قاعدة في المؤرخين؛ لتاج الدين السُّبكي
تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ وهذه الرسالة جاءت متممة ومكملة للقاعدة السابقة "في الجرح والتعديل"، وهي مشابهةٌ تماماً لها، ولكنها في باب التاريخ وتراجم الرواة، وأحوالهم، ومناقبهم، وما يجرى لهم من مدح أو ذم، وموضوعها هو الاعتدال في شرح أحوال الرجال، ووضع كل إنسانٍ في مكانه المناسب، دون غلوٍ أو تقصير، بحيث لا يتأثر المؤرخ بمذهبه الفقهي أو العقدي، وكثيراً ما يضع أهل التاريخ من أُناسٍ كان حقهم الإظهار والإشادة، وذلك إما لتعصُّبٍ مذهبي أو جهلٍ بحال ذلك المُترجم أو لمجرد الاعتماد على نقل من لا يُوثق به.
وهذه الرسالة في حقيقتها: شرحٌ لما ذكره التقيُّ السُّبكي في "مجامعه"، من شروط قبول خبر المؤرخ، وما هي مؤهلاته، وصلاحياته، وهي واقعةٌ ضمن كتاب التاج السُّبكي في "طبقات الشافعية"، ويليها إشارة خاطفة في ذلك من كتابه "معيد النعم ومُبيد النقم" في المثال "السادس والأربعون"، وهي رسالةٌ نافعةٌ في الجملة، ولكن عليها بعض المؤاخذات الكبيرة، والمتمثلة في إزدراء السُّبكي للعلماء قبله، واحتقارهم، والتعالي عليهم، وهذه مظاهر شاذة ومرفوضة، ومع الأسف بدأنا نرى نماذج منها في العصر الحاضر، وربما وجد هؤلاء المقمشون بغتيهم في بعض كتابات وتقريراته.
ويبدو أن التعصُّب الأشعري لدى التاج السُّبكي جعلته يذهل عن المعاني القيِّمة التي حملتها هذه الرسالة، المقتبسة أساساً من كلام والده التقيِّ السُّبكي رحمه الله - وكان التقيُّ السبكي أكثر عدلاً وإنصافاً مع الخصوم من ولده، حتَّى مع من يُناصبه العداء، فقد كان التقيُّ السبكي يدعو لابن تيمية بالمغفرة والرحمة، ويصفه بتقي الدين.
وأما التاج السُّبكي فكان تقريره العملي "التطبيقي" في هذه الرسالة سيئاً جداً، وذلك عندما سلَّط لسانه على شيخيه الإمام الذهبي والإمام المزي، ومن قبلهما الإمام يحيى بن معين، فلم يمتثل للنصيحة التي قدمها للناس، وما ذاك إلا تعصُّباً للأشعرية المقيتة، وهؤلاء الأئمة الذين لم يتورع من الطعن فيهم، ولم يتوخَّ الأدب بحقهم، كانوا أكثر بصيرةً منه، وكتبهم شاهدة، وسيرتهم وكلامهم مما تسيرُ به الرُّكبان، حتى أهل البدع لم يستغنوا عن كلامهم وأحكامهم.
بل إن التاج السُّبكي كان يسبُّ الأكابر من العلماء في عصره، ويُشنع عليهم دون رادعٍ من علم ولا تقوى؛ لا سيما الحنابلة، ويرى أنهم سبب الفساد والبلاء على الأمة، حتى أنه كان يسبُّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية ويرميه بأقذع الألفاظ وأشنعها، وأين التاج السُّبكي من ابن تيمية ؟!!
ولذلك أنكر عليه الناس ذلك، وهجره العلماء والناس، وقد نسبه الشمس السخاوي إلى التعصب المقيت، وقلة الأدب، وطول اللسان، فالعبرة بمثل هذه المصنفات هو بالامتثال مع التقرير، لا أن يقرر شيئاً ويفعل عكسه، ولذلك قالوا: الإنصاف عزيز!.
وقد ابتلي التاج السُّبكي في آخر حياته بعظائم وأمور من الكبائر، نُسبت إليه، وعُقد له مجلسٌ لمحاكمته عليها، عافانا الله الكريم من ذلك.
شروط قبول أخبار المؤرخين عند الإمام التقيِّ السُّبكي
ونقل التاج السُّبكي عن والده التقيِّ رحمه الله أنه لا يقبل المدح والذم من المؤرخين في أحدٍ من الناس إلا بشروط، وهي:
أولاً: العدالة في النفس: بأن يكون مسلماً، بالغاً، عاقلاً، ذو ديانة ومروءة.
ثانياً: الصدق في النقل: بأن ينقل ما رأى وما سمع، وأن يحتاط في الرواية.
ثالثاً: الاعتماد على اللفظ دون المعنى؛ حتى يبرأ الناقل من العهدة، ولأنه إذا اعتمد على المعنى، فربما وقع في الشطط والغلط.
رابعاً: أن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك؛ لأنه ربما يعرض له النسيان، أو يخطئ في السَّماع والكتابة.
خامساً: أن يُسمي المنقول عنه: فلا يرسل الخبر ولا يعضله ولا يُخبر عن مجهول.
سادساً: التحرِّي من النقل الذي يرى فيه غمزاً لغيره أو جرحاً له، أو حطَّاً على أحد المعتبرين من السَّلف؛ فإن التثبت في جنب كل مُترجمٍ له واجب، لا سيما في أكابر هذه الأمة من الصحابة والتابعين (هذه السادسة زادها الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة).
شروط من يترجم لهم من عند نفسه ابتداءً
ومن أراد ممارسة صنعة التراجم والتأريخ، سواءً كانت الترجمة طويلة أم قصيرة، مفردةً أم مجموعةً إلى غيرها، لأهل بلده وزمانه، فعليه أن يلتزم شروطاً ذلك، وهي:
أولاً: أن يكون عارفاً بحال صاحب الترجمة.
ثانياً: وأن يكون حسن العبارة عارفاً بمدلولات الألفاظ.
ثالثاً: أن يتصور حال المُترجم له تصوراً كلياً (بحسناته وسيئاته)، ويعبر عنه بعبارة لا تزيد عليه ولا تنقص عنه، فلا يرفعه فوق قدره، ولا يبخسه شيئاً من حقه.
رابعاً: وأن لا يغلبه الهوى؛ فيطنب في مدح من يحبه، ويُقصر في حق غيره.
خامساً: مشاركة المترجم له في علمه الذي يمدحه أو يذمه، وتصور ذلك بوضوح.
سادساً: أن يتجرَّد عن الهوى، أو يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه.
تحامل السُّبكي على شيخه الإمام الذهبيّ رحمه الله
يقول السُّبكي: أما تاريخ شيخنا الذهبي؛ فإنه على حسنه وجمعه مشحونٌ بالتعصب المفرط، فلقد أكثر الوقيعة في اهل الدين، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق واستطال بلسانه على كثير من الأئمة، ومال فاطرف على الاشعرية ومدح فزاد في المجسمة !!.
يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة مُعقباً على كلامه (ص 59 -60): "أشهد بالله للإمام الذهبيِّ أنه إمامٌ صالحٌ تقيٌّ، ويُحبُّ الصوفية الصالحين الأتقياس، ويأمر بتحسين الظن بالصوفية، ولكنه يخاف ويُحذِّرُ من شطحاتهم ومخالفاتهم، وذلك عنوان دينه وأمانته… وما هذا كله منه إلا لبالغ صلاحه، ومحبة قلبه للخير والدين، والصلاح والصالحين، ولكنه مع هذاكله كالأسد الضرغام على من يشمُّ منه رائحة الزيغ أو الدخل على الشريعة، فلله درُّه ما أوفاه لها، وأرعاه، ونفعنا الله بدينه وعلمه وتقواه".
تحامل السُّبكي على شيخه الإمام المِزِّي رحمه الله
ولما ترجم الذهبيُّ للإمام يوسف بن الزكي المزي، فقال: كان عارفاً بالمعقول، قال السُّبكي في هذه الرسالة: إن المزي والذهبي لا يدريان شيئاً من المعقول!! وقال -أيضاً -في "طبقات الشافعية" عن المزي: ويخوض في شيء من مسائل الصفات في أصول الديانات ليته برئ منه!! وأما المعقولات فلم يكن يدريها. وقال: وليس المزي والذهبي عندنا في هذا المقام والحق أحق ما قيل !!
وقد تعقَّبه الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة (ص 70)، فقال: في كلام السُّبكي المذكور لكلام الذهبيِّ تحاملٌ وتحميلٌ ظاهر… والظاهر أن أغلب هذه التحاملات التي تقدمت من التاج على شيخة الذهبي والمزي إنما مأتاها الاختلاف في العقيدة بين التاج السُّبكي وشيخه، ويدلُّ على ذلك قوله عقب كلامه السَّابق تماماً: "واعلم أن هذه الرفقة أعني: المزي، والذهبي، والبرزالي، وكثيراً من أتباعهم، أضرَّ بهم أبو العباس ابن تيمية إضراراً بيِّناً، وحمَّلهم من عظائم الأمور أمراً ليس هيِّناً…". وهو صريحٌ فيما ذكرته، وفيه من الشطط والجنف ما لا يخفى، فإن هؤلاء الأئمة على فرض أنهم أخطأوا في نظر السُّبكي، فما يعدو الأمر أن يكونوا مجتهدين مخطئين، فمن أين صحَّ ذلك الحكم الشديد عليهم؟!.
ما هو حال التاج السُّبكي وموقعه
ومن يُطلق لسانه في أعراض الأئمة والعلماء، لا بُد أن يجد من يجرحه، ويُظهر للناس حقيقته، وفي ذلك يقول الإمام شمس الدين السَّخاوي رحمه الله في كتابه "الإعلان بالتوبيخ" (ص 94 -ط الرسالة) عن التاج السُّبكي: هو رجلٌ:
1-قليل الأدب.
2- عديم الإنصاف.
3- جاهلٌ بأهل السُّنة ورتبهم.
وينقل الشعراني في "الأجوبة المرضية": أن الناس شهدوا على السُّبكي بالكفر والانحلال والزنا، وشرب الخمر، وأنه كان يلبس الغيار والزنار بالليل ويخلعهما بالنهار".
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" أنه عقد مجلسٌ لقاضي القضاة السبكي بسبب عظائم اتهموه بها، ينبو السماع عن استماعها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق