مكارم الأخلاق
لأبي بكر عبد الله بن محمد ابن أبي الدُّنيا
(208 -281 هـ)
تحقيق:
مجدي إبراهيم السيد
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ إن الأخلاق الفاضلة مطلبٌ إسلاميٌّ شريف، وتمثُّلها بالقول والفعل مقصدٌ شرعيٌّ مَنيف، وقد جاء الإسلام بمبادئ سماوية رفيعة تُربي الإنسان على الارتقاء والسمو بأخلاقه؛ وتتجلى هذه التعاليم بوضوح في المعاملات كالبيع والشراء والعقود، كما أنَّه ثمرةٌ تنضج بكثرة العبادة لله، فالخلق: هو السَّجية والطبع والدين الذي يكون عليه الإنسان.
وإذا أردنا المفاضلة بين الأخلاق الكريمة، سنجد أن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وأعقل الناس أذكرهم للعاقبة والمآل، وأقوى الناس أكثرهم توكلاً على الله عز وجل، وأغنى الناس من كانت ثقته بما في يد الله أعظم من ثقته بما في بيده، وأحمد الناس أطوعهم لله، وأرفع الناس قدراً أصبرهم، وأفضل الناس أحاسنهم أخلاقاً.
وفي المقابل نجد أن أسوأ الناس حالاً من يُضيع حسناته في ذكر مساوئ غيره، ومن يتبع السيئة السيئة، ويُكثر الوقيعة في إخوانه وجيرانه.
ولا شكَّ أن الخلق الحسن زينةٌ كاملة، وحِليةٌ برَّاقة تعكس صفاء العبد ونقائه، وليس من خُلق كريم، ولا فعلٍ جميل إلا وقد وصله الله عز وجل بالدين، ولا خُلق قبيح وسيء إلا ونهى الله عز وجل عنه، إجمالاً وتفصيلاً، ولا شك أن المكارم موصولةٌ بالمكاره، ومن أراد الكرامة صبر على المكروه.
فالأخلاق الفاضلة هي الأساس العظيم الذي بُني عليه الدين، من الشجاعة والعفة والمروءة، وصلة الرحم، والفروسية، وآداب الصُّحبة، وهي القاعدة المكينة لتقدم الشعوب، وازدهار الأمم.
وقد اهتم الإسلام بالأخلاق الكريمة ودعا إلى تربية النفوس عليها، حيث مدح الله رسوله صلى االله عليه وسلم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4). وقال انبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتم صالح الأخلاق) (رواه البخاري) ، وقال رسول الله صلى االله عليه وسلم: (إن من أحيكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) (رواه الترمذي).
وهي عاملٌ مهم في درء الفتن وحماية الصف من التهتُّك والتشقُّق، لأنها تساهم في تماسك المجتمع وسيادة روح الأخوة والمحبة والتعاون على الخير والتقوى.
كذلك فإن الأخلاق مصدرٌ من مصادر فلاح العبد ونجاحه في الدُّنيا والآخرة؛ حيث قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 9، 10)، والخلق الحسن يتضمن: السماحة والصبر والعفو وإقالة العثرات واجتناب الظنون السيئة، وعدم خداع أو إيذاء الآخرين.
وكما قال الشَّاعرُ:
أحُبُّ مكارم الأخلاق جَهدي … وأكره أن أعيبَ وأن أُعابا
وأُعرض عن سباب الناس جَهدي … وشرُّ الناس من بحث السِّبابا
كذلك فإن الأخلاق الكريمة سبب من أسباب نيل المسلم الدرجات العالية في الجنة؛ يقول ربُّ العزة سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 133، 134)؛ فعلى العاقل أن يغتنم الفرص في تمثُّل هذه الأخلاق الكريمة التي يُحبُّها الله ويرضاها، قبل انقضاء المدة، وحلول الأجل، وليحذر أن يخرج العبد من هذه الدار من غير زادٍ من الأخلاق الكريمة.
وقد جاء الشرع الحنيف بالأخلاق الفاضلة لما لها من أهمية عظيمة في حياة المسلم، ودورها المؤثر على حياة الفرد والمجتمع، وكان السلف يقولون: "ليتَّقِ الرجل دناءة الأخلاق كما يتَّقي الحرام، فإن الكرم من الدين".
وقد عرَّف المُربُّون الأخلاق بأنها: "هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الإرادية الاختيارية سواءٌ كانت: حسنة وسيئة وجميلة وقبيحة، وهي قابلة بطبعها لتأثير التربية الحسنة والسيئة فيها" .
وفي هذه الصفحات المباركة نقرأ جملةً من الأحاديث العظيمة، والآثار المباركة في باب الأخلاق والتي بلغت (488) خبراً سواءٌ كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً، أو من قصص السيرة وأخبار التابعين، عن الجود والإحسان، وبذل المعروف، وحسن الخليقة، ولين الكلام، وخفض الجناح، وحفظ الأمانة، وإكرام الضيف، والصدقة، وصلة الأرحام، والحلم مع الناس، والرفق في المعاملة، إلى غير ذلك من الخصال الطيبة الحسنة.
أما عن أهمية الأخلاق:
فالأخلاق في الإسلام لها أهمية بالغة في تشكيل الشخصية السويَّة في نفسها، والفاعلة في المجتمع، وتُسهم الأخلاق كذلك- في بناء أنماط السلوك الصحيح، وإشاعة العلاقات الاجتماعية القويمة، ولذلك ينبغي على المربين غرس الأخلاق الحميدة والفاضلة في نفوس النشء، ليشبوا على هذا الخير.
كذلك فإن لهذه الأخلاق أهميةٌ بالغةٌ في التغيير الجذري لسلوك الإنسان ونظرته إلى الكون والخلق والحياة، فإذا ما صُبغ بالأخلاق الصالحة، فإن عمله سيكون صالحاً؛ يُرجى منه الخير في الدنيا والآخرة، ومن ثمَّ ستصبح الأخلاق لديه ميزاناً وأساساً يزن به كل شيء من حوله.
ومن الطبيعي أن الاقتصار على معرفة الأخلاق وموازينها دون التطبيق والامتثال لا يكفي في حركة الإصلاح المجتمعية، ولن يُفيد شيئاً في عمارة الكون؛ إذ إن المعرفة وحدها غير مجدية مالم يصاحبها تطبيق لها لتعكس آثارها وتظهر معانيها على الفرد والمجتمع.
وخلاصة هذا الكتاب:
1. أن مكارم الأخلاق عشر، وهي:
الصدق، والوفاء، والجود، والشجاعة، وحسن العشرة، ودوام الألفة، وصنائع المعروف، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجار، ورأسُهُنَّ: الحياء.
2. ومساوئ الأخلاق عشرٌ، وهي:
الجبن، والبخل، والغضب، والوقيعة، والخيانة، والغدر، والتجسس، والحقد، والحسد، وأعظمُهُنَّ: الكذب.