أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 يوليو 2023

الجواهر النفاس في بيان صفات السيد من الناس العلامة عفيف الدين أبي محمد عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني (٦٩٨ -٧٦٨ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الجواهر النفاس في بيان صفات السيد من الناس

العلامة عفيف الدين أبي محمد عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني

(٦٩٨ -٧٦٨ هـ) 

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: هذا الجزء اللطيف بين فيه الباحث المؤرخ عفيف الدين اليافعي، صفة السيد من الناس، الذي يستحق الرياسة، والتقديم، والمشورة، والإمارة، والولاية، والثناء، والمدح؛ فذكر اليافعي عشرين قولاً في معنى السيد عند: أهل اللغة، والمعاني، وعند أهل الاصطلاح، والحقيقة، وعند أهل المقامات، وعند أهل الدنيا، وأهل المروءة، وفي عرف العرب، وغيرهم.

ثم بين أن اخنلاف هذه التعريفات من باب اختلاف التنوع (أو التصور)؛ فكلٌ يصف السؤدد بحسب مقامه وعلمه وهمته وحاله، والحق الذي لا شك فيه: أن السيادة ترجع إلى عرف الناس، وتختلف باختلاف أحوالهم.

ثم أبان اليافعي عن نوع معين من السادة، وهم المشايخ العارفون والأولياء المقربون، وهذا لا ينفي السؤدد عن غيرهم، كما لا يمنحهم كمالاً أكثر من غيرهم؛ إذ لكل صنف كمال يحمد عليه بحسب مقامه وموقعه.

وخلاصة السؤدد لا يتم إلا بثلاثة أوصاف؛ وهي: الكرم، والشجاعة والرأي، ومرجعها إلى الاثنين الأولين، ثم إلى الأول وهو الكرم؛ فهو رأس السيادة، ومن الكرم حسن السيرة، وأعلى ذلك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، فلا يستحق التسييد منافق ولا مبتدع ولا فاسق، والله المستعان.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتصف بأكمل الكمالات، المنزه عن كل قادحٍ في وصفه وثالب، ذي الجود والإنعام والإفضال العظيم المواهب، الذي خص من عباده من شاء بما شاء من علي المراتب، وفضل بعض الخلق على بعضٍ في الدين وفي الدنيا وفي الآخرة بسؤدد المناقب، وخص سيد الأصفياء، وخاتم الأنبياء بأعلى المقامات وأشرف المناصب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغر الكرام أولي المجد المشهور في المشارق والمغارب. 

أما بعد: فهذا جزء سميته: "الجواهر النفاس في بيان صفات السيد من الناس".

اعلم؛ أن "السيد" مشتق من: السؤدد، يقال له: ساد قومه، يسودهم سؤدداً، وسيَّدوه فهو سيدهم، وسوَّده قومه، وهو أسود بن فلان، أي: أجل منه. 

و(الدال) الثانية في "السؤدد"، زائدةٌ للإلحاق ببناء (فعلل)، مثل: جندب -بفتح الدال-. وجمع السيد: سادةٌ، وساداتٌ، وهم الكبراء والرؤساء والأشراف من كل جنس. 

وقد اختلف أئمة اللغة والمفسرون والمشايخ العارفون في السيد، من هو؟

فقال الهروي: هو الذي يفوق قومه في الخير. وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمورهم، ويتحمل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم. 

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وسيداً وحصوراً} في وصف يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أي: حليماً. وقيل: المطاع لعز الطاعة، فائقاً أقرانه. وقيل: قانعاً. وكل هذه من أقوال المفسرين، مع ما تقدم من قول الهروي، وغيره من أئمة اللغة. 

وأما المشايخ العارفون؛ فقال بعضهم: راضياً بالقضاء. وقيل: متوكلاً، وقيل: مستغنياً عن غير مولاه. وقيل: هو من لا يحسد غيره، والحسود لا يسود. 

وقيل: المتحقق بحقيقة الدين الحق. وقيل: المباين للخلق وصفاً وخلقاً وحالاً. وقيل: من صحح نسبته مع أهل حضرة الحق؛ فاستوجب له ميراث نسبته. وقيل: من جاد بالكونين في حب مولاه عوضاً عنه، فقربه وتولاه. وقيل: من استوت أحواله عند المنع والعطاء. 

وقيل: المتبع لأمر مولاه. وقيل: من غلب شهوته وهواه. وقيل: من تحلى من أوصاف البشرية، وتخلق بما ينبغي التخلق به من أوصاف الربوبية. 

قلت: فهذه عشرون قولاً من أقوال المذكورين، وقول كل واحدٍ منهم على قدر علمه وهمته وحاله. والظاهر الذي لا يشك فيه: أن السيادة فيما يرجع إلى عرف الناس، وتختلف باختلاف أحوال الناس. 

فالسيد عند المشايخ العارفين السادات: ما تقتضه أحوالهم المذكورات، والسيد عند العلماء الفضلاء من جميع المذاهب المشهورة: ما تقتضيه أقوالهم المذكورة. 

ومن أقوال المشايخ المستحسنة، قول قطب المقامات العارف بالله سهل بن عبد الله رضي الله عنه، قال: لا يستحق الإنسان الرئاسة حتى يصرف جهله عن الناس، ويحمل جهلهم، ويترك ما في أيديهم، ويبذل ما في يده لهم. 

قلت: والسيد عند أهل الدنيا: من تميز عنهم بأمرٍ من أمورها التي يعظمونها، كتولي أمرٍ من أمور السلطنة يترفع به على من دونه، أو جمع مالٍ يفوق به أقرانه، أو ترفع بدورٍ وخدمٍ وزينةٍ، وأرضٍ وحدائق نظيرةٍ، وخيلٍ وأنعامٍ وحرفٍ، وغير ذلك مما يعدونه من الأموال والجواهر النفاس، والشهوات التي زين حبها للناس، مما يتباهون به ويعظمونه، ويتنافسون فيه ويفخمونه. 

والسيد الكامل عند العرب: من اجتمعت فيه صفاتٌ عديدةٌ جميلةٌ حميدة. منها: الكرم والشجاعة، والرأي والحلم، وحسن الخلق، ورزانة العقل، على ما ظهر لي من سيرهم وأقوالهم، وفهمته من قرائن أحوالهم، وقد يكتفون بالثلاثة الأولى -أعني: الكرم، والشجاعة، والرأي، وبالأولين منها، وبالأول منها. 

وقد سألت بعض الجهال من أجلاف العرب، فقلت له: من الشيخ أو السيد عندكم؟ فقال على الفور: من كسر السرية، وعقر السمينة -أو قال: الثنية-. 

وقد مدحت بعض نساء العرب قومها بثلاثة أوصاف: الشجاعة، والكرم، والعفة، حيث قالت: 

لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر 

النازلين بكل معتركٍ ... والطيبون معاقد الأزر 

وقد اكتفى المتنبي في أبياتٍ له؛ مجّد العلا بالرأي والشجاعة، في قوله: 

الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولٌ وهي المحل الثاني 

فلربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران 

فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرةً ... نالت من العلياء كل مكان 

قلت: وفي الحديث الصحيح عن سيد الوجود، صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتفضيلاً، وتبجيلاً وتكريماً، أنه قال لبني سلمة -حيٌّ من الأنصار-: "من سيدكم يا بني سلمة؟" فقالوا: الجد بن قيس، على بخلٍ فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: "وأي داءٍ أدوأ من البخل، بل سيدكم عمرو بن الجموح". 

فسمع حسان مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشأ يقول: 

يقول رسول الله والحق قوله ... فقال لنا: من ذا تعدون سيدا؟ 

فقلنا له: جد بن قيس على التي ... نبخله فينا وقد قال سؤددا 

فقال: وأي داء أدوأ من التي ... رميتم بها جداً وغسل بها يدا 

إذا جاءه السؤال أنهب ماله ... وقال: خذوه إنه عائدٌ غدا 

وسود عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمروٍ ذي الندا أن يسودا 

قلت: وهذه السيادة جامعةٌ بين الدين والدنيا، حاصلةٌ لمن فيه سماحةٌ وفتوةٌ، واتساعٌ في المال والخلق والمروءة، وتقدمٌ في أمور الدين والدنيا، مع صلاح النية، وحسن السيرة. 

والجد بن قيس المذكور، هو المنافق المشهور الذي قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطةٌ بالكافرين} الآية، على ما نقله المفسرون. 

وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "هل لك في جلاد بني الأصفر -يعني الروم- نتخذ من سراري ووصفاء؟" فقال: ائذن لي في القعود عنك، ولا تفتني بذكر النساء، فقد علم قومي أني مغرمٌ بهن، وإني أخشى أن لا أصبر عنهن. 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: اعتل جد بن قيس بقوله: "ولا تفتني"، ولم يكن له علةٌ إلا النفاق. قال الله عز وجل: {ألا في الفتنة سقطوا}: في الشرك والإثم، وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

وقال ابن كيسان: أرى اعتلالهم الباطل وهو: الفتنة، لأن الشرك والكفر، وإن جهنم لمحيطةٌ بالكافرين. وقيل: {في الفتنة} أي: في النار. 

وإنما سمي الروم: بني الأصفر. قال ابن الأنباري: لأن جيشاً من الحبشة غلبت على بلادهم في وقتٍ فوطئ نساؤهم، فولدن بناتٍ أخذن من بياض الروم، وسواد الحبشة. 

وقال أبو إسحاق إبراهيم الحربي: نسبوا إلى: الأصفر بن الروم بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. 

وقال آخر في السيادة: 

لا يدرك المجد إلا سيدٌ فطنٌ ... لما يشق على السادات فعّال 

لولا المنية ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال 

قلت: وقول هذا مشيرٌ إلى الجود والشجاعة. 

وقول حسان رضي الله عنه يشير إلى الجود وحده، ولكن قد ضم إليه الشجاعة في مدح قومه، حيث قال: 

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما 

وأما قول الخنساء في مدح أخيها: 

وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار 

فهذا مدحٌ بالغٌ يشتمل الرأي، وغيره من الأوصاف التي يقتدى بها، وقد فضله الأعشى شيخ الشعراء في عصره على بيت حسان رضي الله عنه مع حسنه، وأخذ على حسان رضي الله عنه فيه أشياء. 

فقال: قلت: "الجفنات"، فجمعتها جمع قلةٍ، ولم تقل: الجفان، جمع التكثير. 

وقلت: "الغر" ، ولم تقل: البيض، والغرة: إنما هي نقطةٌ من بياض في وجه الفرس. 

وقلت: "يلمعن بالضحى" ، ولم تقل: الدجى. 

وقلت: "أسيافنا" ، فقللتها ولم تقل: وسيوفنا. 

وقلت: "يقطرن" ، ولم تقل: يجرين. 

قلت: ولا أذكر تعليله بالضحى، ولعل ذلك لثلاثة معانٍ: 

أحدها: أن إقراء الضيف عند العرب في الليل أكثر وأشهر، وأمدح وأفخر. 

ولهذا يقول القائل: 

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نارٍ عندها خير موقد 

والثاني: أن الحاجة بالليل أمس، والضرورة أشد وأدعى إلى القلق المفضي إلى السهر. 

والثالث: أن لمعان الجفان بالليل أظهر، والله أعلم. 

ومع ما أخذ عليه الأعشى في هذا البيت من المؤاخذات المذكورة، قال له: لولا أن الخنساء أنشدتني بيتاً آنفاً، لقلت: إنك أشعر أهل زمانك، انتهى. 

قلت: وإنما فضل بيت الخنساء؛ لأنها جعلته هادياً للهداة، ثم شبهته بدليل على دليل. لأن "العلم" هو الجبل وحده دليل، وكذلك النار، فبالغت في المشبه والمشبه به، وناسبت بين قولها في طرفي التشبيه، فجاءت ببراعةٍ بالغةٍ. 

ومن شعرها المشهور الذي قالته في ترثية أخيها المذكور: 

يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل مغيب شمس 

ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي 

وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنهم بالتأسي 

ومن قول النساء البليغ أيضاً، قول أخت ابن طريف في ترثيته: 

أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف 

وكذلك قول نعمٍ امرأة شماس بن عثمان، لما استشهد يوم أحد: 

يا عين جودي بفيض غير أساس ... على كريمٍ من الفتيان لباس 

صعب البديهة ميمونٌ نقيبته ... حمال ألوية ركاب أفراس 

أقول لما أتى الناعي له جزعاً ... أودى الجواد وأودى المطعم الكاس 

وقلت لما خلت منه مجالسة ... لا يبعد الله منا قرب شماس 

ومنهم من اقتصر على ذكر المكارم فحسب.

قال الأقرع بن حابس لما قدم وفد بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم 

وإنا رؤوس الناس من كل معشرٍ ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم 

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حساناً رضي الله عنه ليجيبه، فقال: 

بني دارمٍ لا تفخروا وإن فخركم ... يعود وبالاً عند ذكر المكارم 

هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خولٌ ما بين ظئرٍ وخادم 

وفي فضل الشرف الحاصل بلا اكتسابٍ، على الشرف الحاصل بالانتساب، قال ابن الرومي: 

وما الشرف الموروث لا در دره ... بمحتسبٍ إلا بآخر مكتسب 

إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة من ... المثمرات اعتده الناس في الحطب 

وقال التهامي: 

لا تحسبن حسب الآباء مكرمةً ... لمن يقصر عن غايات مجدهم 

حسن الرجال بحسني لا بحسنهم ... وطولهم في المعالي لا بطولهم 

قلت: ولي في هذا المعنى: 

لنا في الهدى والعلم والحلم والندا ... ومجد العلا كم سيدٍ ناب سيدا 

إذا مات من أشياخنا ذو جلالةٍ ... يقوم جليلٌ بعد ذاك مؤيدا 

يطول بفصلٍِ لا بأصلٍ لغيره ... ويعلو بجدٍّ لا بجدٍّ له ندا 

ويسمو بطولٍ لا بطولٍ لذي علا ... يعد به فضلاًً وافتخاراً وسؤددا 

فمجد اكتسابٍ ذاك أفضل للفتى ... من الإرث عن من كان قدماً ممجدا 

إذا لم يكن محمود فضلٍ وسيرةٍ ... فلن يرتقي مجد المعالي المشيدا 

قلت: وقد أبعدنا في الخروج عن حيز مقصود الاختصار، إلى حيز التطويل والإكثار، فلنثن العنان عن التوغل في هذا الميدان، ولنرجع إلى ما كنا بصدده الآن. 

اعلم: أن مرادي بالسادة في البيت المذكور، هم المشايخ العارفون والأولياء المقربون، الذين هم لعلوم المعارف والأسرار محققون، وبهذه الأوصاف المذكورة في السيادة وغيرها من المحاسن متحققون. 

فإن الكرم والشجاعة وغيرهما من أوصاف السيادة المذكورة، وغيرها، قطرةٌ من فيض أنهار مقاماتهم الألف مشكورة، المستمدة في جريها إلى عيون كل مريد بهم يقتدي من اليم الزاخر الرجاف، الخضم التيار الطامي، البحر اللجي المواج المتلاطم المحمدي، الذي بلغت محاسن أخلاقه مئة وستة وعشر من قول بعض المتتبعين لها، وليس يحصيها عد معددٍ.

والذي جمعت بين أسماء البحر العشرة على وجه الإيجاز، حيث أقول حقاً غير معتدٍ: 

سعى فيض أنهارٍ من اليم من هدى ... من الزاخر البحر الخضم المحمدي 

من الطامي المواج من متلاطمٍ ... من اللجي الرجاف تيار أحمد 

يفيض على ظهر الوجود لسقيه ... أراضي قلوبٍ كروضات مقتدي 

معارف من خصوا بفضل ولايةٍ ... أولى السر والأنوار أعلام مهتدي 

رؤوسٌ وما رام الكرام رئاسةً ... وسادات عصرٍ غير طلاب سؤدد 

بلا شك هم سادات أهل زمانهم ... ومن قال قولاً غير هذا فمعتدي 

فمجموع أوصاف السيادة يحتلى بها ... مع حلىً أخرى من القوم مبتدي 

فهل قط أسخى من سموحٍ بنفسه ... فتى يردأ أمجد السماحة مرتدي 

وأشجع من ركاب أهوالٍ مطر ... شطا نفسه ضرباً بماضٍ محدد 

فيا ذا النهى بالله أنصف ... أمانع لنفس فعالاً للريا والتمجد 

أم الفاعل الباغي بذلك سمعةً ... هو السيد المنعوت باسم الممجد 

أبى الله ما الناهي لنفسٍ عن الهوى ... كعبد هواها المسترق المقيد 

لئن كان ذا عال الثناء عند جاهل ... وذاك مهاناً باللسان وباليد 

فعند الحكيم الحاكم الحكم عكسه ... ويكفيك رمزٌ عن مقال معدد 

وإن شئت بسطاً ذا مسيء ومسخط ... لمولى حقيق الذل والخزي في غد 

وهذاك يزهو الدهر في روضة الرضا ... لمجدٍ على مر الحديد مجدد 

مطيع ومرضٍ راضياً عنه مكرمٌ ... بقرب به أهنا نعيمٍ مخلد 

هنيئاً لمن ذا نعته ونعيمه ... وطوبى لمخصوصٍ بذلك مسعد 

سأمدحهم عمري وإن كنت عاطلاً ... بحسن الحلى في كل نادٍ ومشهد 

قلت: وليس في هذا المختصر متسعٌ لذكر نبذةٍ من محاسنهم الغالية ومقاماتهم العالية، وما تحققوا فيه من الصدق والإخلاص، والحرية من رق النفس العسرة الخلاص، وذبحها بسيوف المخالفة حتى ماتت.

ثم حيت وصارت موافقة على الحق وموالفة، ولم يغتروا بما اغتر به كثيرٌ من الحمقاء في طلب الجاه وغيره من الحظوظ العاجلة، لما دخل في قلوبهم نور العرفان؛ عرفوا حقارة الدنيا وأن الجاه والشرف العظيم، والعز والنعيم المقيم في الدارة الآخرة، فهم السادات على التحقيق، أهل العلا والفضائل، والسامحون بنفوسهم في طلب المعالي القدسية، المتصفون بقول القائل: 

تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر 

وبقول الآخر: 

وسائلٍ عنهم ماذا تقدمهم ... فقلت شيء به عن غيرهم بانوا 

وبقول الآخر: 

صانوا النفوس عن الفحشاء وابتذلوا ... منهن في سبل العليا ما صانوا 

وبقول الآخر: 

فأجسادهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلى تسري 

وبقول الآخر: 

ولست بميالٍ إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر 

وفي الفقر وأهله، والفرق بين ما ذكرت من اختلاف العرف والعادات فيمن يعدون من السادات، قلت هذه الأبيات: 

وقائلة: ما المجد للمرء والفخر؟ ... فقلت لها: شيءٌ يبيض العلى مهر 

فأما بنو الدنيا ففخرهم الغنى ... كزهر نظير في غدٍ ييبس الزهر 

وأما بنو الأخرى ففي الفقر فخرهم ... نضارته تزداد ما بقي الدهر 

وفي فضلهم أيضاً ومجاهدتهم في الله تعالى، قلت في قصيدة كبرى: 

يزورون المنايا باشتياق ... يرون الوصل في قطع الرقاب 

يرون الموت في الهيجاء أحلى ... من الجلاب في فيهم مذاب 

وقلت في أخرى: 

نجابٌ فتيةٌ غرٌّ كرام ... من العلياء في أعلى مكان 

بحار العلم أوتادٌ لأرضٍ ... ملوك الخلق أقمار الزمان 

قلت: هم الذين سمحوا بأموالهم وأنفسهم لله عز وجل خالصاً من غير طلب سيادةٍ ولا رئاسةٍ، بل خطبتهم علاها، وأنزلتهم في ذراها، غير ملتفتين إلى باهي حلاها. 

بخلاف رئاسة الدنيا وسيادته التي لا تحصل لأهلها إلا بخسارة الدين في جمع الدنيا من حلها وغير حلها، وإخراجها في غير وجهها للرياء والسمعة في طلب الرئاسة والمفاخرة والمباهاة، وغير ذلك من المحرمات المهلكات. 

كما قلت في بعض القصيدات في إنفاق المال للمفاخرات: 

ترى فيه سمحاً منفقاً يا منافقاً ... ولولا الرياء ما كنت بالفلس تسمح 

وإلا فجرب أنفق المال في الخلا ... وخل الملا فالنفس تأبى وتجمح 

يتلذذ أحدهم بفخر أيام، ولا يبالي بما في ذلك من المقت والآثام، واستحقاق العقاب والذل والهوان، ومقاساة الأهوال والشدائد العظام، وطول الحساب في يوم مقداره ألف عام، وبعد ذلك؛ ما هو المصيبة العظمى إن لم يغفر الجبار ما يستحق من الانتقام في النار، وما يفعل ذلك إلا كل مغرورٍ أحمق مخذول غير موفق، مع أن كل إنسان يعرف عاقبة الدنيا وما يترتب عليها من الذل والهوان، والخوف والخسران. 

نعوذ بالله من ذلك. لولا الخذلان كما قيل: 

نعم إنها الدنيا سمامٌ لهالكٍ ... وخوفٌ لمطلوبٍ وهمٌّ لطالب 

وإنا لنهواها على الغدر والقلى ... ونمدحها مع علمنا بالمعايب 

وكما قيل: 

ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي 

حلفت لنا أن لا تخون عهودنا ... فكأنها حلفت لنا أن لا تفي 

وكما قيل: 

سرور الدهر مقرونٌ بحزنٍ ... فكن منه على حذرٍ شديد 

وفي يمناه تاجٌ من نضارٍ ... وفي يسراه قيدٌ من حديد 

وقيل: 

وإن امرءاً لم يحذر الدهر جهده ... ويعمل للأخرى لغير حليم 

وإن امرءاً أمسى وأصبح لم يفد ... ثناءً ولا أجراً لغير كريم 

وكما قيل: 

كن على حذرٍ منها فقد نصحت ... وانظر إليها ترى الآيات والعبرا 

فهل رأيت جديداً لم يعد خلقاً ... وهل سمعت بصفوٍ لم يصر كدرا 

ومما يروى عن أهل الخوف والحذر والخشية لله عز وجل، أنه كان بعضهم ينفق ماله سراً ويبخل -أعني ينسبه الناس للبخل-، ويلومونه ولا يبالي بلوم اللآئمين، وقولهم الذي هم فيه. 

كما يروى عن زين العابدين علي بن الحسين رضوان الله عليه، وعلى آبائه أجمعين، أنه كان يعول أهل مئة بيت ولا يدرون من يعولهم حتى مات، فعرفوا أنه صاحب هذه المكرمة، وغيرها من المكرمات. 

وكذلك روي عن السيد الجليل الإمام الفضيل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: أنه خرج في بعض الغزوات، فدعا بعض العلوج إلى المبارزة، فخرج إليه بعض المسلمين فقتله العلج. ثم خرج إليه آخر فقتله أيضاً، ثم آخر حتى قتل جماعة وحصل منه نكايةٌ في المسلمين، فبرز إليه إنسان ملثم لا يعرف من هو، فعاركه ساعة ثم قتله، ورجع إلى صف المسلمين. قال الراوي: فدنوت منه لأعرفه، فإذا هو ابن المبارك. 

ثم مر في رجوعه ببعض المدن، وكان فيها إنسان يخدمه إذا نزل في تلك البلدة، ويقضي حوائجه، فلم يجده في تلك المرة، فسأل عنه؟ فقيل: إنه محبوسٌ بمالٍ -أو قيل: بخمسة آلاف-، فحصل ما عليه من الدين وأرسل به إلى خصمه وسافر في الحال، فأمر بإخراج ذلك المحبوس. فلما خرج لم يعلم من كان السبب في خروجه، فتحسس عن ذلك. فقيل له: ورد رجلٌ من صفته كذا وكذا، فسأل عنك، فعرفه وقال: أين هو؟ فقيل له: سافر، فتبعه. فلما لحقه، قال له ابن المبارك رضي الله عنه: أين كنت، وكيف حالك؟ كأنه لم يعلم بالقضية المذكورة. فقال: كنت محبوساً بدينٍ. فقال: ومن أخرجك؟ -أو قال:- وكيف كان خروجك؟ فعرف أنه يريد الستر، فقال: تسبب في خروجي إنسانٌ جزاه الله خيراً. 

وغير ذلك مما يطول ذكره من سيرة السلف الصالحين نفعنا الله بهم، ومن علينا بما من به عليهم. لا يبالي أحدهم بذم الناس وسخطهم عليه؛ إذا كان في رضى مولاه، متوجهاً بطاعته إليه، كما قال قائلهم: 

فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب 

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خراب 

ومن ذلك: ما روي عن الشيخ الكبير، العارف بالله الشهير، بشر بن الحارث، المشهور بـ: الحافي رضي الله عنه، على ما نقله بعض أهل العلم. قال: كان عندنا ببغداد رجلٌ من التجار أسمعه يقع في الصوفية كثيراً، ثم رأيته بعد ذلك صحبتهم، وأنفق جميع ماله عليهم. قال: فقلت له: أليس كنت تبغضهم؟ فقال لي: ليس الأمر على ما كنت أتوهم. قلت له: وكيف ذلك؟ قال: صليت الجمعة يوماً من الأيام، وخرجت فرأيت بشر الحافي رضي الله عنه خارجاً من المسجد مسرعاً. 

فقلت في نفسي: أنظر هذا الرجل الموصوف بالزهد، ليس يستقر في المسجد. فتركت حاجتي وقلت: أنظر أين يذهب! فتبعته فرأيته تقدم إلى الخباز واشترى بدرهم خبز الماء، فقلت: انظر إلى هذا الزاهد يشتري خبز الماء، ثم تقدم إلى الشواء فأعطاه درهماً وأخذ شوياً، فزادني غيظاً، ثم تقدم إلى الحلواني واشترى فالوذجاً بدرهم. 

فقلت في نفسي: والله لأنغصن عليه حين يجلس يأكل. فخرج إلى الصحراء وأنا أقول: يريد الخضرة والماء، فما زال يمشي إلى العصر وأنا خلفه ودخل قرية، ثم دخل مسجداً فيه مريضٌ، فجلس عند رأسه وجعل يلقمه. فقمت لأنظر إلى القرية، فغبت ساعةً، ثم رجعت، فلم أجده. فقلت للعليل: أين بشر؟ قال: ذهب إلى بغداد. قلت: وكم بيننا وبين بغداد؟ قال: أربعون فرسخاً -يعني مسيرة خمس مراحل-. 

قال: فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما هذا الذي عملت بنفسي؟، وليس معي ما أكتري به، ولا أقدر على المشي. فقال: اجلس حتى يرجع. قال: فجلست إلى الجمعة الأخرى، فجاء بشرٌ في ذلك الوقت ومعه شيء يأكله، فلما فرغ قال له: يا أبا نصر! هذا صحبك من بغداد، وبقي عندي منذ الجمعة الأولى؛ فرده. قال: فنظر إلي كالمغضب، وقال: لم صحبتني؟ 

قلت: أخطأت. قال: قم فامش. فمشيت إلى قرب المغرب، فلما قربنا قال: أين محلتك من بغداد؟ قلت: في موضع كذا. قال: اذهب ولا تعد. فتبت إلى الله عز وجل، وصحبتهم وأنا على ذلك، رضوان الله عليهم. 

وقيل لبشر بن الحارث المذكور: لم لا تحدث؟ فقال: نفسي تطلب ذلك، ولو لم تطلبه لفعلت -أو قال: لحدثت- يعني للنفس في ذلك غرضٌ، فأنا أمنعها غرضها لئلا يكون في ذلك [لئلا] تخرجني عن حد الإخلاص. قلت: وهذه طريقة الخواص. 

وأما ما يروى عن بعض السلف أنه قال: تعلمنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا لله. فهذا حال مدركٍ بالعناية، داوى سقمه بداءٍ تعرض فيه لهلاك نفسه، فتداركه اللطف، فانقلب ذلك الداء دواءً، والسقم صحةً. 

وفي مثل هذا يصدق قول القائل: وربما صحت الأجسام بالعلل 

فهذا الذي أخبر به من تخصيص العناية؛ فلا ينبغي أن يغتر بعمومه غيره، وفي طول التعرض للهلاك المذكور مع الحماية الواقية من وقوع المحذور على جهة التخصيص، لا على جهة العموم. 

أُنشدُ على وجه الإنشاء، وأقول: 

ما كل وارد المعارك صادراً ... وبيض وسمر السمهريات يلتقي 

سوى مَنْ مِنَ اللطف الجميل لبوسه ... وترسٍ من الستر الحصين له يقي 

وليس لمن ذا وصفه غر غيره ... وإيراده في موردٍ كم به شقي 

فقد يقصد الإنسان بالعلم مقصداً ... ردياً ويعطى توبةً مما يتقي 

وكم مستمر في ردي مقاصدٍ ... إلى أن على الحال الردي ربه لقي 

إلهي بجاه المصطفى معدن الندا ... ونور الهدى من ذروة المجد مرتضي 

أغثنا ووفق واعف واجعل ... أحبتي وإياي ممن عذب ماء حوضه سقي 

ومن بإكرامٍ بدار كرامة ... وصل على المختار ما دهرنا بقي 

تم كتاب: "الجواهر النفاس في بيان صفات السيد من الناس" والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم تسليماً كثيراً. 

وفرغ من تعليقه العبد الفقير إلى الله تعالى موسى بن محمد بن إبراهيم الأطرابلسي عفى الله عنه بمنه وكرمه، بتاريخ نهار الخميس سادس عشر نهار رمضان المعظم سنة ٧٨٨ هجرة. 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق