أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 9 أكتوبر 2021

نشأة بدعة الاحتفال بالمولد النَّبويّ بقلم: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنونة الشَّافعي

نشأة بدعة الاحتفال بالمولد النَّبويّ
((ورقة بحث في التاريخ..))

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنونة الشَّافعي

غزَّة -فلسطين


١) المشهور أن أوَّل من أحدث بدعة الاحتفال بالمولد النَّبويّ بالقاهرة (العبيديون)، كما ذكر ذلك المقريزي وغيره، وذلك في القرن الرابع للهجرة، وكان العبيديون قد ابتدعوا ستَّة موالد:
"المولد النَّبوي، ومولد الإمام علي، ومولد السَّيِّدة فاطمة الزهراء، ومولد الحسن والحسين، ومولد الخليفة الحاضر".

وبقيت هذه الموالد على رسومها وفنونها، إلى أن أبطلها الأمير الأفضل ابن أمير الجيوش، ثُمَّ أُعيدت في خلافة الحاكم بأمر الله سنة ٥٢٤هـ، بعد أن كاد النَّاسُ ينسونها..!.

٢) وقيل: إن أول من أقام المولد هو الملك المظفر (طغرل) أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني (ت ٦٣٠هـ)، صاحب إربل بالعراق، وذلك في القرن السابع الهجري، بمدينة "إربل"، وقيل غير ذلك.

على أن الجميع مُتفق أن إقامة الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفاً في صدر هذه الأمة، ولا عند سلفنا الصَّالح رضوان الله عليهم.

٣) ثُمَّ فشت هذه الموالد في شتَّى الأقطار، وكثُرَ قُصَّادها، وتفنَّنوا في تنميقها وإبرازها، وملئها بما تهوى الأنفس، حتَّى صارت كلمة "مولد"، رمزاً على الفوضى، والزياط والمساخر!.

٤) وقد وصف ابن العماد الحنبلي « في شذراته، ٥ / ١٣٨- ١٤٠» ما يصنعه سلطان إربل من التوسُّع في هذا الاحتفال، والمبالغة فيه؛ فقال: 

"وأما احتفاله بمولد النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به !. كان يعمله سَنَةً في الثامن من شهر ربيع الأول، وَسَنَةً في الثاني عشر؛ لأجل الاختلاف الذي فيه.

٥) فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل، والبقر، والغنم شيئاً كثيراً، يزيد على الوصف، و(زفّها بجميع ما عنده من الطّبول والمغاني والملاهي)، حتى يأتي بها إلى الميدان. ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور، ويطبخون الألوان المختلفة.

٦) فإذا كان ليلة المولد عمل السَّمَاع بعد أن يصلي المغرب في القلعة !.

ثم ينزل وبين يديه من الشموع الموكبية (المشتعلة) التي تحمل كل واحدة على بغل، ومن ورائها رجل يسندها.وهي مربوطة على ظهر البغل، فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخُلَعَ والبقج (المال والثياب)، 

٧) ويخلع على كل واحد من الفقهاء، والوعاظ، والقرّاء، والشعراء، ويدفع لكل واحدٍ نفقة وهدية وما يوصله إلى وطنه، وَيَعْمَل عِدَّة خِلَع لِلصُّوْفِيَة!. 

٨) وقال ابن شهبة في «تاريخ الإسلام» بعد كلام طويل وثناء جميل: قال جماعة من أهل إربل:  كانت نفقته على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى الخانقاه مائتي ألف دينار.

٩) وقال الذهبيُّ «في السِّيَر، ٢٢/ ٣٣٧»: 

كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتُنصب قبابٌ خشب له، ولأمرائه، وتُزيَّنُ، وفيها (جَوق المغاني واللَّعب!) وَجوقٌ من أرباب الخيال، ومن أصحاب الملاهي،
وينزل كُلَّ يوم العصر، (فيقفُ على قُبَّة ويتفرَّج!).

١٠) ويقول ابن خلِّكان: وتبطل معايش الناس في تلك المدة!، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم.

١١) وكان "مظفر الدين" ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، (ويقف على قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب!)، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد.

ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد..

وَقَدْ جَمَعَ لَهُ أبو الخطَّاب بْن دِحْيَة (كِتَاب المَوْلِد)، سمَّاه (التنوير في مولد السِّراج المُنير)، لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، فَأَعْطَاهُ لذلك أَلف دِيْنَار.

ويعتبر ابن دحية هذا أول من وضع مؤلفا في الموالد، وهو من أبناء القرن السابع الهجري، وتتابع العلماء من بعده على وضع المؤلفات في الموالد وقصصه، ومن ثم شرعوه في ثوب "الاستحسان".

وقد كان ابن دحية: عمر بن الحسن (ت ٦٣٣ ﮪ) كثير الوقيعة في العلماء والأئمة، فأعرض بعض معاصريه عن كلامه، وهذا يفسر سبب سكوت العلماء عن التصدي بحزم لابن دحية، مع ما كان يلقاه من دعم السلطان وتأييده؛ لأنه يسير على هواه..

١٢) ويقول المقريزي في «الخطط والآثار، ١/ ٤٩٠، وما بعدها»: 

"ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم، تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم"، قال: 

"وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعيادٌ ومواسم، وهي (رأس السنة)، ومواسم (أول العام)، 

و(يوم عاشوراء)، و(مولد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)، و(مولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، و(مولد الحسن والحسين)، و(مولد فاطمة الزهراء)، و(مولد الخليفة الحاضر)، و(ليلة أول رجب)، و(ليلة نصفه)، و(موسم ليلة رمضان)، و(غرة رمضان)، و(سماط رمضان)، و(ليلة الختم)، و(موسم عيد الفطر)، و(موسم عيد النحر)، و(عيد الغدير)، و(كسوة الشتاء)، و(كسوة الصيف)، و(موسم فتح الخليج)، و(يوم النوروز)، و(يوم الغطاس)، و(يوم الميلاد)، و(خميس العدس)، و(أيام الركوبات)".

١٣) وقال في خططه (١/ ٤٣٢): 

"وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة: النبوي، والعلوي، والفاطمي، والإمام الحاضر، وما يهُتمُّ به، وقَدِمَ العهدُ بها، حتَّى نَسِيَ الناسُ ذكرها، فأخذ الأستاذون يُجدِّدون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله، ويُردِّدون الحديث معها فيها، ويُحسِّنون له معارضة الوزير بسببها، وإعادتها، وإقامة الجواري والرسوم فيها، فأجاب إلى ذلك، وعمل ما ذكر..".

١٤) وهذا يدلُّ على أن العبيديين هم أول من أحدثوا هذه البدعة، ولم تُعرف إلا من جهتهم.

 والخلاصة: 

• أن التقرُّب إلى الله عز وجل، بإقامة هذه الموالد عبادةٌ لا أصل لها في الدين.. 

• وأن أول من أحدث بدعة الاحتفال بالمولد النبوي هم العبيديون، ثم أبطله الملك أفضل الدين، فأعاد إحياءه الملك المظفر بتزيين بعض من المنتفعين من الفقهاء والقضاة وأهل التجارة الذين يستفيدون من الخلع والهبات التي تعطى لهم في ذلك اليوم.

• وأن أول من ألف في المولد هو ابن دحية الذي كان سليط اللسان على الفقهاء، ارضاءا للملك المظفر، الذي خلع عليه الخلع، مع سكوت مطبق من الفقهاء الصالحين خشية من بطش السلطان، ووشاية الواشين، فلم ينقل خلاف ذلك إلا من جهة بعضهم.

• وأن من العصيان لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في الموالد اتخاذ قبور الصالحين محوراً لهذه الحشود، ومثابةً لهذه الأحفال، حتَّى ولو كانت مبنيَّة على القربات المحضة!.

• وقد كره الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلَّم أن يتخذ النَّاسُ قبره عيداً، يحتفلون عنده!.. فكيف بقبور وموالد غيره ممن نعرف، وممن لا نعرف؟!.. أضف إلى ذلك أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستورة؛ ففي ساحاتها الواسعة، ينتشر الرَّقصُ بلا خجل، ويختلط الرجال بالنِّساء في المأكل والمشرب والصحو والمنام، وكثيراً ما تقع جرائم الزنا واللُّواط.. كما ويُدخَّنُ الحشيش، وتُسمع الأغاني، والموسيقى الخليعة.. وتختفي روح الجَدِّ وتقدير الأمور، التي مكانها قلة الاكتراث، والإقبال على الدُّنيا، وتضطرب فيه أوقات الصلوات، وتتشتت الجماعات!..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق