معيد النعم ومُبيد النقم
القاضي عبد الوهاب السُّبكي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ نعم الله على عباده كثيرةٌ جداً، لا طاقة لنا بإحصاء بعضها فضلاً عن جميعها، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ} (النحل: ١٨)، فإذا كنا عاجزين عن إحصائها، فكيف نحصي شكرها. ونعم الله -سبحانه -على العباد ظاهرة وباطنة، بعدد الأنفاس واللحظات، من جميع أصناف النعم، مما يعرف العباد ومما لا يعرفون، وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من ذلك، وتلك نعمةٌ أخرى تفتقر إلى الشكر، والله غفور رحيم، يرضى منا باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير.
والحاصل -أنه ما من عبد مسلمٍ إلا ولله تعالى عليه نعمة دنيوية ودينية، يجب عليه أن ينظر إليها بعين التعظيم والامتنان، ويعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى وحده، فيحمده عليها، ويوفي بحقها بأن يستعملها في مراضي الله تعالى، ولا يسخرها في مساخطه، وعليه أن يحترمها ولا يستحقرها، ولا يربأ بنفسه عليها، أو يقلل من شأنها، فيكون له في كل نعمةٍ: اعتقاد، وفهم.
وهذا كتاب نفيس، يجيب فيه الشيخ تاج الدين السبكي قاضي القضاة في دمشق -عن سؤال ورد إليه، يقول السائل فيه: هل من طريق لمن سلُب نعمة دينية أو دنيوية، إذا سلكها عادت إليه، ورُدَّت عليه؟
فما كان من الشيخ -رحمه الله -إلا أن وضع هذا الكتاب جواباً على ذلك السؤال، والذي قرر فيه أن النعمة لا تسلب إلا بنسيان شكرها، ثم فصَّل في هذا المعنى تفصيلاً ماتعاً قلَّ أن تجد نظيره، وذلك بذكر الأمثلة العملية، والتفريعات الفقهية، والفوائد اللغوية.
ويبين الإمام السُّبكي في كتابه هذا أنه إذا انزوت عنك نعمة، فأول ما يتعين عليك، إن كنت مريداً لعودها، أن تبحث عن سبب انطوائها عنك، وحرمانك منها: بأن تنظر إلى وظيفتك، تفريطك فيها، بالإخلال بواحدة من وظائف الشكر، وتعلم أنك أتيت منها، فتذكر ذلك
ثم يشرح السُّبكي كيفية شكر هذه النعمم، وأن الشكر يكون بالقلب وباللسان باستخدام النعمة لطاعة الله لا معصيته، ثم يذكر نماذج يفسر فيها كيف تحمد الله بالفعل فيطيل في ذلك جداً حتى يستوعب كل وظائف الدولة تقريباً، وهذا يعطينا لمحة عن الوطائف الإدارية في العصر الذي كان يعيش فيه السُّبكي، ومن المعلوم أن تاج الدين عبد الوهاب السُّبكي عاش في القرن الثامن الهجري، ما بين عامي (٧٢٧) و(٧٧١ هـ)، وقد اخترمته المنية في فترة فتوته، وذروة عطائه، وهو من بيت عريق في العلم، وقط أظهر نبوغاً مبكراً، حتى أن شيخة "ابن النقيب" أجازه بالإفتاء والتدريس في سن مبكرة، وذاع علمه في كل الأقطار الإسلامية.
ويبين الإمام الشُّبكي ما يتوجب على كل عامل في وظيفته من معاني الشكر، ليؤدي واجبه كاملاً، ويؤدي شكر النعمة التي خوله الله إياها، فذكر (١٠٣) مثالاً على النعم التي تستوجب الشكر، من أعلى هرم في الدولة حتى أبسط عامل في الحقل، مبيناً الحقوق والواجبات، مظهراً التفاصيل المدهشة للأنظمة الإدارية في ذلك العصر، والتي تفوق أرقى أنظمة حقوق الإنسان الحديثة، بل لا تقارن بها أصلاً بأنظمة العطن والاستبداد الزائفة.
وقد استخدم الشيخ لهجة حازمة لا لين فيها ولا خضوع في توجيه النصائح للولاة والحكام، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بل أنه تطرق لدقائق وتفاصيل معاملة كل ذي منصب للناس بشكل مدهش جداً، وبأسلوبٍ راقٍ، وهذا يبرز وعي الإمام التاج السُّبكي تجاه ما يجري حوله، فلم يكن فقيهاً مبرزاً في الفقه فقط، بل كان ذا اهتمامٍ واسعٍ بمعارف شتى، في التاريخ، والأدب، والنحو، والعروض، والبلاغة، واللغة، وله اطلاع كبير على أحوال الناس والدولة، والمناصب السياسية والإدارية فيها.
ثم ذكر أمثلة على شكر النعم بالفعل
١-نعمة البصر
٢-ونعمة السمع
٣-ونعمة الولاية
٤-ونعمة قربك من الحاكم
٥-نعمة السلطنة والإمامة العظمى
٦-نواب السلطنة
٧-الدوادار أو الآذن.
٨-الخازندار أو أمين بيت المال
٩-أستاذ الدار أو مسئول الإقطاع والفلاحين
١٠-الوزير أو مدير شئون الإمارة
١١-مشد الدواوين أو مستخلصي الحقوق
١٢-الدواوين أي كتابها وحفظتها
١٣-كاتب السر: الذي يوقع عن الملك ويطلع على أسراره.
١٤-الموقعون وهم من يكتبون لفلان بالحضور
١٥-المهمندار: وهم من يكتبون بهيبة الملك والجيش.
١٦-البريدية: وهم الذين يحملون رسائل الملك وكتبه.
١٧-ناظر الجيش: وهو من ينظر في مصالحه.
١٨-السلحدار: وهو الذي يحمل السلاح.
١٩-الجمقدار: حامل الدبوس =نوع من الأسلحة.
٢٠-الطبردار: حرس السلطان.
٢١-الجوكندار: وهو الذي يحمل عصا الطبل.
٢٢-الجمدارية: وهم المراد حسان الوجوه.
٢٣-البشمقدار: وهو من أقبح البدع لأنه موضوع لحمل نعل الأمير.
٢٤-أمير علم: وإليه أمر طبول الطبلخانات أي بيت الطبول.
٢٥-أمير شكار: وإليه أمر الطيور والكلاب المعدة للصيد.
٢٦-أميرآخور: وإليه أمر الخيول والإصطبل.
٢٧-السقاة: وإليهم أمر المشروب.
٢٨-الطواشية: الخدم ممسوح الأنثيين.
٢٩-الحاجب أو قائد الجيش.
٣٠-النقباء: وهو من يتولى إحضار من يطلبه الأمير.
٣١-الوالي: من يتولى أمر أهل الجرائم واللصوص.
٣٢-البواب أو المعرف أو المقدم وهو رجل بباب الوالي يكون بالمرصاد للصوص.
٣٣-أمراء الدولة أو ضباط الجيش
٣٤-الأجناد: الجيوش.
٣٥-أمراء العرب: وهم الذين يظعنون وينزلون، ولهم إقطاعات.
٣٦-القضاة.
٣٧-كاتب القاضي: بين يديه.
٣٨-حاجب القاضي: الذي يستأذن عليه بأصحاب الحاجات.
٣٩-نقيب القاضي: المنبه على الشهود.
٤٠-أمناء القاضي: المتحفظين على الأموال والوصايا.
٤١-وكلاء دار القاضي أو المحامين.
٤٢-الشهود.
٤٣-ناظر الوقف ومباشره.
٤٤-وكيل بيت المال
٤٥-المحتسب أو المراقب لمعاش النلس وقوتهم.
٤٦-العلماء، وهم طوائف كثر.
٤٧-المفتي.
٤٨-المدرس.
٤٩-المعيد: وهو من ينوب عن المدرس في إعادة الدرس.
٥٠-المفيد: وهو من يزيد فائدة على الدرس.
٥١-المنتهي من الفقهاء.
٥٢-فقهاء المدرسة.
٥٣-قارئ العشر أي القراءات.
٥٤-المنشد.
٥٥-كاتب الغيبة على الفقهاء وهو من يحصر الحضور.
٥٦-القراء الذين يقرؤون القرآن بالألحان.
٥٧-خازن الكتب أو أمين المكتبة.
٥٨-شيخ الرواية أو المحدث.
٥٩-كاتب غيبة السامعين لمجالس الحديث.
٦٠-الخطيب في الجمعة وغيرها.
٦١-الواعظ في المسجد
٦٢-القاص: وهو من يجلس في الطرقات للتذكير.
٦٣-قارئ الكرسي وهو من يقرأ على العامة شيئا من الكتب.
٦٤-الإمام في الصلاة.
٦٥-المؤذن.
٦٦-المؤقت وهو من يعرف الأوقات والأزمان.
٦٧-الصوفية.
٦٨-شيخ الخانقاه أي الطريق.
٦٩-فقراء الخوائق.
٧٠-خادم الخانقاه،وهو من يقوم على الفقراء.
٧١-شيخ الزاوية.
٧٢-صاحب الزرع والشجر.
٧٣-شاد العمائر او المقاول.
٧٤-البناء وهو من يباشر العمل.
٧٥-الطيان أو من يقصر الجدران.
٧٦-معلم الكتاب.
٧٧-الناسخ أو من ينسخ الكتب.
٧٨-الوراق وهو من يبيع الورق.
٧٩-المجلد وهو من يجلد الكتب
٨٠-المذهب وهو الذي يستعمل الذهب للتزيين.
٨١-الطبيب، وهو من يعالج المرضى.
٨٢-المزين وهو من يباشر ثقب الأذنين والأنف ونحوهما للزينة.
٨٣-الكحال وهو من يصنع الكحل.
٨٤-الحائك وهو من يفصل الثياب.
٨٥-القيم في الحمام أو المغتسل.
٨٦-الدهان.
٨٧-الخياط.
٨٨-الصباغ.
٨٩-الناطور وهو الحارس.
٩٠-الفراشون للأمراء والأئمة.
٩١-البابا وهو من يتولى غسل الثياب وصقلها.
٩٢-الشربدار: وهو من يمارس مهنة السقاية وحفظ الآنية.
٩٣-الطشتدار: زهو من يصب الماء على يد المخدوم.
٩٤-الصيرفي وهو من يصرف النقد بعضه ببعض.
٩٥-المكاري: وهو من يؤجر الدواب للركوب.
٩٦-العريف: وهو من يدل على الأماكن.
٩٧-النقاشون.
٩٨-غاسل الموتى.
٩٩-السجان.
١٠٠-الجزار.
١٠١-المشاعلية: وهم الذين يحملون مشاعل النار بين يدي الأمراء.
١٠٢-الدلالون: وهم من يعرضون البضائع على الناس.
١٠٣-بواب المدرسة والجامع ونحوهما.
١٠٤-سائس الدواب.
١٠٥-الكلابزي هو من يسوس الكلاب ويقوم عليها.
١٠٦-حارس الدرب.
١٠٧-الطوفية: وهم من يطوف بين البساتين والمساكن الخارجة عن البلد.
١٠٨-الكاسح أو من يجمع القمامة.
١٠٩-الإسكاف وهو. من يصلح النعال.
١١٠-رماة البندق لأجل الصيد.
١١١- الشحاذ في الطرقات.
وذكر الشيخ السُّبكي أن فقدان النعم من البلايا والمصائب التي يجب على العبد فيها الصبر والاحتساب، والرضى بقضاء الله وقدره، ثم يتضرع إلى الله تعالى بأن يُعيدها مع الأخذ بأسباب شكره.
وختم بذكر سبعة عشر (١٧) فائدة من فوائد البلايا والمصائب، ذكرها العز بن عبد السلام، ولخصها التاج السبكي من كلامه، وهي:
١-معرفة عزِّ الربوبية وقَهْرِها، ٢-ومعرفة ذِلَّة العبودية وكَسْرِها.
٣-الإخلاص للَّه تعالى، والاعتماد عليه في دفع الشدائد وكشفها.
٤-الإِنابة إلى اللَّه، والإِقبال عليه. ٥-التضُّرع و الدعاء والإلتجاء إلى الله.
٦-الحلم عمَّن صدرت عنه المصيبة، لأنه سبب لها، وليس متسبباً بها.
٧-العفو عن جانيها. ٨-الصبر عليها. وهو موجب لمحبَّة اللَّه تعالى؛ وكثرة ثوابه.
٩-الفرح بها -أي بالبليّة -لأجل فوائدها. ١٠-الشكر عليها؛ لما تضمَّنته من فوائدها.
١١-تمحيصها للعبد من الذنوب والخطايا. ١٢-رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم.
١٣-معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها؛ فإنَّ النعم لا تعرف أقدارها إلَّا بعد فقدها.
١٤-رجاء ما أَعدَّه اللَّه تعالى على هذه الفوائد: من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.
١٥-شكر الله على ما في طِّيها من الفوائد الخفية ،أنها لم تكن أعظم منها، ولم تكن في الدين.
١٦-أنَّ المصائب والشدائد تمنع من الأشَر والبطر والفخر والخيلاء والتكبُّر والتجبُّر.
١٧-الرضا الموجب لرضوان اللَّه تعالى؛ فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر؛ فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا.
ترجمة الشيخ التاج السُّبكي
د. عوض محمد أحمد كدكي
١-اسمه ونسبه: هو قاضي القضاة تاج الدين، أبو النصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي، الأنصاري الخزرجي، حيث يرجع نسب أسرته إلى الأنصار من الخزرج.
يقول تاج الدين في "طبقات الشافعية": "نقلت من خط الجد رحمه الله نسبتنا معاشر السبكية إلى الأنصار رضي الله عنهم".
ولم يكن والده "التقي السُّبكي" يخط في نسبهم بخطه الأنصاري قط، وإنه كان يترك ذلك لوفور عقله، ومزيد ورعه فلا يرى أن يطرق نحوه طعن من المنكرين ولا أن يكتبها مع احتمال عدم الصحة، خشية أن يكون دعا نفسه إلى قوم وليس منهم، وقد كان يسمع الشعراء وهم يمدحونه ولا يخلون قصائدهم من ذكر نسبته إلى الأنصار وهو لا ينكر ذلك عليهم. وكان رحمه الله أورع وأتقى لله من أن يسكت على ما يعرفه باطلاً.
٢-ولادته: ولد التاج السُّبكي سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ذكره ابن حجر في "الدرر الكامنة".
وقال السيوطي في "حسن المحاضرة": ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة!.
وذكر النعيمي في "الدارس في تاريخ المدارس": أنه ولد بالقاهرة، قيل سنة سبع وقيل سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وحاول (موهرمن =في مقدمة "معيد النعم بالنسخة الإنجليزية) تحقيق سنة ولادته، فقال: إن معظم المؤرخين يجمعون على أن تـاج الدين توفي عن أربع وأربعين سنة، وأن وفاته حدثت سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.
وهذا يرجح أن سنة سبع وعشرين وسبعمائة هي سنة ميلاده (وانظر دائرة المعارف الإسلامية).
٣-والده التقيُّ السُّبكي: وكان أبوه تقي الدين علي بن عبد الكافي من العلماء المعدودين، "ولد بسبك من أعمال المنوفية في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وكان جم الفضائل حسن الديانة، صادق اللهجة قوي الذكاء، من أوعية العلم. توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة. قال الإسنوي: "كان أنظر من رأيناه من أهل العلم، ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلاماً في الأشياء الدقيقة".
٤-وجده من قبل أمه: هو "الخضر بن الحسن بن علي" الوزير قاضي القضاة، برهان الدين السنجاري (كما في حسن المحاضرة للسيوطي)، وهذا يدل على أن أم تاج الدين من بيت علم وصلاح.
٥-وجدُّ السبكية: هو علي بن تمام، وقد ذكر ابن حبيب أنه كان قاضياً، ويلقبه بضياء الدين" (كما في طبقات السبكي).
٦-ينسب السبكية إلى قرية "سبك" ويوجد في مديرية المنوفية سبكان، إحداهما بمركز منوف واسمها "سبك الضحاك" والأخرى بمركز أشمون، واسمها "سبك العويضات" وقد حقق محمد الصادق حسين أن السبكية من سبك العويضات (انظر: البيت السبكي، ص ٩٠ وما بعدها). وتسمى "سبكة العويضات" اليوم "بسبك الأحد" لانعقاد سوقها يوم الأحد، وهي إحدى قرى أشمون بمديرية المنوفية بمصر.
٧-تعليمه: تلقى تاج الدين تعليمه الأولي في القاهرة، ويعد أبوه تقي الدين مدرسته الأولى ولا غرو؛ فقد كان علماً من أعلام العصر في العلوم الإسلامية، وكان لنشأة تاج الدين في ظل هذا الرجل أثر كبير في استعداده للنبوغ في العلم، فقد تفتحت عيناه في بيت علم ودين، ورأى أهل العلم يجلسون إلى أبيه يعالجون قضايا العلم، وكان لأبيه تأثير كبير على توجيهه والإشراف على تربيته وتعليمه، تلمذ تاج الدين في القاهرة لصفوة من علماء العصر.
٨-رحلاته وشيوخه: ولما صحب أباه إلى دمشق سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان في الثانية عشرة من عمره أخذ علوم الحديث على الشيخ الحافظ المزي، والحافظ الذهبي. وقد كان أبوه يشرف على تربيته وتوجيهه وله منهج لطيف في ذلك. ويتابع تحصيله في حلقات المشايخ، ويحكي تاج الدين عن رعاية أبيه له فيقول: "... وكنت كثير الملازمة للذهبي أمضي إليه كل يوم مرتين: بكرة والعصر. وأما المزي فما كنت أمضي إليه غير مرتين في الأسبوع، وكان سبب ذلك أن الذهبي كان كثـير الملاطفة والمحبة في بحيث يعرف من عرف حالي معه أنه لم يكن يحب أحداً كمحبته فيَّ، وكنتُ أنا شاباً؛ فيقع ذلك مني موقعاً عظيماً وأما المزي فكان رجلا عبوساً مهيباً وكان الوالد يحب أن ألازم المزي أكثر من ملازمة الذهبي لعظمة المزي عنده، وكنت إذا جئتُ - غالباً - من عند شيخ يقول: هات ما استفدت، ما قرأت، ما سمعت، فأحكي له مجلسي معه، فكنت إذا جنت من عند الذهبي يقول: جئت من عند شيخك. وإذا جئت من عند الشيخ نجم الدين القحقاري، يقول جنت من جامع سكر؛ لأن الشيخ نجم الدين كان يشغلنا فيه، وإذا جنت من عند الشيخ شمس الدين بن النقيب يقول: جئت من الشامية، لأني كنت أقرأ عليه فيها فـإذا جئت من عند الشيخ أبي العباس الأندرشي يقول جنت من الجامع، لأني كنت أقرأ عليه فيه. وهكذا، وأما إذا جئت من عند المزي فيقول: جئت من عند الشيخ، ويفصح بلفظ الشيخ ويرفع بها صوته. وأنا جازم بأنه كان يفعل ذلك ليثبت في قلبي عظمته، ويحثني على ملازمته.
وهؤلاء مشايخه بدمشق، الذين سمع منهم، ويضيف ابن حجر -كما في "الدرر الكامنة" أنه سمع من زينب بن الكمال". وهذا الذي حكاه تاج الدين عن أبيه، يوضح لنا مدى تعهد أبيه له بالمتابعة والإشراف على تكوينه العلمي.
٩-النبوغ المبكر للشيخ التاج: وقد أفاد تاج الدين من سماعه على مشايخ العصر وأعلامه فقد كان نابغة نابها، جعله هذا النبوغ المبكر محط أنظار معاصريه وموضع اهتمام مشايخه به. فقد أذن له ابن النقيب بالإفتاء والتدريس، ودرس في غالب مدارس دمشق، وناب عن أبيه في الحكم، وولي دار الحديث الأشرفية بتعيين أبيه، وولي توقيع الدست سنة أربع وخمسين وسبعمائة وولي خطابة الجامع.
١٠-شيوخه في الإجازة: وقد أجاز له ابن الشحنة ويونس الدبوسي وأسمع على يحيى بن المصري وعبد المحسن بن الصابوني وابن سيد الناس، وصالح بن مختار وعبد القادر بن الملوك وغيرهم. ثم سمع بدمشق من زينب بنت الكمال وابن أبي اليسر، وقرأ بنفسه على المزي ولازم الذهبي، وتخرج بتقي الدين بن رافع، وأمعن في طلب الحديث ... مع ملازمة الاشتغال بالفقه والأصول والعربية حتى مهر وهو شاب وخرج له ابن سعد مشيخة حدث بها وأجاد في النظم والخط والسر.
١١-همته العالية في التحصيل: ولم يقف طموحه عند السماع والتلقي على هؤلاء الجهابذة الأعلام وإنما شمر عن ساعد الجد ودأب على التحصيل بنفسه بهمة عالية قال ابن العماد الحنبلي:"طلب بنفسه ودأب"، وقال ابن حجر -كما في "الدرر الكامنة": أمعن في طلب الحديث وكتب الأجزاء والطباق مع ملازمة الفقه والأصول والعربية حتى مهر وهو شاب"، وجاء في شذرات الذهب: "أجازه ابن النقيب، ولما مات ابن النقيب كان عمره ثماني عشرة سنة". وهذا يدل على أن تاج الدين قد تمكن في العلم وهو شاب حدث ويعلم له فضله من علم أن العلماء ما كانوا يجيزون أحداً إلا بعد تمكن وإتقان وإجادة.
١٢-ثناء مشايخه عليه: وقد بلغ من نبوغه أن ترجم له شيخه الذهبي في المعجم المختص. قال: "كتب عني أجزاء نسخها وأرجو أن يتميز في العلم، درس وأفتى وعني بهذا الشأن". وقال عنه الحـافظ شهاب الدين بن حجر: "خرج له ابن سعد مشيخة ومات قبل تكميلها وحصل فنوناً من العلم: منها الفقه والأصول، وكان ماهرا فيه، والحديث والأدب، وبرع وشارك في العربية، وكان له يد في النظم والنثر، جيد البديهة ذا بلاغة وطلاقة لسان وجراءة جنان، وذكاء مفرط وذهن وقاد صنف تصانيف عدة في فنون، على صغر سنه وكثرة أشغاله قرئت عليه وانتشرت في حياته وبعد موته. .".
ومما يدل على أن النجابة والنباهة قد أثمرت ثمرتها وآتت أكلها بتعهد والده له، واهتمامه به، ما يحدث به تاج الدين في ترجمة شيخه المزي. أنه شغر مرة مكان بدار الحديث الأشرفية فنزلني فيه، فعجبت من ذلك، فإنه كان لا يرى تنزيل أولاده في المدارس. وها أنا لم آل في عمري فقاهة في غير دار الحديث، ولا إعـادة إلا عند الشيخ الوالد، وإنما كان يؤخرنا إلى وقت استحقاق التدريس على هذا ربانا رحمه الله. فسألته فقال: ليقال إنك كنت فقيها عند المزي ولما بلغ المزي ذلك أمرهم أن يكتبوا اسمي في الطبقة العليا. فبلغ ذلك الوالد فانزعج وقال: خرجنا من الجد إلى اللعب، لا والله عبد الوهاب شاب، ولا يستحق الآن هذه الطبقة اكتبـوا اسمه مع المبتدئين، فقال شيخنا الذهبي: والله هو فوق هذه الدرجة وهو محدث جيد. هذه عبارة الذهبي، فضحك الوالد، وقال: يكون مع المتوسطين.
١٣-مصنفاته: صنف تاج الدين تصانيف عدة تدل على علمه وفضله في تمكنه من فنون العلم التي استوعبها عقله الذكي كما وصف بطلاقة اللسان، وقوة التعبير وشدة التأثير، والمقدرة الفائقة في التدريس، يروي ابن كثير عن درس ألقاه تاج الدين في "الأمينية"، وقد حضره خلق من العلماء والأمراء والفقهاء والعامة. فيقول: كان درساً حافلاً، أخذ في تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) الآية وما بعدها، فاستنبط أشياء حسنة، وذكر ضرباً من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة، أخذ ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج ولا تكلف، فأجاد وأفـاد وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم، وقال بعض الأكابر: إنه لم يسمع درساً مثله. ومن عرف قدر ابن كثير الحافظ المفسر وعلو كعبه في التفسير عرف قيمة هذه الشهادة وما اشتملت عليه من ثناء.
أفاد تاج الدين من دورانه على مشايخ العصر والأخذ عنهم، وحصلت له ثقافة واسعة زادها رحابة وحيوية اجتهاده وطول نظره في العلم، ثم أذاعها على الناس لسان طلق، وبيان متدفق وقوة عارضة، وتجلى ذلك فيما كان يذيعه من دروس، وينشره من تواليف وتصانيف، رزق فيها السعد وانتشرت في حياته وبعد موته وجلس للفتوى وهو بعد صغـير، وقد كان رحمه الله مدركا لمواهبه عارفا بقدر نفسه فقد كتب إلى نائب الشام يقول: "وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق ولا يقدر أحد يرد علي هذه الكلمة" ويعقب السيوطي على ذلك بقوله: "وهو مقبول فيما قال عن نفسه".
١٤-ثقافته الفقهية: لقد تمتع تاج الدين بثقافة فقهية ركينة ولا غرو فقد كان الفقه على زمانه محل اهتمام العلماء وبغية الطالبين. وكان الناس يقصدون الفقهاء ليبصروهم بحكم الشرع في معاملاتهم وعباداتهم، هذا إلى جانب أن الفقه كان يؤهل أصحابه لمناصب القضاء والفتيا. وقد عني تاج الدين بالفقه عناية كبيرة. فألف فيه وجمع لوالده فتاويه. ومن خلال كتابه الطبقات الكبرى يعرف مدى اهتمامه بالفقه، فقد حشد فيها مسائل الفقه وفتاوى أهل العلم ومناظراتهم.
١٥-ثقافته الحديثية والأصولية: ولم يكن الحديث والأصول أقل حظا من الفقه لتلازم هذه العلوم وارتباطها بعضها ببعض وضرورة الإحاطة بها لمن أراد أن يتميز في العلم. فحظيت الأصول والحديث بعنايته، وصنف في الأصول وعني بالحديث، وروى عن حفاظ عصره، واهتم بالجرح والتعديل، يقول الحافظ ابن حجر:"ومن الطبقات تعرف منزلته في الحديث.
١٦-ثقافته في علم الكلام: ومما يدل على غزارة روافده الثقافية التي رفدته بها مجالس الشيوخ والنظر في كتب العلم، ما بسطه في الطبقات من قضايا العقيـدة وخلافيـات علم الكلام ومناقشته لهذه القضايا. وحديثه عن الإيمان والإحسان، وزيـادة الإيمان ونقصانه مما يدل على بصره بعلم الكلام، وقد أهله للتراجم كلفه القديـم بأخبار الرجال والحوادث التاريخية.
١٧-ثقافته التاريخية: وكانت له ملاحظات على تاريخ شيخه الذهبى: "أما تـاريخ شيخنا الذهبي غفر الله لهفإنه على حسنه مشحون بالتعصب المفرط لا واخذه الله - فقد أكثر الوقيعة فى أهل الدين، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من الأنمة الشافعيين والحنفيين، ومال وأفـرط علـى الأشاعرة، ومدح وزاد في المجسمة. هذا وهو الحافظ المدره والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين. وكان في التاج هوىً وتعصُّب على شيخة الذهبي وإفراط في النيل منه، غفر الله لهما.
وقد أورد تاج الدين قاعدة في أدب التاريخ أشار فيها إلى ما اشترطه والده درءاً لغلبة الهوى الذي يعصف بالتجرد المطلوب الذي ينبغي أن يلتزم به المؤرخ؛ حتى لا يجور على الحقائق، ومن هذه الشروط الصدق، وحسن الإلمام بحال صاحب الترجمة، والمعرفة بمدلولات الألفاظ، وتحري الدقة في عباراته من غير إسراف في مدح من يحب أو التقصير في جنب من لا يحب. وهذه القاعدة في علم التاريخ تعطينا مؤشرا لمنهج السبكي في تراجم الطبقات.
١٨-حياته الاجتماعية: ولم يكن تاج الدين يعيش بمعزل عن مجتمعه. بل شغل بأموره، وسبر أغواره وشخص أدواءه ووصف دواءه في كتابه الشامخ "معيد النعم" الذي شخص فيه آفات الناس على اختلاف مستوياتهم ومسؤولياتهم، ونص على ما يطلب منهم أن يؤدوه نحو مجتمعهم شكرا لله على ما أولاهم من النعم، واشتمل الكتاب على نقد اجتماعي واع يدل على ما يتمتع به تاج الدين من بصر وثقافة وإيجابية، وأنه يعيش قضايا المجتمع ويعالجها من خلال ثقافته الإسلامية ويعرف للعلم منزلته وقداسته، لذلك نراه ينتقد العلماء الذين يتكالبون على الدنيا ويرخصون من شأن ما حملوه من علم وكان الشأن أن يصونوه من أن يكون مطية ذلولا للعاعة من الدنيا يحصل الجهال بجهلهم أضعافها، "فإذا كانت تنال مع الجهل فما بالنا نشتريها بأنفس الأشياء وهو العلم، فينبغي أن يقصد بالعلم وجه الله تعالى والترقي إلى جوار الملأ الأعلى".
١٩-ثقافته الأدبية: وفي الطبقات نجد شخصية تاج الدين الأدبية التي لم يشغلها الفقه بمناظراته والحديث ومسائله عن الأدب وقضاياه وما يتصل به من مسائل النحو والصرف والبلاغة والعروض، وإن كان معلوما أن علوم العربية لا تنفك عن العلـوم الإسلامية، بل هي ألزم ما تكون للفقيه والمفسر والمحدث إذ أن القرآن جاء بلسان عربي مبين، وهو يمثل قمة البلاغة في اللسان العربي، ثم يأتي من بعده الحديث.
فمن تمام آلة العالم أن يحصل إحاطة باللغة وفنونها وطرائق أساليبها. وقد أدرك العلماء أهمية اللغة التي جاء بها الميراث الثقافي. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - في "اقتضاء الصراط المستقيم": "... فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب. فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ومن ثم ناقش السبكي مسائل اللغة والنحو من خلال كتابه، أحيانا فيما يتعلق بتفسير آيـة أو قضية من قضايا العقيدة أو نص أدبي، أو رأي نحوي لمن يترجم لهم من العلماء. ويبسط القول ويقف عند آراء النحاة. ويرد عليهم، و يرجح قولا على قول مما يدل على قدم راسخة في النحو، والمعروف أن اللغة والإعراب وسيلة لفهم النصوص وفك غامضها وتوحيه معانيها، فهي لا تنفك عن قضية التعبير والأداء الفني في الكتابة، ولا يعزب عنا توجه عبد القاهر الجرجاني إلى العلاقات النحوية في نظم الكلام، وأن مرد الإعجاز إليها!.
كان لا بد للسبكي من هذه الوقفات اللغوية عند النصوص، ونراه لا يقف عند سرد الآراء النحوية فحسب، بل له استنباطات نحوية جيدة وإضافات تدل على سعة اطلاعه على اللغة وعلومها. وليس هذا بعجيب، وهو الذي يرسم بكلماته السديدة معلماً على طريق التصنيف والتأليف الذي يدفع بالمعرفة إلى الأمام فيقول: "وأنا دائما استهجن ممن يدعي التحقيق من العلماء إعادة ما ذكره الماضون إذا لم يضم إلى الإعادة تنكيتاً عليهم، أو زيادة قيد أهملوه، أو تحقيقا تركوه أو نحو ذلك مما هو مرام المحققين. ومما اعتقد به عظمة الشيخ الإمام رحمه الله "يقصد والده" أن عامة تصانيفه اللطاف في مسائل نادرة الوقوع مولدة الاستخراج لم يسبق فيها للسابقين كلام، وإن تكلم في آية أو حديث أو مسألة سبق الكلام فيها اقتصر على ذكر ما عنده مما استخرجته فكرته السليمة ووقعت عليه أعماله القويمة، غير جامع كلمات السابقين كحاطب ليل يحب التشبع بما لم يعط، حظه من التصانيف جمع كلام من مضى، فإن ترقت رتبته وتعالت همته لخص ذلك الكلام، وإن ضم إلى التلخيص أدنى بحث أو استدراك، فذاك عند أهل الزمان الحبر المقدم والفارس المبجل، وعندنا أنه منحاز عن مراتب العلماء البزل، والأذكياء المهرة، وإنما الحبر من يملي عليه قلبه ودماغه، وتبرز التحقيقات التي تشهد الفطر السليمة بأنها في أقصى غايات النظر، مشحونة باستحضار مقالات العلماء مشاراً فيها إلى ما يستند الكلام إليه من أدلة المنقول والمعقول يرمز إلى ذلك رمز الفارغ منه، الذي هو عنده مقرر واضح لا تفيده إعادته إلا السآمة والملالة ولا يعيده إعادة الحاشد الجماعة الولاج الخراج المحب أن يحمد بما لا يفعل.
وهذا كلام نفيس، غالٍ يدل على أن السبكي كان على بينة وبصيرة من المنهج السديد الذي يثري المعرفة ويدفع بها إلى الأمام بل هو يؤسس في قوة لما يطالب به الباحث في يومنا هذا من الاستفادة والاستنارة بجهود الذين سبقوه على طريق البحث في توجيه بحثه، ثم الإضافة النيرة التي تتجاوز الجمع والحشد فتدفع بالمعرفة خطوات إلى الأمام ولعمري ما عدا رجال المنهج والبحث ما قال قيد أنملة.
٢٠-المناصب التي شغلها: ناب تاج الدين عن أبيه في الحكم، ثم استقل به باختيار أبيه، وولي دار الحديث الأشرفية بتعيـين أبيه، وولي توقيع الدست فى سنة أربع وخمسين وسبعمائة، وولي خطابة الجامع، وانتهت إليه رئاسة القضاء بالشام، ودرس بمصر والشام بالعزيزية، والعادلية الكبرى، والغزالية، والعذراوية، والشاميتين والناصرية، والأمينية، وتدريس الشافعي بمصر ومشيخة دار الحديث الأشرفية، والشيخونية، والجامع الطولوني وغير ذلك.
٢١-محنة تاج الدين: تعرض تاج الدين للعزل من منصب القضاء مرات، وحصل له بسبب القضاء محنة شديدة مرة بعد مرة. وهو على ذلك في غاية الثبات. يقول ابن العماد: "ثم اشتغل بالقضاء بسؤال والده في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبعمائة ثم عزل مدة لطيفة، ثم أعيد ثم عزل بأخيه بهاء الدين وتوجه إلى مصر على وظائف أخيه، ثم عاد إلى القضاء على عادته الأولى وولي الخطابة بعد ابن جملة. ثم عزل وحصل له فتنة شديدة وسجن بالقلعة دحو ثمانين يوما ثم عاد إلى القضاء ثم يقول: "وحصلت له محنة بسبب القضاء وأوذي فصبر وسجن فثبت وعقدت له مجالس فأبان عن شجاعة وأفحم خصومه مع تواطئهم عليه، ثم عاد إلى مرتبته وعفا وصفح عمن قام عليه، وكان سيدا جوادا كريما مهيباً".
ويورد ابن العماد قول ابن كثير: "جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله". ولم يذكر ابن العماد شيئاً عن أسباب ما حصل له من فتنة شديدة.
ونجد عند ابن حجر سببين لهذه الفتنة التي تعرض لها، يقول ابن حجر: "كان من أقوى الأسباب في عزله المرة الأخيرة أن السلطان رسم بأخذ زكوات التجار في جمادى الأولى سنة تسع وستين وسبعمائة، ووجد عند الأوصياء جملة مستكثرة، لكنها بعلم القاضي بوصولات ليس فيها تعيين اسم القابض، فأريد من ناظر الأيتام أن يعترف أنها وصلت للقاضي فامتنع، فآل الأمر إلى عزل القاضي. والثاني: قرأت بخط القاضي تقي الدين الزبيري لما قتل يلبغا طلب الأشرف أمير علي المارديني ومنكلى بغا أتابك العساكر، فكان أول شيء تكلم فيه أمير على عزل تاج الدين، وقرر في القضاء عوضاً عنه الشيخ سراج الدين البلقيني فولي القضاء والخطابة وحكم ابن قاضي الجبل بحبس تاج الدين سنة.
وربما أتاح كلام أمير علي عن عزل تاج الدين الفرصة لمنافسيه للنيل منه لما كان يتمتع به من مكانة عند الحكام وجمهور الناس. وبعيد في رأيي عن من كان في مثل علمه وما أثر عنه من حسن السيرة ونقاء السريرة واستقامة السلوك أن يأتي ما يدنس عرضه ويقدح في أمانته. ولعل من يقرأ كتابه "معيد النعم" يلمس ما فيه من نقد واع لأحوال المجتمع إذ ذاك، مع تشخيص أدواء كل طائفة، وتوضيح ما ينبغي أن تكون عليه من سيرة قياما بحق الشكر لمن أولى النعم. ويتناول المجتمع في كتابه من الحاكم إلى أدنى مستوى في المجتمع وأطهر الأسى والأسف على عالم يطلب بعلمه حطام الدنيا ويرخص قدر علمه ليتخذه مطية لأغراض زائلة. وليس بعيداً في التصور ما قاله المحققان إن نقده لأخطاء المجتمع وما نذر له نفسه من دراسة لأحوال الأمة الإسلامية في عصره ونقده لطوائف الناس ربما يكون من أقوى الأسباب في عزله واختلاق هذه الأحداث حوله".
ومما يدل على أن ما حيك حوله مرده إلى أنه كان محسداً، وأن الأمر كله يرجع إلى من ينفسون عليه مكانته صفة المجلس الذي عقد له. يقول ابن كثير عن هذا المجلس وكنت ممن طلب إليه فحضرته فيمن حضر. وقد اجتمع فيه القضاة الثلاثة وخلق من المذاهب الأربعة وآخرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين منكلى بغا وكان قد سافر هو إلى الديار المصرية إلى الأبواب الشريفة واستنجز كتاباً إلى نائب السلطنة لجمع هذا المجلس ليسأل عنه الناس، وكان قد كتب فيه محضران متعاكسان أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خط القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعة آخرين، وفيه عظائم وأشياء منكرة جداً ينبو السمع عن استماعه وفي الآخر خطوط جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خط بأني ما رأيت إلا خيراً".
وحكى مقالة القاضي الغزي للقاضي الحنبلي: "أنت ثبتت عداوتك لقاضي القضاة تاج الدين. فكثر القول وارتفعت الأصوات وكثر الجدال والمقال …".
ثبت تاج الدين أمام هذه المحن ثبات العلماء العاملين بعلمهم ولم يحن رأسه للعاصفة. وأبان عن شجاعة وأفحم خصومه مع تواطئهم عليه، كما يقول ابن العماد.
ويصف ابن كثير وداع الناس له يوم خرج من دمشق وهو وداع حار يدل على ما كان يتمتع به من مكانة وحب في قلوب الناس. "ركب من بستانه بعد العصر ...... متوجها إلى الديار المصرية، وجاء الناس ليودعوه ويستوحشوا له. وقد سار معه قضاة القضاة والأعيان ...... حتى ردهم قريبا من الجسور ومنهم من جاوزها".
كما يصف عودته بعد انتهاء الفتنة إلى دمشق، وقد تلقاه جماعة من الأعيان وخلائق لا يحصون كثرة، وأشعلت الشموع حتى مع النساء والناس في سرور ورجل هذا قدره لا بد أن يكون محسودا من الأقران والنظراء من الفقهاء.
٢٢-وفاته: يقول ابن حجر: إنه مات في سابع ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، خطب الجمعة، فطعن ليلة السبت ومات ليلة الثلاثاء. وفي "شذرات الذهب" "وفي شهيداً بالطاعون في ذي الحجة خطب يوم الجمعة وطعن ليلة السبت ومات ليلة الثلاثاء ودفن بتربتهم بسفح قاسيون عن أربع وأربعين سنة ويذكر ابن تغرى بردى: "أنه توفي بالدهشة ظاهر دمشق في يوم الثلاثاء سابع ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، ودفن بسفح قاسيون عن أربع وأربعين سنة".
وذكر أنه ولد سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وكان يتعين على ابن تغري بردى أن يقول توفي عن ثلاث وأربعين سنة كما يقتضي الحساب.
وبوفاة تاج الدين انطوت صفحة من تاريخ العلم النافع المنيف خطها عالم نحرير. وجبل من جبال العلم كما كان يصف أهل العلم، وقد كانت حياته القصيرة حافلة بنشاط فكري دفاق تجلى في التصنيف والتأليف وإلقاء الدروس رحمه الله.
الكتب التي ذكرها التاج السُّبكي لوالده:
١-كتاب "فصل المقال، في هدايا العمال" قال فيه: اشتمل على فوائد نفيسة؛ فلينظر من شاء.
٢-"وقت الصبحة في الحكم بالصحة"، قال: ذكر فيه شروط صحة البيع في كتابه هذا، وهو كتاب لم يتممه.
3-"الكلام على أنهار دمشق"، قال فيه: وكان الشيخ الإمام رحمه الله يشدد النكير على أمرٍ، وهو أن عادة الناس من أهل الشام جرت عادة على أن يشتري بعضهم قدراً معلوماً من ماء نهر..، ويتحيل لصحته بأن يورد العقد على مقره بما له فيه من حق الماء وهو كذا إصبعاً ثم يسوقه، ويحمله على مياه الناس برضا طائفة يسيرة منهم. والحاصل أن الخلق في أنهار دمشق سواء يقدم الأعلى منهم فالأعلى.
٤-"سبب الانكفاف، عن إقراء الكشاف" قال فيه: وهي ورقة حسنة، ولقد كان الشيخ الإمام يقرئه -يعني الكشاف للزمخشري، فلما انتهى إلى الكلام على قوله تعالى في سورة التكوير: {إنه لقول رسول كريم} الآية أعرض عنه صفحاً، وقال فيها: قد رأيت كلامه على قوله تعالى: {عفا الله عنك}، وكلامه في سورة التحريم فيه الزلة وغير ذلك من الأماكن التي أساء أدبه فيها على خير خلق الله تعالى سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأعرضت عن إقراء كتابه حياء من النبي -صلى الله عليه وسلم، مع ما في كتابه من الفوائد والنكت البديعة.
المؤاخذات التي على الكتاب:
يؤخذ على الكاتب الشيخ السبكي -رحمه الله -قصره مفهوم أهل السنة على الأشاعرة الذين يؤلون الصفات، وإخراجه المثبتة الصفات عن أهل السنة باعتبار أنهم حشوية عنده، ونقده اللاذع والكبير لشيخه الذهبي والذي يصل حد التنقص لكونه كان شديداً على الأشعرية والمتصوفة، وكذلك نصرة السُّبكي لمذاهب المتصوفة مع اختياراته المرضية لدى البعض فيما يسمى بالتصوف السني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق