تفريج الكروب في شرح دعاء ذي النُّون
تأليف شيخ الإسلام:
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 728 هـ).
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ شَرعَ الإسلام لتفريج الكروب وسائل كثيرة، ومن أهمِّها الدُّعاء إلى الله عز وجل، والتضرُّع إليه، والتوسُّل إليه بأسمائه وصفاته، ومن هذه الأدعية دعاء ذي النُّون، االنبيِّ الكريم يونس عليه الصلاة والسلام، الذي ابتلاه الله بأن ابتلعه الحوت، وأصبح في ظلمات عظيمة، فصبر، ونادى في الظلمات: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كُنت من الظالمين} فكشف الله همَّه وغمّه.
وكان صلى الله عليه وسلم: إذا كربه أمرٌ، قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» [رواه الترمذي].
وقد سطَّر شيخ الإسلام حقاً، وإمام المسلمين صدقاً أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني رحمه الله، هذه الرسالة في شرح هذا الحديث، والتي تضمَّنت المعاني الفريدة، والعلم الغزير، ولذا أنصح جميع الإخوة بالاعتناء بها.
ومن الجدير بالذكر أن المحقق بذل جهداً يُشكر عليه في تخريج الحديث [ص: 11- 14]، وتحقيق الرسالة، وإبراز الكتاب في صورة قشيبة جميلة.
أهمية هذا الكتاب:
(1) الشرح الإجمالي والتفصيلي لجمل وكلمات هذا الحديث.
(2) بيان الأسباب الموجبة لتفريج الكروب من التوحيد الخالص، والدُّعاء الصادق.
(3) الحديث عن التوبة وأقسامها، وأنواعها، ومتى تُقبل، وعلاقة التوبة بالتوحيد، وعلاقة المغفرة بالشرك، وغي ذلك من الموضوعات.
نصُّ الحديث:
عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، عن النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من بلايا الدنيا دعا به يفرج عنه؟ فقيل له: بلى، فقال: "دعوة أخي ذي النُّونِ: لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنتُ من الظالمين، ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله كربته". وفي روايةٍ: "إنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
[صحيح، رواه الترمذي والنسائي، وغيرهما].
الشرح الإجمالي:
(ألا أخبركم بشيء) أي بدعاء نافع. (إذا نزل برجل كرب) أي مشقة وجهد والكرب الغم يأخذ بالنفس. (أو بلاء) أي محنة. (من أمر الدنيا دعا به ففرج عنه) أي كشفه؛ وكأنهم قالوا: بلى، قال: (دعاء ذي النون) أي صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام. (لا إله إلا أنت سبحانك) فيه إثبات الإلهية ونفي الشريك والتنزيه بكل قبيح. (إني كنت من الظالمين) أي مقر لنفسي بظلمي، وهذا قد تضمن الدعاء قال الحسن: ما نجى يونس إلا إقراره على نفسه بالظلم.
المسائل التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه، وسنشير إلى بعضها باختصار بإذن الله تعالى:
(1) معنى الدعاء: وأنه عبادة تقوم على سؤال العبد ربَّه والطلب منه وهي عبادة من أفضل العبادات التي يحبها الله عز وجل؛ وهو من الأسباب المشروعة في كشف الضُّر، وقد قال شيخ الإسلام: "الالتفات إلى الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع".
(2) وأنه قسمان: دعاء ثناء "عبادة"، ودعاء طلب "مسألة"، ولا يتصور أن يخلو داعٍ لله: دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغبة والرهبة [اللتان هما أصل السؤال]، ومن الخوف والطمع [اللذان هما أصل العبادة].
(3) أن الصلاة دعاءٌ؛ لأنه يجتمع فيها الأمران: السؤال والعبادة.
(4) كما قد يطلق أحد الألفاظ "السؤال" و"الدعاء"، و"العبادة" على الآخر؛ فيُقال: للسائل: "داعٍ"، ويُقال للداعي: "سائل"، فبينهما عمومٌ وخصوص وجهي، فإذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا.
(5) كذلك: كل سائلٍ عابد، وكل عابدٍ سائل؛ لأن السائل راغبٌ راهبٌ لمن يسأله، فهو عبادٌ للمسؤول، وكل عابدٍ لمعبوده فهو راغبٌ وراهبٌ وتلك صورة من صور المسألة.
(6) إذا اجتمع السؤال مع العبادة؛ فإنه يُراد بالسائل: من يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال. ويُراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في صيغ السؤال.
(7) أن قوله (لا إله إلا أنت) اعترافٌ بالألوهية، وهو أحد نوعي الدُّعاء؛ لأن الله هو المستحق لأن يُدعى دعاء عبادة ودعاء مسألة، وقد نقل الفخر الرازي عن زين العابدين: أن هذا الذكر هو اسم الله الأعظم.
(8) وقوله (إنِّي كنتُ من الظالمين) اعترافٌ بالذنب، ويتضمَّن طلب المغفرة، وهذا من دعاء المسألة.
(9) أن دعاء المسألة نوعان:
أ- السؤال بصيغة الطلب، وهو أظهر من جهة القصد والإرادة، وهو الأكثر في باب الدُّعاء.
ب- وإما بصيغة الخبر: وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، وفيه وصفُ الحال بالضعف والافتقار، وذكر الوصف المقتضي للإجابة من المغفرة، والرحمة، والغنى لله عز وجل (وهو قسمان):
(*) قسمٌ يتضمن وصف حالة السائل.
(**) وقسمٌ يتضمن وصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالين معاً؛ كقول نوح عليه السلام: {ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكُن من الخاسرين} (هود: 47).
(10) وأن أفضل صيغ الدُّعاء ما جمع فيه بين وصف الحال والطلب؛ كقوله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام: { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [القصص: 16]
(11) وأن قول يونس عليه السلام في هذا الدُّعاء (سُبحانك) يتضمَّنُ تعظيم الربِّ وتنزيهه، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب.
(12) أن العبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لا يظلم الناس شيئا فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل
(13) وأيضاً: في هذا الدعاء التهليل والتسبيح فقوله: {لا إله إلا أنت} تهليل. وقوله: {سبحانك} تسبيح. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع: وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"[رواه البخاري].
(14) أخطأ الرازي حينما ظنَّ أن "الجلال" هي الصفات السلبية، و"الإكرام" هي الصفات الثبوتية، والتحقيق أن كليهما صفاتٌ ثبويتة، وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص.
(15) وأن ما تضمنته "قصة ذي النون" مما يلام عليه كله مغفورٌ، بدَّلَهُ الله به حسنات؛ ورفع درجاته وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع، لأنه قال بعدها: {فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال: {فالتقمه الحوت وهو مليم} فأخبر أنه في تلك الحال مليم و "المليم" الذي فعل ما يلام عليه، فكانت حاله بعد قوله: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية، والأعمال بخواتيمها والله تعالى خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال الكمال، ويونس صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال.
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حِبَاؤُكَ إن شِيمَتَكَ الْحِبَاءُ
إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمَا ... كفَاهُ مِنْ تَعَرُّضكَ الثَّنَاءُ
قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة؛ وذلك أنه يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار.
ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها، فيستغفر الله ويتوب إليه منها، حتى تدخله الجنة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأعمال بالخواتيم).
والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
1- أن يتوب فيتوب الله عليه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
2- أو يستغفر فيغفر له.
3- أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات.
4- أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حياً وميتاً.
5- أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
6- أو يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
7- أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه.
8- أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه.
9- أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه.
10- أو يرحمه أرحم الراحمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق