الحسين بن منصور الحلاج (شهيد الصوفية)
طه عبد الباقي سرور
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: أن المأساة الحقيقية هي أن يأتي الكاتب بشخصية لا قيمة لها في التاريخ، وينسج حولها أساطير فاتنة، محاولاً تزييف الحقائق، والتهوين من أفكار رجلٍ، حاول الانقلاب على الخلافة السُّنية، مع ما يحمله ويبثه من الأفكار الإلحادية، وترك المئات بل الآلاف من مآسي المسلمين الفردية والجماعية، في بلاد المشرق والمغرب، وأسوأ من ذلك تصوير الخلافة العباسية برمتها -وهي في أوج مجدها- بمنظر المضطهد للحريات، وقامع الأفكار، وهذا الأمر غير صحيح غالباً.
ثم تصوير العباسيين ألعوبة في يد الحنابلة وحدهم، مع تغييب تام لأرباب المذاهب الأخرى، وكأن الأمر لا يتعلق بهم، فإذا كان الأمر كذلك فلم يفتى علماء ذلك العصر بكفر الحلاج وقتله، ليلقى مصيره الأسود، مقتولاً مصلوباً على جسر بغداد، سنة ٣٠٩ هـ.
ولا شك أن القارئ فهم السبب وراء تلفيق تهمة التكفير للحنابلة، ليكون صوغ المبررات أكثر ظاهرية وبعيداً عن التأويلات، مما يسهل الأمر أمام قفل الوجدان والضمير الذي يتمتع به هؤلاء المدسوسون، ولعلكم عرفتم وجه الربط بين الحنابلة والحقد على المتصوفة من وجهة نظر المؤلف الفصيح، وغيره ممن جاء بعده.
ولك أن تتصور اتفاق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته، وأنهم أجمعوا على قتله وصلبه، وقال أبو بكر الصولي: قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلاً يتعاقل، وغبياً يتبالغ، وخبيثاً مدعياً، وراغباً يتزهد، وفاجراً يتعبد.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومن اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإنَّ المسلمين إنما قتلوه على الحلول والإتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله:"أنا الله"
يقول ابن تيمية: "وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض : الله، الله! وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب؛ فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء-وقد شهد مقتله-وكما ذكر إسماعيل بن على الخطيب في تاريخ بغداد- وقد شهد قتله-وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني، وأبو الفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره ".
لم يكن الحلاج نبئاً عظيماً كما يُصور الكاتب، ولا هو بطل الناموس الخارق لقوانين الطبيعة، ومهما وضع المغرورين من هالات التقديس والخطوط المضيئة حول هذه الشخصية الرديئة، والمفعمة بالتناقضات فلن يغيروا من الحقيقة شيئاً، أما الحسين بن منصور الحلاج؛ فقد أبان عن معتقده على الملأ، ليكون أول من يبتدع عقيدة الاتحاد والامتزاج بالله.
ولكن لماذا الحلاج وتراث الحلاج بالذات؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نجد أن الكاتب قد أتقن الربط بين الحلاج ومعاصريه من المتصوفة، ليتبين لنا ثلاثة أمور:
الأول: حالة النفاق المستشرية في قادة التصوف، والتقية التي مارسها كثيرٌ منهم، مما جعل بعضهم يكتم عقائده، فالحلاج كان زميلاً وصاحبًا لكبار رجال التَّصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي؛ فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول: "أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد" ! وأما الشبلي فيقول: "كنت أنا والحسين بن منصور الحلاج شيئًا واحدًا غير أنه تكلم وسكت أنا " .
الثاني: أن منهج التصوف إبان نشأته وحتى القرن الخامس كان واحد، ومآله في السير إلى كان إلى الإلحاد والزندقة، حتى أنقذه الغزالي، وفي السابق لم يكن هناك اختلاف في المنهج بين ما تم اختراعه لاحقاً من تقسيم للتصوف إلى سني وفلسفي، وأن كلا الأمرين مرجعهما واحد، والأهم من ذلك كما يقول الكاتب: أن فرق التصوف إنما نشأت على وقع نغمات الحلاج ودعواته.
الثالث: التلون العجيب لهذه الفرقة، بحسب مصلحة التخفي والظهور، وكان هذا في أول الأمر حيلة من حيل عصمة دماء هؤلاء، وقد حاول ا إفساد الإسلام، لكن الله قتلهم، قال أبو الفرج بن الجوزي : "كان الحلاَّج متلوناً تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم : إن كانوا أهل سنة، أو رافضة، أو معتزلة، أو صوفية، أو فساقاً، أو غيرهم".
أما الإجابة الواضحة عن العناية البالغة التي نالها هذا الرجل في الأعصار المتأخرة، وهذا التمجيد الكبير،فهي ارتباط أفكار هذا الرجل بأفكار الإلحاد والغنوصية، التي تدمج بين الثقافات الغير إسلامية -والوثنية بالأحرى -مع العقائد الإسلامية، وهذا الاهتمام يأتي ضمن تمجيد النصارى لعقيدة الصلب والفداء، والتي كان الحلاج صورة من صورها بحسب اعتقاد المستشرقين، الذين أظهروا صورة الرجل في صورة البطل الأسطوري، واتفاق ذلك مع ما كان يدعو إليه من الاتحاد، والذي ينطبق تماماً على قصة النصارى مع المسيح عليه السلام.
وقد ذكر إسماعيل بن علي الخطيب البغدادي في (تاريخه) الحلاج، وقال فيه: وظهر أمر رجل يقال له : الحلاج الحسين بن منصور، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى الخليفة فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله . فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار .
وإذا عُرف السبب بطل العجب، فاعتقد في الحلاج ما شئت من خير أو شر؛ فلن تُسأل عنه، ولكن لن يُعفيك الله من اعتقاد صحة كلام هذا الرجل في الكفر، ولن يُعفيك في تفضيله على كثير من الصالحين من عباد الله، سيما وأن الرجل في أقصى حدوده مختلف في إسلامه؛ أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ والذي ندين به في الأحكام الربانية والشرائع الإلهية، أن الحلاج كافر زنديق، وأن قتله كان جزاء ردته وشعبذاته، وأنه يستحق ذلك، ويحرم اعتقاد أنه ولي من أوليائه الله، أو تقديسه، أو تمجيده، بل هو خارج عن شريعة الله، والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق