جزء فيه فوائد حديث أبي عمير
لأحمد بن أبي أحمد الطبري البغدادي (ت ٣٣٥ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذا الجزء النفيس، استخرج فيه الإمام ابن القاص أكثر من ستين فائدة وحكماً من حديث أبي عُمير، علاوةً على ما استنبطه غيره من العلماء قبله؛ كالإمام أبي حاتم الرازي، وشيوخ أصحاب السُّنن، ثم الترمذي في ((الشمائل))، ثم الخطابي في ((معالم السُّنن))، والتي بلغت بمجموعها ١٠ عشر فوائد فقط، وقد ذكرها ابن القاص، وزاد عليها حتى بلغت ٦٦ ستةً وستين فائدةً، وزاد عليها ابن بطال ثمانية عشر ١٨ فائدة أخرى، زيادةً على ما ذكره ابن القاص في كتابه، فبلغت بمجموعها ٨٤ أربعةً وثمانين فائدة وحكمة.
وقد أشاد بهذا الجزء الحافظ ابن حجر في ((الفتح))، ولخّص ما فيه هناك، وذكره الذهبي في ((السير))، وتعقّب العراقيّ بعض ما ذكره ابن القاص في ((شرح الترمذيّ))؛ فقال: من هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفيّ ومنها المتعسف، ونقل أن ما ذكره من فائدة جمع الطرق لا خصوصية له بهذا الحديث.
ولعل الغرض من وضعه هو الرد على من يزدري طلب الحديث، ويهوّن من سماع الصحاح والسُّنن، والرد على من يدّعي أن أهل الحديث يروون أشياء لا فائدة فيها؛ حيث بيّن ابن القاص أن الحديث كله فقه، فلا يحق لبعض من يدَّعي الفقه أن يسلبهم هذه الخصيصة والميزة.
والحديث مرويٌّ من طرق كثيرة عن أنس؛ فرواه عنه: أبو التياح، ومحمد بن سيرين، وحميد الطويل، وثابت، وقيل في أبي عُمير: اسمه كنيته، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: حفص، وقد جزم الدمياطي بأنه مات صغيراً، حيث لم يذكر أبا عُمير في قصةٍ بعدها.
وقد نوزع ابن القاص في ثلاث فوائد ذكرها، وهي:
١-يقول العراقي في ((شرح الترمذي)): وقد بقي من فوائده أن بعض المالكية والخطابيّ من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاصّ أنه صيد في الحل ثم أُدخل الحرم، فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في المُدَوّنة، ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده. وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية، فقال: قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقَّب.
٢-ونوزع في قوله: (وما أجاب به ابن القاصّ من مخاطبة من لا يميز التحقق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذ أفهم الخطاب، وكان في ذلك فائدة، ولو بالتأنيس له، ..) ويجوز أيضًا مطلقًا إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرًا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلًا إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله.
٣- يقول الحافظ في ((الفتح)): وقد نوزع بن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير؛ فقال أبو عبد الملك: يجوز أن يكون ذلك منسوخاً بالنهي عن تعذيب الحيوان، وقال القرطبي: الحق أن لا نسخ بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليلتهي به، وأما تمكينه من تعذيبه ولا سيما حتى يموت فلم يبح قط. انتهى.
أما الفوائد التي ذكرها ابن القاص، فهي:
١- سنة الماشي أن لا يتبختر في مشيته ولا يتبطأ فيه، «فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى توكأ كأنما ينحدر من صبب».
٢-ومنها أن الزيارة سنة.
٣- ومنها الرخصة للرجال في زيارة النساء غير ذوات المحارم.
٤- ومنها زيارة الحاكم الرعية.
٥- ومنها أنه إذا خص الحاكم بالزيارة والمخالطة بعض الرعية دون بعض فليس ذلك بميل، وقد كان بعض أهل العلم يكره للحكام ذلك.
٦ - وإذا ثبت ما وصفنا كان فيه وجه من تواضع الحاكم للرعية.
٧ - وفيه دليل على كراهية الحجاب للحكام.
٨ - وفيه أن الحاكم يجوز له أن يسير وحده.
٩ - وأن أصحاب المقارع بين يدي الحكام والأمراء محدثة مكروهة؛ لما روي في الخبر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على ناقة له لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك».
١٠ - وفي قوله: «يغشانا» ما يدل على كثرة زيارته لهم.
١١ - وأن كثرة الزيارة لا تخلق الحب والمودة ولا تنقصها، إذا لم يكن معها طمع.
١٢ - وأن قوله عليه السلام لأبي هريرة: «زر غبا تزدد حباً» كما قاله بعض أهل العلم؛ لما رأى في زيارته من الطمع؛ لما كان بأبي هريرة من الفقر والحاجة؛ حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم في مزودة، وكان لا يدخل يده فيها إلا أخذ حاجته فحصلت له الزيارة دون الطمع.
١٣ - وفي قوله: «يخالطنا»، ما يدل على الألفة بخلاف النفور، وذلك من صفة المؤمن، كما روي في بعض الأخبار «المؤمن ألوف، والمنافق نفور».
١٤ - ومنها أن ما روي في الخبر: «فر من الناس فرارك من الأسد» إذا كانت في لقيهم مضرة لا على العموم، فأما إذا كانت فيه للمسلمين ألفة ومودة، فالمخالطة أولى.
١٥ - وفيه دلالة على الفرق بين شباب النساء وعجائزهن في المعاشرة، إذ اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من رآه واقفا مع صفية ولم يعتذر من زيارته أم سليم، بل كان يغشاهم الكثير.
١٦ - وفي قوله: «ما مسست شيئا قط ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم» ما يدل على مصافحته، وإذا ثبتت المصافحة دل على تسليم الزائر، إذا دخل.
١٧ - ودل على مصافحته.
١٨ - ودل على أن يصافح الرجل دون المرأة؛ لأنه لم يقل: فما مسسنا، وإنما قال: ما مسستُ، وكذلك كانت سنته صلى الله عليه وسلم في التسليم على النساء ومبايعته، إنما كان يصافح الرجال دونهن.
١٩ - وفي لين كفه ما يدل على أنه: لا ينبغي أن يتعمد المصلي إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود كما اختار ذلك بعضهم؛ لما وجده في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان شثن الكفين والقدمين، فقال: ينبغي أن يتعمد إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود ليؤثر على يديه دون جبهته،
٢٠ - وفيه ما يدل على الاختيار للزائر إذا دخل على المزور أن يصلي في بيته كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم.
٢١ - وفيه ما يدل على ما قاله بعض أهل العلم أن الاختيار في السنة الصلاة على البساط، والجريد والحصير، وقد قيل في بعض الأخبار: إنه كان حصيرا بالياً، وذلك أن بعض الناس كان يكره الصلاة على الحصير، وينزع بقول الله تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} (الإسراء: ٨).
٢٢ - وفي نضحهم ذلك له وصلاته عليه مع علمه صلى الله عليه وسلم أن في البيت صبياً صغيراً دليل على أن السنة ترك التقزز.
٢٣ - ودليل على أن الأشياء على الطهارة حتى يعلم يقين النجاسة.
٢٤ - وفي نضحهم البساط لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دليل على أن الاختيار للمصلي أن يقوم في صلاته على أروح الحال وأمكنها، لا على أجهدها وأشدها؛ لئلا يشغله الجهد عما عليه من أدب الصلاة وخشوعها، كما أمر الجائع أن يبدأ بالطعام قبل الصلاة، خلاف ما زعم بعض المجتهدين إذ زعم أن الاختيار له أن يقوم على أجهد الحال، كما سمع في بعض الأخبار أنهم لبسوا المسح إذا قاموا من الليل وقيدوا أقدامهم.
٢٥ - وفي صلاته في بيتهم؛ ليأخذوا علمها، دليل على جواز حمل العالم علمه إلى أهله إذا لم يكن فيه على العلم مذلة، وأن ما روي في أن العلم يؤتى ولا يأتي إذا كانت فيه للعلم مذلة، أو كان من المتعلم على العالم تطاول.
٢٦ - وفيه دلالة اختصاص لآل أبي طلحة إذ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتهم.
٢٧ - وأخذهم قبلة بيتهم بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الدلائل والعلامات.
٢٨ - وفي قوله: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء مازحه»، ما يدل على أنه كان يمازحه كثيرا، وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان.
٢٩ - أحدهما: أن ممازحة الصبيان مباح.
٣٠ - والثاني: أنها إباحة سنة، لا إباحة رخصة؛ لأنها لو كانت إباحة رخصة؛ لأشبه أن لا يكثرها، كما قال في مسح الحصى للمصلي: «فإن كنت لا بد فاعلا فمرة»؛ لأنها كانت رخصة لا سنة.
٣١ - وفيه إذ مازحه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ترك التكبر والترفع.
٣٢ - وما يدل على حسن الخلق.
٣٣ - وفيه دليل على أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل من حاله إذا برز، فيكون في المنزل أكثر مزاحاً، وإذا خرج أكثر سكينة ووقارا إلا من طريق الرياء، كما روي في بعض الأخبار: "كان زيد بن ثابت من أفكه الناس إذا خلا بأهله، وأزمتهم عند الناس".
٣٤ - وإذا كان ذلك كما وصفنا ففيه دليل على أن ما روي في صفة المنافق أنه يخالف سره علانيته ليس على العموم، وإنما هو على معنى الرياء والنفاق، كما قال جل ثناؤه: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزءون} (البقرة).
٣٥ - وفي قوله: «فرآه حزيناً»، ما يدل على إثبات التفرس في الوجوه، وقد احتج بهذا المعنى بعض أهل الفراسة بما يطول ذكره، وأكره الإكثار إذ الغرض غيرهما.
٣٦ - وفيه دليل على الاستدلال بالعبرة لأهلها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر في وجهه على الحزن الكامن في قلبه، حتى حداه على سؤال حاله.
٣٧ - وفي قوله: «ما بال أبي عمير؟» دليل على أن من السنة إذا رأيت أخاك أن تسأل عن حاله.
٣٨ - وفيه دليل - كما قال بعض أهل العلم - على حسن الأدب بالسنة في تفريق اللفظ بين سؤالين، فإذا سألت أخاك عن حاله قلت: ما لك؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: «ما لك يا أبا قتادة؟» ، وإذا سألت غيره عن حاله، قلت: «ما بال أبي فلان؟» كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «ما بال أبي عمير؟».
٣٩ - وفي سؤاله صلى الله عليه وسلم من سأل عن حال أبي عمير دليل على إثبات خبر الواحد.
٤٠ - وفيه دليل على أنه يجوز أن يكنى من لم يولد له، وقد كان عمر بن الخطاب يكره ذلك حتى أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم.
٤١ - وفي قوله: مات نغيره الذي كان يلعب به، تركه النكير بعد ما سمع ذلك صلى الله عليه وسلم دليل على الرخصة في اللعب للصبيان.
٤٢ - وفيه دليل على الرخصة للوالدين في تخلية الصبي وما يروم من اللعب إذا لم يكن من دواعي الفجور، وقد كان بعض الصالحين يكره لوالديه أن يخلياه.
٤٣ - وفيه دليل على أن إنفاق المال في ملاعب الصبيان ليس من أكل المال بالباطل إذا لم يكن من الملاهي المنهية.
٤٤ - وفيه دليل على إمساك الطير في القفص.
٤٥ - وقص جناح الطير؛ لمنعه من الطيران وذلك أنه لا يخلو من أن يكون النغيرة التي كان يلعب بها في قفص أو نحوه من شد رجل أو غيره، أو أن تكون مقصوصة الجناح، فأيهما كان المنصوص فالباقي قياس عليه؛ لأنه في معناه، وقد كان بعض الصحابة يكره قص جناح الطائر وحبسه في القفص.
٤٦ - وفيه دليل على أن رجلا لو اصطاد صيدا خارج الحرم، ثم أدخل الحرم لم يكن عليه إرساله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الاصطياد بين لابتي المدينة، وأجاز لأبي عمير إمساكه، فيها وكان ابن الزبير يفتي بإمساك ذلك، ومن حجته فيه أن من اصطاد صيداً ثم أحرم وهو في يده فعليه إرساله، فكذلك إذا اصطاد في الحل، ثم أدخله الحرم، وفرق الشافعي بين المسألتين كما وصفنا، فقال: من اصطاد، ثم أحرم والصيد في ملكه فعليه إرساله، ومن اصطاده ثم أدخله الحرم، فلا إرسال عليه.
٤٧ - وفي قوله: «ما فعل النغير؟» دليل على جواز تصغير الأسماء كما صغر النغيرة، وكذلك المعنى في قوله كان ابن لأبي طلحة يكنى أبا عمير.
٤٨ - وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مازحه بذلك يبكي أبو عمير، ففي ذلك دليل أن قول النبي في حديث آخر: إذا بكى اليتيم اهتز العرش ليس على العموم في جميع بكائه، وذلك أن بكاء الصبي على ضربين:
أحدهما: بكاء الدلال عند المزاح والملاطفة.
والآخر: بكاء الحزن أو الخوف عند الظلم أو المنع عما به إليه الحاجة.
فإذا مازحت يتيماً أو لاطفته فبكى؛ فليس في ذلك إن شاء الله تعالى اهتزاز عرش الرحمن.
٤٩ - وقد زعم بعض الناس أن الحكيم لا يواجه بالخطاب غير العاقل، وقال بعض أصحابنا: ليس كذلك، بل صفة الحكيم في خطابه أن لا يضع الخطاب في غير موضعه، وكان في هذا الحديث كذلك دليل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم واجه الصغير بالخطاب عند المزاح؛ فقال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟» ولم يواجهه بالسؤال عند العلم والإثبات، بل خاطب غيره، فقال: «ما بال أبي عمير؟».
٥٠ - وفيه دليل على أن للعاقل أن يعاشر الناس على قدر عقولهم، ولا يحمل الناس كلهم على عقله.
٥١ - وفي نومه صلى الله عليه وسلم عندهم، دليل على أن عماد القسم بالليل وأن لا حرج على الرجل في أن يقيل بالنهار عند امرأة في غير يومها.
٥٢ - وفيه دليل على سنة القيلولة.
٥٣ - وفيه دليل على خلاف ما زعم بعضهم في أدب الحكام أن نوم الحكام والأمراء في منزل الرعية ونحو ذلك من الأفعال دناءة تسقط مروءة الحاكم.
٥٤ - وفي نومه على فراشها، دليل على خلاف قول من كره أن يجلس الرجل في مجلس امرأة ليست له بمحرم، أو يلبس ثوبها وإن كان على تقطيع الرجال.
٥٥ - وفيه أنه يجوز أن يدخل المرء على امرأة في منزلها وزوجها غائب، وإن لم تكن ذات محرم له.
٥٦ - وفي نضح البساط له ونومه على فراشها، دليل على إكرام الزائر.
٥٧ - وفيه أن التنعم الخفيف غير مخالف للسنة، وأن قوله: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور» ليس على العموم إلا فيما عدا التنعم القليل.
٥٨ - وفيه دليل على أنه ليس بفرض على المزور أن يشيع الزائر إلى باب الدار، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتشييع الضيف إلى باب الدار، إذ لم يذكر في هذا الحديث تشييعهم له إلى الباب.
٥٩ - وقد اختلف أهل العلم في تفسير ما ذكر من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث هند بن أبي هالة: كانوا إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذواق، قال بعضهم أراد به الطعام، وقال بعضهم: أراد به ذواق العلم، ففي تفسير هذا الحديث الدليل على تأويل من تأوله على ذواق العلم إذ قد أذاقهم العلم، ولم يذكر فيه ذواق الطعام.
٦٠ - وكان من صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان يساوي بين جلسائه حتى يأخذ منه كل بحظ، وكذلك فعل رسول صلى الله عليه وسلم الله في دخوله على أم سليم صافح أنساً، ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم حتى نال الجميع من بركته صلى الله عليه وسلم.
٦١ - وإذ كان طلب العلم فريضة على كل مسلم فأقل ما في تحفظ طرقه أن يكون نافلة، وفيه أن قوما أنكروا خبر الواحد، ثم افترقوا فيه واختلفوا، فقال بعضهم بجواز خبر الاثنين قياساً على الشاهدين، وقال بعضهم بجواز خبر الثلاثة، ونزع بقول الله جل ذكره: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} (التوبة: ١٢٢) الآية، وقال بعضهم بجواز خبر الأربعة قياساً على أعلى الشهادات وأكبرها، وقال بعضهم بالشائع والمستفيض، فكان في تحفظ طرق الأخبار ما يخرج به الخبر عن حد الواحد إلى حد الاثنين، وخبر الثلاثة والأربعة، ولعله يدخل في خبر الشائع المستفيض.
٦٢ - وفيه أن الخبر إذا كانت له طرق وطعن الطاعن على بعضها، احتج الراوي بطريق آخر ولم يلزمه انقطاع ما وجد إلى طريق آخر سبيلاً.
٦٣ - وفيه أن أهل الحديث لا يستغنون عن معرفة النقلة والرواة ومقدارهم، في كثرة العلم والرواية ففي تحفظ طرق الأخبار ومعرفة من رواها وكم روى كل راو منهم ما يعلم به مقادير الرواة ومراتبهم في كثرة الرواية.
٦٤ - وفيه أنهم إذا استقصوا في معرفة طرق الخبر عرفوا به غلط الغالط إذا غلط، وميزوا به كذب المدلس، وتدليس المدلس.
٦٥ - وإذا لم يستقص المرء في طرقه واقتصر على طريق واحد كان أقل ما يلزمه إذا دلس عليه في الرواية أن يقول: لعله قد روي ولم أستقص فيه، فرجع باللائمة والتقصير على نفسه والانقطاع، وقد حل لخصمه.
٦٦ -وفيه تثبيت الامتحان والتمييز بيننا وبين أمثالهم إذ لم يهتدوا إلى شيء من تخريج فقهه، ويستخرج أحدنا منه - بعون الله وتوفيقه - كل هذه الوجوه، وفي ذلك وجهان: أحدهما اجتهاد المستخرج في استنباطه.الثاني تبيين فضيلته في الفقه والتخريج على أغياره، والعين المستنبط منها عين واحدة، ولكن من عجائب قدرة اللطيف في تدبير صنعه أن تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل!.
ثم زاد عليها المحقق الفوائد التي ذكرها ابن بطال، ومنها:
٦٧ -أنه لا بأس أن يُعطى الصبيُّ الطير ليلعب به.
٦٨-وجعل الاسم المصدر بأب وأم اسماً علماً من غير أن يكون له اسمٌ غيره.
٦٩-وفيه من الفقه: أن صيد المدينة مباح.
٧٠- وفيه: إباحة السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفاً.
٧١-وأن السجع لا يمتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر.
٧٢-وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره.
٧٣-وفيه: جواز الدعابة ما لم يكن إثماً.
٧٤-وفيه: إباحة تصغير الأسماء.
٧٥-وفيه: أنه كنّاه ولم يكن له ولد، فلم يدخل في باب الكذب.
٧٦- وفيه: استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته.
٧٧-وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها.
٧٨-وفيه جواز الرواية بالمعنى لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة.
٧٩-وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث وجواز الإتيان به تارة مطولاً وتارة ملخصاً.
٨٠-وفيه مسح رأس الصغير للملاطفة.
٨٢-وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء.
٨٣-وفيه جواز السؤال عما يعلمه السائل عالم لقوله ما فعل النغير بعد علمه بأنه مات.
٨٤-وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم
ترجمة المؤلف
هو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المعروف بابن القاص، الطبري، الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في طبرستان وأخذ الفقه عن ابن سريج، وصنف كتباً كثيرة، منها: «التلخيص» و «أدب القاضي» و«المفتاح» وغير ذلك.
وقد شرح «التلخيص» أبو عبد الختن الشيخ أبو علي السنجي، وهو كتاب صغير ذكره الإمام في النهاية في مواضع، وكذلك الإمام الغزالي.
وجميع تصانيفه صغيرة الحجم كثيرة الفائدة، وكان يعظ الناس، فانتهى في بعض سفاره إلى طرسوس - وقيل إنه تولى بها القضاء - فعقد له مجلس وعظ، وأدركته رقة خشية وروعة من ذكر الله تعالى فخر مغشيا عليه، ومات سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة ست وثلاثين - رحمه الله تعالى: وعرف والده بالقاص لأنه كان يقص الأخبار والآثار.
ترجمة أم سليم (أم أبي عمير)
هي: أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية الخزرجية النجارية، أم أنس بن مالك.
كانت تحت مالك بن النضر والد أنس بن مالك في الجاهلية، أسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك فخرج إلى الشام فمات بها .. وعن أنس بن مالك : أن أبا طلحة خطب أم سليم، فقالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد ينبت من الأرض ينجرها حبشي بني فلان؟ قال: بلى! قالت: أفلا تستحي تعبد خشبة؟ إن أنت أسلمت فإني لا أريد الصداق غيره.
قال: حتى أنظر في أمري، فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالت: يا أنس: زوج أبا طلحة، فتزوجها. كانت أم سليم، تقول: لا أتزوج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس، فيقول – أي أنس: جزى الله أمي عني خيراً، لقد أحسنت ولايتي!
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -: أن النبي كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له. ترجمة أم سليم.
وعن أنس أنه قال: لم يكن رسول الله له يدخل بيتاً غير بيت أم سليم إلا على أزواجه فقيل له فقال: (إني أرحمها قتل أبوها وأخوها معي) وكانت أم سليم تغزو مع رسول الله، ولها قصص مشهورة، منها قصتها المخرجة الصحيحين: لما مات ولدها ابن أبي طلحة، فقالت لما دخل: لا يذكر أحد ذلك، لأبي طلحة قبلي، فلما جاء وسأل عن ولده؛ قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه عوفي، وقام فأكل، ثم تزينت له وتطيبت فنام معها وأصاب منها.
فلما أصبح قالت له: احتسب ولدك، فذكر ذلك للنبي .. فقال: (بارك الله لكما في ليلتكما). فجاءت بولد هو عبد الله بن أبي طلحة، فأنجب ورزق أولاداً قرأ القرآن منهم عشرة.
وفي الصحيح أيضاً، عن أنس: أن أم سليم لما قدم النبي إلى المدينة قالت: يا رسول الله، هذا أنس يخدمك وكان حينئذ ابن عشر سنين، فخدم النبي ﷺ منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر بخادم النبي ﷺ.
روت أم سليم عن النبي ﷺ عدة أحاديث، وروى عنها ابنها أنس، وابن عباس، وزيد ابن ثابت، وآخرون.
عن أنس: عن النبي ﷺ، قال: (دخلت الجنة فسمعت خشفة -حركة المشي وصوته-، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك).
ترجمة أبي طلحة الأنصاري (والد أبي عُمير)
أبو طلحة الأنصاري هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد بن مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
شهد العقبة وبدراً، وكان نقيباً، وهو زوج أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك -رضي الله عنهم.
عن أنس بن مالك، قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها .. قال ثابت: فما سمعت بامرأة كانت أكرم مهراً من أم سليم ولما هاجر رسول الله ﷺ والمسلمون إلى المدينة.
آخى رسول الله -ﷺ- بـيـن طلحة وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشهد أبو طلحة المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وكان من الرماة المذكورين من الصحابة، وهو من الشجعان المذكورين، وله يوم أحد مقام مشهود.
كان يقي رسول الله له بنفسه ويرمي بين يديه ويتطاول بصدره ليقي رسول الله ﷺ، ويقول: نحري دون نحرك، ونفسي دون نفسك. وكان رسول الله ﷺ يقول: (صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة رجل). وأبو طلحة هو الذي حفر قبر رسول الله ﷺ ولحده.
وعن أنس: أن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية: {انفروا خفافًا وثقالاً}، قال: أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً .. جهزوني، فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله ﷺ حتى قبض، ومع أبي بكر ومع عمر! فنحن نغزو عنك ! فقال: جهزوني، فجهزوه، فركب البحر، فمات، فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق