيجوري بالآية الكريمة: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(النحل: 43)؟
فالجواب: إن الآية الكريمة التي سبقت قد أمر الله تعالى فيها من لا يعلم أن يسأل (أهل الذكر)، والذكر هو القرآن والسنة كما ذكره الله في قوله مخاطباً لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} (الأحزاب: 43). وآياته القرآن، والحكمة السنة.
وكما قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} (الجمعة: 2)؛ فالأمر في الآية للجاهل أن يسأل أهل القرآن والحديث عنهما ليخبروه، فإذا أخبروه وجب عليه إتباع ما أخبر به (إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد 169).
أما قول الناظم بوجوب تقليد الجنيد في التصوف، وهو كما شرحه البيجوري، فهو قول ساقط عجيب.
فالصوفية مذهب دخيل ليس من الإسلام في شيء، وهو ديانة مستقلة ليس لها وجه قربة مع الإسلام، لا في أصولها، ولا في فروعها، فهي لها عقائد خاصة بها، وأركان عبادات كذلك. وشرح هذا الأمر يطول جداً وعلى الأخ القارئ أن ينظر كتاب الأستاذ محمود قاسم: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) فهو كتاب فريد قد ملأه صاحبه بالنصوص الصوفية التي لا تترك لطالب الحق مناصاً إلا الاعتراف أن الصوفية مذهب شركي ليس من الإسلام في شيء.
ومن آثار دعوة هذا الناظم أنه جعل على المسلمين جميعاً وجوب تقليد إمام معين لا يخرج عنه قيد أنملة، وكذلك عليه إتباع طريقة الصوفية، ومن هنا صار مؤلفاً أن ترى الرجل بعد أن يذكر اسمه وموطنه، يذكر مذهبه، فهو شافعي مثلاً أو حنفي، وهو بعد ذلك قادري أو شاذلي أو رفاعي من هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان. فالله سبحانه وتعالى قد سمانا المسلمين، ورضي الإسلام لنا ديناً، فكيف لا نرضاه لأنفسنا؟!
فمن هنا صارت الأمة شيعاً وأحزاباً، وصار لهذه الشيع والفرق كتب علمية خاصة فيها، وهي من الضلال بمكان. فعلى قول اللقاني بتقليد الجنيد أو أحد أتباعه من مشايخ التصوف، ماذا يصنع طالب العلم وهو يرى جملاً وعبارات شركية تنسب للجنيد وليس لطالب العلم إلا أن يسلم بها لوجوب تقليده كما أمر اللقاني والبيجوري.
وماذا يصنع طالب العلم بقول الجنيد: (لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق) (المناظر الإلهية للجيلي 44).
ماذا يصنع بمثل هذه الطامات التي تنسب للجنيد أيسلم لها تقليداً أم يتبع الكتاب والسنة ويقول سبحانك هذا بهتان عظيم.
إن القول بتقليد عالم أو رجل من غير حجة كائن من كان هو امتهان لعقول البشر وسخرية بإنسانيتهم فلا ينبغي للمرء أن يسلم لأحد إلا لله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الشافعي: (وأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (إرشاد الفحول 265).
ضلالات وطامات في شرح جوهرة التوحيد
من المضحكات المبكيات غرائب كثير من القصص التي يريدها البيجوري في شرحه, وغرائب هذه القصص يكمن في أن فيها من الشطط والضلالات والدعوة إلى الجاهلية الشيء الكثير , والبيجوري يورد هذه القصص ليدلل بها على عقيدته وينصر بها دعوته. سيرى قارئ هذه القصص أو أمثلة منها كم أن البيجوري يحتقر عقل المرء المسلم الواعي وكم يحدث في عقل المتابع له من الضلالات والاعتقادات الباطلة الغريبة.
1) يقول البيجوري: عن موسى عليه السلام حين سمع كلام الله - من غير صوت -: (وقد أشرق وجهه من النور, فما رآه أحد إلا عمي فتبرقع وبقي البرقع على وجهه إلى أن مات) ( الشرح 74).
ولعلك ستسأل أخي القارئ من أين للبيجوري هذا الخبر ومن أي طريق استقاه؟ وسيجيبك أتباع البيجوري من الأشاعرة والصوفية: قد صح هذا عند أهل الحقيقة بطريق الكشف وما عليك إلا التسليم , ولا تعترض فتنطرد.
وكلنا نقول ألم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام ربه حين أسري به؟ فلماذا لم يتبرقع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟ كما فعل أخوه موسى من قبل كما زعموا؟؟
2) يقول البيجوري: وحكي أن بن الشجري كان يقرر في درسه قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} فسأل سائل وقال له: ما شأن ربك الآن؟؟ فأطرق رأسه وقام متحيرا فنام, فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك , فقال له صلى الله عليه وسلم: السائل لك الخضر، فإذا أتاك في غد وسالك فقل له: شؤون يبديها ولا يبتديها يرفع أقواما ويخفض آخرين. فلما أصبح، أتاه وسأله فأجابه بما ذكر فقال له: صل على من علمك. ومشى مسرعاً.
في هذه القصة يقرر عدة أمور منها:
1) أن الخضر عليه السلام بين أظهرنا.
2) أن الخضر عليه السلام يعلم الغيب حتى ما يحدث معنا في مناماتنا "صل على من علمك".
3) الرؤى والأحلام طريق من طرق تلقي العلم.
وللجواب على هذه الأمور نقول:
1) إما أن الخضر عليه السلام حي فقول الله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} الأنبياء/ 34) رد عليه وناف له.
2) إما أن الخضر عليه السلام يعلم الغيب فقول الله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} (النمل: 65)، وقوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} (الجن/ 26) أحق بالاتباع والقبول.
3) إما أن الرؤى والأحلام طريق تلقي العلم فقول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3) بيان أوضح على أن العلم هو كتاب وسنة.
الخاتمة
بعد هذا الاستعراض المختصر لعقيدة البيجوري لشرحه لجوهرة التوحيد، هذا الكتاب الذي صار عمدة للحلقات العلمية الشرعية , ومصدرا للتدريس في بعض الجامعات والمعاهد الإسلامية.
بعد هذا الاستعراض: هل البيجوري في شرحه لجوهرة التوحيد يمثل أهل السنة والجماعة؟
لقد رأينا فيما سبق أن البيجوري وشرحه لا يمثل أهل السنة؛ فهو يمثل مذهبا بدعيا؛ ألا وهو العقيدة الأشعرية , وقد جمعت هذه العقيدة عقائد وتصورات لمذاهب تلكم عليها أهل السنة من السلف الصالح وردوا عليها ردودا مفصلة , فقد رأينا أشعرية البيجوري قد جمعت الإرجاء في الإيمان والجبر في القدر وقول الجمهية في الأسماء والصفات وقول المعتزلة في خلق القران؛ فهل بعد هذا كله أشعرية البيجوري تكون هي معتقد أهل السنة والجماعة؟؟
إذا كانت الجبرية منفردة قد حملت لواء به خرجت عن أهل السنة وعدت فرقة بدعية ضالة , وإذا كانت المعتزلة منفردة قد حملت لواء القول بخلق القران وبه عدت فرقة بدعية ضالة , وإذا كانت المرجئة منفردة حملت لواء الإرجاء وبه خرجت عن أهل السنة , اذا كانت كل فرقة من هذه الفرق مع قولها ببدعة منفردة قد خرجت من أن تكون ممثلة لأهل السنة والجماعة؛ فكيف بمن حمل هذه العقائد جميعا, هل يكون في عقيدته من أهل السنة والجماعة؟؟
الجواب: قطعا وبكل يقين هو النفي.
وقد انبرى عدد من أئمة الهدى للرد على مثل ما يدعو إليه البيجوري في عقيدته , فالأئمة على مدار القرون: الأول والثاني والثالث والرابع قد نشطة أقلامهم في الرد على أهل البدع من خلف البيجوري وأمثاله:
فقد ألف عبدالله بن مبارك (181هـ) وأبو سعيد يحيى بن سعيد القطان (198هـ) وبن أبي شيبة (225هـ) ونعيم بن حماد المروزي (228هـ) وعبدالله بن محمد الجعفي شيخ البخاري (229 هـ) وإسحاق بن راهويه (238 هـ) وأحمد بن حنبل (241هـ) ومحمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) فهؤلاء وأمثالهم كتبوا المصنفات وألفوا الردود على أمثال البيجوري في عقيدته وكلهم قد أكدوا اعتماد الكتاب والسنة مصدرا وحيدا للعقيدة وطعنوا في كل عقيدة تصادم النصوص الشرعية.
فعلى المسلم المتبع أن يوجه وجهته نحو المصادر اليقينية الصحيحة ليستقي منها عقيدته: الكتب التي تعتمد في أدلتها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فنسأل الله عز وجل حسن الإتباع ووقانا من شر الابتداع.
فكل خير في إتباع من سلف … وكل شر في ابتداع من خلف
وصلى الله على نبينا وأسوتنا محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وحذا حذوهم إلى يوم الدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق