المقام المحمود وجلوس النبيِّ صلى الله عليه وسلم على العرش
من كتاب السُّنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال (ت ٣١١ هـ)
تحقيق: د. عطية الزهراني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الجزء اللطيف، من كتاب "السنة" للإمام الخلال (ح: ٢٣٦ -٢٤٩)، فيه إثبات أن المقام المحمود، هو ما ورد عن مجاهد، في قول الله تعالى: {عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً}، قال: (يُقعده معه على العرش)…
وهو في الجملة أثرٌ مقطوعٌ عن مجاهد، ولا يصحُّ رفعه، ولا يجب اعتقاد هذا المعنى، لأنه من قسم الضعيف، ومن جوَّز الأخذ به اعتماداً منه على هذا الأثر، الذي أحسن أحواله أن يكون كالحديث المرسل؛ فيلزمه أن يأخذ بكل حديث مرسل حتى ولو كان يتضمن مخالفة للشريعة، مثل قصة الغرانيق، فقد وردت بأسانيد عدة مرسلة، وهي صحيحة إلى مرسليها من التابعين…
وأما عن رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في "المسألة"؛ فيقول في تعارض العقل والنقل" (٥/ ٣٣٨):
"وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في "إبطال التأويل" رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عياناً ليلة المعراج ونحوه.
وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود" انتهى.
ومن المعلوم أن المقام المحمود هو المقام الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، ولا شكَّ أن في تعيين هذا المقام خلافٌ بين العلماء، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المقام المحمود هو الشفاعة، كما جاءت بذلك الروايات الصحيحة، فقد روى البخاريُّ في "صحيحه" (٤٧١٨) عن ابن عمر: "أن الناس يصيرون يوم القيامة، جثاً كل أمةٍ تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله: المقام المحمود.
وأخرج الترمذي في "سننه" (٣١٣٧) عن أبي هريرة -رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، قال: الشفاعة"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الأرناؤوط في "تخريج المسند"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (٢/ ٣٦٤)، وقال الألباني: "حديث صحيح".
وجاء مثله عن ابن عباس، قال: "المقام المحمود هو مقام الشفاعة"، وإسناده ضعيف، فيه رشدين بن كريب.
وأخرج أحمد في "المسند" (٣/ ٤٥٦)، وابن أبي عاصم في السنة" (٢/ ٤٦٢)، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة، كنتُ أنا وأمتي على تلٍّ؛ فيكسوني ربي حُلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول، وذلك المقام المحمود".
وقد ذكر الطبري الذين ورد عنهم أن المقام المحمود هو الشفاعة، من الصحابة والتابعين، وهم: حذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وسليمان، وقتادة. (انظر تفسير الطبري: ١٥/ ١١٤، ١١٥).
القول الثاني: المقام المحمود: إعطاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة. قال الشوكاني في "فتح القدير" (٣/ ١٥٢): "إن هذا لا يُنافي القول الأول؛ إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة، وبيده لواء الحمد".
القول الثالث: المقام المحمود: هو أن الله تعالى يُجلس محمداً صلى الله عليه وسلم على كرسيه، وقد ذكره الطبري، عن عبد الله بن سلام، وفي إسناده سيف السدوسي "مجهول" (تفسير الطبري: ١٥/ ١٤٨)، وفي رواية عن مجاهد، والذهبي عن ابن عباس، وقال الذهبيُّ: إسناده ساقط، وهذا مشهور من قول مجاهد. (العلو للعلي الغفار، ص ٩٩، وابن بطة في الإبانة عن ابن عمر موقوفاً، ص ٢٥٠).
أما أثر ابن عمر، فقال: "يجلسني معه على السرير"؛ فقال الألباني في "الضعيفة": باطل.
وهذا الأخير ذهب إليه الإمام الخلال صاحب هذا الكتاب، وذكره عن عددٍ من علماء عصره، الذين اعتبروا من ردَّ هذا القول أو طعن فيه، فهو كافرٌ جهميٌّ، وأنه ردَّ على الله عز وجل فضله، وكذَّب بفضيلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنه حدَّث به العلماء منذ ستين ومائة سنة، وأنه لم ينكره أحدٌ منهم، بل أثبتوه.
ومن هؤلاء:
محمد بن أحمد بن واصل، وأبو داود السجستاني، وأبو بكر بن أبي طالب، وأحمد بن أصرم المزني، وأبو بكر بن حماد المقري، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الدقيقي، وعباس الدوري، وإسحاق بن راهويه، وعبد الوهاب الوراق، وإبراهيم الأصبهاني، وحمدان بن علي، وإبراهيم الحربي، وهارون بن معروف، ومحمد بن إسماعيل السُّلمي، ومحمد بن مصعب العابد، وأبو بكر بن سلم، وعلي بن داود القنطري، وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي.
ومعلومٌ أن هؤلاء الأئمة، إنما جعلوا إنكار ذلك قولاً للجهمية، لأن الجهمية أنكروا أن يكون الله مستوٍ على عرشه، ومعلومٌ أن الجهة بين أثر مجاهد ومسألة الاستواء منفكة، فلا يلزم من نفي أثر مجاهد التزام قول الجهمية.
ولا شك أن قول مجاهد مخالفٌ لما هو أصحُّ منه في تفسير المقام المحمود، وقد ذكر الذهبيُّ عن الإمام أحمد عند ترجمة "محمد بن مصعب العابد" أن قعود النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يثبت فيه نصٌّ؛ حيث قال: "ذكر الإمام أحمد: ابن مصعب، فقال: كتبتُ عنه، وأي رجلٍ هو"، ثم قال الذهبيُّ: "فأما قضية قعود نبينا على العرش فلم يثبت في ذلك نص بل في الباب حديث واهٍ" (العلو، ص ١٢٤).
والمؤلف هنا لم يكتفٍ بذكر الآثار -مع ضعف طرقها -بل احتجَّ لإثبات ذلك بالمنامات، وأن أصحابها رأوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، في المنام، وأخبرهم أن الله يقعده على العرش.
ومعلومٌ أن رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ، ولكنه لا يثبت بالرؤيا المنامية حكم شرعي.
وقد جاء عن ابن عبد البر، أنه قال: "ومجاهدٌ وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما: هذا، والثاني: في تأويل: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة}، قال: معناه: تنتظر الثواب، وليس من النظر" (التذكرة، ص ٣٠٠، وفتح القدير ٣/ ٢٥٢).
وقال الشوكاني: "وعلى كل حالٍ؛ فهذا القول غير مُنافٍ للقول الأول، لإمكان أن يُقعده الله هذا المقعد، ويشفع تلك الشفاعة" (فتح القدير: ٣/ ٢٥٢).
وقال الطبريُّ: "وأولى القولين بالصواب، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، وسئل عنها، فقال: " هي الشفاعة".
وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل الآية، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمداً صلى الله عليه وسلم -قولٌ غير مدفوعٍ صحته لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك أنه لا خبر يحيل ذلك (تفسير الطبري، ١٥/ ١٤٧).
والراجح الذي يجب اعتقاده: أن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى.
ذكر طرق أثر عبد الله بن سلام: «إن محمدا يوم القيامة بين يدي الرب عز وجل، على كرسي الرب تبارك وتعالى»!
قال أبو بكر بن الخلال: أخبرنا أحمد بن أصرم المزني، قال: ثنا عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا يحيى بن كثير العنبري، قال: ثنا مسلم بن جعفر وكان ثقة، عن الجريري، عن سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام، به.
قال: وأخبرنا أبو داود السجستاني، وأبو بكر بن صدقة، كلاهما، قال: ثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي، قال: ثنا يحيى بن كثير، به.
وعبد الله بن سلام سنده ضعيف، لجهالة سيف السدوسي، وهو في عداد المجهولين، وقال البخاري: ولا يُعرف لسيفٍ سماعٌ عن ابن سلام. (ت الكبير) 4/ 2317.
ذكر طرق أثر مجاهد: المقام المحمود: «يجلسه على العرش»!!
وقال الذهبيُّ في "العلو" بإسناده عن مجاهد: "يُجلسه على العرش، أو يُقعده على العرش"؛ لهذا القول -أي كلام مجاهد -طُرقٌ خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره ، وعمل فيه المروذي مصنفاً.
وعمدته عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد:
١/ قال أبو بكر الخلال: ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت حديث ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، من أبي معمر، عن أخيه.
(ولم يسمعها منه الإمام أحمد، وهذا يدل على أن الإمام أحمد لم يرو هذا الحديث ولم يصححه، وقال الذهبيُّ: "أما قضية قعود نبينا على العرش، فلم يثبت في ذلك نصٌّ، بل في الباب حديثٌ واهٍ" العلو، ص ١٢٤، وذكر الخلال عن عدة موافقة أحمد على هذا الخبر، وليس نفيه، وأكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن أصحاب أحمد، معتمداً ما ذكره الخلال)
٢/ قال: وأخبرنا أبو داود السجستاني، قال: ثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: ثنا محمد بن فضيل، به.
٣/ وقال: أخبرنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، قال: ثنا علي بن الحسن بن سليمان وثنا عثمان عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، كلاهما، قالا: ثنا ابن فضيل، به.
٤/ وقال: أخبرني محمد بن أحمد بن واصل المقرئ ويحيى بن أبي طالب، قالا: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، به.
٥/ قال: وأخبرني أحمد بن أصرم، قال: ثنا العلاء بن عمرو، قال: ثنا ابن فضيل، به.
وهذا الأثر إسناده ضعيف؛ فهو مرويٌّ عن ليث وعطاء بن السائب وأبي يحيى القتات، وجابر بن يزيد، العلو للعلي الغفار (ص ١٢٥)، وقال الألباني: فالأولان مختلطان، والآخران ضعيفان، بل الأهير متروكٌ متهم، انظر مختصر العلو للعلي الغفار (ص ١٧)؛ فكيف يتهم من ردَّ ما لم يصح مخرجه بالزندقة والكفر؟!!
وجاء من طريق سلمة الأحمر، عن أشعث بن طليق، عن ابن مسعود!
قال الذهبيُّ في "العلو": "وهذا حديثٌ منكر، لا يُفرح به، وسلمة هذا متروك الحديث، وأشعث لم يلحق ابن مسعود".
وجاء من طريق عمر بن مدرك الرازي، عن مكي بن إبراهيم، عن جُويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس!!
قال الذهبي في "العلو" إسناده متروك، وفيه جُويبر، قال: متكلِّمٌ، أي من أهل الكلام، وقال أيضاً: اللام في العرش ليست للمعهود بل للجنس، قلتُ "الذهبي": هذا مشهور قول مجاهد، ويُرورى مرفوعاً، وهو باطل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق