أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 7 يوليو 2023

من أدب الإسلام بقلم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (رحمه الله) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

من أدب الإسلام

بقلم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (رحمه الله)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: هذه رسالةٌ توجيهيةٌ سلوكية لطيفةٌ، جمعت جُملاً مختارةً من أدب الإسلام الحنيف، يغفُل عنها كثيرٌ من الإخوان والأحباب، وهي آدابٌ تتصل بحياة المسلم، وتشمل آداباً للكبار والصغار، الرجال والنساء؛ حتى في أدنى الأمور شأناً، كآداب دخول البيت، والخروج منه، وكيفيّة الجلوس فيه، وللإسلام الحنيف آدابٌ وفضائلُ أخرى كثيرة، دعا إليها وحضّ عليها لتتكامل الشخصيّةُ المسلمة، ويتحقّق الانسجام بين النّاس.

أهمية هذه الرسالة:

١) بيان أهمية الآداب من كونها لباب الشريعة، وأهم مقاصدها، وأنها ليست على طرف الدين أو الحياة كما يتصور بعض الناس.

٢) التنبيه على مجموعة من الآداب التي قلَّ اعتناء الناس بها؛ لئلا يتساهل أو يُقصر الإنسان في فعلها.

وقد أشار الشيخ عبد الفتاح في مقدمة كتابه إلى جملة من التنبيهات، نُشير إليها:

١) أن ما جمعه في هذه الرسالة هي جملٌ مختارة من الآداب، فلم يذكر فيها الأدبَ كُلَّه، ولذلك سمّاها "من أدب الإسلام".

٢) أنه ذكر أنفع الآداب، وألصقها بحياة الناس، ومعاملاتهم، مما يحتاجون إليها.

٣) وذكر أنه صنَّف هذه الآداب تذكيراً لنفسه، ولإخوانه ممن يغفلون عن هذه الآداب.

٤) وذكر أن هذه الرسالة طُبعت سبع مرات في آخر كتاب "رسالة المسترشدين" للحارث المحاسبي، وكانت موجزة في سبع ورقات، ثُمَّ طُبعت بعد ذلك في كتاب مستقل، فجاءت أوعب وأوفى.

٥) وأشار أنه لا يذكر في هذه الرسالة إلا الحديث الصحيح أو الحسن، ولا يُسَلَّم له في كل ما قاله، فإن بعضها ضعيف، كحديث: "أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف" (رواه الترمذي) هذا حديث ضعيف، وقد ضعفه أكثر أهل العلم، وحديث: "لا يحل لامرئ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل" (رواه أبو داود)، وهو ضعيف.

الكـلام عـلـى الكـتاب:

- ذكر الشيخ في كتابه سبعةٍ وثلاثين فقرة متضمنة للآداب، وقد ساقها في صيغة النصائح والإرشادات، ومنها ما هو مُعادٌ لأجل التأكيد، أو للحاجة، أو للتداخل، فإن من شأن الآداب التداخل والتقارب والتكرار.

- وجملة ما ذكر من الآيات (٩) آيات، وجملة ما ذكر من الأحاديث المرفوعة حوالى (٥٨) حديثاً، وجملة الآثار عن الصحابة والتابعين، بلغت أكثر من (٣٥) أثراً.

-وأطال الشيخ رحمه الله النفس في الحديث عن أدبين جليلين، وهما: أدبُ الاهتمام بالمظهر والثياب، وأدب احترام الكبراء وأهل العلم والفضل، ولعله كان يرى تقصيراً كبيراً في هذين البابين.

-أنه خصَّ المسلمات بآداب زيارة الأهل، فأجاد رحمه الله وأفاد، وذكر ذلك في رقم (٣٣).

-وقد اعتمد الشيخ رحمه الله في كتابه هذا على بعض كتب الفروع والآداب، فنقل عن الإمام البخاري في كتابه "الأدب المفرد"، وعن النوويِّ في كتابيه "رياض الصالحين" و"الأذكار"، و"دليل الفالحين" لابن علان، ونقل عن ابن رشد في كتابه "البيان والتحصيل"، وعن ابن عبد البَّر في كتابه "الكافي" في الفقه المالكي، والقرافي في كتابه "الفروق".

-ولم أقف على شرح لهذا الكتاب، سوى ما كان من تعليقات شيخنا "الدكتور بسام الصفدي" حفظه الله، حيث علَّق عليه تعليقات مفيدة، وذلك منشورٌ على الإنترنت ضمن سلسلة "الفواكه البدرية في الدروس الغزية"، فارجع إليه فإنه مُفيدٌ جداً.

-ومما يؤخذ على الشيخ –ولعلَّه لم يقصد ذلك- قوله (ص ٣٠) عند حديثه عن تشييع الميِّت: "وإن أمكنك تشييع الميت إلى مثواه الأخير فافعل"، فهذا خطأٌ فاحش، فإن القبر ليس هو المثوى الأخير، وإنما المثوى الأخير هي الجنة أو النار.

وذكر الشيخ عبد الفتاح بعض المسائل الفقهية المتعلقة بالآداب، منها: 

١) مسألة: زيادة لفظ (سيدنا) في الصلاة والسلام على رسول الله ، (ص 8) والصحيح المختار أن أفضل الأذكار هو ما جيء به على الوجه الذي جاء به صاحب الشريعة، فلا يُزاد عليها ولا يُنقص، كالتشُّهد في الصلاة –مثلاً- وأما في غيرها من المواضع فجائزٌ ولا حرج.

٢) مسألة: إذا كان في المجلس كبار وفضلاء، فهل يبدأ بهم عند المصافحة والإكرام، أم يبدأ باليمين (ص ٢٤) ؟ وذكر أن الأصل البداءة بالكبار والفضلاء ثم يتيامن، وأنّ الصغير إذا طلب شيئاً فهو أحقُّ به من غيره، فيقدم على الكبار في هذه الحالة فقط.

٣) مسألة: إذا دعاه أبوه أو أمه، وكان في صلاة النافلة فهل يقطعها، أم يخففها ويتجاوز فيها (ص ٢٥)؟ فاختار الثانية وهو الأكمل.

٤) مسألة: الضرب بالدَّف، واتفق الفقهاء على جوازه للنساء، واختلفوا في جوازه للرجال (ص ٣٦)، والصحيح أنه لا يجوز لهم ذلك، واختار الشيخ جوازه.

٥) مسألة: الغناء المباح للنساء (ص ٣٨)، وهو ما كان في الأشعار والأقوال الحسنة مما لا تغزَّل فيه بالحب والجمال والخدود والقدود والفجور، واختار أن يقلن قولاً نظيفاً لطيفاً فيه إظهار الفرح والسرور.

ترجمة موجزة لشيخ مشايخنا الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى

(منقول من كتاب إمداد الفتاح للشيخ محمد عبد الله رشيد)

(ص ١٤١ -١٧٦)

يقول الشيخ محمد آل رشيد: أثناء إعدادي لهذا الثبت في حياة شيخنا - رحمه الله تعالى -رجوتُه بكتابة ترجمة ذاتية وافية أفتتح بها هذا الكتاب، فوعدني بذلك، وتكرر مني الرجاء، ثم حال الأجل دون تحقيق الأمل فكتبت ترجمة موجزة عنه سيطلع عليها القارئ بعد صفحات، وبعد مرور سنة على وفاة شيخنا - رحمه الله تعالى - وقف نجله الأخ الكريم الأستاذ الشيخ سلمان -حفظه الله تعالى -على مسودة كتبها الشيخ بخطه في إحدى عشرة صفحة فيها بداية ترجمة لنفسه وذكر لنشأته. فقدم لي الأخ سلمان هذه الورقات بعد انتهائي من كتابة الترجمة الموجزة الآتية، وإعدادي الكتاب للطباعة، فاستحسنت إيراد هذه الكلمات التي تتعلق بنشأة الشيخ - رحمه الله تعالى - كما كتبها بقلمه وأسلوبه 

جزء من ترجمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى بقلمه

بسم  الله  الرحمن الرحيم 

الحمد لله الحي القيوم الذي تفرّد بالبقاء، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا ورسولنا محمد أفضل الأنبياء، وعلى آله الأطهار  وصحبه الأخيار الأمناء، وعلى من تبعهم بإيمان وإحسان إلى يوم اللقاء أما بعد:

فيقول العبد الضعيف، والمذنب الأسيف غريق بحر ذنوبه، وأسير غامر خطاياه وذنوبه: عبد الفتاح بن محمد بن بشير بن حسن أبو غدة، الحلبي بلداً الحنفي مذهباً الخالدي نسباً، المنسوب إلى سيدنا خالد بن الوليد المخزومي أبي سليمان، ونصير الإسلام والإيمان، رضي الله عنه ونفعنا بحبه والسير على نهجه ودربه: 

هذه كلمات وجيزة وجمل من سيرة كاتب هذه السطور عزيزة أردتُ بها التعريف بحياتي ومبدئي ومالي، والله يسبلُ ستره علي، ويرحمني ويرحم مشايخي ووالدي وهو الغفور الرحيم والبر الكريم، وهو ولي المؤمنين، وأرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وآله وعلى من سار على نهجه ومنواله .

 وأعود، فأقول: طلب مني بعض الأحباب والمحبين، ذكر ترجمتي لتكون مقدمة لما صنعه من «ثبتي»، والله يجزيه على حسن نيته وكريم طويته. فأجبته إلى ما التمسه، وأنا ممن إذا حضر لا يعرف، وإن غاب لم يذكر، وما أردت أن أردَّ طلبه وحسن ظنه، فإنَّ ردَّ محسن الظن ليس بحسن والله يعفو ويصفح، وهو يعطي ويمنح، وهو خير المعطين. الجبيلة

- ولدت في مدينة حلب الشهباء من بلاد الشام في حي بالتصغير - في دار قرب باب (الحديد) أحد أبواب حلب في القديم، وما يزال موجوداً معروفاً. 

نشأتي: ولدت من أبوين كريمين معروفين بالدين والستر وحسن السلوك وطيب الذكر رحمهما الله تعالى. ولدت كما سمعت من والدتي عليها الرحمة والرضوان في منتصف رجب عام ١٣٣٦ الموافق ١٩١٧هـ. 

وتربيت في حجر والديَّ رحمهما الله تعالى ورعايتهما إلى أن بلغت سن التكليف، وكان أبي كثير تلاوة القرآن والمحافظة على قراءته في المصحف، ليس بعالم ولكنه يحبُّ العلماء، ويتقصد حضور مجالسهم ودروسهم، والاقتباس من علمهم ،وإرشادهم فكان من المتمسكين بحب الدين، والراغبين في طاعة الله تعالى في مختلف الشؤون.

وكان أبي وجَدِّي رحمهما الله تعالى يحترفان التجارة بصنع المنسوجات الغزلية، التي كانت تسمَّى (الصايات) وهي قماش ينسج بالنول اليدوي، لحمته وسداه غزل، وتارة لحمته وسداه حرير، وكانت منتوجاتهما أعلى المنتوجات جودة وإتقاناً ورونقاً ومتانة، فكانت تطلب من السوق بعينها لذاتها ويصدر منها عشرات المئات إلى تركيا في الأناضول، فكان أهل الأناضول رجالاً ونساء يلبسون منها قبل قيام الطاغية مصطفى كمال بإلزام الرجال بلباس (البدلة) أو (الطقم)، أي: بما عرف آنذاك بلباس الأفندي، محاكاة وموافقة منه للأعداء الكفار الذين اختاروه طاغوتاً على دار الخلافة الإسلامية، بعد إسقاطهم الخلافة العثمانية، فكان المعول الهدام لشعائر الإسلام فألبس الرجال (البدلة) و(البرنيطة) لباس الكفار بعينه.

وألزم النساء بهتك الحجاب، ومنعهن من غطاء الوجه، وذلك معروف في سيرة هذا الظالم الغاشم الأجير لأعداء الإسلام والدين. 

وكان أبي وجدي يتّجران بهذه الصناعة والتجارة، وكانا يُعدان من أهل اليسار المحدود، لا الغنى الطافح المشهود، وكانا من أهل الستر والعفاف وأهل التمسك بالدين وشعائره، وقاما بتنشئة أبنائهما على ذلك، فجزاهما الله تعالى خير الجزاء. 

ثم لما دخلت في السنة الثامنة من العمر، أدخلني جدي رحمه الله المدرسة العربية الإسلامية الخاصة، وكانت ذات تكاليف وأقساط مرتفعة، كما كانت ذات سمت عالٍ، وحزم وإدارة ومتانة في التعليم والأخلاق، فكان لا يدخلها إلا عِلْية القوم الميسورين للحفاظ على أبنائهم وتربيتهم، فدرست فيها من الصف الأول حتى الرابع دراسة حسنة، وتعلمت ما محا مني الأمية، وأكسبني صحة القراءة والكتابة، مع ضعف الخط عندي، فكنتُ الحُسن قراءتي وسدادها الفطري يدعوني كبار أهل الحي ووجهاؤه إلى سهراتهم الأسبوعية الدورية لأقرأ لهم تاريخ فتوح الشام المنسوب للواقدي، وغيره من الكتب التي كان الناس يسمرون على قراءتها؛ فحظيت بصحبة الكبار الوجهاء والنخبة العقلاء الفضلاء،  وأنا في سن العاشرة وبعدها، من صغار أولاد الحي، وأجلس في محضر كبارهم وسمرهم لحُسن قراءتي، وخفة ظلي لصغري، ورفعة مقام جدي ووالدي في الحي. 

وبعد ترك المدرسة توجّهت إلى أن أتعلم تحسين الخط، فدخلت مدرسة الشيخ محمد علي الخطيب بحلب وكان شيخاً صاحب مدرسة خاصة، تعلم القرآن والفقه وحسن الخط فقط، فتحسّن خطي بعض الشيء، ولكني لم أصبر على الاستمرار في تعلم حسن الخط طويلاً، فتركت المدرسة بعد أشهر. فرأى جدي ووالدي بعد أن صلب عودي، وتكاملت يفاعتي: أن أتعلم حرفة أو صنعة، وقالا لي: صنعة أو حرفة في اليد أمان الفقر. 

ولم أكن في ذلك فقيراً بيسر أسرتي والحمد لله، ولكن أرادا أن يكون بيدي حرفة خشية تحول الأيام وتقلبها على الكرام، فتعلمت حرفة الحياكة، بالنول اليدوي، ولم يكن هناك نول آلي، وأحسنت فيها المعرفة بهذه الحرفة، وقد تعلمها أخواي قبلي: أخي الأول عبد الكريم، وأخي الثاني: عبد الغني رحمهما الله تعالى، وكانت تدر مورداً حسناً يفرح به. 

فتعلمتها وصمَّدت (أي ادخرت بلغة أهل بلدنا حلب) بعض الليرات الذهبية العثمانية، فكانت لي خاصة وأما نفقتي وعيشي فتكفل به أبي تمام التكفل، وبقيتُ في هذه الحرفة عاملاً ناجحاً أكثر من سنتين أو ثلاث. ثم بدا لي ولجدي ووالدي أن أتعلم التجارة، وكان لأبي متجر في سوق الزهر بحلب المتفرّع من شارع بانقوسا، تحوّل إليه أبي بعد كساد صناعة (الصايات) بتحول اللباس عند الأتراك من الثياب إلى (البدلة) الفرنجية، فكان متجره في سوق الزهر، يبيع فيه الأقمشة المختلفة مما يلبسه أهل الريف الحلبي. 

فاختار لي أن أتعلم التجارة والبيع والشراء عند صديقه التاجر (عبد السلام قُرُو) التاجر في سوق الطيبية في قرب باب الجامع الكبير الشمالي، فجلست عنده فكان تاجراً يبيه  القمصان والملابس المصنوعة بالجملة والمفرق. 

 وأمضيت عنده نحو سنتين من سنة ۱۹۲٧ - ۱۹۲۸ وزيادة عليها، وكان رجلاً ديناً مستقيماً عفيفاً، يشتري من عنده النساء والرجال، فاستملح وجودي عنده لصغر سني وحسن شكلي، فكنت أراقب حال بعض المشترين أو الشاريات اللاتي يخشى أن يخبئن بعض ما يستعرضه للشراء، فتكون منهم أو منهن سرقة.

ثم انتقلت من عنده إلى تاجر آخر من أصدقاء جدي وأبي وبعض أرحامهما (الحاج حسن التبان رحمهم الله تعالى، وكان تاجراً بالجملة والمفرق له متجر في سوق الجوخ العريض من أسواق مدينة حلب المسقوفة؛ فتعلمت منه ما زادني معرفة بالتجارة وعرضها للمشتري من الرجال والنساء، وبقيت عنده ثلاث سنوات.

ثم رأى جدي ووالدي أن أستقل بالتجارة، وقد قاربت السادسة عشرة، فأدخلاني شريكاً بالعمل دون المال مع التاجر (الحاج محمد دينا) الذي كان تاجراً بسوق الزهر المتفرّع من شارع (بانقوسا)، فشاركته نحو سنتين، وكنت أتولى عنه البيع أكثر النهار، وأقوم بشراء ما نفد من البضاعة من متاجر الجملة في المدينة من تجار (خان الكمرك) وغيره. إلى هنا انتهى ما وجدته مكتوباً بخط شيخنا رحمه الله تعالى وأثابه رضاه.

الفصل الأول ترجمة موجزة لشيخنا عبد الفتاح أبو غدة

بقلم: محمد آل رشيد

ولما أذن لي شيخي - رحمه الله تعالى - بتخريج ثبت له بعد إلحاح مني أردت كتابة ترجمة شاملة عن حياته أستقيها منه فكان يعتذر عن ذلك، وكنت أقتطف شذرات منه عن حياته المباركة بأسئلة مني بين الحين والآخر، واشترط عليَّ ألا أكتب ترجمة له في حياته تواضعاً منه - رحمه الله تعالى ـ وكان يقول لي: أتريد أن تشيخني وبعد وفاته - رحمه الله تعالى - رأيت من الواجب علي أن أكتب ترجمة عنه في مقدمة هذا الثبت واقتصرت على هذه الترجمة الموجزة المختصرة، وللاستقصاء مجال آخر يسر الله ذلك بمنه وكرمه. 

 اسمه ونسبه وكنيته: 

هو أبو الفتوح، وأبو زاهد عبد الفتاح بن محمد بن بشير بن حسن أبو غدة الخالدي المخزومي الحلبي الحنفي. ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل سيدنا خالد بن الوليد سيف الله المسلول رضي الله عنه، وكان لدى أسرة الشيخ شجرة تحفظ هذا النسب وتثبته، والذي كناه بكنيتيه هو شيخه محمد زاهد الكوثري.

مولده وأسرته: 

ولد - رحمه الله تعالى - في مدينة حلب، شمالي سورية، في السابع عشر من رجب من سنة ١٣٣٦ الموافق ١٩١٧م. في بيت ستر عليه ودين، فقد كان والده محمد - رحمه الله - رجلاً مشهوراً بين معارفه بالتقوى والصلاح والمواظبة على الذكر وقراءة القرآن، وكان يعمل في تجارة المنسوجات التي ورثها عن أبيه، حيث كان الجد بشير - رحمه الله تعالى- من أكبر تجار المنسوجات في حلب، والقائمين على صناعتها بالطريقة القديمة. 

نشأته وتحصيله العلمي : 

نشأ شيخنا في بيئة علمية صالحة تحت رعاية أبيه وجده، ولما دخل السنة الثامنة من عمره أدخله جده - رحمه الله تعالى - المدرسة العربية الإسلامية الخاصة؛ فدرس فيها من الصف الأول حتى الرابع، وتعلم فيها ما محا عنه الأمية، وأكسبه صحة القراءة والكتابة مع الخط عنده. 

وبعد ما ترك المدرسة توجه إلى تعلم الخط الحسن، فدخل مدرسة الشيخ محمد علي الخطيب بحلب، وكان يعلم القرآن والفقه والخط فقط، فتحسّن خطه بعض الشيء، لكنه لم يصبر على الاستمرار في تعلم تحسين الخط فترك المدرسة بعد أشهر، واشتغل مع أبيه في صناعة الغزل والنسيج. 

ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره، دَخَل في المدرسة الخُسروية (نسبة إلى خُسرو باشا، أحد رجالات العهد التركي العثماني الذي أنشأها ووقفها رحمه الله تعالى، وهي مواجهة باب قلعة حلب ما تزال قائمة باقية. اهـ من تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي ص ۹۰ لشيخنا رحمه الله تعالى)، وتعرف المدرسة الخسروية اليوم بالثانوية الشرعية، وكان دخوله فيها من عام ١٣٥٦هـ = ١٩٣٦م حتى عام ١٣٦٢هـ = ١٩٤٢م. وكان متفوقاً على أقرانه. 

ثم دخل كلية الشريعة في الجامع الأزهر بمصر في عام ١٣٦٤هـ = ١٩٤٤م وتخرج منها في عام ١٣٦٨هـ = ١٩٤٨م حائزاً على الشهادة العالمية من كلية الشريعة، ثم دَرَس في تخصص أصول التدريس في كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر أيضاً، لمدة سنتين، وتخرج سنة ١٣٧٠ هـ، وعاد إلى بلده حلب. ١٩٥٠م.

أشهر شيوخه: 

تلقى شيخنا - رحمه الله تعالى -العلم عن طائفة من كبار أهل العلم المشهورين بالفضل والتحقيق والصلاح والعمل. وكان ملازماً لهم متأدباً معهم دائم الذكر والترحم عليهم. 

قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مجلس علمي (في يوم الأحد الموافق ١٤١٥/٤/٧ بمدينة جدة في مجمع حافل من العلماء وطلبة العلم الذين تشرفوا بإجازته، وتدبَّج شيخنا في هذا المجلس المؤرخ الشيخ عبد الله الناخبي حفظه الله تعالى) مجيباً من سأله عن أسماء شيوخه: «إن ذكر أسماء مشايخنا هو مدعاة البركة، ومُستَجرُّ الرحمة، لأنه كما قال سفيان بن عيينة: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، فذكر هؤلاء، وهم سادة الصالحين سبب في نزول الرحمة، فكيف بذكر سيد الصالحين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره يكون بركة على الإنسان في نفسه ودينه وأهله وخُلقه وطبعه، وكل حياته وتصرفاته، ولهذا أمرنا بالإكثار من الصلاة على النبي ﷺ، نصلي عليه الصلاة حاضرة الذكر، متأثرة القلب ناتجة عن الحضور مع النبي ﷺ وتذكره، فإذا ألفها الإنسان وداوم عليها، ثم غُلب عليها يوماً أو بعض يوم فلم يقلها يجد في نفسه فارقاً كبيراً .. 

ومشايخنا رحمهم الله تعالى -هم من هذه السلسلة المباركة الطاهرة الكريمة الذين اقتبسوا من الصحابة ثم من التابعين، ثم تابعي التابعين .. ثم .. ثم .. إلى أن وصل الخير إلى مشايخنا ومشايخ -مشايخنا، فكانوا خير أمناء في إبلاغ الرسالة والأمانة من العلم والدين والخلق المحمدي والسيرة الطاهرة.

وإذا نظر الإنسان إلى شيوخه، وجدهم عماد وجوده، لأنَّ الوالد سبب في وجود الإنسان من حيث هو حيوان، ولكن الشيخ في وجود التلميذ والطالب سبب في ارتقائه، ورفعته وبلوغه الدرجة العالية عند الله عز وجل، ثم عند الناس. فلذلك حقُّ العالم على تلميذه مقدم على حق أبيه، وكان أبو يوسف القاضي يدعو كل يوم لأبي حنيفة قبل الدعاء لأبيه، لأن أبا حنيفة أخرجه فجعله إماماً للناس. 

لذلك ينبغي للإنسان أن يذكر مشايخه بالفضل والذكر الحسن والدعاء لهم. وقد قال أبو محمد التميمي الحنبلي - رحمه الله تعالى -: «يَقْبحُ بكم أن تذكرونا وتنتفعوا بنا ولا تترحموا علينا». فهم أسْدَوْا إلينا الخير، وصبروا على جهلنا، لأنَّ الإنسان في بدء طلبه للعلم مثل الآلة الصماء أو الحيوان الأعجم، إذا أردتَ تعليمه لا يفهم، لكن بالتكرار والصبر يسلك الطريق التي تعلمها وينطبع في قلبه العلم، ويتلذذ قلبه بالعلم، ويتعشق العلم على مرارته في أوله تعشقاً حتى إذا بلغ مرتبة حسنة أدرك مرتبة شيوخه وفضلهم وكيف أخرجوه من حال جهله إلى حال علمه، ومن حال إهماله إلى حال ذكره، ونفع الناس جميعاً. 

أما مشايخ العبد الضعيف فكلُّهم أهل تقى وبر وإحسان ـ جزاهم الله خيراً وأحسن إليهم ونفعنا بذكرهم.. ومن مشايخي الذين تعلقت بهم أول الأمر فضيلة الشيخ عيسى البيانوني- رحمه الله - هذا شيخ من شيوخي كان في حينا (الجبيلة)، وكنتُ أصلي في المسجد عنده، وكان شيخاً من محبي النبي ﷺ حباً جماً جماً جماً. 

وكان حبه للرسول ﷺ يؤثر على مجالسيه، وكان يدرسنا الأخلاق، والأخلاق تدرّس ولكن تدريسها غير تطعيمها، التدريس سماعُ الأذن، والتطعيم إشباع القلب، ففرق بين الأذن والقلب. 

إذا اشــتــبــكــث دموع في خدود ... تبيَّن مــن بـکـی مــمــن تـبــاکــی 

فكان الشيخ -رحمه الله ـ بحاله ومقاله محبباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان سالكاً السلوك الصالح التقي النقي مع الزهد والورع والتقوى والحب للخير، والصبر على طلبة العلم جزاه الله خيراً. وكان هذا من شيوخي الذين أولوني حبّهم وعطفهم وخيرهم، فانتفعت بهم، ودرست بين أيديهم، وهم أهل بركة كبيرة علي. 

ومن مشايخي: الشيخ إبراهيم السلقيني-رحمه الله تعالى - وكان شيخاً من الأولياء، من أهل الصلاح، ومن الزهد والعلم والتقوى على مرتبة عالية، وعاش قريباً نحواً من مائة سنة، كان يدرسنا النحو في «القطر»، وكان يغلبه البكاء، فكان حاله ينفعنا أكثر من انتفاعنا بالمواعظ. 

ومن مشايخي الشيخ محمد راغب الطباخ، مؤرّخ حلب ومحدثها، كان يعتني بالحديث الشريف، ويهتم بنشر السنة المطهرة، وبعث العلم بين الطلاب، كان يزقُهم به زقّاً، كما تزقُ الطير فرخها، تحننه عليها حتى يتوجه إليها، فيفتح منقاره وفمه فتزقه زقاً. فكان الشيخ يحب أن يزقنا بالعلم زقّاً، فجزاه الله خيراً وأحسن إليه. وكان يدرسنا الحديث الشريف والسيرة النبوية والتاريخ. وإذا مَرَّت به فائدة أثناء التدريس تتصل بموضوع الدرس، أنه كان يقدمها لنا، في أحسن وعاء وأفضل عطاء.

ومن شيوخي الذين انتفعت بهم الشيخ محمد الناشد، وهذا الشيخ كان عالماً جليلاً في النحو والعربية، وحفظ النصوص غيباً، وكان أيضاً من الشيوخ الفطريين، المُجَالِسُ لهم كأنه يجلس أمام طفل في براءته، ولكنه في العلم فحل. 

وكذلك من شيوخي -رحمه الله تعالى -الشيخ محمد سعيد الإدلبي، هذا الشيخ أيضاً يشبه شيخنا الشيخ محمد الناشد، في مثل الجمل، تأخذ الوليدة بعنانه، فيمشي وراءها، بسيط جداً جداً، وأما في العلم فهو بحر واسع المدى وواسع الصدى، وفضله كبير وتقواه كثير، وفطرته معلمة - رحمه الله تعالى.

وكذلك من شيوخي ومن أكابر العلماء  الشيخ محمد نجيب سراج الدين -رحمه الله تعالى.

ومن شيوخي أيضاً الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، وكان هذا الشيخ يقوم مقام رئيس الوزراء في الدولة العثمانية، له مقامه وفضله واحترامه وجرأته في الحق. وله تأليف كثيرة منها (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)، صارع فيه الملاحدة والعلمانيين فصرعهم وطرحهم ... 

ومن شيوخي أيضاً صاحبه ونائبه لوكالة المشيخة الإسلامية، أستاذنا الشيخ محمد زاهد الكوثري، وقد شهد له بالإمامة البعيد والقريب، والصديق وغير الصديق، لأنَّ الله آتاه علماً وحفظاً وفهماً وقدرة وأداء، فكان فيه مجمع خصال فاضلة، لا تتوفّر إلا في عدد قليل من العلماء، فكان هو مجمع الفضائل، فلذلك كان ينتفع به علماء الهند وباكستان والشام والمغرب والأزهر الشريف في مصر، وكانوا ينظرون إلى هذا الشيخ أنه إمام أهل عصره ومصره ـ رحمه الله تعالى. 

وشيوخي كثيرون وأكتفي بهذا القدر، فرحمة الله على شيوخي وشيوخ شيوخي، وجزاهم الله عنا خيراً، وأكرمهم بمقعد الصدق عنده، وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين» انتهى كلام شيخنا - رحمه الله تعالى.

وقال شيخنا - رحمه الله تعالى - في كتابه «كلمات» (ص ۳۸): فقد تلقيت العلم عن نحو مائة عالم والحمد لله في بلدي حلب وفي غيرها من بلاد الشام ومكة والمدينة المنورة ومصر والهند وباكستان والمغرب وغيرها، فلي من الشيوخ قرابة مئة شيخ، تلقيتُ عنهم، وأخذتُ منهم، وكل واحد منهم له مشربه ومذهبه، وما التزمت قول أحد لأنه شيخي وأستاذي، بل ألتزم ما أراه صواباً وأعتقده حقاً منهم أو راجحاً». 

بعض مقروءاته على شيوخه: 

لازم شيخنا - رحمه الله - شيوخه وانتفع بهم، وقرأ عليهم، وأذكر -الآن -بعض مقروءاته التي قرأها عليهم كما سمعتها منه، وقيدتها عنه. قرأ على شيخه الشيخ عيسى البيانوني كتباً كثيرة، وبخاصة فيما يتعلق بالأخلاق والسلوك، ومنها: «شروح الحكم» لابن عطاء الله الإسكندري كشرح ابن عجيبة وابن البنا، وابن عباد. و«التنوير بإسقاط التدبير» لابن عطاء الله أيضاً. وكتاب «تنبيه المغترين» للشعراني، و«بداية الهداية» للغزالي، و«تفسير سورة الإخلاص» للإمام ابن تيمية وغيرها من الكتب. وكان بعضها بحضور الشيخ أبي النصر خلف رحمهم الله تعالى .

وقرأ على شيخه العلامة المحدث المؤرخ محمد راغب الطباخ كتباً منها: «مقدمة ابن الصلاح» و«الموضوعات الكبرى» لملا علي القاري، و«التجريد الصريح مختصر أحاديث الجامع الصحيح» للزبيدي، و«الشمائل المحمدية» للترمذي، و«نور اليقين وإتمام الوفاء» للشيخ محمد الخضري، والثقافة الإسلامية» للشيخ محمد راغب الطباخ. 

وقرأ على شيخه المفتي أحمد الكردي كتباً منها: «اللباب شرح الكتاب» لعبد الغني الميداني - تلميذ ابن عابدين، و«نفحات الأزهار» لابن عابدين  وقرأ على شيخه الشيخ إبراهيم السلقيني (الجد) «شرح الأزهرية» في النحو لخالد الأزهري، و«شرح القطر» لابن هشام. وقرأ على شيخه الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم السلقيني -حفظه الله -«نفحات الأزهار». وقرأ على شيخه الشيخ أسعد العبجي الشافعي «قطر الندى». 

وقرأ على العلامة الشيخ محمد الرشيد الحنفي «صحيح الإمام مسلم»، و«مراقي الفلاح»، و«حاشية ابن عابدين». وقرأ على شيخه فقيه العصر الشيخ مصطفى الزرقا «درر الحكام شرح غرر الأحكام» لملا خسرو، و«الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» ليحيى بن حمزة العلوي، وقسماً. «الموافقات» للشاطبي، و«الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن الشيباني. 

وفي مصر قرأ على شيوخه في الجامع الأزهر، عندما كان في أوج مجده العلمي، فشرب من بحر علمه وارتوى، كما قرأ خارج الأزهر على عدد من كبار الشيوخ وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى صبري قرأ عليه كتابه «القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون به»، وقرأ على الشيخ محمد زاهد الكوثري في فنون متعددة وعلوم مختلفة، وتردد على العلامة الشيخ أحمد شاكر واستفاد منه، وحضر دروس الثلاثاء للداعية الكبير، الشيخ حسن البنا. 

وقرأ على السيد عبد الله بن الصديق الغماري «مقدمة ابن الصلاح»، و«مقدمة صحيح مسلم»، وأما أخوه السيد أحمد بن الصديق؛ فلم يكن لشيخنا - رحمه الله تعالى - به صلة أثناء دراسته بالأزهر، وذلك لعدم وجود السيد أحمد وقتذاك في القاهرة. ولما طبع ثبته «المعجم الوجيز للمستجيز» سنة ۱۳۷۳ هـ، أرسل نسخة مقرونة بالإجازة بتاريخ ١٨ من شعبان ۱۳۷۳هـ إلى شيخنا -رحمه الله تعالى -وبعد ذلك تلاقيا في مدينة حلب سنة ۱۳۷۷هـ حيث كتب شيخنا على نسخته من «المعجم الوجيز» ما نصه: 

يقول الفقير إلى الله تعالى عبد الفتاح أبو غدة: هذه الإجازة من شيخنا -رحمه الله تعالى - كانت مكاتبة بعث بها إلي قبل أن ألقاه، ثم قدم إلى بلدنا حلب في ليلة يوم الجمعة ٥ من جمادى الآخرة سنة ١٣٧٧ هـ، وبقي فيها إلى ما بعد ظهر يوم السبت من المذكور؛ فالتقيت به طوال هذين اليومين، وأجازني مشافهة، وسمعت منه حديث الرحمة بشرطه، واستوصيته فأوصاني بما يلي: 

((أوصيك بالكتب وقراءتها والعمل بها، وأوصيك بالمذهب للعامة ولنفسك بالدليل، وأوصيك بسبل السلام، ونيل الأوطار، والمحلى لابن حزم، ولمعرفة الحديث الكتب الستة ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي وكتب الموضوعات - بقراءتها مراراً متعددة - والجامع الصغير والترغيب والترهيب للمنذري، ومجمع الزوائد للهيثمي، ولمعرفة الرجال والجرح والتعديل : ميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان لابن حجر مطالعةٌ تامة، وللمراجعة تهذيب التهذيب لابن حجر. هذا لفظه أثبته هنا بعد وداعه وسفره - حفظه الله تعالى في الحَطّ والتّرْحال .. وكتبه عبد الفتاح أبو غدة ٧ من جمادى الآخرة ۱۳۷۷هـ)) انتهى.

وقرأ على الشيخ عبد الحفيظ الفاسي بالمغرب جزءاً للمنذري في «اصطناع المعروف». وله مقروءات كثيرة أخرى على عدد من شيوخه لم يتيسر لي حصرها وذكرها ولعل الله يوفق لاستقصائها في الترجمة المطوّلة

رحلاته العلمية:

قام شيخنا - رحمه الله تعالى - بالعديد من الرحلات العلمية وزار عدداً من  البلدان الإسلامية، مفيداً ومستفيداً، فرحل إلى دمشق والتقى بعلمائها، ومن أشهرهم آنذاك الشيخ محمود العطار، والشيخ علي التكريتي، والشيخ علي الدقر، والشيخ أبو الخير الميداني، وغيرهم من علماء دمشق الأعلام. 

ورحل إلى مصر للدراسة في الأزهر المعمور، وأخذ عن علمائها وتلقى عنهم من أزهريين وغيرهم منهم: الشيخ يوسف الدجوي، والشيخ مصطفى صبري والشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ أحمد بن محمد شاكر، والداعية حسن البنا، وتأثر به، والشيخ عيسى منّون، والشيخ عبد المجيد دراز، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبد الحليم محمود، وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم في سَرْد أسماء شيوخه رحمهم الله تعالى. 

ورحل إلى الحرمين الشريفين حاجاً وزائراً عام ١٣٧٦ والتقى بكبار علماء الحرمين؛ فالتقى بالمدينة المنورة بالشيخ بدر عالم، وبالشيخ إبراهيم الخُتَنِي. وبمكة المكرمة: بالشيخ محمد يحيى أمان، والسيد علوي المالكي، والشيخ حسن مشاط، والشيخ محمد ياسين الفاداني وغيرهم رحمهم الله تعالى. 

ورحل إلى الهند وباكستان ماراً بالبصرة وبغداد سنة ١٣٨٢ لمدة ثلاثة أشهر، ولقي بالعراق شيخه أمجد الزهاوي، والسيد فؤاد الآلوسي، والشيخ عبد القادر الخطيب وغيرهم. 

ثم رحل إلى الهند وباكستان من العراق عن طريق البحر، والتقى بأجلة الشيوخ والعلماء في تلك الديار، منهم العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي والشيخ عتيق الرحمن كبير علماء دهلي، والشيخ أبو الوفا الأفغاني والداعية محمد يوسف الكاندهلوي - صاحب کتاب «حياة الصحابة»، والشيخ منظور النعماني، والسيد أبو الحسن الندوي، وغيرهم. 

واستفاد من المكتبات العامة والخاصة، وأحضر معه كتباً نادرة، لم تكن معروفة في البلاد العربية وبخاصة كتب الإمام عبد الحي اللكنوي، التي اعتنى بتحقيق بعضها ونشرها. 

وفي باكستان التقى بكبار العلماء هناك، أمثال من المشايخ: الشيخ محمد شفيع مفتي باكستان والسيد محمد يوسف البنوري، والعلامة الشيخ لطف الله، والشيخ نور أحمد، وغيرهم من كبار أهل العلم. ولقي من كبار علماء الهند وباكستان كل حفاوة وتقدير وتكريم. 

قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مقدمة تحقيقه لكتاب «التصريح بما تواتر في نزول المسيح» (ص ٤ - ٥): ولما ذهبت إلى مطار كراتشي للسفر منه - صباح الأحد ٨/ من جمادى الأولى سنة ۱۳۸۲ - وجدتُ شيوخ العلم والفضل فيه خرجوا ليكرموا العاجز الضعيف بالازدياد والتَّزود من لقائهم الغالي، وقبل أن ساعة السفر أُعلِنَ تأخيرُ إقلاع الطائرة عن موعدها ساعتين، فرجوت من الأساتذة الأجلة أن يعودوا إلى مهام أعمالهم، فلم يكن منهم غيرُ الإصرار على زيادةِ فضلهم بالبقاء لوداع العبد الضعيف حتى اللحظة الأخيرة. تحين فكانت فرصة سانحة كريمة وجلسنا في ناحية من المطار، ومع الشيوخ الأكارم جمهرة كبيرة من صحبهم ومحبيهم أهل الدين والصلاح، ووجوه الإسلام العامل في كراتشي؛ فكانت حلقة واسعة جامعة، جمعت من العلماء الأفاضل نخبة كريمة، أتذكر منها الآن: 

أستاذنا العلامة الجليل الكبير الشيخ محمد شفيع، وأستاذنا العلامة الفذ المفضال الشيخ محمد يوسف البَنُّوري مؤسس المدرسة العربية الإسلامية في كراتشي، والأستاذ العلامة الشيخ لطف الله كبير المدرسين في المدرسة العربية، والأستاذ العلامة الشيخ نور أحمد الأمين العام لمدرسة دار العلوم الإسلامية الآنفة الذكر، وكان غيرهم من كرام أهل العلم ممن غابت عني أسماؤهم الآن! فرغبتُ أن نملأ الوقت بالاستفادة الغالية من بدور العلم والفضل، فأخرجتُ كتاب «التصريح بما تواتر في نزول المسيح» هذا، ورجوتُ من سادتنا العلماء أن أقرأ طرَفَاً من الكتاب عليهم فرحبوا أطيب ترحيب، فرجوتُ منهم أن يتكرَّموا بـ «الإجازة» لي قبل القراءة فجادوا بها.

فقرأت مقدّمة مولانا الشيخ محمد شفيع كلها، وثلاثة أحاديث من الكتاب، ثم تفضَّلَ بالقراءة أستاذنا مجمع الفضائل والعلوم العلامة الشيخ محمد يوسف البَنُّوري حفظه الله تعالى، فقرأ خمسة أحاديث بعدها، وجرى خلال ذلك إفادات متنوعة من المشايخ الفضلاء. 

ولما قاربت ساعة الرحيل أنشدتُ حينذاك ما أَنشدنيه شيخنا آخرُ شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية العلامة شيخ الإسلام مصطفى صبري -رحمه الله تعالى -حين ودعته مسافراً من مصر إلى بلدي: 

قالتْ ومَدَّتْ يَداً نحوي تُودِّعُني .. ولَوْعَةُ البين تأبى أن أمـد يدا

أمـيـت أنتَ أم حَيَّ؟ فقلتُ لها .. من لم يَمُتُ يومَ بَيْن لم يـ يمت أبدا 

فأنشد شيخنا محمد شفيع، قوله: 

تذكَّر عهداً بالحِمَى ثم مَعْهداً .. جَرَى فيه من دور الكؤوس تسلسل 

بكينا فأبكينا ولا مثل نافق .. لحنظلة في الحي حين تحملُوا 

وكان حال شيخنا البنوري وحالي يقول:

ويـبـكـي فـأبـكـي رحمةٌ لبكائه .. إذا ما بکـي دمـعـاً بـكـيـت لـه دمـا

ثم كان الوداع والفراق. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. 

وفي شهر رمضان (من) عام (۱۳۸۳ هـ) دعاه ملك المغرب الحسن الثاني لإلقاء محاضرات في الدروس الحسنية، فالتقى هناك بطائفة من العلماء، من أجلهم العلامة المحدث الشيخ عبد الحفيظ الفاسي، وقصة لقائه كما حدثني بها فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - فقال: حينما سمع الشيخ عبد الحفيظ الفاسي محاضرتي التي ألقيتها في الدروس الحسنية، أعجب بها، فأرسل إليَّ يطلبني لزيارته، وكان عمره آنذاك (۸۷ سنة)، فأجازني وأجزته بناءً على طلبه وإلحاحه.

قلتُ: وهذا نص إجازة العلامة عبد الحفيظ الفاسي لشيخنا - رحمهما الله تعالى ـ التي كتبها في أول كتابه «استنزال السكينة الرحمانية في التحدث بالأربعين البلدانية» ومن خطه نقلت: الحمد لله: أجزتُ العالم العلامة الحافظ سيدي عبد الفتاح بن محمد أبو غدة الحلبي حين وروده على الرباط باستدعاء من جلالة الملك الحسن وفقه الله، فسمع مني كما سمعت منه الأولية، وتدبجنا الإجازة، فأجزته بكل ما تصح لي روايته ودرايته وما ألفته إجازة عامةً مطلقة تامة. وذلك يوم الثلاثاء رابع وعشرين شهر رمضان المعظم عام ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف.

كتبه عبد ربه عبد الحفيظ بن محمد الطاهر الفهري نسباً، الفاسي مولداً ولقباً الرباطي . بحمد الله وحسن عونه. 

وقد شارك شيخنا - رحمه الله تعالى -في هذه الدروس الحسنية لعدة سنوات، وعندما قدَّم ملك المغرب للحاضرين نسخاً من المصحف الشريف، قال له شيخنا - رحمه الله تعالى هذا القرآن يستحبُّ أن يكون معه تفسير، ومن أحسن التفاسير: تفسير ابن عطية الأندلسي «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز»، كما أشار عليه بطباعة كتاب «التمهيد لابن عبد البر»، وكلاهما من كبار علماء المغرب، فوافق على اقتراحه وأشار بطباعتهما، وقد تم ذلك بتوجيه شيخنا - رحمه الله تعالى ..

 ورحل إلى بلدان كثيرة يطول تفصيلها فرحل إلى باكستان مراراً وكنت بصحبته مرتين، ولقي كل حفاوة وتكريم، ورحل إلى الهند مراراً، كنت في صحبته في واحدة فزار دلهي، ولكنو، وموْ، وبنارس، وبانده وقرى كثيرة، ألقى فيها الدروس واستجازه كبار العلماء والطلبة.

كما رحل إلى السودان وانتدب أستاذاً زائراً في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان عام ١٣٩٦ هـ، واستفاد منه خلق كثير، وله فيها تلاميذ كثيرون ينشرون العلم ويفيدون الناس. ورحل إلى اليمن ودرس في جامعتها عام ١٣٩٨ هـ، ودخل صنعاء وتعز وزبيد وأخذ عن علمائها منهم المقرئ السيد يحيى الكبسي والشيخ ثابت بهران وغيرهما.

ورحل إلى تركيا مراراً، وله فيها تلاميذ لا يحصون كثرة. ورحل داعياً إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة إلى بخارى وسمرقند وطاشقند معلماً وموجهاً، وسعدت بصحبته في هذه الرحلة. 

ورحل إلى أفغانستان ساعياً للإصلاح بين الفئات المسلمة المتقاتلة هناك، كما رحل إلى كثير من البلاد الإسلامية وغيرها مثل الكويت والإمارات وتونس والجزائر والأردن وفلسطين -قبل الاحتلال -وقطر والصومال وجنوب أفريقيا وأندونسيا وبروناي وكندا وبعض دول أوروبا وأمريكا، وشارك في مؤتمرات وندوات كثيرة جداً. 

وكان الشيخ رحمه الله يصطاف في لبنان في فصل الصيف لسنوات عديدة قبل اندلاع الحرب اللبنانية في ربيع ١٩٧٥ م، وكان يشتغل أثناء إقامته في المصيف بأعمال دعوية وبإعداد كتبه والإشراف على طباعتها. 

وظائفه: 

بعد تخرجه من الأزهر وعودته إلى بلده حلب تقدم لاختبار مدرسي الديانة والتربية الإسلامية في وزارة المعارف السورية، لعام ١٣٧١ - ١٩٥١م، فكان الناجح الأول فيها، ودرس لمدة إحدى عشرة سنة في ثانويات حلب مادة الديانة الإسلامية.

ودرس في المدرسة الشعبانية والثانوية الشرعية التي تخرج منها. 

ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق لمدة ثلاث سنوات من سنة ١٣٨٣ - ١٣٨٥ هـ، ودرس الفقه الحنفي وأصول الفقه، والفقه المقارن بين المذاهب.

وفي سنة ١٣٨٥ هـ، تعاقد مع كلية الشريعة بالرياض، وقد سمعت من شيخنا -رحمه الله تعالى - أن المفتي فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله تعالى - أرسل إليه تلميذه الشيخ عبد العزيز الشلهوب -رحمه الله تعالى -مدير معهد إمام الدعوة بالرياض، وطلب منه أن يأتي للتدريس في الكلية بطلب من المفتي، فاستجاب الشيخ لرغبته. 

ودرس أيضاً في المعهد العالي للقضاء، كما درس نحو عشر سنوات في الدراسات العليا في كلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -قسم الحديث الشريف وعلومه، وأشرف على الكثير من الرسائل العلمية العالية لطلبة الماجستير والدكتوراه، وتخرج به الكثير من الأساتذة والقضاة والعلماء. 

وعين عضواً في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ممثلا لعلماء سورية خلفاً للعلامة المجاهد المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني الدمشقي المتوفى سنة ۱۳۹۸ رحمه الله تعالى، (تأسست رابطة العالم الإسلامي في العام ۱۳۸۱هـ، وهي منظمة إسلامية دولية غير حكومية. أهدافها: تبليغ دعوة الإسلام وشرح مبادئه وتعاليمه، ودحض الشبهات عنه، والتصدي للتيارات والأفكار الهدامة، والدفاع عن القضايا الإسلامية. وهيكلها التنظيمي: يتكون من المؤتمر الإسلامي العام، والمجلس التأسيسي، والمجلس الأعلى للمساجد، والأمانة العامة للرابطة، المؤتمر الإسلامي العام أعلى هيئة تشريعية في الرابطة، المجلس التأسيسي يضم في عضويته ٥٥ عضواً من العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي، المجلس الأعلى للمساجد من الهيئات الرئيسية التي تعمل تحت مظلة الرابطة. والأمانة العامة للرابطة تشرف على تنفيذ قرارات المجلس التأسيسي وتتكون الأمانة أمناء مساعدين وعشر إدارات كبيرة ومقرها مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية اهـ من الموسوعة العربية العالمية ٢٤ : ٢٦٣).

وقد شارك خلال هذه الفترة (۱۳۸٥ -١٤٠٨هـ = ١٩٦٥- ۱۹۸۸م) في وضع خطط جامعة الإمام محمد بن سعود ومناهجها، واختير عضواً في المجلس العلمي فيها، ولقي من إدارة الجامعة كلَّ تكريم وتقدير. 

ثم انتقل للتدريس في جامعة الملك سعود بالرياض، ودرس علوم الحديث في كلية التربية لمدة عامين في السنة الأخيرة من الكلية، وفي الدراسات العليا من سنة (١٤٠٨ إلى ١٤١١ = ١٩٨٨ إلى ۱۹۹۱)، وطلب الإعفاء من التدريس ليتفرغ لأعماله العلمية. 

نشاطه الدعوي والاجتماعي: 

بعد أن عاد الشيخ إلى بلده حلب قام بالدعوة إلى الله تعالى عن طريق العلم والتعليم، فكان مدرسة علمية حية متحركة، وتولى الخطابة في الجامع الحموي أولاً، وجامع الثانوية الشرعية ثانياً. 

وكان يعقد حلقة علم للتفقه في الدين بعد خطبة الجمعة، يجيب فيها عن أسئلة الشباب المتعطش للعلم، بمنهج رشيد وأسلوب سديد، يربط الفتوى بدليلها الشرعي وبالعصر الذي يعيشه المسلمون، ولهذا قصده الآلاف من المسلمين الذين ضاقت بهم جَنَبات المسجد، وامتلأت الشوارع المحيطة بالمسجد بهم. 

وكانت له في مدينة حلب إلى جانب خطبة الجمعة وجلسة التفقه في الدين، بعد صلاة الجمعة درسان أسبوعيان: درس للفقه يوم الاثنين من كل أسبوع، حيث كان الشيخ يغمر الحاضرين بواسع علمه، في المقارنة بين المذاهب، وذكر الأدلة، والترجيح بين الأقوال، ودرس ثان في الحديث والتربية والتهذيب يوم الخميس وقد استفاد عدد كبير من الشباب من تلك الدروس علماً وتربية وتهذيباً.

وانتخُب سنة (۱۳۸۲ -١٩٦٢م) نائباً عن مدينة حلب بأكثرية كبيرة، وقام في المجلس بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين.

 شخصيته وأبرز صفاته: 

كان الشيخ - رحمه الله تعالى - جميل الصورة، حسن الهيئة، تعلوه نضرة أهل الحديث، ونور العلم، كث اللحية، طويل القامة، مهيب الطلعة متميزاً بأناقته وحسن لباسه وطيب رائحته.

وكان -رحمه الله تعالى - متمثلاً للأخلاق النبوية، والشمائل المحمدية، حريصاً على السنن ملتزماً بآداب الإسلام في سائر أموره. 

وكان - رحمه الله تعالى - متواضعاً يكره المتعالمين والمتكبرين، وقد أخذ عمن هو دونه في العلم والسن، ولم يذكر نفسه بصيغة الجمع كما يفعل ذلك بعضهم. 

ولا يرى نفسه شيئاً في جنب علماء الإسلام وأئمة السلف. وكان حلو الحديث عذب المنطق، رشيق العبارة، قريباً من قلوب جلسائه، يأسرهم بحسن محاضرته وطيب حديثه، وعمق غوره مع حضور بديهة وحسن جواب فلا عجب بعد ذلك أن تلتقي القلوب على محبته، وتتعلق به النفوس، وأن يكون موضع حب وتقدير وثقة لجميع من خالطه من إخوانه وأحبابه. 

وكان - رحمه الله تعالى -حليماً كثيراً ما يعفو ويصفح، أديباً حيياً، لا يؤذي أحداً بكلامه، لا تخرج الكلمة منه إلا بوزن وفي موضعها المناسب، وكان عفيف اللسان لا يذكر أحداً بسوء، ولا يغضب إلا الله سبحانه، ولا يحمل حقداً على أحد، ولا يقوم بأمر إلا ويزنه بميزان الشرع والعقل. 

وكان بعيداً عن الغلو والانفعال، يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته، وكان ظريفاً خفيف الروح يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس. 

وكان ذواقاً إلى حد بعيد في ملبسه ومشربه وكتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً. وكان صبوراً على الطاعة والابتلاء مداوماً على الوضوء حريصاً على الصلاة حرصاً شديداً، مؤدياً لها في أول وقتها في الحضر والسفر، والتعب والمرض، حريصاً على حضور الجماعة وملازمة السنن، مكثراً للحج والعمرة، وبخاصة في رمضان. 

وكان دائم التلاوة لكتاب الله سبحانه مكثراً من الأذكار في سائر الأحوال والأوقات، مداوماً على قيام الليل، وصلاة الضحى. وكان - رحمه الله تعالى - سريع الدمعة كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن، وذكر الله وأخبار السلف الصالح. 

وكان يعيش هموم المسلمين وقضاياهم، ويحزن لما يصيبهم، ويتابع أحوالهم، ويسعى لنصرتهم. وكان حليماً في أسلوبه في الدعوة إلى الله عز وجل، رفيقاً ليناً، جريئاً قوياً، بعيداً عن العنف والغلو، داعياً إلى الألفة والمحبة والمودة بين المسلمين. 

مرضه ووفاته: 

بعد حياة طويلة عامرة بالعلم والعمل والتدريس والإرشاد، والتأليف والتحقيق، وقد أجهد الشيخ -رحمه الله تعالى- نفسه في القراءة والبحث ونشر الكتب النافعة وتصحيح النصوص المحرفة، حتى ضعف بصره، وأصيب بانفصال الشبكية في عينه اليمنى قبل وفاته بأربعة أشهر. فأجريت له عملية جراحية في مستشفى العيون التخصصي بالرياض في شعبان ١٤١٧هـ لم تكلل بالنجاح، وإنما أعقبته ألماً شديداً عينه ورأسه، وكان يقول إذا اشتد به الألم: لا إله إلا الله.

وفي أواخر رمضان ضَعُفَت صحته ووهن جسمه؛ فَنُقِلَ إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي، وتوقف الكبد والكلى عن العمل، وقبيل فجر يوم الأحد التاسع من شوال ١٤١٧ انتقل إلى رحمة الله عز وجل. 

وفي صباح يوم الاثنين العاشر من شوال قمت بتغسيله ابنه الشيخ سلمان - حفظه الله ونفع به ـ وكان رحمه الله تعالى رافعاً سبابته بالتشهد. وتكفينه مع وصلى عليه بعد صلاة الظهر جمع حاشد أساتذة الجامعات من والعلماء وطلابه ومحبيه في مسجد الراجحي بالرياض، وامتلأ المسجد على سعته بألوف المصلين الذين توافدوا للصلاة عليه. 

ثم نقل إلى المدينة المنورة على متن طائرة خاصة بأمر ملكي، فصلي عليه بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي الشريف، وشيعه ألوف المحبين الذين توافدوا إلى المسجد النبوي الشريف من شتى أنحاء المملكة، وتزاحموا على حمل نعشه الطاهر، وكانت وفود المشيعين قد اتصلت بجموعهم من أول المسجد النبوي الشريف إلى البقيع، وامتلأت الساحة المحيطة بالحرم الشريف بهم، وما أصدق كلمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "بيننا وبينكم يوم الجنائز".

وقد عُقدت مجالس لتأبينه رحمه الله تعالى في كثير من الأقطار، وألقيت الكلمات في تعداد مناقبه ومآثره في المدينة المنورة ومكة المكرمة، وجدة والرياض، وفي بلده حلب في جامع الإمام الغزالي، وفي بيروت بدار الفتوى وندوة العلماء في الهند، وفي اليمن وتركيا والمغرب. كما نعاه العالم الإسلامي في أقطاره كافة، فنعته رابطة العالم الإسلامي التي كان أحد أعضائها، وندوة العلماء في الهند، وعلماء سوريا، وبعض الجمعيات الإسلامية ودار الفتوى في لبنان. 

وبعد أن انتشر نبأ وفاته - رحمه الله تعالى ـ انهالت على أهله ببرقيات ورسائل التعزية من كل أنحاء العالم من علماء ودعاة ومراكز إسلامية وجامعات علمية؛ فاستحسنتُ إيراد رسالتين من تلك الرسائل الكثيرة: 

إحداهما من عالم الهند العلّامة السيد أبي الحسن الندوي - حفظه الله تعالى ـ وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، حضرات الإخوة المكرَّمين أنجال المرحوم العلّامة الداعية المربي سماحة الشيخ عبد الفتاح أبي غدّة رحمه الله. 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد أحزنني كثيراً نبأ وفاة أخينا وحبيبنا الداعية المربي والدكم العظيم. لقد كنا ندعو لشفائه من مرضه الذي سمعنا عنه أخيراً وكنا نتمنّى أن يزول عنه هذا المرض، ويكتب الله له الشفاء. ولكنه قَدَرُ الله وقضاؤه والأعمار بيد الله يقررها هو، فلا يستأخر به أحد ساعة ولا يستقدم وليس بيدنا عند نزول المصاب إلا الدعاء بمغفرة الله ورضوانه، وأن يُنزل الراحل العظيم في فسيح جناته، ويكرم منزله عنده، وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان، ويوفقهم لمواصلة مسيرة الدعوة والعلم والدعوة التي قام بها الراحل العظيم طيلة حياته حتى صار قمة عالية في العلوم الإسلامية والدعوة والتربية، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أرجو قبول أصدق تعازينا على هذا المصاب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 ١٤١٧/١٠/٨هـ ٢/١٦/ ١٩٩٧م 

مشارككم في الشعور بعظم المُصاب: أبو الحسن علي الحسني الندوي الأمين العام لدار العلوم - ندوة العلماء، لكناؤ الهند.

والثانية من العلامة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجُدّة - حفظه الله تعالى ـ وهذا نصها: الحمد لله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

سعادة الأستاذ محمد زاهد أبو غدة حفظه الله ورعاه: {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

تلقينا بغاية الأسى والحزن نعي شيخنا الجليل الفقيه المحدّث عبد الفتاح أبو غدة، وإن المجتمعات العلمية في العالم الإسلامي كلها لتقدّر أثر هذه الفجيعة بفقدان الراحل الكريم.

والله نسأل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه في عليين مع النبيين والصالحين.

والله المسؤول أن يرزق أهله وأبناءه وكلَّ محبيه من طلاب العلم النبوي في العالم الإسلامي الصبر والسلوان. إنه سميع مجيب. جدة في : ١٤١٧/١٠/١٠هـ الموافق : ٢/١٧/ ١٩٩٧م

محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة.

 وكتبت عنه عشرات المقالات والكلمات في شتى الصحف والمجلات، كما رثاه عدد من الشعراء. 

تغمده الله بواسع رحماته، وأنزله منازل المقربين الأخيار، جزاء ما قدَّم للأمة الإسلامية من علم نافع وعمل مبرور، وعوض المسلمين على مصابهم بفقد هذا الإمام الجليل، وبارك الله في عقبه وتلاميذه . آمين 

ذكر بعض الآداب التي أشار إليها الشيخ:

أولاً: أدب الدخول إلى المنزل:

إذا دخلتَ دارك، فافتح الباب برفق؛ ولا تدفعه دفعاً عنيفاً، أو تَدَعْهُ ينغلق لذاته بشدّةٍ وعنفٍ؛ فتروعه، فإن هذا منافْ لِلُطْف الإسلام، وفي ذلك تشبُّهٌ بالظَّلمة والزّبانية. ثُمَّ سَلِّم على أهل بيتك بتحيَّةِ الإسلام؛ بقولك: ((السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته))، وأعلِم مَن في البيت بوصولك، بتنحنُحٍ ونحوه؛ لئلا تراهم على حالٍ لا تُحبُّ أن تراها.

ثانياً: أدبُ الاستئذان:

واستئذن على من أردت الدخول عليه في حجرته، سواءً كان ابنك أو ابنتك، أو أخوك أو اختك، أو أبيك أو أمك، فإذا طرقتَ البابَ فكن رفيقاً في طرقك.

وإذا استأذنت فينبغي أن تجعل بين الدقتين زمناً غير قليل، ليفرغ المتوضئ، وينتهي المصلي، والآكل من لقمته، وقد قدر بعض العلماء الانتظار بين الدقتين بمقدار أربع ركعات.

وإذا طرقت ثلاث مرات متباعدة ولم يفتح لك؛ فانصرف؛ وإذا سُئلتَ: من هذا؟ فصرِّحْ باسمك الذي تعرف به، فقل: فلان، ولا تقل: واحد، أو أنا، أو شخص. وقد كره النبي  قول الطارق: ((أنا)).

ثالثاً: أدب قبول العذر:

وإذا كان بينك وبين أخيك موعدٌ أو زيارةُ، فاعتذر إليك، فاقبَلْ عذره دون تحرُّجٍ؛ فإنه أدرى بحاله بيته. قال التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي: ((ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن لك حاجات، ولهم أشغالاً، وإنهم أولى بالعذر)).

رابعاً: أدب غضِّ البصر:

وحافظ على بصرك من النظر في جوف البيت وعوراته، ولا تتفقد الأشياء تفقُّدَ الفاحصَ المُمحِّص؛ فإن ذلك عيب وإساءة؛ ولكن اقصر نظرك إلى ما تحتاج إليه فحسب، ولا تقف عند استئذانك أمام فتحة الباب مباشرةً، ولكن خذ يمنة أو يسرة، فعن سعد بن عبادة ، قال: جاء رجل فقام على باب النبي صلى الله عليه وسلم: ((هكذا عنك))؛ يعني نحاه وأمره بالتباعد عن مواجهة فتحة الباب، ثم قال له: ((إنما الاستئذان من أجل النظر)).

خامساً: أدب تنظيف النَّعلِ قبل الدخول:

وقبل الدخول إلى بيتك أو بيت صديقك، انظر في نعليك، فإذا رأيت فيهما شيئا من آثار الطريق فأمطه عنهما، واخلع حذاءك في محله، وصُفَّ نعليك أثناء خلعهما، ولا تدعهما هكذا وهكذا، ولا تنس آداب لبس الحذاء وخلعه؛ فتبدأ لبسه باليمين، وتنزعه بالشمال.

سادساً: أدبُ الجلوس عند المَضيف:

واجلس حيث أجلسك صاحب الدار، ولا تكشف مستوراً أو تفتح مغلقاً من خزانة، أو صندوقاً، أو محفظة، أو صرةً ملفوفة، أو شيئاً مستورا؛ فإن هذا خلاف أدب الإسلام، فاعرف لزيارتك آدابها، واسلك لحسن المعاشرة أبوابها، تزدد عند مضيفك حُبَّاً وتكريماً.

سابعاً: الأدبُ في اختيار وقت الزِّيارة:

وينبغي أن تتخيَّر الوقت الملائم للزيارة، وأن تجلس المُدَّة المناسبة التي تلائم حال المزور، فلا تُطيل المكوثَ عنده ولا تُثقل، ولا تأتِ في وقتٍ غير ملائمٍ للزيارة، كوقت الطعام، أو النوم، أو الراحة والسكون.

ثامناً: أدبُ الكلام:

ضَعْ كلامك في موضعه؛ فلا تتحدث إلا بما يناسب المقام مع الإيجاز، وإذا كنت صغير القوم، فلا تتكلم إلا إجابةً عن سؤال، أو إذا علمت أن كلامك سيقع منهم في موقعه، ولا تُسهِب في الحديث، ولا تغفل عن أدب المقام في هيئة جلوسك وأسلوب كلامك.

تاسعاً: أدب المُصافحة:

إذا دخلت مجلسا فابدأ بالسلام على من فيه جميعا، وإذا أردت المصافحة فابدأ بالأفضل، أو الأعلم أو الأتقى أو الأكبر سناً، ونحو ذلك، ولا تبدأ بأول من تراه ولو كان من جهة اليمين إذا كان مفضولاً، قال صلى الله عليه وسلم: ((كبِّر كبِّر))، وفي رواية: ((كبر الكُبر في السن))، وفي رواية أبي يعلى والطبراني؛ قال : ((ابدأ بالكبراء)) أو قال: ((بالأكابر)).

عاشراً: أدب حضور المجلس:

لا تقعد بين جليسين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلس بين رجلين إلا بإذنهما))، وإذا جلست إليهما فلا تلق بسمعك إلى حديثهما، إلا إذا كان غير سر، وإذا كنتم ثلاثة فلا تسر إلى جليسك بحديث دون الآخر؛ فإنك بهذا توقع في نفس ثالثكم ظنا وإيحاشاً.

حادي عشر: الأدبُ مع الكبير:

اعرف للكبير حقه وقدره، في المشي، والجلوس، والكلام، والسلام، والضيافة، والاحترام، وراعٍ تقديمه في الدخول والخروج، واستمع إليه بإصغاء وإجلال، وناقشه بأدب وسكينة ولطف، وغض من صوتك في حديثك إليه، ولا تنس تكريمه في الخطاب والنداء.

ثاني عشر: الأدبُ مع الوالدين:

راعِ الأدب مع أبيك وأمك أتم المراعاة؛ فإنهم أحق الناس منك بذلك؛ فعليك أن تبرَّهُما، بخفض الجناح، ولين الكلام، والنظر إليهما بعين المحبَّةِ والتعظيم والإجلال، ولا تعلو عليهما في مقالٍ إلا بقصد الإسماع، ولا تستأثر عليهما في مطعمٍ ولا مشرب، ولا تقل لهما إلا قولاً كريماً.

ثالث عشر: أدبُ اللِّباس وحسن الهيئة:

كن دوماً نقي الثوب، طيب الرائحة، وإذا خرجت لاستقبال والد أو قريب أو صديق، أو قدمت من سفر؛ فلاحظ: - نظافة أطرافك، وحسن هيأتك، وانتظام مظهرك اللائق بك، فإن العين تُسَرُّ بالطلعة الجميلة المتناسقة.

رابع عشر: أدبُ الهديَّة:

وإذا كان بإمكانك اصطحاب شيء من الهدية للقادم عليهم، فافعل، فإن العين تتشوَّفُ إلى ذلك، لما فيها من مُتعةِ النفس، وإدخال السرور الظاهر والباطن، وإلى هذا يشير الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بقوله: ((تهادوا تحابوا)).

خامس عشر: أدبُ الضِّيافة:

إذا نزل بك ضيف فاعرف آداب ضيافته، وراع حق إكرامه؛ من غير سَرَفٍ أو تقتير، وأحسن مجلسه ومقيله، ومبيته، وعرفه جهة القبلة في منزلك، ودله على مكان الطهارة والوضوء، وتجمَّلْ له في غير تكلف، وقمْ في خدمته بذوق وتقدير، وإذا نزلت ضيفاً على أحد فكن لطيفاً خفيفَ الظل، وراعِ ظروفه وأوقات عمله وراحته.

سادس عشر: أدبُ عيادة المريض:

احرص على عيادة المريض، وارفع من معنوياته، وخفف عنه آلامه، وزد من صبره واحتسابه، ولا تطل الجلوس عنده؛ كما قيل: "عيادة المريض كجلسة الخطيب"، ولا تحدثه بما يغمه أو يكدره ويحزنه، أو يؤثر على صحته ويجرح شعوره، وادعُ له بالشفاء والسلامة.

سابع عشر: أدبُ الأخبار بالمصيبة:

وإذا وقعت مُلِمَّةٌ أو مُصيبة، فتلطَّفْ في الإخبار عنها، ومهِّدْ بما يخفف عن صاحب المصاب مصابه، فاذكر اسم المُصاب أولاً، وبعض أحواله، ثم تُخبرُ بالفاجعة، ولا تصكَّ سمعه بالخبر المفجع صكاً، فإن بعض القلوب لا تتحمَّل، فربما تأذَّى بالخبر أشدَّ الأذى، وتحيَّنْ الوقت الملائم لإخباره؛ فلا تخبره بذلك وهو على طعام، أو قبل النوم، أو في حالة مرض أو استفزاز، وتحلَّى في كل ذلك بالحكمة والكياسة.

ثامن عشر: أدبُ التعزية:

وإذا أصيب قريب لك، أو عزيزٌ عليك بموت أحد من أسرته؛ فلا تنس تعزيته، ولا تبطئ أو تضُنَّنَ بها، وأظهر له المشاركة في أساه وحزنه، فإن ذلك من حق الصداقة، والقرابة، والإسلام.

ولا تنس أن تشارك في تشييع الميت إلى قبره،؛ ويستحب أن تدعو لأخيك الميت بمثل ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين توفي، وعزّى به أهله: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين- أي كن له خليفة في ذريته الباقين من أسرته-، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه)).

  ويحسن أن يكون حديثك مع المعزَّي فيم يتصل بتخفيف وقع المصيبة؛ بذكر أجرها وأجر الصبر عليها، وأن الحياة الدنيا فانية منقضية، وأن الآخرة هي دار القرار.

تاسع عشر: أدبُ خفض الصَّوت:

لا ترفعْ صوتك فوق الحاجة لأنه مخلٌ بالأدب وهذا الأدب ينبغي مراعاته مع الصديق والمثيل، ومع من تعرفه ومن لا تعرفه، ومع الأصغر منك والأكبر، وتزداد مراعاته تأكيدا مع الوالدين أو من في مقامهما، ومع من تعظمه من الناس؛ ففي القرآن الكريم في وصية لقمان لابنه: ((وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ))؛ أي: اخفض منه، ولا ترفعه عالياً إذا حادثت الناس؛ فإن الجهر الزائد بالصوت منكر وقبيح.

العشرون: أدبُ الإنصات:

كنْ مستمعاً جيدا ولا تقاطعْ من يتكلم، وإذا أشكل عليك شيء من حديث محدثك؛ فاصبر عليه حتى ينتهي من الحديث، ثم استفهم منه بأدب ولطف، ولا تقطع عليه كلامه أثناء الحديث؛ فإن ذلك يخل بأدب الاستماع، ويحرك في النفس الكراهية؛ إلا إذا كان المجلس مجلس دراسة وعلم، فيحسن فيه السؤال بأدب وكياسة. وإذا سُئِل جليسك عن شيء؛ فلا تبادر أنت بالإجابة عنه؛ فإن ذلك أحفظ لأدبك وأنبل لشخصك، وأرفع لحديثك ومقامك.

الواحد والعشرون: أدبُ الدخول على النائمِ:

راعِ حال النيام بالليل والنهار، فإذا دخلت مكانا فيه نيام، فراعهم وتلطف في حركتك وصوتك عندهم؛ حتى لا توقظهم، أو تسبب لهم قلقاً. قال المقداد بن الأسود : ((كنا نرفع لرسول اللهصلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ النائم، ويسمع اليقظان))، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام يتهجد بالليل قرأ بصوت يؤنس اليقظان، ولا يوقظ الوَسْنَان.

الثاني والعشرون: أدبُ إجابة الدَّعوة:

اشهد عقد النكاح فإن شهوده سنة، ما لم يكن فيه محرمات شرعية، وخذ زينتك لهذا اللقاء الطيب الكريم. ويستحب إنشاء العقد في المسجد، وليكن حديثك منسجما مع المناسبة والابتهاج بها، ولا تتحدث بما يحزن الحاضرين أو تمجه النفوس والأسماع؛ فالمؤمن كيس فطن، ولتكن تهنئتك للزوجين بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق