أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 أكتوبر 2021

شرح الورقات في أصول الفقه تصنيف الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني -أملاه فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي

شرح الورقات في أصول الفقه

تصنيف الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني

المتوفى سنة (٤٧٨ هـ)-رحمه الله تعالى -

صالح بن عبد الله العصيمي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب هو تعليقات نفيسة على متن الورقات للجويني، استعرض فيها غريب ألفاظه، والمعاني الإجمالية للفقرات، مع الأمثلة العملية والتطبيقية التي تزيد الأمر وضوحاً، بالإضافة إلى الفوائد اللغوية والأصولية والنحوية، والترجيح فيما وقع فيه الخلاف بين الأصوليين، كل ذلك بأسلوب سهل مُيسَّر.

وهذا المتن هو الكتاب الرابع عشر من برنامج "مهمات العلم" في سنته الثامنة، للعام ١٤٣٨ هـ، وهو برنامج يتم فيه إقراء (١٥) متناً من أمهات المتون المحتاج إليها في البناء العلمي، بتوضيح مقاصدها الإجمالية ومعانيها الكلية، يقام خلال 8 أيام، في المسجد النبوي بمدينة الرسول ﷺ. ومن ضمن هذه المتون متن "الورقات" للجويني.

وقد اشتمل هذا الكتاب على فوائد نفيسة، منها:

١-نصيحة غالية لمن يشتغل بعلم أصول الفقه، أن يكون مُعتنياً بالسُّنن والآثار

٢-الخلاصة في مسألة الحقيقة والمجاز

٣-وأدب الطالب في الترجيح ونقد المسائل الفقهية.

٤-وأن قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، تتعلق بالأعيان لا بالأقوال ولا الأفعال

٥-أحكام الأعيان باعتبار المنافع والمضار

٦-فك الاشتباه بين الإفتاء والتدريس، وأن للتدريس مقامه، وللإفتاء مقامه.

٧-مسألة تصويب المجتهدين في الفروع.

وبيان هذه الفوائد فيما يلي:

أولاً: نصيحة غالية لمن يشتغل بعلم أصول الفقه:

ومن مواقع ضعف علم أصول الفقه: قِلَّة الإحاطة بالمأثور في السُّنَّة النبوية، أو عن السلف رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى، مع ما خالطه من الاعتقادات الباطلة. فَمَنْ كانت له يد في معرفة السنن والآثار، ثمَّ أوغل في معرفة علم أصول الفقه مع رسوخ القدم في عـلـم العقيدة؛ بَانَ له ما كان عليه هَذَا العلم من الشرف والجلال في المقيَّدات السلفية القديمة؛ ككتاب «الرسالة» للشَّافعي، و«الفقيه والمتفقه» للخطيب، و«جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر، و«المدخل إلى السنن» للبيهقي، فيكون حُسن التصرف في علم أصول الفقه بِرَدِّ تلك المعاني إلى المأثور عبر ما تعارف عليه الأصوليون، فإنَّ علمَهُمْ مأخوذ عن مَنْ قبل. 

وإن داخله الفساد، فهذا لا يقضي إبطال علم أصول الفقه، كما انتحله من انتحله، أو بتنحية كثير من قواعده وأحكامه بزعم أنها ليست أثرية لجهل المتكلم فيها بحقائق السنن والآثار، فهو علم كان في النَّاس جليلاً لكمال عقولهم وفهومهم، ثمَّ قيّد، فإذَا أراد أن يُعانيه مَنْ ليس معه مع كمال العلم كمال عقل؛ أضر بهذا العلم وأضرَّ بالمسلمين، ثمَّ ما آل إليه الأمر إلى ضَعْفَ هَذَا العلم ومداخلته أقوالاً من أقوال أهل البدع.

والمقصود أن يعرف طالب العلم أن علم أصول الفقه يُشَيَّد على المقيَّدات الأصولية الَّتي تَنَاهَى إليها علم أصول الفقه، مع ترقية تلك المقيَّدات بِرَدّها إلى ما كانت عليه طريقة المحققين من علماء أهل السنة والجماعة.

ثانياً: الخلاصة في مسألة الحقيقة والمجاز:

بقي من المسائل الطُّوال: تقرير وجود المجاز أو نفيه، والذي يُحكم به: عدم إطلاقِ القول بإثبات المجاز مطلقا، ولا بنفيه مطلقًا.

فإنَّ القول بإثبات المجاز مطلقا فيه نظر؛ لتخلُّفه في مواضع يُقطع بأنَّ المجاز لا يُراد فيها؛ ومن ذَلِكَ آيَاتُ الصفات وأحاديثها؛ فإنَّ أبا عمر بن عبد البر المالكي نَقَل إجماع الصحابة والتابعين في كتاب ((التمهيد)) على أنَّها على الحقيقة، وأنَّ المجاز لا يجري فيها، فحينئذ يمتنع القول بوقوع المجاز مطلقًا.

وكذلك يمتنع القول بنَفْي المجاز مطلقًا؛ فإِنَّ مَنْ شَمَّ كلام العرب وتغرغرَ بِسَنَنِهِم فيه، وعرف المنقول عنهم في الأشعار والخطب؛ لم يسعه أن يقول بنفي المجاز. ولو قال به - وهو من دهاقنة هَذَا الباب - فإنَّه يجد في نفسه ضرورةً لإثباتِه، دَعَتْهُ إلى أَنْ يُسمّيه (أسلوبًا)، فهَذا الذي سماه (أسلوبًا) هو مجاز على الحقيقة، لكِنَّ هَذَا المجاز الذي يوجد في تلك الأصناف من كلام العرب شعرا ونثرا لا يمكن معه أن نقول بأنَّ المجاز يُقالُ بِهِ مُطلقًا، كما أَنَّنا لم ننفه مطلقًا.

وأحسن المسالك هو: القول بإثباتِ المجاز عند وجود القرينة الدالة عليه، فإن لم توجد القرينة أنتفى المجاز، وهو قول أبن تيمية الحفيد، الَّذي ذَكَره في «التحفة العراقية» باقتضاب، ثمَّ بَسَطه في «الرسالة المدنيَّة»، وهـي مـن آخـر مـا صـنف، فكأن منتهى وإن كان هو وغيره لهم كلام في نفيه، كما أن غيره له كلام في إثباته، وكُل المتكلمين في هذه المسألة هم من علماء أهل الشام. 

لكن تباين أنظارهم - بل تباين نظر العالم الواحد في إثبات المجاز ونفيه – يدلُّ على جلالة هذه المسألة، وعِظَمِها، وكبير أثرها في كلام الشرع وكلام العرب.

ثالثاً: أدب الطالب في الترجيح ونقد المسائل:

وليس من الأدب قول : (إذا اختلفت أقوال الصَّحابة تساقطت)؛ أفاده أبو الفضل ابن حَجَرٍ رَحمَهُ اللَّهُ؛ لأنَّ ما للصحابة من مقام تشريف وتعظـيـم لا يُناسب معــه الـقــول بالسُّقوط ، لكن يقال: (أرتفعت)؛ أي: عن الحُجَّيَّة، فَهُم مرتفعون ويناسبهم اسم (الارتفاع).

والألفاظ التي يُعبَّر بها عن العلم تأصيلاً وتمثيلاً لها أدب منثور في تَصَرُّف أهل العلم.

وللنووي في مقدمة «المجموع» إشارة إلى جملة من ذَلِكَ. فإن ألفاظ العلم أدبية ذوقيَّةٌ، لا منحطة سوقية، فإنَّ الحط والإسفاف في الكلام يقدر عليه الجاهل، ويقبح أن يسلكه العالم، والعالم الكامل ينبغي أن يتأنَّق في كلامه الَّذِي يُعَبِّر به عن شيء من العلم. 

فمثلا: من الغلط وعدم الأدب الحكم على قول الجمهور بأنَّه باطل؛ لأنَّ اسم (البطلان) أسم شديدٌ، يدلُّ على أنَّ هَذَا القول لا مُتَمَسَّك له من الأدلة، وإنَّما يُعَبّرء بكونه مرجوحاً أو غير ذَلِكَ من الأقوال عند من أنتهى أجتهاده إلى خلافه. 

وهَذَا ا الأصل - وهو أدب العلم في الألفاظ - صار ضعيفًا في النَّاس، وهو وجه من عنه وجوه فساد العلم فيهم.

ومنشأ ضعفه فيهم: عدم الحرص على تلقي العلم المنقول بالأخذ عن أهل العلم الَّذين هم أهله، ممَّنْ تلقوا عن أهل العِلم، ولازموا حلقه، وصحبوا شيوخه. 

فإِنَّ هَذِهِ الآلَةَ لَا تُؤخَذ بغير هَذا الطَّريق هي وغيرها من الآلة التي يُفتقر إليها في العلم؛ فإنَّ آلة العلم ليست المسائل، فالمسائل في الكتب، والكتب كانت وما زالت عند أهل الكتاب الذين ضلُّوا، لكِنَّ آلة العلم تُؤخَذُ من الكتب في المسائل، وتُؤْخَذ من أهلِ العلم بالتلقي، ولا يُتلَقَّى عنهم المسائل فقط، بل يُتَلَقَّى عنهم أدبهم، ومسالكهم في هداية النَّاس، وإصلاحهم، وملاحظة أحوالهم، وهَذَا أَمر يغيب عن كثير من المشتغلين بالعلم، فوَكَدُ أحدهم هو مجرد طلب مسائل العلم. وأما الانتفاع بشيوخه في آلة العلم التي تلزمه فهذا يضعف في النَّاسِ، ولذَلِكَ صار يتكلم في العلم مَنْ يُفسد أكثر مما يُصلح، كمَنْ يتكلم في مسائل تتعلق بولي الأمر مع جمهور النَّاس، ففساد هَذا أكثر من صلاحه، لأنَّ هَذه من المسائل الَّتي يُخَصُّ بها هو، وكيفما كانت تصويبًا له أو تخطئةً فإنَّ المنتفع بها هو، وأمَّا غيره فقد تُفسده، أو لا يعقلها الموقع الذي ينبغي لها.

وهذا المورد مورد مبني على مسلك شرعي مأثورٍ عن السلف رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آثارٍ كثيرة. 

ونقل العلم قد يكون منه حال مأثورة سرى وجرى عليها أهل العلم فصارت شائعة بينهم، وقد يكون منها شيء تجده في الآثار. 

فلا غنى لمن أراد النَّجاة في العلم وأن ينفع به وينتفع ويهدي ويهندي؛ من ملازمة أهل العلم الذين هم أهله.

ثم ذكر المصنف مسألة من مسائل النهي؛ وهي ما يفيده، فقال: (ويدل على فساد المنهي عنه)، وهي مسألة كبيرة تسمى (اقتضاء النهي الفساد)، وهي من المسائل التي تجاذبتها الأنظار، واختلف فيها النظار. 

  ومنتهى القول فيها - والله أعلم - هو: أن النهي الوارد في دليل شرعي يعود إلى واحد من أربعة موارد:  

أولها: عوده إلى الفعل نفسه في ذاته أو ركنه.  

وثانيها: عوده إلى شرطه.  

وثالثها: عوده إلى وصف لازم للمنهي عنه.  

ورابعها: عوده إلى أمر خارج عن الموارد الثلاثة المتقدمة.  

فأي شي عاد إلى الأمور الثلاثة الأولى، فإنه يقتضي الفساد،  أما ما عاد إلى أمر خارج عنها - وهو الرابع - فإنه لا يقتضي الفساد، وتقدمت هذه الأدلة في شرح منظومة «القواعد الفقهية».

رابعاً: قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة:

قال الشارح وفقه الله: ذَكَر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فَضْلًا آخرَ من فُصُولِ أُصُولِ الفِقْهِ؛ وَهُو: (الْأَصْلُ فِي الأَشْياء). والمراد بـ (الأشياء) عندهم: الأعيان المنتفع بها؛ فهي ذوات، وليست أقوالا ولا أفعالًا، فهذا الأصل المذكور عند الأصوليين والفقهاء مُتَعَلَّقه الذوات من الأعيان المنتفع بها، فلا يجري في غيرها؛ كالأقوال والأفعال.

فمن يقول مثلاً: (الأصل في المظاهرات: الجواز؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة)؛ استدلاله غير صحيح؛ لأنَّ مُتَعَلَّق المسألة الأعيان والذوات المنتفع بها، لا الأفعال والأقوال. 

وهذا يقع كثيرًا في وجوه الاستدلال في المتكلمين في المسائل، سواء كانت الحادثة، أو المؤصلة عند أهل العلم من المقررات في كُتب أهل العلم؛ فيُخطئون في مورد الحكم.

والسبب هو: الضعف في علوم الفقه الخادمة لـه؛ كأصول الفقه، وقواعد الفقه، ومقاصد الشريعة، ومن جملتها هذه المسائل.

فكثيراً ما تسمع أحدًا يحكم على قول أو على فِعْلٍ، ثمَّ يكون من أدلَّته (أَنَّ الأصل في الأشياء الإباحة)، وهَذَا غلط؛ لأنَّ مورد المسألة: الأعيان المنتفع بها من الذوات. 

فمثلًا: لو وجدنا ثمرةً لشجرة لا نعرفها؛ فأُريد الحكم عليها، فقال القائل: الأصل في الأشياء الإباحة، فتجوز؛ فيكـون مـا بنـي عليـه مـن دليل سواء كان قال: (الأصـل فـيـه الإباحة) أو غيره؛ يكون الأصل في بناء الدليل صحيحًا.

خامساً: أحكام الأعيان، باعتبار المنافع والمضار:

والمختار في هذه المسألة: أنَّ الأعيان – وهي الذوات – أربعة أقسام:

أحدها: ما منفعته خالصة؛ فالأصل فيه الإباحة. 

وثانيها: ما مفسدته خالصة؛ فالأصل فيه الحظر - أي: المنع. 

والقسم الثالث: ما خلا من المنفعة - وهي المصلحة - والمفسدة؛ وهذا يوجد عقلاً ولا يوجد واقعاً؛ أي: تحتمله القسمة العقليَّةُ لكِنْ لا وجود لشيء خالٍ من المصلحة والمفسدة، فلا توجد فيه مصلحة ولا مفسدة. 

والقسم الرابع: ما فيه مصلحة وفيـه مفسدة، فهو لمـا رجـح مـنـهـا؛ فإن رجحـت المصلحة فالأصل فيه الإباحة، وإن رجحتِ المفسدة فالأصل فيه الحظر، وإن تساوتا فالأصل فيه: الحظر؛ لأنَّ دَفْع المفاسد مُقَدَّم على جَلْب المصالح. وهذا التحرير هو اختيار شيخ شيوخنا محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي رحمه الله.

سادساً: فك الاشتباه الخلط بين الإفتاء والتدريس:

ومن الغلط الذي شاع اليوم الخلط بين مقام الإفتاء ومقام التدريس؛ فصار من النَّاس مَنْ يجعل كل تدريسه إفتاء بأن يجتهد في كل مسألة، وصار يُقابلهم اليومَ مَنْ يجعل كلَّ الإفتاء تدريساً، بأن لا يقبل الخروج عن مذهب من المذاهب المتبوعة، وهذا غلط على المذاهب كلها، والفقهاء كلهم؛ لأنَّ التَّدريس مقام للمجتهد والمقلد، وأما الإفتاء فمقام للمجتهد فقط. 

فالمفتي يُطلب منه أن يجتهد بما ينتهي إليه عِلمه، وأمَّا المُدَرِّس فلا يُطلب منه ذَلِكَ، فإذا دَرس مذهبًا متبوعا بمسائله المذكورة كان هَذَا سائعًا، وأما في مقام الإفتاء فلا بد له أن يبذل وسعه قدر طاقته، وقد يعجز فيُقَلِّد هَذَا المذهب. فللعالم أن يُقلد كما سيأتي . 

لَكِنْ مَنْ كانت له قدرةٌ على الاجتهاد فأفتى فَإِنَّه حينئذٍ لا يُعاب. فمن يقول اليوم مثلا: (لا أترك مذهب أبي حنيفة، أو مذهب مالك، أو مذهب الشافعي، أو مذهب أحمد؛ لأجل إفتاء مفتي من المتأخرين) = فقد أخطأ؛ لأنَّ هَذَا المفتي مجتهد، وأنتَ مُقَلِّدٌ، فَتَقَلّد مفتيك.

وأما في التدريس فَلَك وله أن يلتزم بتدريس المذهب المتبوع وفق ما هو عليه.

وإذا رأيت جادة أهل العلم من فقهاء المذاهب كلّهم وجدتَ أَنَّهُم إِذا دَرَّسوا الفقه أو صنفوا فيه جعلوه على المذهب، وإذا أفتوا كانتْ لهم أقوال يخالفون فيها المذهبَ؛ هَذَا فِي كل مذهب. ومنه المذهب المشهور في هَذَا البلد؛ وهو مذهب الحنابلة. ومن الأخبار المنقولة عن البهوتي رَحِمَهُ اللهُ أنَّه أفتى مرة في مسألة، فعـابـه بعـض أصحابه الآخذين عنه بأنه خالف المذهب، فشدَّد له البهوتي الكلام، وقال كلمة شديدة، ثم أخبره أنَّه إذا دَرَّس المذهب أخبر بعلم أهله، وإذا أفتى أخبر بما يراه حقًّا بينه وبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

وفي إجازة الحجاوي لبعض أصحابه الآخذين عنه؛ أنَّه أمره عند الإفتاء بالرجوع إلى قولي الإمامين المجتهدين المجدِ ابن تيميَّة وأبي محمد ابن قدامة، وقولهما يكون تارةً تُخالِفًا للمذهب، فهذا مقام أخطأ فيه النَّاس اليوم، فخلطوا بين مقام الإفتاء ومقام التدريس. وَهَذِهِ حالَ النَّاس في الأزمنة المتأخرة في العلم وغيره؛ أنَّه يحدث قول فيه خطأ، مقابل قول فيه خطأ.

والجادة السالمة هي بين الطَّريقين، فالحسنة بين سينتين، والهدى بين ضلالتين.

سابعاً: مسألة تصويب المجتهدين:

قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدِ فِي الفُرُوعِ مُصِيبٌ)، وتُسمَّى هَذِهِ المسألة: (تصويب المجتهدين). وتحرير القول فيها: أن تصويبهم له موردان:

أحدهما: الأجر. والآخر: الحكم.

فأما في الأجر: فكل مجتهد مصيب؛ فهو يصيب أجرًا، إما واحدًا وإِمَّا اثنين. 

وأما في الحكم: فالمصيب واحدٌ؛ فإما أن يكون الحكم الشَّرعِيُّ على هَذِهِ الصفة، وإِمَّا أن يكون الحكم الشرعي على هَذِهِ الصفة.

ثامناً: المراد بالسلف:

والمراد بالسلف -كما لا يخفى هم باصطلاحنا: هم أهل القرون الخيرية، ونخص منهم علماؤهم، لأنهم أهل الكلمة، وموضع القدوة، وينفى علماء الضلالة، لأنهم موضع للذم لا للقدوة، ولهذا نقول: «السلف الصالح» وقل استعمال قيد «الصالح» لضرورة العلم به. 

أما القرن، فقد قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: «والقرنُ: الأمة».

قال ابن فارس: الْقَرْنُ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْجَمْعُ قُرُونٌ. قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا». وقال ابن منظور: والقَرْنُ الأُمَّةُ تأْتي بَعْدَ الأُمَّةِ، قِيلَ: مُدَّتُه عَشْرُ سِنِينَ، وَقِيلَ: عِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: سِتُّونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ وَهُوَ مِقْدَارُ التَّوَسُطِ فِي أَعمارٍ أَهْلِ الزَّمَانِ، وَفِي النَّهَايَةِ: أَهل كُلَّ زَمَانٍ، مأْخوذ مِنَ الاقْتِران، فكأَنه الْمِقْدَارُ الَّذِي يَقْتَرِنُ فِيهِ أهلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ في أعمارهم وأحوالهم

قلت: فليس المراد بالقرن مئة سنة، لكن العجم استخدموا كلمة Saeculum - وهي المرادف اللاتيني لكلمة قرن- فاستخدموها للمئة سنة في التقاويم، فعربها العرب على مئة سنة، فليس هذا المعنى الذي أراده لرسول الله الله فأهل القرن هم الطبقة، أي: الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين، والآخذين عن تبع التابعين.

الشافعي رحمه الله واضع علم الأصول

[عن كتاب المذهب الشافعي: دراسة عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح فيه]

تأليف محمد طارق هشام مغربية

جاء الشافعي رحمه الله تعالى وقد انقسم أهل العلم إلى أهل حديث لا يقيمون لغير الأثر وزناً، وربما كان عندهم الحديث لكنهم لا يعرفون طريقة انتزاع الحكم منه.

والفريق الثاني هم أهل الرأي، وقد غلبت هذه التسمية على علماء العراق وأهمهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه.

وكان الشافعي بحكم نشأته بميل إلى أهل الحديث، فشيخه مالك إمام دار الهجرة، فلما حُمِل إلى العراق اجتمع بالإمام محمد بن الحسن رحمه الله تلميذ أبي حنيفة رحمه الله وحامل علمه.

ثم قدم قدمة أخرى جلس فيها طالباً مناظراً، ينهل من علم الإمام محمد طالباً مستفيداً، ثم مناظراً محاججاً كما مرَّ مما صقل موهبته الفقهية. 

يقول الأستاذ أبو الوفا الغنيمي في كتابه دراسات في الفلسفة الإسلامية»: «أما الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فقد درس المذهبين، أعني مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة ولاحظ ما فيهما من نقص وبدا له أن يكمل هذا النقص، فاتجه في الفقه اتجاهاً جديداً، هو الاتجاه إلى دراسة الأصول، وإقامة الفقه على قواعد منهجية ثابتة من ضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، فكان ذا شخصية مستقلة تماماً، وكان له أثر كبير في توجيه الدراسات الفقهية والأصولية».

والنقص الذي عناه الأستاذ أبو الوفا الغنيمي هو شروع مالك وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى في إملاء فقههما وفتاويهما فيما يعرض من حوادث، أو ما يفرضونه من مسائل دون تدوین ما اعتمدوا عليه في اجتهادهم من قواعد وأصول وإن كانت هذه القواعد نصب أعينهم في الاجتهاد والإفتاء. فجاء الشافعي رحمه الله تعالى فدون الأصول التي يراها في اجتهاده، وهنا عند العلماء: سمي «واضع علم الأصول».

وأول مؤلفاته الأصولية كتاب «الرسالة»، وأصله رسالة وجهها إليه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى إمام أهل الحديث بما وراء النهر، والشافعي يسميه الكتاب» أو «كتابي».

ويحدثنا الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في «الطبقات الكبرى»: أن الشافعي رحمه الله تعالى أرسل الحارث بن سريج النقال أبا عمرو الخوارزمي البغدادي (ت ٢٣٦ هـ) برد الجواب للإمام عبد الرحمن بن مهدي. قال الحارث : فلما حملت الرسالة إلى عبد الرحمن بن مهدي جعل يتعجب، ويقول: لو كان أقل لنفهم، لو كان أقل لنفهم.

هذه الرسالة هي الرسالة القديمة، ثم عاد الشافعي إليها بالبحث التنقيح وصاغها صوغاً جديداً.

وكانت الرسالتان بين يدي أهل العلم، ينقلون منهما ويعرفون اجتهادات الشافعي بين القديم والجديد.

فالشافعي رحمه الله أول من دون في الأصول، بمعنى أنه جعله علماً مستقلاً يفرد بالتصنيف.

قال العلامة ابن خلدون رحمه الله في «مقدمته» عند الكلام عن علم الأصول:

«وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه، أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس، ثم كتب فقهاء الحنفية فيه، وحققوا تلك القواعد ووسعوا القول فيها».

وقال العلامة الفخر الرازي رحمه الله مبيناً معنى أسبقية الشافعي رحمه الله تعالى في تدوين أصول الفقه: «واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وذلك أن الناس كانوا قبل أرسطاطاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن ما كان عندهم قانون ملخص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي قلما أفلح، فلما رأى أرسطاطاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج لهم علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة الحدود والبراهين.

وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعاراً، وكان اعتمادهم على مجرد الطبع، فاستخرج الخليل علم العروض، فكان ذلك قانوناً كلياً في معرفة مصالح الشعر ومفاسده. فكذلك هنا، الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة أدلة مراتب الشرع». 

وقال الإمام الزركشي في أول من صنف في الأصول: الشافعي هو أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه كتاب «الرسالة»، و«كتاب أحكام القرآن»، و«اختلاف الحديث»، و«إبطال الاستحسان» وكتاب «جماع العلم وكتاب «القياس»، الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثم تبعه المصنفون في الأصول. 

قال الإمام أحمد بن حنبل: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي.

وقد قال الجويني في شرح «الرسالة»: لم يسبق الشافعي في تصنيف الأصول ومعرفتها، وقد حكي عن ابن عباس تخصيص العموم، وعن بعضهم القول بالمفهوم، ومن بعدهم لم يقل في الأصول شيئاً ولم يكن له فيه قدم، فإنا رأينا كتب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم فما رأيناهم صنفوا فيه. وقد نسب أئمة الحنفية والإمامية الكلام في مسائل الأصول للإمام جعفر الصادق له، وأبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى. لكن هذا لا ينافي أسبقية الشافعي في التصنيف، فهؤلاء الأئمة الكرام تكلموا في مسائل الأصول في ثنايا دروسهم واستدلالاتهم، ونقلت عنهم قواعد فيه، لكنهم لم يدونوا ما قالوه في كتاب مكتمل الفصول، وهذا ما ينسب للشافعي رحمه الله تعالى.

فالشافعي رحمه الله تعالى حاول أن يجمع أصول الاستنباط الفقهي وقواعدها علماً ممتازاً، وأن يجعل الفقه تطبيقاً لقواعد هذا العلم، وبهذا يمتاز مذهب الشافعي من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز. 

بعد هذا التمهيد في أسبقية الشافعي رحمه الله في تدوين أصول الفقه، أعرض لأهم آرائه في أصول الفقه اعتماداً على كتبه الأصولية، وعلى الدراسات التي ألفت حولها.

ثم نذكر بعض سماته الاجتهادية ومصطلحاته الخاصة والله الموفق.

أصول الفقه عند الشافعي وسمات منهجه الاجتهادي

١-کتاب الله عند الشافعي:

يعتبر الشافعي رحمه الله الكتاب والسنة مرتبة واحدة في العلم في الشريعة، بل يعتبرها المصدر الوحيد لهذه الشريعة فكل مصادر الشرع راجعة إليهما. وكلاهما من الله تعالى، إذ ما كان رسول الله لا ينطق عن الهوى، ولأن السنة علم الأخذ بها من كتاب الله، فهي به ملحقة.

فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن الرسول ﷺ في سنته بفرض الله طاعة الرسول على خلقه، ومن قبل عن رسول الله ﷺ فعن الله قبل.

ولكن ينبغي التنبيه أن الشافعي يقصد السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ فقال:

المرتبة الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت.

كما أن جعل العلم بالسنة في مرتبة الكتاب عند استنباط الأحكام في الفروع، ليس معناه أنها كلها في منزلته في إثبات العقائد، فمنكر القرآن كافر لا محالة، أما منكر حديث الآحاد فلا يخرج عن الإسلام، ولكننا نعتمدها في العمل.

وقد جاء هذا المعنى في «كتاب جماع العلم» على لسان مناظر الشافعي، ولم يرده الشافعي، مع التنبيه أن جعل السنة بمنزلة القرآن لا ينافي كون القرآن أصل الدين، وعموده وحجته وأن السنة فرع له.

وإنما كانت في مرتبته في المستنبط للأحكام الفرعية، لأنها تعاون الكتاب في تبيين ما اشتمل عليه من أحكام، فإن عارضت السنة الأحادية نص القرآن أخذ به دونها. 

وتطرق الشافعي رحمه الله تعالى لمسألة عربية ألفاظ القرآن، فساند هذا القول بقوة.

وقد يستغرب الباحث في عصرنا هذا الجدال القوي من الشافعي، لكنه إذا اطلع على ما ماج به عصره من تيارات وأهواء زال استغرابه. 

وساق الشافعي كدأبه حججاً مقنعة مدللاً على عربية الكتاب الحكيم. 

والشافعي لا يجعل بحثه نظرياً بحتاً، بل يفرغ عليه وجوب تعلم العربية على كل مسلم، ومن باب أولى لمن أراد الاستنباط والاجتهاد في دين الله تعالى. فالشافعي إذا جعل للبحث ثمرة وفائدة كبرى تحتم على المجتهد ومن دونه من المسلمين تعلم هذه اللغة الشريفة.

*  العام في نظر الشافعي

العام: لفظ يستغرق هو جميع ما يصلح له بوضع واحد.

والشافعي رحمه الله يقسم العام الوارد في القرآن إلى أقسام ثلاثة: 

الأول: عام ظاهر يراد به عام ظاهر. ويمثل له بقول تعالى: {اللَّهُ خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر: ٦٢). ويقول رحمه الله: فكل شيء من سماء وأرض، وذوي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه، وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها. 

والثاني: العام الذي يراد به العام، ويدخله الخصوص.

وذلك كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} (التوبة : ١٢٠). فالآية صريحة في خطاب أهل المدينة جميعاً، لكن القادرين منهم أولى بالخطاب وأحق باللوم وإن لم يسقط الخطاب عن الباقين. 

القسم الثالث: العام الذي يراد به الخاص، ومعنى العموم غير مقصود البتة. 

وهذا التخصيص إما أن يظهر من سياق الآية، أو من معرفة ملابسات نزولها، أو أن يعرف بالسنة.

فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَأَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَنَا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (النساء: ٢١). فسياق الآية يظهر أن المراد من الناس بعضهم لا كلهم. 

وهكذا نجد الشافعي رحمه الله يقول في بيان العام في كل موضع على السياق والقرائن المحتفة بالنص، فإن لم يكن قرينة أو سياق لجأنا إلى أصل الوضع اللغوي لنعلم المقصود في كل آية. والشافعي رحمه أن يعمل بالعام ولا يتوقف في العمل، ما لم يجد ما يخصصه أو يدل على عمومه، فإذا وجد مخصصاً اعتبر خاصاً بسبب دلیل التخصيص.

ويرى الشافعي جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد. فالله تعالى قال في كتابه العزيز: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور). فالآية عامة في كل زمان لكن السنة بينت أن حكم الزاني المحصن الرجم، وخبر الرحم خبر آحاد.

منزلة السنة من القرآن

القرآن كلام الله تعالى المنزل على محمد ﷺ وهو أساس الشريعة ولب لبابها، وندع الشافعي يعرض لنا هذه الحقيقة ببيانه الجزل، فيقول رحمه الله: كل ما أنزل الله في كتابه جل ثناؤه رحمة وحجة، علمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله ولا يجهل من علمه والناس في العلم طبقات، موضعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به؛ فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك الـخـيـر إلا بعونه؛ فإن من أدرك علم أحكام الله في كتـابـه نـصـاً لا استدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علم، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب ونورت في قلبه الحكمة واستوجب في الدين موضع الإقامة».

ينقسم بيان السنة للقرآن عند الشافعي إلى قسمين:

القسم الأول: بيان هو نص فيه، لا يحتاج إلى السنة: إما في تفصيل مجمله أو تعيين معنى يحتمله أو إرادة الخاص في بعض عمومه.

فمن الأحكام التي بينت في القرآن بياناً كاملاً، لا يحتاج معه لسواه: اللعان وكيف يكون.

يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّمْ شُهَدَاهُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَدَهُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَدَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّدِقِينَ وَالْخَمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكَذِبِينَ وَبَدْرَوا عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَربَعَ شَهَدَتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَذِبِينَ الله وَالْخَمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّدِقِينَ} (النور: ٦-٩).

فالآية بينت الحكم، فلم يعد بحاجة إلى بيان، وجاءت السنة فزادت حكماً آخر هو التفريق. ومن هنا يقول الشافعي رحمه الله: «في كتاب الله غاية الكفاية وعدده، ثم حكى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفرقة بينهما كما وصفت». 

والقسم الثاني: ما لم يكن القرآن فيه نصاً، بل يحتاج في فهمة إلى السنة. 

فمن ذلك أن يحتمل السياق احتمالين؛ فتعين السنة أحدهما .. ومثل لذلك بقول الله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَةٌ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا} (البقرة: ٢٣٠). 

فالآية محتملة أن يكون التراجع بمجرد العقد ثم الطلاق، أو بالدخول التام. فبين رسول الله ﷺ لما أتت امرأة رفاعة القرظي إليه، وكان طلقها فبتّ طلاقها، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاءت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إني كنت عند رفاعة وطلقني ثلاث تطليقات، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وإنه -والله -ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، فتبسم رسول الله ﷺ فقال: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا والله حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».

يعني: يصيبك، فتعين أن الإحلال لا يكون إلا بنكاح حصل فيه دخول. 

ومن هذا النوع أن يكون القرآن مجملاً فيذكر صلى الله عليه وسلم المفصل، وذلك كفرض الصلاة والزكاة وردت مجملة في القرآن فبينها رسول الله ﷺ في السنة. وأيضاً بيان الخصوص في العام.

٢-السنة:

الشافعي -رحمه الله -ناصر السنة ومذهبه مذهب أهل الحديث. والرسالة ـ كما مر ـ مؤلفة أصلاً في بيان السنة عامها وخاصها، وناسخها ومنسوخها رداً على سؤال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى. 

فالشافعي رحمه الله يبدأ عرضه للسنة ببيان حجيتها رداً على من أنكرها من أهل الأهواء والبدع. فنراه في كتابه (جماع العلم) يحكي الإجماع على اتباع السنة.

يقول رحمه الله تعالى: «لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله والتسليم لحكمه بأن الله عز وجل، لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه».

ثم تراه في «الرسالة» يورد الأدلة من كتاب الله تعالى على وجوب اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما منزلة السنة من الكتاب فقد سبق أنه رحمه الله تعالى بيَّن أنها جاءت بياناً له، وتفصيلاً لأحكامه، وأكد على أن بيان النبي ﷺ للقرآن ليس من عند نفسه، بل هو وحي من الله عز وجل وضرب أمثلة كثيرة لبيان السنة للقرآن، ثم بين أنها لا يمكن أن تخالفه.

ومنكرو السنة عند الشافعي قسمان: 

قسم أنكرها بالكلية، وقد أطال الشافعي رحمه الله في سوق الحجج من الكتاب الكريم وأدلة العقل والبرهان، وإجماع جمهور المسلمين على الاحتجاج بالسنة.

ثم بدأ بذكر شروط الخبر المتواتر، فلا يؤثر كون رواته من بلد واحد، كما لا يشترط فيه عدد معين إذا حصل العلم اليقيني به. ثم ثنى رحمه الله بالرد على من ينكر الاحتجاج بأخبار الآحاد؛ ويسميها رحمه الله: أخبار الخاصة، لتطرق الشك إليها باعتبارها ظنية، احتمال التدليس والكذب من الرواة. 

فيقول رحمه الله في «الرسالة»: فقال لي قائل: احدد لي أقل ما تقوم به الحجة على أهل العلم، يثبت عليهم خبر الخاصة. فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى إليه دونه ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً منها:

أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً لما يحيل معاني الحديث من اللفظ، أو يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث، حافظاً إن حدث به من حفظه، حافظاً لكتابه إن حدث به من كتابه إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم برياً من أن يكون مدلساً؛ يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي الله بما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي أو إلى من انتهى به إليه دونه لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت».

وطفق رحمه الله تعالى يبين الفرق بين الرواية والشهادة، ويأتي بالحجج على كلامه.

ثم يأتي بفصل طويل في الحجة في تثبيت خبر الواحد». 

ويفصل رحمه الله -في أحوال السنة بالنسبة للقرآن، فهي شارحة له، مبينة لمجمله، مخصصة لعامه، أو تنشئ حكماً جديداً لم يذكر في القرآن. فمن الأحكام التي لم ترد في الكتاب تحريم الحمر الأهلية، والعقل، وفكاك الأسير، وغير ذلك مما ذكره في «الرسالة». ويبين رحمه الله أحكام النسخ في السنة ووقوعه ويضرب عليه الأمثلة. ويقرر أن السنة لا تنسخها إلا سنة فالكتاب في رأيه لا ينسخ السنة، وإن خالفه من أتى بعده من أصوليي مذهبه وغيرهم.

٣-الإجماع:

يقرر الشافعي -رحمه الله -أن الإجماع دليل ثابت تؤخذ منه الأحكام، فهو في «الرسالة» و «جماع العلم» يؤكد على ذلك.

يقول رحمه الله لمناظره في حجية الإجماع: أما ما اجتمعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله ﷺ، فكما قالوا؛ إن شاء الله  وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكونوا قالوه حكاية عن رسول الله ﷺ واحتمل غيره فلا يجوز أن يعده له حكاية، لأنه لا يجوز أن يحكى إلا مسموعاً، ولا يجوز أن يحكي أحد شيئاً يتوهم يمكن فيه غير ما قال. فكنا نقول بما قالوا اتباعاً لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله ﷺ لا تعزب عن عامتهم، وقد تعزب عن بعضهم، ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله ﷺ، ولا على خطأ إن شاء الله.

ويذكر الأدلة على الإجماع ووجوب الأخذ به مما يشفي الغلة ويبين المراد.

ويقرر عليه رحمة الله تعالى وقوع الإجماع فعلياً، وذلك بإجماع الأمة على الفرائض.

لكن الشافعي رحمه الله تعالى لا يأخذ بالإجماع السكوتي، وهو أن يأخذ أحد أهل العلم بقوله ويشتهر عنه، ولا يعلم له مخالف، لأنه يشترط أن يقول كل عالم رأيه ويعلم عنه، ويعلم أن الاتفاق حاصل بينهم فيما ذهبوا إليه. 

ولذلك قال. رحمه الله في اختلاف الحديث: ومتى كانت عامة من أهل العلم في دهر بالبلدان على شيء، وعامة قلبهم، قيل يحفظ عن فلان وفلان كذا ولم نعلم لهم مخالفاً، ونأخذ به ولا نزعم أنه قول الناس كلهم، لأنا لا نعرف من قاله من الناس إلا من سمعنا منه أو عنه، وما وصف من هذا القول من سمعت من أهل العلم نصاً واستدلالاً. 

كما أنه لا يسلم ـ غالباً ـ لخصومه بدعاوى الإجماع التي يدعونها، ثم يضيق عليهم السبيل في إثباته، حتى يكاد يجعل إثباته متعذراً. فالشافعي رحمه الله لا يعتد بدعوى الإجماع عند عدم العلم بالمخالف، فهذا في نظره ليس من الإجماع في شيء. وهو مصرح في «اختلاف الحديث»: بأن الإجماع لم يُدع فيما سوى جمل الفرائض التي كلفتها العامة فهو وإن أثبته لكنه يضيق دائرته.

٤-القياس:

الشافعي رحمه الله تعالى أول من مهد القول في القياس، ووضح المراد منه، وذكر له الأدلة محتجاً ومثبتاً. 

فالشافعي أولاً وضح معنى الاجتهاد والقياس، فقال عليه رحمة الله: هما اسمان لمعنى واحد، وجماعهما كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهاد القياس.

ويظهر الشافعي -رحمه الله -أن القياس قابل للخطأ والصواب، لأنه اجتهاد. لأنه كما يقول: علم اجتهاد بقياس على طلب إصابة الحق، وذلك حق في الظاهر عند قايسه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله تعالى.

والقياس من وجهين:

أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. 

والثاني: أن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأولاها به، وأكثرها شبهاً فيه، وقد يختلف القايسون في هذا. فهو رحمه الله يثبت قياس الأولى والمساوي الذي اتفق عليه جمهور أهل العلم، ويثبت قياس الشبه، وإن كثر الكلام فيه بين مؤيد ومعارض.

هذه أهم آراء الشافعي رحمه الله تعالى في الأصول المجمع عليها، حاولت عرضها باختصار وإيجاز، ولا بد للطالب أن يقرأها في كتب الشافعي، فيتعلم أدب الحوار، وفصاحة اللسان، وفقاهة النفس، مع وجازة العبارة. وأثني بذكر موقف الشافعي رحمه الله الأدلة التبعية، ومعرفة بعض من سمات منهجه الاجتهادي، والله الموفق.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق