الدُّر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
للإمام محمد بن علي الشوكاني
تمهيد/ لا شكَّ أن الاعتناء بجانب العقيدة من أهم الركائز التي تقوم عليه الأمة المسلمة، لأن تصحيح هذا الجانب مدعاةٌ لتصحيح بقية الجوانب، فلا رفعة للأمة إلا بتحقيق معاني توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتحقيق توحيده في: دعائه، ورجائه، ومناجاته، ولا بُد قبل ذلك من تصفية المجتمع من عكر الشرك وشوائئبه، وذلك بالعودة إلى المصدرين العظيمية (الكتاب والسُّنة الصحيحة)، اللذين هما المعيار الأساس لتقويم ما حصل من إعوجاج في حياة الناس، وذلك على الصعيد المادي والرُّوحي.
وموضوع هذا الكتاب هو الرد على الذين يعتقدون في الأموات: أن لهم القدرة على الإغاثة والإعانة والإجابة؛ وقد جاء جواباً لمن سأل عن حكم الاستعانة بهم، ومناجاتهم عند الحاجة، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السائلين، واعتقاد أن هؤلاء الأموات شفعاء ووسطاء يقربونهم إلى الله عز وجل، ويشفعون لهم عنده!!.
وجاء في السؤال: أن هؤلاء المستشفعين والمتوسلين يتقربون إلى الأموات بأنواع العبادة التي لا يستحقها إلا الله عز وجل، كالذبح والنذر والسجود والطواف، فأجاب الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى عن هذا السؤال: بأن هذه الأفعال هي عين ما كان يفعله المشركون في الجاهلية، وبيَّن أن سؤال الأموات ودعاءهم لا منفعة فيه، بل هو مفسدةٌ محضة، وشركٌ أكبر، مُخرجٌ من الملة.
وحذّر الإمام الشوكاني تحذيراً بالغاً مما يفعله القبوريون أمام أضرحة الصالحين؛ حيث يدعونهم تارةً مع الله، وتارةً استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم ويُعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، قال: (وهذا إذا لم يكن شركاً، فلا ندري ما هو الشرك؟! وإذا لم يكن كفراً فليس في الدنيا كفر !!).
وذكر الشوكاني في كتابه تعريف الشرك وأسبابه، وأعظمها الغلو في تعظيم الأموات، وبيَّن: أن شرك المتأخرين أعظم من شرك أهل الجاهلية، وبيَّن بعض الأسباب الأخرى المؤدية إلى الشرك: من الرُّقى الشركية، والتمائم (الحروز)، والتولة، والكهانة، والسحر، وذلك لما يُصاحبها من اعتقاد أن لغير الله تأثيراً في الشفاء من الداء، فكيف بمن يُنادي غير الله، ويطلب منه ما لا يُطلب إلا من الله عز وجل. ومثل ذلك قول "مُطرنا بنوء كذا"، وكذلك قولهم: "اجعل لنا ذات أنواط".
ومن أسباب الشرك التي ذكرها: اتخاذ المساجد على القبور، وتسريجها، وتجصيصها، ورفعها، وزخرفتها بالستور، والتأنُّق في تحسينها وتزيينها، لما ينشأ عن ذلك من التأثير البالغ في نفوس العوام، مما يؤدي إلى تعظيمهم لتلك القبور ويؤدي إلى اعتقاد أمورٍ باطلة؛ كاعتقاد ربوبية ذلك المقبور، أو إلهيته، وروى الشوكاني أمثلة لذلك (ص 48).
وذكر -رحمه الله -الأحاديث الناهية عن الشرك، مثل: الذبح لغير الله، أو الدعاء، أو النذر، وكل ما يكون مظنة التعظيم للمخلوق: من الحلف بغير الله عز وجل، وكل ذلك من التعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد. كذلك الرياء الذي يُفسد الأعمال، والتشريك في المشيئة بين الله ورسوله أو غيره من عبيده نوعٌ من الشرك، وكذلك رفع المخلوق فوق مكانته،
وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: (فإن قلتَ: إن هؤلاء القبوريون يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات، قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه؟
قلتُ: وهكذا كانت الجاهلية؛ فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتُقربهم إلى الله زُلفى، كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز).
وذكر -رحمه الله -الأحاديث الناهية عن إتيان الكُهَّان، وهو من يدعي معرفة الغيب، فرأى أن تصديقه كفرٌ لاعتقاد أنه مُشاركُ لله تعالى في علم الغيب، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: "وإخلاص التوحيد لله عز وجل لا يتم إلا بأن يكون الدُّعاء كله لله، والنداء، والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره، ولا من غيره، {فلا تدعو مع الله أحداً}، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء}، {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم}، {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}".
ومعلومٌ من دين الله بالضرورة أن من أثبت لغير الله ما لا يكون إلا الله فهو كافرٌ، ومن هذا قول أبي يزيد البسطامي (ت 261 هـ): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.
وقول أبي عبد الله القرشي (ت 132 هـ): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
رأي الإمام الشوكاني رحمه الله في التوسل
ويرى الإمام الشوكاني أن التوسُّل إلى الله تعالى بجاه الصالحين وأهل الفضل جائزٌ، لأن المتوسل بهم متوسلٌ إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة!! واستدل لذلك بقصة الثلاثة أصحاب الغار.
وما ذهب إليه رحمه الله: فيه نظر ظاهر، وهو بعيدٌ جداً، ومجانبٌ للصواب؛ لأن أصحاب الغار إنما توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة، وليس بأعمال غيرهم.
كذلك فإن الله عز وجل لم يجعل شخص فلان، أو عمله الصالح سبباً شرعياً يتوسل به إليه، فعمل فلان إنما ينتفع به فلانٌ نفسه، ولا ينتفع به غيره، إلا أن يكون علماً بثَّه بين الناس، أو صدقةً جارية.
كما أن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وأتباعهم إنما كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة التي عملوها في حياتهم، ولم يكونوا يتوسلون بأعمال غيرهم، ولا بحرمتهم ولا بجاههم.
ولنضرب لذلك مثلاً؛ فنقول: لو أن رجلاً أطبقت عليه صخرةٌ وهو في غار، ثم دعا ربه قائلاً: اللهم إني أسألك أن تُفرج عني الصخرة؛ لأن العالم الفلاني قام الليل أعواماً وأعواماً ؟!! أو يقول: اللهم إن فلاناً تصدق بثلث ماله أو جاهد في سبيلك؛ ففرج عني الصخرة!! أليس هذا عبثاً…؟!! اللهم بلى.
ويرى الشوكاني أن المتوسل بجاه الصالحين وأهل الفضل لم يدعُ إلا الله، ولم يدعُ دونه غيره، ولا دعا معه غيره.
والجواب: أن المتوسل بجاه فلان، أو حق فلان، يعتقد أن لهذا الشخص حقٌّ على الله تعالى، وهذا لا يجوز شرعاً، فإنه لا حقَّ لأحدٍ على الله إلا ما أحقه الله عز وجل على نفسه، من نصر المؤمنين، {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}، وغير ذلك، ولم يرد أن الله عز وجل قد أحقَّ على نفسه أن من سأل الله بأحدٍ من خلقه، سواءٌ كان نبياً أم صالحاً أن يستجيب دعاءه.
كذلك؛ فإنه لم يأتِ دليلٌ صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أو عن أحدٍ من أصحابه أنه أرشد إلى جواز التوسل بجاهه الرفيع -صلى الله عليه وسلم -ومن باب أولى جاه من هو دونه.
بل إنه تواترت الأخبار بطلب الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم في حال حياته، ولم يتوسل أحدٌ بجاهه أو بذاته بعد موته.
كذلك فإن قصة عمر مع العباس تُبين أنه توسل بدعائه لا بجاهه، فكان فعله رضي الله عنه بياناً لما أُجمل في بقيَّة النصوص، التي اشتبهت على المبتدعة.
فظهر بذلك ضعف كلام الإمام الشوكاني في هذه المسألة رحمه الله تعالى، وغفر لنا وله.
وأما التوسل المشروع الذي جاء في الكتاب والسُّنة، والمتفق عليه بين المسلمين؛ فيُمكن إجماله، فيما يلي:
1-التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}.
2-التوسل بأعمال المتوسل ذاته، كما في قصة الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة.
3-التوسل بدعاء الصالحين الأحياء، كما في حديث الضرير، وحديث عمر مع العباس.
ولا خلاف بين العلماء في جواز التوسُّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم على معنى الإيمان به ومحبته، وذلك كأن يقول: أسألك بنبيك، ويُريد إني أسألك بإيماني به وبمحبته، لأن هذا عملٌ من أعمال القلوب.
كلامٌ نفيسٌ جامعٌ لابن القيم ذكره الشوكاني
فيما يتعلق بشرك أصحاب القبور
قال ابن القيم في "مدارج السالكين": ومن أنواعه (أي الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم.
وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده، كما تقدم، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، واستقضاء الحوائج، والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس، فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص للأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له، الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! ولله دُرُّ خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} (إبراهيم: 35 - 36)..
وما نجا من هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين في "الإقناع": إن من دعا ميتاً وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر.
وقال أبو الوفاء بن عقيل في "الفنون": لما صعبت التكاليف على الجُهّال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها؛ فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفارٌ بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، أو إلقاء الخرق على الشجرة اقتداءً بمن عبد اللات والعزى.
وقال الإمام سراج الدين عمر بن إبراهيم الحنفي في "النهر الفائق": وأعلم أن الشيخ قاسم قال في (شرح في رب البحار): إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء ويكشف الستر قائلاً سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الفخمة أو الطعام أو الماء أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعًا لوجوه منها أن النذر للمخلوق لا يجوز -إلى أن قال: ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمن دون الحق سبحانه وتعالى واعتقاد هذا كفر. انتهى.
وهذا القائل من أئمة الحنفية، وتأمَّل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النذر المذكور، وأنه كفرٌ عنده مع ذلك الاعتقادات.
وقال الإمام شيخ الإسلام يحى بن شرف النووي الشافعي في "الروضة": "إن المسلم إذا ذبح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم كفر". وهذا القائل من أئمة الشافعية. وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفراً فكيف بالذبح لسائر الأموات.
وقال ابن حجر في "شرح الأربعين" له: من دعا غير الله فهو كافر.
تعليق الإمام الشوكاني على أبيات من البردة للبوصيري
قال رحمه الله (90 -91): فانظر رحمك الله تعالى ما وقع من كثيرٍ من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه، المخالف لما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقوله صاحب البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به … سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذٍ عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وغفل عن ذكر ربه ورب رسوله صلى الله عليه وسلم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا بابٌ واسعٌ؛ قد تلاعب الشيطان بجماعةٍ من أهل الإسلام حتى ترقُّوا إلى خطاب الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبوابٍ بكثيرٍ من الأسباب.
خاتمة في أن التوحيد أساس الاستقامة
الاستقامة صفة الأنبياء والرسل والصالحين، حيث إن الله سبحانه وتعالى هداهم إلى الطريق القويم، الخالي من المحدثات والشرك؛ قال تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (الأنعام: 87)
والاستقامة لغة: "هي الاعتدال والاستواء"، والاستقامة في الدين: العمل والمداومة على الطاعة، ولزوم سنة النبي صلى االله عليه وسلم.
ويمكن تعريفها أيضاً، بأنها:" التزام منهج الإسلام قولاً وعملاً واعتقاداً"، قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم توحيد الله وطاعته.
ولا شكَّ أن التوحيد والاستقامة على أمر الله قرينان، لا يفترقان أبداً، بل إن توحيد الله عز وجل وعدم الشرك به، هو أحد المعاني التي يتضمنها مفهوم الاستقامة, وأما الشرك فهو انحراف في التصور والاعتقاد، وهو أمرٌ طارئ على الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق