أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يوليو 2022

تاج الدين السُّبكي والقضايا الأدبية من خلال كتابه طبقات الشافعية الكبرى د. عوض محمد أحمد كدكي

تاج الدين السُّبكي والقضايا الأدبية 

من خلال كتابه طبقات الشافعية الكبرى

د. عوض محمد أحمد كدكي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ يعد كتاب طبقات الشافعية الكبرى من الموسوعات التاريخية الجديرة بالتقدير، والتي تكشف عن الجوانب الإبداعية لعدد كبير من رجال الشافعية الذين ترجم لهم الإمام السبكي، فقد اشتمل هذا الكتاب على قدر وافر من عجائب الأقوال والأوجه والدلائل والفوائد، وطرفاً جزيلاً من الطُّرف والمُلَح، ويعتبر باباً واسعاً من أبواب الرقائق والآداب ومُلح اللغة، التي تهيج القلوب، وتثير مكامن النفوس، على أنه يندرج في باب الاختيارات والأذواق التي يغلب عليها الجانب الفقهي أو النظري.

وفي "الطبقات الكبرى" تتجلى موهبة التاج الأدبية، حيث إنه لم يكتفِ بنقل الأشعار والحكايات والملح، والتي تدل على غزارة حفظه وملكته الأدبية، بل إنه كان يقرض الشعر بحسّه المرهف، وكان يأتي به بسلاسة ويسر، دون تقعر أو تعقيد، وكان بينه وبين الإمام الصفدي مطارحات شعرية، وشهد له الكثير ممن ترجم له ببراعته الأدبية، يقول ابن العماد في "شذراته": "وبرع وشارك في العربية، وكان له يدٌ في النظم والنثر"، ويقول ابن حجر كما في "الدرر الكامنة": "وأجاد في الخط والنظم والنثر.. وكان ذا بلاغةٍ وحلاوة لسان".

وقد رثى التاج السُّبكي والده، وشيخه الذهبيّ رغم ما كان يأخذه عليه، من إغارته المتكررة على الأشاعرة والصوفية في سيره-بحسب نظر التاج السبكي، ونظم التاج في الفقه والخلاف، ورد على الزمخشري بالشعر، وراسل أقرانه وأصحابه بالشعر، وقد حرص التاج السبكي على إخراج روايته الأدبية بالإسناد، فلا يذكر حكاية ولا أثراً ولا شعراً إلا مسنداً على طريقة الجهابذة الحفاظ، والمحققين من المحدثين، وهو ما عبّر عنه صريحاً بقوله: ((حرصتُ ألا أذكر حكايةً ولا أثراً ولا شعراً إلا مسنداً على طريقة جهابذة الحفاظ)).

وفي هذا الكتاب نلحظ أن التاج السبكي كان ذا إدراكٍ واعٍ بأهمية الأمانة في النقل، والبعد عن الهوى، أو تحريف الكلم، أو محاولة تشويه السير والأخبار، رغم أنه كان ينطلق من ثقافته الأشعرية، وطريقته في تعظيم المتصوفة.

وهذا الكتاب القيم -حقيقةً -يبحث في القضايا الأدبية التي ذكرها السبكي في كتابه، والتي تعبر عن ثقافة عصره وعن العصور الأدبية السابقة، يوضح فيه اتجاهات السبكي الأدبية، والذوق الفني لديه.

فتراه يحلي مقدمة كتابه بلازمة زهير بن كعب (بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ…)، وذلك بعد أن يسوق إسنادها عن شيوخه الذين حدثوه بها، ويأتي بما يعضدها، ويسرد روايات أخر تبين سبب ورودها. 

يلي ذلك خير إنشاد التابغة الجعدي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قصيدته الرائية، والتي قيل: إنها أحسن شعرٍ قيل في الفخر بالشجاعة، والتي مطلعها (بلغنا السماء مجداً وجدوداً…).

ثم أتى السبكي بأبيات قتيلة بنت الحارث بن النضر، التي يرويها بسنده أيضاً، وسمعها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدما قتل النضر، ومطلعها (يا راكباً إن الأثيلَ مظنّةً…).

ثم مناشدة أبي صرد للرسول صلى الله عليه وسلميوم حُنين ليرد إليهم السبي، وكان عليه الصلاة والسلام استأنى بالسبي يريد إسلامهم، ولكنهم تأخروا في ذلك، ومطلعها (امنن علينا رسول الله في كرمٍ…). 

ثم يقدم السبكي قصيدة علي بن رزيق البغدادي، والتي رواها الحافظ أبو سعد في الذيل، والتي يقول في مطلعها (لا تعذيله فإن العذل يولعه…)، وروى أن ابن السمعاني روى لهذه القصيدة قصة عجيبة، حيث وجدوا هذه القصيدة مكتوبة في رقعة عند رأس ميت!.

ويورد السبكي في أثناء روايته الأدبية طائفة من الطرائف التي أراد بها إمتاع القارئ، ومن ذلك: ما أورده من قصة نصر بن حجاج مع امرأةٍ تنشد في زمن عمر بن الخطاب، قصيدةً مطلعها (هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها…)، ثم ينقل اعتذار المرأة عن ذلك بقصيدة مطلعها (قل للإمام الذي تُخشى بوادره…).

 ثم نقله قصيدة محمد بن عبد الملك الكرجي أحد أئمة الشافعية، والتي ينتصر فيها لعقائد السلف، وينتقد فيها الأشعرية، وأبدى التاج استياءه منها، يقول في مطلعها (محاسن جسمي بدلت بالمعايب…).

ثم روى السبكي الأبيات التي تنسب للفرزدق في علي بن الحسين، والتي أنشدها لما دخل للطواف، أمام هشام بن عبد الملك، والتي يقول في مطلع بعضها: (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته).

وهكذا يتدرج الأمر في بقية المواضيع والفصول على تنوعها من النثر إلى الخطب، إلى النقد الأدبي، وهكذا.

أولاً: كتاب طبقات الشافعية الكبرى:

يقول التاج السُّبكي -رحمه الله -مُبيناً طبيعة كتابه (الطبقات الكبرى): ((وهذا كتاب حديث وفقه وتاريخ وأدب ومجموع فوائد تنسل إليه الرغبات من كل حدب نذكر فيه ترجمة الرجل مستوفاة على طريقة المحدثين والأدبا ونورد نكتا تسحر عقول الألبا .. فاحتوى هذا المجموع على أشعار غالية الأسعار، وحكايات ليس فيها شكايات، ومواعظ يصمت عندها اللافظ، ومناظرات رياضها ناضرات، ومعارضات كانت النصرة فيها مقارضات، وأدلة تغدو بدورها تماماً بعد أن كانت أهلة وتعاليل ألذ عند النديم من اليعاليل ونوادر تتبعها مواعظ وزواجر وملح للحسن فيها لمح)).

وأما عن منهجه في الطبقات؛ فيقول: ((فأنزلت الشافعية رضي الله عنهم في طبقات، وضربت لكل منهم في هذا المجموع سرادقات، ورتبتهم سبع طبقات، كل مائة عام طبقة، وجمعتهم كواكب كلها معالم للهدى، ومصابيح تجلو الدجى، ورجوم للمسترقة)).

أما عن ترتيبه الأسماء في هذا المعجم النفيس؛ فيقول: ((ونجري في كل طبقة على حروف المعجم، ونأتي بترتيب أشرح فيه الاختيار الحسن والجم، ونقضي لمن اسمه محمد أو أحمد بالتقديم، ونمضي ذلك، وإن كان الترتيب يقضي لمن اسمه إبراهيم، إجلالاً لهذين الاسمين الشريفين إلا عن الانفراد عن غوغاء الجحفل العظيم))؛ فهو إذن يُقدم ذكر الأحمدين ثم المحمدين من كل طبقة تيمناً وتبركاً.

وبيّن التاج طريقته الفريدة في الجمع والتأليف عن المترجم لهم بحسب كثرة تواليفهم واشتهار أمرهم، وما يغلب عليهم من الفقه والحديث واللغة؛ فيقول: ((إذ أعظم مقاصدنا أنا عند الفراغ من ترجمة كل رجل أو في أثنائها ننظر؛ فإن كان من المشهورين الذين طارت تصانيفهم فملأت الأقطار ودارت الدنيا ولم تكتف بمصر من الأمصار: نظرنا فإن وجدنا له تصنيفاً غريباً، استخرجنا منه فوائد أو مسائل غريبة أو وجوهاً في المذهب واهية، وكتبناها. وإلا فنذكر وجهاً غريباً ذُكر عنه، أو مقالة غريبة ذهب إليها وشذ بها عن الأصحاب. وإن كان من المقلين أعملنا جهدنا في حكاية شيء من ذلك عنه، وربما غلب الفقه على إنسان ولم نر عنه في الفقه مستغرباً؛ فنقلنا عنه فائدة غير فقهية، إما حديثية أو غيرها. وربما غلب عليه الحديث أو غيره من العلوم سوى الفقه فأعملنا جهدنا في نقل شيء من الفقه أو ما يناسبه عنه؛ فإن لم نجد له شيئاً لم نخل ترجمته من حكاية أو شعر أو فائدة تستغرب)).

وقد جرى على هذا النهج في كثير ممن ترجم لهم، وقصر عن ذلك في بعضهم، فجاءت تراجمهم مبتسرة قليلة، بل ذكر بعضهم باسمه فقط، ولم يتعده بذكر شيء من أخباره، ولعله راعى شهرته أو غمرته، أو غلب عليه حينها جانب الاختصار فيه.

ثانياً: موضوعات الكتاب باختصار:

وقد جاء الكتاب في ثلاثة أبواب، تضمن سبعة فصول، كالآتي:

ففي الفصل الأول من الباب الأول عرض المؤلف للحياة الفكرية في القرن الثامن الهجري الذي عاش فيه تاج الدين السبكي، والعلماء الذين اشتهروا في عصره، وقد شهد هذا القرن ظهور لفيفٍ من أهل العلم في فروع المعرفة، والذين صنفوا وألفوا ودرسوا وكان منهم فقهاء ومحدثون، وأدباء ومنهم من جمع بين ذلك كله.  

وفي الفصل الثاني من هذا الباب حاول المؤلف الإلمام بأطراف حيـاة تاج الدين وروافده الثقافية وأثر بيئته في تكوينه العلمي والأدبي، وأبرزت مكانته العلمية التي شهد له بها معاصروه وتجلت في مؤلفاته ومصنفاته التي تدل على سعة ثقافته وتنوعها.  

وفي الفصل الأول من الباب الثاني عالج المؤلف روايات السبكي الأدبية وقيمتها العلمية، وتتبع ظاهرة الإسناد في الرواية الأدبية ومنهج تاج الديـن في رواياته، وتطرق إلى أثر ثقافته الحديثية في أسانيد رواياته، وبين بالأمثلة آثـار ثقافته الحديثـية في تخريجه للنصوص وحرصه على تبيين درجات التحمل وما تميز به في أسانيده عن غيره من رواة الأدب.  

وقد قام المحققان الفاضلان بمقارنة بين رواية السبكي لبعض أشعار كعب بن زهير ورواية الديوان بشرح السبكي، وكذلك فعلا في روايته لأشعار الإمام الشافعي ورواية المناقب للرازي، وبين روايته لقصيدة ابن رزيق، ورواية ثمرات الأوراق لابن حجة، وبـين روايته لأبيات حميد بن ثور التي يذكر فيها "الحمامة" وبـين رواية الديوان، وهو جهد مشكور رأيت بعد مراجعته في مظانه إثباته في فصل رواياته الأدبية مع ما بدا لي من إضافات وملاحظات، ومن هذه الإضافات ما رواه السبكي من أشعار الإمام الشافعي ولم يروه الرازي في المناقب، كما أثبت الاختلاف في ترتيب الأبيات بين رواية السبكي لقصيدة كعب بن زهير "بانت سعاد" ورواية الديوان وكذلك فعلت في روايته قصيدة ابن زريق ورواية ثمرات الأوراق للقصيدة  

(١) مطلعها: لا تعذليه فإن العذل يولعه … قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه

نفسها وفي روايته لأبيات حميد بن ثور ورواية الديوان.  

ثم تناول الباحث في الفصل الثاني من الباب اختياراته النثرية والشعرية، فصنفها على النحو التالي:  

  • رسائل إخوانية.  

  • الشعر التعليمي.  

  • المعارضات.  

  • الموشحات.  

  • أدب المرأة العربية.  

وعرض من النصوص ما يكشف عن قيمة هذه الاختيارات وغزارة مادتها، وبين عن طرافتها وخصائصها، وذوق صاحبها.  

وفي الفصل الثالث من الباب تناول الباحث تراجمه للأدباء، وتتبع منهجه في الترجمة ومدى التزامه بالشروط التي ينبغي توفرها في المؤرخ، والتي ذكرها في مفاتيح الجزء الثاني من الطبقات، وعقدت مقارنة بين تراجمه لطائفة من الأدباء وتراجم معاصرين له وسابقين عليه لهؤلاء الأدباء أنفسهم، وقد اختار الباحث من معاصريه ابن كثير في البداية والنهاية وصلاح الدين الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" ومن السابقين اخترت ابن خلكان وكتابه "وفيات الأعيان" وتراجم صاحب معجـم الأدباءوصاحب اليتيمة حين تكون الترجمة حافلة مستوفاة ثم ألحق الباحث بالبحث ثبتا بأسماء من ترجم لهم من الأدباء مرتباً على حروف المعجم، مع الإشارة إلى تاريخ الميلاد والوفاة وموضع الترجمة من الطبقات، وذكرت أحيانا شيئا مما قاله السبكي عن صاحب الترجمة.

ومما يلاحظ أن من بين من ترجم لهم السبكي أدباء معروفين، اشتهروا بالأدب أكثر من اشتهارهم بالفقه والحديث، مثل العماد الأصفهاني وعبد القاهر الجرجاني والقاضي الفاضل، والحيص بيص، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، وعلي ابن الحسن الباخرزي وغيرهم هؤلاء لم أجد عنتا في تضمينهم ثبت الأدباء. 

أما من لم يشتهر بالأدب ممن ترجم لهم السبكي، فقد وقفت إزاءهم وقفة حيطة وحذر  وجعلت معيار تضمينهم مادة الترجمة نفسها فمن ذكر السبكي أن له ديوان شعر أو مصنفات في الأدب، أو وجدت في مصادر أخرى أنه من أصحاب الدواوين أو المصنفات الأدبية ضمنته الثبت. وقد أضربت عن ذكر من أورد لهم نصوصا شعرية فحسب. 

ذلك لأنه قل أن نجد دارسا للعلوم العربية أو مشتغلا بها ولم يمر بفترة يكتب فيها القصيدة أو القصيدتين. ولو جعلنا مجرد إيراد السبكي لأبيات من شعر المترجم ضابطا لنا في الاختيار لاتسع المجال واختلط الحابل بالنابل، لأن أغلب الفقهاء قالوا البيت والبيتين بل القصيدة القصيدتين.  

وفي الفصل الأول من الباب الثالث والأخير، عرض الباحث موضوع الشعر والإسلام من خلال معالجة تاج الدين لهذا الموضوع ومحاولته الجادة لتحلية موقف الإسلام من الشعر وقد استفرغ السبكي جهده في توظيف ثقافته الحديثية لتحلية موقف الإسلام، فقد أورد الأحاديث التي فهم بعضهم أنها على إطلاقها في ذم الشعر والأحاديث المادحة وأفلح في توجيهها والجمع بينها على طريقة المحدثين، وعرض لمتونها وتبيين درجاتها وقد تتبعت هـذه الأحاديث في مظانها من كتب الصحاح، لتوثيقها والتحقق من درجاتها.  

وفي الفصل الثاني من الباب الثالث والأخير عرض الباحث لأحكام السبكي النقديـة فاستقصى مادتها المنثورة في الكتاب وقمت بتحليلها وتقويمها لمعرفة ذوقه الأدبي وقيمة حكمه النقدي، وتلمست منهجه النقدي، ومدى عمقه في استبطان النص مع إيراد النصوص الشعرية التي كانت محورا لأحكامه النقدية، وأهم سمات هذه الأحكام النقدية ولم يغفل شروحه لبعض النصوص والتي غلب عليها الشرح اللغوي، ذلك لأن التفسير جزء من العمل النقدي.  

ولم يأل الباحث جهدا في الاستفادة القصوى من مصادر هذا البحث ومراجعه ولقد تحريت الاطلاع على كل ما له صلة بالموضوع ما وسعني ذلك من المخطوط والمطبوع والإفادة منها في توجيه البحث. وجدير بـالذكر أنه لم تسبق دراسة علمية لجهود تاج الدين السبكي في الأدب واللغة والنقد، وكتابه الطبقات حافل بمادة غزيرة، ولم أجد في أثناء قراءاتي سوى الإشارات الموجزة التي تفضل بها المحققان في مقدمة الطبقات والتي تدل على أنهما تنبها إلى ميوله الأدبية. 

أما قيمة تراجمه للأدباء ورواياته الأدبية لم تحظ بشيء من اهتمام الدارسين. ولقد ندت عن الباحثين، الذين تصدوا لموضوع الإسناد في الأدب وتحدثوا عنه من لدن علماء القرن الثاني والثالث جهود تاج الدين في تخريج أسانيد الروايات الأدبية وتفرده بطرق وأسانيد في بعضها، وحرصه على الإسناد في جل رواياته وإفادته القصوى من ثقافته الحديثية في تبيين درجات التحمل فلم يذكروه بشيء، ولعل السبب الذي لم يجعل الاحتفاء بالطبقات كما ينبغي ما يوحي به عنوانها "طبقات الشافعية" فربما لم يدع العنوان مجالا للتفكير فيها بوصفها مصدراً أدبياً، بل ربما يحمل على الاعتقاد أنه كتاب سير للفقهاء وجهودهم الفقهية فحسب. 








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق